السبت، 30 مارس 2024

ج1.وج2وج3..إعلام الموقعين/الجزء الأول ج2.{إعلام الموقعين/الجزء الثاني}و{إعلام الموقعين/الجزء الثالث }

 

اعلام الموقعين ج1وج2وج3.

إعلام الموقعين عن رب العالمين

  المحتويات

  المقدمة خطبة الكتاب نوعا التلقي عنه صلى الله عليه وسلم إخراج المتعصب عن زمرة العلماء فصل حفاظ الحديث فصل المنزلة العظمى لفقهاء الإسلام طاعة الأمراء فصل الشروط التي تجب فيمن يبلغ عن الله ورسوله فصل الرسول أول من بلغ عن الله فصل من بلغ بعد الرسول المكثرون من الفتيا المتوسطون في الفتيا المقلون من الفتيا الصحابة سادة المفتين والعلماء فصل عمر بن الخطاب فصل عثمان بن عفان فصل الأئمة الذين نشروا الدين والفقه فصل في المفتين من التابعين فصل في المفتين بالمدينة فصل في المفتين بمكة شرفها الله فصل في المفتين بالبصرة فصل المفتين بالكوفة فصل في المفتين بالشام فصل في المفتين بمصر فصل في المفتين باليمن فصل في المفتين ببغداد فصل الأصول التي بنيت عليها فتاوى ابن حنبل الأصل الأول النصوص فصل الأصل الثاني فتاوى الصحابة فصل الأصل الثالث الاختيار من أقوال الصحابة إذا اختلفوا فصل الأصل الرابع الحديث المرسل فصل الأصل الخامس القياس للضرورة فصل تورع السلف عن الفتيا المراد بالناسخ والمنسوخ عند السلف والخلف الفرق بين المفتي والقاضي خطر تولي القضاء خطر تولي الإفتاء تحريم القول على الله بغير علم لا ينبغي أن يقال هذا حكم الله قد يطلق لفظ الكراهة على المحرم غلط المتأخرين في نقل التحريم إلى الكراهة ما يقوله المفتي إذا اجتهد في كلام الأئمة في أدوات الفتيا وشروطها أدوات الفتيا الفتوى بالتقليد شروط الإفتاء عند العلماء فصل في تحريم الإفتاء في دين الله بالرآي المتضمن لمخالفة النصوص والرأي الذي لم تشهد له النصوص بالقبول اتفاق الصحابة في مسائل الصفات المؤمنون لا يخرجهم تنازعهم عن الإيمان الرد إلى الله ورسوله دليل على أن كل الأحكام في القرآن والسنة انتفاء الإيمان بانتفاء الرد النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله انتزاع العلم بموت أصحابه الوعيد على القول بالرأي فصل فيما روى عن صديق الأمة وأعلمها من إنكار الرأي فصل في المنقول من ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قول ابن مسعود في ذم الرأي قول عثمان في ذم الرأي قول علي في ذم الرأي قول ابن عباس في ذم الرأي قول سهل ابن حنيف في ذم الرأي قول ابن عمر في ذم الرأي قول زيد بن ثابت في ذم الرأي قول معاذ في ذم الرأي قول أبي موسى في ذم الرأي قول معاوية في ذم الرأي فصل فيما يتوهم من استعمال الصحابة الرأي طريقة أبي بكر في الحكم طريقة عمر في الحكم طريقة ابن مسعود في الحكم متفرقات من آراء الصحابة في تفسير الرأي وتقسيمه معنى الرأي أقسام الرأي فصل في أنواع الرأي الباطل كلام التابعين في الرأي المتعصبون يعكسون القضية أبو حنيفة يقدم الحديث في أنواع الرأي المحمود الصحابة أفضل الناس في الرأي فصل النوع الثاني من أنواع الرأي المحمود فصل النوع الثالث من أنواع الرأي المحمود فصل النوع الرابع من أنواع الرأي المحمود خطاب عمر في القضاء شرح الخطاب الفهم الصحيح نعمة تمكن الحاكم والمفتي بنوعين من الفهم معنى الإدلاء وجوب تنفيذ الحق المدعي والمدعى عليه أمام الحاكم سواء ما هي البينة نصاب الشهادة في القرآن اليمين على أقوى المتداعيين ثبوت الحقوق بأي دليل حكم الحاكم بما يترجح الحق به لا يلزم التعدد في الحكم كلزومه في التحمل ما يجب على الحاكم وما يشترط فيه شروط الصلح بين المسلمين فصل الحقوق نوعان فصل الصلح نوعان فصل سلطة القاضي في تأجيل الحكم الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل متى ترد شهادة المسلم الاختلاف في شهادة الأقارب فصل شهادة الزور الكذب كبيرة فصل الحكمة في عدم سماع قول الكذاب 

 فصل سبب رد شهادة المجلود في حد القذف فصل رد الشهادة بالتهمة فصل من تقبل شهادته في القياس معناه وأقسامه القياس في القرآن تقسيمات للقياس قياس العلة البدع واتباع الهوى جالبة لكل شر فصل قياس الدلالة فصل قياس الشبه فصل معنى المثل وحكمة ذكره في القرآن فصل المثل في حق المؤمن فصل قياس الطرد وقياس العكس فصل كلمة التوحيد وأثرها في نفس المؤمن حكمة تشبيه المؤمن بالشجرة فصل ضرب المثل للكافر سؤال القبر فصل ما يبطل الأعمال من المن والأذى والرياء الاستفادة من ضرب الأمثال تأويل الرؤيا التساوي بين المتماثلين في الأحكام الشرعية الجزاء من جنس العمل القرآن يعلل الأحكام النبي يعلل الأحكام الناس طرفان ووسط في القياس قد تغني العلة عن ذكر الأصل فصل حديث معاذ في القياس فصل الصحابة يجتهدون ويقيسون اجتماع الفقهاء على مسائل في القياس الرد على من ينفون القياس اتفاق الصحابة في قياس حد الشرب على حد القذف الصحابة يقيسون في فرص الجد مع الإخوة قياس ابن عباس في مناقشته مع الخوارج رأي الصحابة في المرأة المخيرة الصحابة أول من قاسوا واجتهدوا العمل بالقياس فطرة فطر الله عليها الناس العبرة بالإرادة لا باللفظ كيف يعرف مراد المتكلم أغلاط أصحاب الألفاظ وأصحاب المعاني الظاهرية وأصحاب الرأي مفرطون فصل أدلة نفاة القياس أمثال ضربها صاحب الشرع فصل ضرب الأمثال يوضح المعنى الفرق بين المثل والقياس فصل نهى الرسول عن القياس ولم يدع إليه فصل الصحابة ينهون عن القياس فصل التابعون يذمون القياس فصل تناقض القياس مضار الاختلاف لا قياس أولى من قياس لم يستعمل القياس كحجة في زمن الرسول فصل تناقض القياسيين دليل على فساد القياس أمثلة من تناقض القياسيين فصل القياسيون يجمعون بين ما فرق الله ويفرقون بين ما جمع هل يصح شرط الواقف مطلقا إعلام الموقعين/الجزء الأول خطبة الكتاب الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارا وصرفهم في أطوار التخليق كيف شاء عزة واقتدارا وأرسل الرسل إلى المكلفين إعذارا منه وإنذارا فأتم بهم على من أتبع سبيلهم نعمته السابغة وقام بهم على من خالف مناهجهم حجته البالغة فنصب الدليل وأنار السبيل وأزاح العلل وقطع المعاذير وأقام الحجة وأوضح المحجة وقال {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} وهؤلاء رسلي {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} فعمهم بالدعوة على ألسنة رسله حجة منه وعدلا وخص بالهداية من شاء منهم نعمة وفضلا فقبل نعمة الهداية من سبقت له سابقة السعادة وتلقاها باليمين وقال {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} وردها من غلبت عليه الشقاوة ولم يرفع بها رأسا بين العالمين فهذا فضله وعطاؤه وما كان عطاء ربك محظورا ولا فضله بمنون وهذا عدله وقضاؤه فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فسبحان من أفاض على عباده النعمة وكتب على نفسه الرحمة وأودع الكتاب الذي كتبه أن رحمته تغلب غضبه وتبارك من له في كل شيء على ربوبيته ووحدانيته وعلمه وحكمته أعدل شاهد ولو لم يكن إلا أن فاضل بين عباده في مراتب الكمال حتى عدل الآلاف المؤلفة منهم بالرجل الواحد ذلك ليعلم عباده أنه أنزل التوفيق منازله ووضع الفضل مواضعه وأنه يختص برحمته من يشاء وهو العليم الحكيم وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. أحمده والتوفيق للحمد من نعمه وأشكره والشكر كفيل بالمزيد من فضله وكرمه وقسمه وأستغفره وأتوب إليه من الذنوب التي توجب زوال نعمه وحلول نقمه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمة قامت بها الأرض والسموات وفطر الله عليها جميع المخلوقات وعليها أسست الملة ونصبت القبلة ولأجلها جلدت سيوف الجهاد وبها أمر الله سبحانه جميع العباد فهي فطرة الله التي فطر الناس عليها ومفتاح العبودية التي دعا الأمم على ألسن رسله إليها وهي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام وأساس الفرض والسنة ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه وحجته على عباده وأمينه على وحيه أرسله رحمة للعالمين وقدوة للعالمين ومحجة للسالكين وحجة على المعاندين وحسرة على الكافرين أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وأنعم به على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكورا فأمده بملائكته المقربين وأيده بنصره وبالمؤمنين وأنزل عليه كتابه المبين الفارق بين الهدى والضلال والغي والرشاد والشك واليقين فشرح له صدره ووضع عنه وزره ورفع له ذكره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره وأقسم بحياته في كتابه المبين وقرن اسمه باسمه فإذا ذكر ذكر معه كما في الخطب والتشهد والتأذين وافترض على عباده طاعته ومحبته والقيام بحقوقه وسد الطرق كلها إليه وإلى جنته فلم يفتح لأحد إلا من طريقه فهو الميزان الراجح الذي على أخلاقه وأقواله وأعماله توزن الأخلاق والأقوال والأعمال والفرقان المبين الذي باتباعه يميز أهل الهدى من أهل الضلال ولم يزل صلى الله عليه وعلى آله وسلم مشمرا في ذات الله تعالى لا يرده عنه راد صادعا بأمره لا يصده عنه صاد إلى أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها وتألفت به القلوب بعد شتاتها وامتلأت به الأرض نورا وابتهاجا ودخل الناس في دين الله أفواجا فلما أكمل الله تعالى به الدين وأتم به النعمة على عباده المؤمنين استأثر به ونقله إلى الرفيق الأعلى والمحل الأسنى وقد ترك أمته على المحجة البيضاء والطريق الواضحة الغراء فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله والصالحون من عباده عليه وآله كما وحد الله وعرف به ودعا إليه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فإن أولى ما يتنافس به المتنافسون وأحرى ما يتسابق في حلبة سباقه المتسابقون ما كان بي سعادة العبد في معاشه وماعاده كفيلا وعلى طريق هذه السعادة دليلا وذلك العلم النافع والعمل الصالح اللذان لا سعادة للعبد إلا بهما ولا نجاة له إلا بالتعلق بسبهما فمن رزقهما فقد فاز وغنم ومن حرمهما فالخير كله حرم وهما مورد انقسام العباد إلى مرحوم ومحروم وبهما يتميز البر من الفاجر والتقي من الغوي والظالم من المظلوم ولما كان العلم للعمل قرينا وشافعا وشرفه لشرف معلومه تابعا كان أشرف العلوم على الإطلاق علم التوحيد وأنفعها علم أحكام أفعال العبيد ولا سبيل إلى اقتباس هذين النورين وتلقي هذين العلمين إلا من مشكاة من قامت الأدلة القاطعة على عصمته وصرحت الكتب السماوية بوجوب طاعته ومتابعته وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. نوعا التلقي عنه صلى الله عليه وسلم ولما كان التلقي عنه ﷺ على نوعين: نوع بوساطة ونوع بغير وساطة وكان التلقي بلا وساطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السباق واستولوا على الأمد فلا طمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق ولكن المبرز من اتبع صراطهم المستقيم واقتفى منهاجهم القويم والمتخلف من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها وأي خطة رشد لم يستولوا عليها تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذبا صافيا زلالا وأيدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالا فتحوا القلوب بعد لهم بالقرآن والإيمان والقرى بالجهاد بالسيف والسنان وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصا صافيا وكان سندهم فيه عن نبيهم ﷺ عن جبريل عن رب العالمين سندا صحيحا عاليا وقالوا هذا عهد نبينا إليكم وقد عهدنا إليكم وهذه وصية ربنا وفرضه علينا وهي وصيته وفرضه عليكم فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم واقتفوا على آثارهم صراطهم المستقيم ثم سلك تابعوا التابعين هذا المسلك الرشيد وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد وكانوا بالنسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} ثم جاءت الأئمة من القرن الرابع المفضل في إحدى الروايتين كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد وابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وعمران ابن حصين فسلكوا على آثارهم اقتصاصا واقتبسوا هذا الأمر عن مشكاتهم اقتباسا وكان دين الله سبحانه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليه رأيا أو معقولا أو تقليدا أو قياسا فطار لهم الثناء الحسن في العالمين وجعل الله سبحانه لهم لسان صدق في الآخرين ثم سار على آثارهم الرعيل الأول من أتباعهم ودرج على منهاجهم الموفقون من أشياعهم زاهدين في التعصب للرجال واقفين مع الحجة والاستدلال يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحدانا وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إليه ولا يسألونه عما قال برهانا ونصوصه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس أو يعارضوها برأي أو قياس. إخراج المتعصب عن زمرة العلماء ثم خلف من بعدهم خلوف فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا وكل إلى ربهم راجعون جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون ورءوس أموالهم التي بها يتجرون وآخرون منهم قنعوا بمحض التقليد وقالوا{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} والفريقان بمعزل عما ينبغي اتباعه من الصواب ولسان الحق يتلوا عليهم {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} قال الشافعي قدس الله تعالى روحه: "أجمع المسلمون على أن من استبابت له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعه لقول أحد من الناس" قال أبو عمر وغيره من العلماء: "أجمع الناس على أن المقلد ليس معدودا من أهل العلم وأن العلم معرفة الحق بدليله" وهذا كما قال أبو عمر رحمه الله تعالى: "فإن الناس لا يختلفون أن العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد". فقد تضمن هذان الإجماعان إخراج المتعصب بالهوى والمقلد الأعمى عن زمرة العلماء وسقوطهما باستكمال من فوقهما الفروض من وراثة الأنبياء فإن العلماء هم ورثة الأنبياء فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر وكيف يكون من ورثة الرسول ﷺ من يجهد ويكدح في رد ما جاء به إلى قول مقلده ومتبوعه ويضيع ساعات عمره في التعصب والهوى ولا يشعر بتضييعه تالله إنها فتنة عمت فأعمت ورمت القلوب فأصمت ربا عليها الصغير وهرم فيها الكبير واتخذ لأجلها القرآن مهجورا وكان ذلك بقضاء الله وقدره في الكتاب مسطورا ولما عمت بها البلية وعظمت بسبها الرزية بحيث لا يعرف أكثر الناس سواها ولا يعدون العلم إلا إياها فطالب الحق من مظانه لديهم مفتون ومؤثره على ما سواه عندهم مغبون نصبوا لمن خالفهم في طريقتهم الحبائل وبغوا له الغوائل ورموه عن قوس الجهل والبغي والعناد وقالوا لإخوانهم: "إنا نخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد". فحقيق بمن لنفسه عنده قدر وقيمة ألا يلتفت إلى هؤلاء ولا يرضى لها بما لديهم وإذا رفع له علم السنة النبوية شمر إليه ولم يحبس نفسه عليهم فما هي إلا ساعة حتى يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور وتتساوى أقدام الخلائق في القيام لله وينظر كل عبد ما قدمت يداه ويقع التمييز بين المحقين والمبطلين ويعلم المعرضون عن كتاب ربهم وسنة نبيهم أنهم كانوا كاذبين. فصل حفاظ الحديث ولما كانت الدعوة إلى الله والتبليغ عن رسوله شعار حزبه المفلحين وأتباعه من العالمين كما قال تعالى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وكان التبليغ عنه من عين تبليغ أفاظه وما جاء به وتبليغ معانيه كان العلماء من أمته منحصرين في قسمين أحدهما حفاظ الحديث وجهابذته والقادة الذين هم أئمة الأنام وزوامل الإسلام الذين حفظوا على الأئمة معاقد الدين وعاقله وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله حتى ورد من سبقت له من الله الحسنى تلك المناهل صافية من الأدناس لم تشبها الآراء تغييرا ووردوا فيها عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا وهو الذين قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل في خطبته المشهورة في كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله تعالى الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتنة المضلين. فصل المنزلة العظمى لفقهاء الإسلام القسم الثاني فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خصوا باستنباط الأحكام وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء بهم يهتدي الحيران في الظلماء وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} ذلك خير وأحسن تأويلا قال عبد الله بن عباس في إحدى الروايتين عنه وجابر بن عبد الله والحسن البصري وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح والضحاك ومجاهد في إحدى الروايتين عنه: "أولو الأمر هم العلماء" وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وقال أبو هريرة وابن عباس في الرواية الأخرى وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل: "هم الأمراء" وهو الرواية الثانية عن أحمد. طاعة الأمراء والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذ أمروا بمقتضى العلم فطاعتهم تبع لطاعة العلماء فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء وكان الناس كلهم لهم تبعا كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين وفساده بفسادهما كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس قيل من هم قال الملوك والعلماء كما قال عبد الله بن المبارك: رأيت الذنوب تميت القلوب ** وقد يورث الذل إدمانها. وترك الذنوب حياة القلوب ** وخير لنفسك عصيانها. وهل أفسد الدين إلا الملوك ** وأحبار سوء ورهبانها. فصل الشروط التي تجب فيمن يبلغ عن الله ورسوله ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق فيكون عالما بما بلغ صادقا فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضي السيرة عدلا في أقواله وأفعاله متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته وأن يتأهب له أهبته وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة إذ يقول في كتابه {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه وليوقن أنه مسئول غدا وموقوف بين يدي الله. فصل الرسول أول من بلغ عن الله وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيبن عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده فكان يفتي عن الله بوحيه المبين وكان كما قال له أحكم الحاكمين {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} فكانت فتاويه ﷺ جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلا وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}. فصل من بلغ بعد الرسول ثم قام بالفتوى بعده برك الإسلام وعصابة الإيمان وعسكر القرآن وجند الرحمن أولئك أصحابه ﷺ ألين الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأحسنها بيانا وأصدقها إيمانا وأعمها نصيحة وأقربها إلى الله وسيلة وكانوا بين مكثر منها ومقل ومتوسط. المكثرون من الفتيا والذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله ﷺ مائة ونيف وثلاثون نفسا ما بين رجل وامرأة وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر. قال أبو محمد بن حزم: "ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم". قال: "وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب ابن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في عشرين كتابا". وأبو بكر محمد المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث. المتوسطون في الفتيا قال أبو محمد: "والمتوسطون منهم فيما روى عنهم من الفتيا: أبو بكر الصديق وأم سلمة وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير وأبو موسى الأشعري وسعد ابن أبي وقاص وسلمان الفارسي وجابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير جدا ويضاف إليهم طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعمران بن حصين وأبو بكرة وعبادة بن الصامت ومعاوية بن أبي سفيان". المقلون من الفتيا والباقون منهم مقلون في الفتيا لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على ذلك يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث وهم: أبو الدرداء وأبو اليسر وأبو سلمة المخزومي وأبو عبيدة بن الجراح وسيعد بن زيد والحسن والحسين ابنا علي والنعمان بن بشير وأبو مسعود وأبي بن كعب وأبو أيوب وأبو طلحة وأبو ذر وأم عطية وصفية أم المؤمنين وحفصة وأم حبيبة وأسامة بن زيد وجعفر ابن أبي طالب والبراء بن عازب وقرظة بن كعب ونافع أخو أبي بكرة لأمه والمقداد بن الأسود وأبو السنابل والجارود والعبدي وليلى بنت قائف وأبو محذورة وأبو شريح العكبي وأبو برزة الأسلمي وأسماء بنت أبي بكر وأم شريك والخولاء بنت تويت وأسيد بن الحضير والضحاك ابن قيس وحبيب بن مسلمة وعبد الله بن أنيس وحذيفة بن اليمان وثمامة بن أثال وعمار بن ياسر وعمرو بن العاص وأبو الغادية السلمي وأم الدرداء الكبرى والضحاك بن خليفة المازني والحكم بن عمرو الغفاري ووابصة ابن معبد الأسدي وعبد الله بن جعفر البرمكي وعوف بن مالك وعدي ابن حاتم وعبد الله بن أبي أفي وعبد الله بن سلام وعمرو بن عبسة وعتاب ابن أسيد وعثمان بن أبي العاص وعبد الله بن سرجس وعبد الله بن رواحة وعقيل بن أبي طالب وعائذ بن عمرو وأبو قتادة عبد الله بن معمر العدوي وعمي بن سعلة وعبد الله بن أبي بكر الصديق وعبد الرحمن أخوه وعاتكة بنت زيد بن عمرو وعبد الله بن عوف الزهري وسعد بن معاذ وسعد ابن عبادة وأبو منيب وقيس بن سعد وعبد الرحمن بن سهل وسمرة ابن جندب وسهل بن سعد الساعدي وعمرو بن مقرن وسويد بن مقرن ومعاوية بن الحكم وسهلة بنت سهيل وأبو حذيفة بن عتبة وسلمة ابن الأكوع وزيد ابن أرقم وجرير بن عبد الله البجلي وجابر بن سلمة وجويرية أم المؤمنين وحسان بن ثابت وحبيب بن عدي وقدامة ابن مظعون وعثمان بن مظعون وميمونة أم المؤمنين ومالك بن الحويرث وأبو أمامة الباهلي ومحمد بن مسلمة وخباب بن الأرت وخالد بن الوليد وضمرة بن الفيض وطارق بن شهاب وظهير بن رافع ورافع بن خديج وسيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم وفاطمة بنت قيس وهشام بن حكيم بن حزام وأبوه حكيم بن حزام وشرحبيل بن السمط وأم سلمة ودحية بن خليفة الكلبي وثابت بن قيس بن الشماس وثوبان مولى رسول الله ﷺ والمغيرة بن شعبة وبريدة بن الخصيب الأسلمي ورويفع بن ثابت وأبو حميد وأبو أسيد وفضالة بن عبيد وأبو محمد روينا عنه وجوب الوتر قلت أبو محمد هو مسعود بن أوس الأنصاري نجاري بدري وزينب بنت أم سلمة وعتبة بن مسعود وبلال المؤذن وعروة بن الحارث وسياه بن روح أو روح بن سياه وأبو سعيد بن المعلى والعباس بن عبد المطلب وبشر بن أرطاة وصهيب بن سنان وأم أيمن وأم يوسف والغامدية وماعز وأبو عبد الله البصري. فهؤلاء من نقلت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله ﷺ وما أدري بأي طريق عد معهم أبو محمد الغامدية وماعزا ولعله تخيل أن إقدامهما على جواز الإقرار بالزنا من غير استئذان لرسول الله ﷺ في ذلك هو فتوى لأنفسهما بجواز الإقرار وقد أقرا عليها فإن تخيل هذا فما أبعده من خيال أو لعله ظفر عنهما بفتوى في شيء من الأحكام. الصحابة سادة المفتين والعلماء وكما أن الصحابة سادة الأمة وأئمتها وقادتها فهم سادات المفتين والعلماء. قال الليث عن مجاهد: "العلماء أصحاب محمد ﷺ" وقال سعيد عن قتادة في قوله تعالى {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} قال: "أصحاب محمد ﷺ". وقال يزيد بن عمير: "لما حضر معاذ بن جبل الموت قيل: يا أبا عبد الرحمن أوصنا قال أجلسوني إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما يقول ذلك ثلاث مرات التمس العلم عند أربعة رهط: عند عويمر بن أبي الدرداء وعند سلمان الفارسي وعند عبد الله بن مسعود وعند عبد الله بن سلام". وقال مالك بن يخامر: "لما حضرت معاذ الوفاة بكيت فقال: ما يبكيك؟ قلت: والله ما أبكي على دنيا كنت أصيبها منك ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك فقال إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما اطلب العلم عند أربعة فذكر هؤلاء الأربعة ثم قال فإن عجز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض عنه أعجز فعليك بمعلم إبراهيم" قال: "فما نزلت بي مسألة عجزت عنها إلا قلت يا معلم إبراهيم". وقال أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي إسحاق قال: قال عبد الله: "علماء الأرض ثلاثة فرجل بالشام والآخر بالكوفة وآخر بالمدينة فأما هذان فيسألان الذي بالمدينة والذي بالمدينة لا يسألهما عن شيء". وقال الشعبي: "ثلاثة يستفتي بعضهم من بعض فكان عمر وعبد الله وزيد ابن ثابت يستفتي بعضهم من بعض وكان علي وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري يستفتي بعضهم من بعض" قال الشيباني: "فقلت للشعبي: وكان أبو موسى بذاك فقال ما كان أعلمه قلت فأين معاذ فقال هلك قبل ذلك". وقال أبو البختري: "قيل لعلي بن أبي طالب حدثنا عن أصحاب رسول الله ﷺ قال: عن أيهم؟ قال عن عبد الله بن مسعود قال: قرأ القرآن وعلم السنة ثم انتهى وكفاه بذلك قال: فحدثنا عن حذيفة قال: أعلم أصحاب محمد بالمنافقين قالوا: فأبوا ذر قال: كنيف ملىء علما عجز فيه قالوا فعمار قال مؤمن نسي إذا ذكرته ذكر خلط الله الإيمان بلحمه ودمه ليس للنار فيه نصيب قالوا فأبو موسى قال صبغ في العلم صبغة قالوا فسلمان قال علم العلم الأول والآخر بحر لا ينزح منا أهل البيت قالوا فحدثنا عن نفسك يا أمير المؤمنين قال إياها أردتم كنت إذا سئلت أعطيت وإذا سكت ابتديت". وقال مسلم عن مسروق: "شاممت أصحاب محمد ﷺ فوجدت علمهم ينتهي إلى ستة: إلى علي وعبد الله وعمر وزيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبي بن كعب ثم شاممت الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله". وقال مسروق أيضا: "جالست أصحاب محمد ﷺ فكانوا كالإخاذ: الإخاذة تروي الراكب والإخاذة تروي الراكبين والإخاذة تروي العشرة والإخاذة لو نزل بها أهل الأرض لأصدرتهم وإن عبد الله من تلك الإخاذ". وقال الشعبي: "إذا اختلف الناس في شيء فخذوا بما قال عمر". وقال ابن مسعود: "إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم". وقال أيضا: "لو أن علم عمر وضع في كفة الميزان ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر". وقال حذيفة: "كأن علم الناس مع علم عمر دس في جحر". وقال الشعبي: "قضاة هذه الأمة عمر وعلي وزيد وأبو موسى". وقال سعيد بن المسيب: "كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن. وشهد رسول الله ﷺ لعبد الله بن مسعود بأنه عليم معلم" وبدأ به في قوله: "خذوا القرآن من أربعة من ابن أم عبد ومن أبي بن كعب ومن سالم مولى أبي حذيفة ومن معاذ بن جبل ولما ورد أهل الكوفة على عمر أجازهم وفضل أهل الشام عليهم في الجائزة فقالوا: يا أمير المؤمنين تفضل أهل الشام علينا فقال: يا أهل الكوفة أجزعتم أن فضلت أهل الشام عليكم لبعد شقتهم وقد آثرتكم بابن أم عبد" وقال عقبة بن عمرو: "ما أرى أحدا أعلم بما أنزل على محمد ﷺ من عبد الله" فقال أبو موسى: "إن تقل ذلك فإنه كان يسمع حين لا نسمع ويدخل حين لا ندخل" وقال عبد الله: "ما أنزلت سورة إلا وأنا أعلم فيما أنزلت ولو أني أعلم أن رجلا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته" وقال زيد بن وهب: "كنت جالسا عند عمر فأقبل عبد الله فدنا منه فأكب عليه وكلمه بشيء ثم انصرف فقال عمر كنيف ملىء علما". وقال الأعمش عن إبراهيم: "إنه كان لا يعدل بقول عمر وعبد الله إذا اجتمعا فإذا اختلفا كان قول عبد الله أعجب إليه لأنه كان ألطف" وقال عبد الله بن بريدة في قوله تعالى {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} قال: "هو عبد الله بن مسعود" وقيل لمسروق: "كانت عائشة تحسن الفرائض قال والله لقد رأيت الأحبار من أصحاب رسول الله ﷺ يسألونها عن الفرائض". وقال أبو موسى: "ما أشكل علينا أصحاب محمد ﷺ حديث قط فسألناه عائشة إلا وجدنا عندها منه علما" وقال ابن سيرين: "كانوا يرون أعلمهم بالمناسك عثمان بن عفان ثم ابن عمر بعده". وقال شهر بن حوشب: "كان أصحاب محمد ﷺ إذا تحدثوا وفيهم معاذ نظروا إليه هيبة له" وقال علي: "أبو ذر أوعى علما ثم أوكى عليه فلم يخرج منه شيئا حتى قبض" وقال مسروق: "قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم". وقال الجريري عن أبي تميمة: "قدمنا الشام فإذا الناس مجتمعون يطيفون برجل قال: قلت: من هذا قالوا: هذا أفقه من بقي من أصحاب النبي ﷺ هذا عمرو البكالي". وقال سعيد: "قال ابن عباس وهو قائم على قبر زيد بن ثابت هكذا يذهب العلم" وكان ميمون بن مهران إذا ذكر ابن عباس وابن عمر عنده يقول: "ابن عمر أورعهما وابن عباس أعلمهما" وقال أيضا: "ما رأيت أفقه من ابن عمر ولا أعلم من ابن عباس" وكان ابن سيرين يقول: "اللهم أبقني ما أبقيت ابن عمر اقتدي به ابن عباس" وقال ابن عباس: "ضمني رسول الله ﷺ وقال: "اللهم علمه الحكمة" وقال أيضا: "دعاني رسول الله ﷺ فمسح على ناصيتي وقال: "اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب" ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية: "مات رباني هذه الأمة". وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: "ما رأيت أحدا أعلم بالسنة ولا أجلد رأيا ولا أثقب نظرا حين ينظر مثل ابن عباس وإن كان عمر بن الخطاب ليقول له: قد طرأت علينا عضل أقضية أنت لها ولأمثالها". وقال عطاء بن أبي رباح: "ما رأيت مجلسا قط أكرم من مجلس ابن عباس أكثر فقها وأعظم إن أصحاب الفقه عنده وأصحاب القرآن وأصحاب الشعر عنده بصدرهم كلهم في واد واسع". وقال ابن مسعود: "لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عسره منا رجل". وقال مكحول: "قيل لابن عباس أنى أصبت هذا العلم قال: بلسان سؤول وقلب عقول". وقال مجاهد: "كان ابن عباس يسمى البحر من كثرة علمه". وقال طاووس: "أدركت نحوا من خمسين من أصحاب رسول الله ﷺ إذ ذكر ابن عباس شيئا فخالفوه لم يزل بهم حتى يقررهم" وقيل لطاووس: "أدركت أصحاب محمد ﷺ ثم انقطعت إلى ابن عباس فقال أدركت سبعين من أصحاب محمد ﷺ إذا تدارءوا في شيء انتهوا إلى قول ابن عباس". وقال ابن أبي نجيح: "كان أصحاب ابن عباس يقولون ابن عباس أعلم من عمر ومن علي ومن عبد الله ويعدون ناسا فيثب عليهم الناس فيقولون لا تعجلوا علينا إنه لم يكن أحد من هؤلاء إلا وعنده العلم ما ليس عند صاحبه وكان ابن عباس قد جمعه كله". وقال الأعمش: "كان ابن عباس إذا رأيته قلت أجمل الناس فإذا تكلم قلت أفصح الناس فإذا حدث قلت أعلم الناس" وقال مجاهد: "كان ابن عباس إذا فسر الشيء رأيت عليه النور". فصل عمر بن الخطاب قال الشعبي: "من سره أن يأخذ بالوثيقة في القضاء فليأخد بقول عمر" وقال مجاهد: "إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا به". وقال ابن المسيب: "ما أعلم أحدا بعد رسول الله ﷺ أعلم من عمر بن الخطاب" وقال أيضا: "كان عبد الله يقول: "لو سلك الناس واديا وشعبا وسلك عمر واديا وشعبا لسلكت وادي عمر وشعبه" وقال بعض التابعين: "دفعت إلى عمر فإذا الفقهاء عنده مثل الصبيان قد استعلى عليهم في فقهه وعلمه". وقال محمد بن جرير: "لم يكن أحد له أصحاب معروفون حرروا فتياه ومذاهبه في الفقه غير ابن مسعود وكان يترك مذهبه وقوله لقول عمر وكان لا يكاد يخالفه في شيء من مذاهبه ويرجع من قوله إلى قوله". وقال الشعبي: "كان عبد الله لا يقنت وقال ولو قنت عمر لقنت عبد الله". فصل عثمان بن عفان وكان من المفتين عثمان بن عفان قال ابن جرير: "غير أنه لم يكن له أصحاب يعرفون والمبلغون عن عمر فتياه ومذاهبه وأحكامه في الدين بعده كانوا أكثر من المبلغين عن عثمان والمؤدين عنه علي بن أبي طالب وأما علي بن أبي طالب عليه السلام فانتشرت أحكامه وفتاويه ولكن قاتل الله الشيعة فإنهم أفسدوا كثيرا من علمه بالكذب عليه ولهذا تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتواه إلا ما كان من طريق أهل بيته وأصحاب عبد الله بن مسعود كعبيدة السلماني وشريح وأبي وائل ونحوهم وكان رضي الله عنه وكرم وجهه يشكو عدم حملة العلم الذي أودعه كما قال إن ههنا علما لو أصبت له حملة". فصل الأئمة الذين نشروا الدين والفقه والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود وأصحاب زيد بن ثابت وأصحاب عبد الله بن عمر وأصحاب عبد الله بن عباس فعلم الناس عامته عن أصحاب هؤلاء الأربعة فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وأما أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود قال ابن جرير: "وقد قيل إن ابن عمر وجماعة ممن عاش بعده بالمدينة من أصحاب رسول الله ﷺ إنما كانوا يفتون بمذاهب زيد بن ثابت وما كانوا أخذوا عنه مما لم يكونوا حفظوا فيه عن رسول الله ﷺ قولا". وقال ابن وهب: "حدثني موسى بن علي اللخمي عن أبيه أن عمر بن الخطاب خطب الناس بالجابية فقال من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل ومن أراد المال فليأتني". وأما عائشة فكانت مقدمة في العلم والفرائض والأحكام والحلال والحرام وكان من الآخذين عنها الذين لا يكادون يتجاوزون قولها المتفقهين بها القاسم بن محمد بن أبي بكر ابن أخيها وعروة بن الزبير ابن أختها أسماء قال مسروق: "لقد رأيت مشيخة أصحاب رسول الله ﷺ يسألونها عن الفرائض" وقال عروة بن الزبير: "ما جالست أحدا قط كان أعلم بقضاء ولا بحديث بالجاهلية ولا أروى للشعر ولا أعلم بفريضة ولا طب من عائشة". فصل في المفتين من التابعين ثم صارت الفتوى في أصحاب هؤلاء كسعيد بن المسيب راوية عمر وحامل علمه قال جعفر بن ربيعة: "قلت لعراك بن مالك من أفقه أهل المدينة قال أما أفقههم فقها وأعلمهم بقضايا رسول الله ﷺ وقضايا أبي بكر وقضايا عمر وقضايا عثمان وأعلمهم بما مضى عليه الناس فسعيد بن المسيب وأما أغزرهم حديثا فعروة بن الزبير ولا تشاء أن تفجر من عبيد الله بحرا إلا فجرته" قال عراك: "وأفقههم عندي ابن شهاب لأنه جمع علمهم إلى علمه". وقال الزهري: "كنت أطلب العلم من ثلاثة سعيد بن المسيب وكان أفقه الناس وعروة بن الزبير وكان بحرا لا تدركه الدلاء وكنت لا تشاء أن تجد عند عبيد الله طريقة من علم لا تجدها عند غيره إلا وجدت" وقال الأعمش: "فقهاء المدينة أربعة سعيد ابن المسيب وعروة وقبيصة وعبد الملك" وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "لما مات العبأدلة عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو ابن العاص صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي فكان فقيه أهل مكة عطاء ابن أبي رباح وفقيه أهل اليمن طاووس وفقيه أهل اليمامة يحيى بن أبي كثير وفقيه أهل الكوفة إبراهيم وفقيه أهل البصرة الحسن وفقيه أهل الشام مكحول وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني إلا المدينة فإن الله خصها بقرشي فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن المسيب غير مدافع". وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: "مررت بعبد الله بن عمر فسلمت عليه ومضيت قال فالتفت إلى أصحابه فقال لو رأى رسول الله ﷺ هذا لسره فرفع يديه جدا وأشار بيده إلى السماء وكان سعيد بن المسيب صهر أبي هريرة زوجة أبو هريرة ابنته وكنا إذا رآه قال أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة" ولهذا أكثر عنه من الرواية. فصل في المفتين بالمدينة وكان المفتون بالمدينة من التابعين ابن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وخارجة بن زيد وأبا بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام وسليمان ابن يسار وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وهؤلاء هم الفقهاء وقد نظمهم القائل فقال إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجه فقل هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة. وكان من أهل الفتوى أبان بن عثمان وسالم ونافع وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وعلي بن الحسين وبعد هؤلاء أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وابناه محمد وعبد الله وعبد الله بن عمر بن عثمان وابنه محمد وعبد الله والحسين ابنا محمد ابن الحنفية وجعفر بن محمد بن علي وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر ومحمد ابن المنكدر ومحمد بن شهاب الزهري وجمع محمد بن نوح فتاويه في ثلاثة أسفار ضخمة على أبواب الفقه وخلق سوى هؤلاء. فصل في المفتين بمكة شرفها الله وكان المفتون بمكة عطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان ومجاهد بن جبر وعبيد بن عمير وعمرو بن دينار وعبد الله بن أبي مليكة وعبد الرحمن ابن سابط وعكرمة ثم بعدهم أبو الزبير المكي وعبد الله بن خالد بن أسيد وعبد الله بن طاووس ثم بعدهم عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وسفيان بن عيينة وكان أكثر فتواهم في المناسك وكان يتوقف في الطلاق وبعدهم مسلم بن خالد الزنجي وسعيد بن سالم القداح وبعدهما الإمام محمد بن إدريس الشافعي ثم عبد الله بن الزبير الحميدي وإبراهيم بن محمد الشافعي ابن عم محمد وموسى بن أبي الجارود وغيرهم. فصل في المفتين بالبصرة وكان من المفتين بالبصرة عمرو بن سلمة الجرمي وأبو مريم الحنفي وكعب ابن سود والحسن البصري وأدرك خمسمائة من الصحابة وقد جمع بعض العلماء فتاويه في سبعة أسفار ضخمة قال أبو محمد بن حزم وأبو الشعثاء جابر ابن زيد ومحمد بن سيرين وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي ومسلم بن يسار وأبو العالية وحميد بن عبد الرحمن ومطرف بن عبد الله الشخير وزرارة بن أبي أوفى وأبو بردة بن أبي موسى ثم بعدهم أيوب السختياني وسليمان التيمي وعبد الله بن عوف ويونس ابن عبيد والقاسم بن ربيعة وخالد بن أبي عمران وأشعث بن عبد الملك الحمراني وقتادة وحفص بن سليمان وإياس بن معاوية القاضي وبعدهم سوار القاضي وأبو بكر العتكي وعثمان بن سليمان البتي وطلحة ابن إياس القاضي وعبيد الله بن الحسن العنبري وأشعث بن جابر بن زيد. ثم بعد هؤلاء عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وسعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعبد الله بن داود الحرشي وإسماعيل بن علية وبشر بن المفضل ومعاذ بن معاذ العنبري ومعمر بن راشد والضحاك ابن مخلد ومحمد بن عبد الله الأنصاري. فصل المفتين بالكوفة وكان من المفتين بالكوفة علقمة بن قيس النخعي والأسود بن يزيد النخعي وهو عم علقمة وعمرو بن شرحبيل الهمداني ومسروق بن الأجدع الهمداني وعبيدة السلماني وشريح بن القاضي وسليمان بن ربيعة الباهلي وزيد ابن صوحان وسويد بن غفلة والحارث بن قيس الجعفي وعبد الرحمن بن يزيد النخعي وعبد الله بن عتبة بن مسعود القاضي وخيثمة بن عبد الرحمن وسلمة بن صهيب ومالك بن عامر وعبد الله بن سخبرة وزر بن حبيش وخلاس بن عمرو وعمرو بن ميمون الأودي وهمام بن الحارث والحارث بم سويد ويزيد بن معاوية النخعي والربيع بن خيثم وعتبة بن فرقد وصلة ابن زفر وشريك بن حنبل وأبو وائل شقيق بن سلمة وعبيد بن نضلة وهؤلاء أصحاب علي وابن مسعود وأكابر التابعين كانوا يفتون في الدين ويستفتيهم الناس وأكابر الصحابة حاضرون يجوزون لهم ذلك وأكثرهم أخذ عن عمر وعائشة وعلي ولقي عمرو بن ميمون الأودي معاذ بن جبل وصحبه وأخذ عنه وأوصاه معاذ عند موته أن يلحق بابن مسعود فيصحبه ويطلب العلم عنده ففعل ذلك ويضاف إلى هؤلاء أبو عبيدة وعبد الرحمن ابنا عبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن أبي ليلى وأخذ عن مائة وعشرين من الصحابة وميسرة وزاذان والضحاك. ثم بعدهم إبراهيم النخعي وعامر الشعبي وسعيد بن جبير والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وأبو بكر بن أبي موسى ومحارب بن دثار والحكم بن عتيبة وجبلة بن سحيم وصحب ابن عمر ثم بعدهم حماد بن أبي سليمان وسليمان بن المعتمر وسليمان الأعمش ومسعر بن كدام ثم بعدهم محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله سبرمة وسعيد بن أشوع وشريك القاضي والقاسم بن معن وسفيان الثوري وأبو حنفية والحسن بن صالح بن حي ثم بعدهم حفص بن غياث ووكيع بن الجراح وأصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف القاضي وزفل بن الهذيل وحماد بن أبي حنيفة والحسن بن زياد اللؤلؤي القاضي ومحمد بن الحسن قاضي الرقة وعافية القاضي وأسد بن عمرو ونوح بن دراج القاضي وأصحاب سفيان الثوري كالأشجعي والمعافي ابن عمران وصاحبي الحسن بن حي الزولي ويحيى بن آدم. فصل في المفتين بالشام وكان من المفتين بالشام أبو إدريس الخولاني وشرحبيل بن السمط وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي وحبان بن أمية وسليمان بن حبيب المحاربي والحارث بن عمير الزبيدي وخالد بن معدان وعبد الرحمن بن غنم الأشعري وجبير بن نفير ثم كان بعدهم عبد الرحمن بن جبير بن نفير ومكحول وعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة وكان عبد الملك بن مروان يعد في المفتين قبل أن يلي ما ولى وحدير بن كريب. ثم كان بعدهم يحيى بن حمزة القاضي وأبو عمرو وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي وإسماعيل بن أبي المهاجر وسليمان بن موسى الأموي وسعيد ابن عبد العزيز ثم مخلد بن الحسين والوليد بن مسلم والعباس بن يزيد صاحب الأوزاعي وشعيب بن إسحاق صاحب أبي حنيفة وأبو إسحاق الفزاري صاحب ابن المبارك. فصل في المفتين بمصر ومن المفتين من أهل مصر يزيد بن أبي حبيب وبكير بن عبد الله بن الأشج وبعدهما عمرو بن الحرث وقال ابن وهب: "لو عاش لنا عمرو بن الحرث ما احتجنا معه إلى مالك ولا إلى غيره" والليث بن سعد وعبيد الله بن أبي جعفر وبعدهم أصحاب مالك كعبد الله بن وهب وعثمان بن كنانة وأشهب وابن القاسم على غلبة تقليده لمالك إلا في الأقل ثم أصحاب الشافعي كالمزني والبويطي وابن عبد الحكم ثم غلب عليهم تقليد مالك وتقليد الشافعي إلا قوما قليلا لهم اختيارات كمحمد بن علي بن يوسف وأبي جعفر الطحاوي مفتو القيروان وكان بالقيروان سحنون بن سعيد وله كثير من الاختيار وسعيد بن محمد الحداد مفتو الأندلس وكان بالأندلس ممن له شيء من الاختيار يحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب وبقي بن مخلد وقاسم بن محمد صاحب الوثائق تحفظ لهم فتاو يسيرة وكذلك مسلمة بن عبد العزيز القاضي ومنذر بن سعيد قال: "أبو محمد بن حزم وممن أدركنا من أهل العلم على الصفة التي من بلغها استحق الاعتداد به في الاختلاف" مسعود بن سليمان ويوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر. فصل في المفتين باليمن وكان باليمن مطرف بن مازن قاضي صنعاء وعبد الرزاق بن همام وهشام ابن يوسف ومحمد بن ثور وسماك بن الفضل. فصل في المفتين ببغداد وكان بمدينة السلام من المفتين خلق كثير ولما بناها المنصور أقدم إليها من الأئمة والفقهاء والمحدثين بشرا كثيرا فكان من أعيان المفتين بها أبو عبيد القاسم بن سلام وكان جبلا نفخ فيه الروح علما وجلالة ونبلا وأدبا وكان منهم أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي صاحب الشافعي وكان قد جالس الشافعي وأخذ عنه وكان أحمد يعظمه ويقول هو في سلاح الثوري إمام أهل السنة وكان بها إمام أهل السنة على الإطلاق أحمد بن حنبل الذي ملأ الأرض علما وحديثا وسنة حتى إن أئمة الحديث والسنة بعده هم أتباعه إلى يوم القيامة وكان رضي الله عنه شديد الكراهة لتصنيف الكتب وكان يحب تجريد الحديث ويكره أن يكتب كلامه ويشتد عليه جدا فعلم الله حسن نيته وقصده فكتب من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سفرا ومن الله سبحانه علينا بأكثرها فلم يفتنا منها إلا القليل وجمع الخلال نصوصه في الجامع الكبير فبلغ نحو عشرين سفرا أو أكثر ورويت فتاويه ومسائله وحدث بها قرنا بعد قرن فصارت إماما وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلدين لغيره ليعظون نصوصه وفتاواه ويعرفون لها حقها وقربها من النصوص وفتاوي الصحابة ومن تأمل فتاواه وفتاوي الصحابة رأي. مطابقة كل منهما على الأخرى ورأى الجميع كأنها تخرج من مشكاة واحدة حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان وكان تحريه لفتاوي الصحابة كتحري أصحابه لفتاويه ونصوصه بل أعظم حتى إنه ليقدم فتاواهم على الحديث المرسل قال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء في مسألة: "قلت لأبي عبد الله حديث عن رسول الله ﷺ مرسل برجال ثبت أحب إليك أو حديث عن الصحابة والتابعين متصل برجال ثبت قال أبو عبد الله رحمه الله عن الصحابة أعجب إلي". فصل الأصول التي بنيت عليها فتاوى ابن حنبل وكان فتاويه مبنية على خمسة أصول. الأصل الأول النصوص فإذا وجد النص أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنا من كان ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس ولا إلى خلافه في التيمم للجنب لحديث عمار بن ياسر ولا خلافه في استدامة المحرم الطيب الذي تطيب به قبل إحرامه لصحة حديث عائشة في ذلك ولا خلافه في منع المفرد والقارن من الفسخ إلى التمتع لصحة أحاديث الفسخ وكذلك لم يلتفت إلى قول علي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وأبي بن كعب في ترك الغسل من الإكسال لصحة حديث عائشة أنها فعلته هي ورسول ﷺ فاغتسلا ولم يلتفت إلى قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن علي أن عدة المتوفي عنها الحامل أقصى الأجلين لصحة حديث سبيعة الأسلمية ولم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية في توريث المسلم من الكافر لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما ولم يلتفت إلى قول ابن عباس في الصرف لصحة الحديث بخلافه ولا إلى قوله بإباحة لحوم الحمر كذلك؛ وهذا كثير جدا ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياسا ولا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعا ويقدمونه على الحديث الصحيح وقد كذب أحمد من ادعى هذا الإجماع ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت وكذلك الشافعي أيضا نص في رسالته الجديدة على أن ما لا يعلم فيه بخلاف لا يقال له إجماع ولفظه ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: "سمعت أبي يقول ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كاذب من ادعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس اختلفوا ما يدريه ولم ينته إليه فليقل لا نعلم الناس اختلفوا" هذه دعوى بشر المريسي والأصم ولكنه يقول: "لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغني ذلك" هذا لفظه ونصوص رسول الله ﷺ أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف ولو ساغ لتعطلت النصوص وساغ لكل من لم يعلم مخالفا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده. فصل الأصل الثاني فتاوى الصحابة الأصل الثاني: من أصول فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها ولم يقل إن ذلك إجماع بل من ورعه في العبارة يقول لا أعلم شيئا يدفعه أو نحو هذا كما قال في رواية أبي طالب: "لا أعلم شيئا يدفع قول ابن عباس وابن عمر وأحد عشر من التابعين عطاء ومجاهد وأهل المدينة على تسري العبد" وهكذا قال أنس بن مالك: "لا أعلم أحدا رد شهادة العبد حكاه" عنه الإمام أحمد وإذا وجد الإمام أحمد هذا النوع عن الصحابة لم يقدم عليه عملا ولا رأيا ولا قياسا. فصل الأصل الثالث الاختيار من أقوال الصحابة إذا اختلفوا الأصل الثالث من أصوله إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة ولم يخرج عن أقوالهم فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكي الخلاف فيها ولم يجزم بقول قال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء في مسائله: "قيل لأبي عبد الله يكون الرجل في قومه فيسأل عن الشيء فيه اختلاف قال يفتي بما وافق الكتاب والسنة وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه قيل له أفيجاب عليه قيل لا". فصل الأصل الرابع الحديث المرسل الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث والضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه وهو الذي رجحه على القياس وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف بل إلى صحيح وضعيف وللضعيف عنده مراتب فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه ولا قول صاحب ولا إجماعا على خلافه كان العمل به عنده أولى من القياس وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة فإنه ما منهم أحد إلا وقد قدم الحديث الضعيف على القياس فقدم أبو حنيفة حديث القهقهة في الصلاة على محض القياس وأجمع أهل الحديث على ضعفه وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر على القياس وأكثر أهل الحديث يضعفه وقدم حديث أكثر الحيض عشرة أيام وهو ضعيف باتفاقهم على محض القياس فإن الذي تراه في اليوم الثالث عشر مساو في الحد والحقيقة والصفة لدم اليوم العاشر وقدم حديث لا مهر أقل من عشرة دراهم وأجمعوا على ضعفه بل بطلانه على محض القياس فإن بذل الصداق معاوضة في مقابلة بذل البضع فما تراضيا عليه جاز قليلا كان أو كثيرا وقدم الشافعي خبر تحريم صيد وج مع ضعفه على القياس وقدم خبر جواز الصلاة بمكة في وقت النهي مع ضعفه ومخالفته لقياس غيرها من البلاد وقدم في أحد قوليه حديث من قاء أو رعف فليتوضأ وليبئن على صلاته على القياس مع ضعف الخبر وإرساله وأما مالك فإنه يقدم الحديث المرسل والمنقطع والبلاغات وقول الصحابي على القياس. فصل الأصل الخامس القياس للضرورة فإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص ولا قول الصحابة أو واحد منهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى الأصل الخامس وهو القياس فاستعمله للضرورة وقد قال في كتاب الخلال: "سألت الشافعي عن القياس فقال إنما يصار إليه عند الضرورة أو ما هذا معناه" فهذه الأصول الخمسة من أصول فتاويه وعليها مدارها وقد يتوقف في الفتوى لتعارض الأدلة عنده أو لاختلاف الصحابة فيها أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف كما قال لبعض أصحابه إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام. وكان يسوغ استفتاء فقهاء الحديث وأصحاب مالك ويدل عليهم ويمنع من استفتاء من يعرض عن الحديث ولا يبني مذهبه عليه ولا يسوغ العمل بفتواه. قال ابن هانىء: "سألت أبا عبد الله عن الذي جاء في الحديث أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار قال أبو عبد الله رحمه الله يفتي بما لم يسمع قال وسألته عمن أفتى بفتيا يعي فيها قال فإثمها على من أفتاها قلت على أي وجه يفتي حتى يعلم ما فيها قال يفتي بالبحث لا يدري أيش أصلها". وقال أبو داود في مسائله: "ما أحصي ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول لا أدري قال وسمعته يقول ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى أحسن فتيا منه كان أهون عليه أن يقول لا أدري". وقال عبد الله بن أحمد في مسائله: "سمعت أبي يقول وقال عبد الرحمن ابن مهدي سأل رجل من أهل الغرب مالك بن أنس عن مسألة فقال لا أدري فقال يا أبا عبد الله تقول لا أدري قال نعم فأبلغ من وراءك أني لا أدري. وقال عبد الله كنت أسمع أبي كثيرا يسأل عن المسائل فيقول لا أدري ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف وكثيرا ما كان يقول سل غيري فإن قيل له من نسأل قال سلوا العلماء ولا يكاد يسمي رجلا بعينه قال وسمعت أبي يقول كان ابن عيينة لا يفتي في الطلاق ويقول من يحسن هذا". فصل تورع السلف عن الفتيا وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى. وقال عبد الله بن المبارك: "حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله ﷺ أراه قال في المسجد فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا". وقال الإمام أحمد: "حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله ﷺ ما منهم رجل يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه ولا يحدث حديثا إلا ود أن أخاه كفاه". وقال مالك عن يحيى بن سعيد: "أن بكير بن الأشج أخبره عن معاوية بن أبي عياش أنه كان جالسا عند عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن إياس ابن البكير فقال: إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا فماذا تريان فقال عبد الله بن الزبير إن هذا الأمر ما لنا فيه قول فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة زوج النبي ﷺ ثم ائتنا فأخبرنا فذهبت فسألتهما فقال ابن عباس لأبي هريرة أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة فقال أبو هريرة الواحدة تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره". وقال مالك عن يحيى بن سعيد قال: "قال ابن عباس: "إن كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون" قال مالك وبلغني عن ابن مسعود مثل ذلك رواه ابن وضاح عن يوسف بن عدي بن عبد بن حميد عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله ورواه حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل عن عبد الله. وقال سحنون بن سعيد: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه". قلت الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم ومن غزارته وسعته فإذا قل علمه أفتى عن كل ما يسأل عنه بغير علم وإذا اتسع علمه اتسعت فتياه ولهذا كان ابن عباس من أوسع الصحابة فتيا وقد تقدم أن فتاواه جمعت في عشرين سفرا وكان سعيد بن المسيب أيضا واسع الفتيا وكانوا يسمونه كما ذكر ابن وهب عن محمد بن سليمان المرادي عن أبي إسحاق قال: "كنت أرى الرجل في ذلك الزمان وإنه ليدخل يسأل عن الشيء فيدفعه الناس عن مجلس إلى مجلس حتى يدفع إلى مجلس سعيد بن المسيب كراهية للفتيا" قال: "وكانوا يدعونه سعيد ابن المسيب الجريء". وقال سحنون: "إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب قبل الخبر فلم ألام على حبس الجواب" وقال ابن وهب: "حدثنا أشهل بن حاتم عن عبد الله بن عون عن ابن سيرين قال: قال حذيفة: "إنما يفتي الناس أحد ثلاثة من يعلم ما نسخ من القرآن أو أمير لا يجد بدا أو أحمق متكلف" قال فربما قال ابن سيرين فلست بواحد من هذين ولا أحب أن أكون الثالث. المراد بالناسخ والمنسوخ عند السلف والخلف قلت مراده ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة وهو اصطلاح المتأخرين ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة إما بتخصيص أو تقييد أو حمل مطلق على مقيد وتفسيره وتبيينه حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخا لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ بل بأمر خارج عنه ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر. وقال هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال: "قال حذيفة: إنما يفتي الناس أحد ثلاثة رجل يعلم ناسخ القرآن ومنسوخه وأمير لا يجد بدا وأحمق متكلف" قال ابن سيرين: فأنا لست أحد هذين وأرجو أن لا أكون أحمق متكلفا". وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب جامع فضل العلم: "حدثنا خلف ابن القاسم ثنا يحيى بن الربيع ثنا محمد بن حماد المصيصي ثنا إبراهيم بن واقد ثنا المطلب بن زياد قال: حدثني جعفر بن حسين إمامنا قال: "رأيت أبا حنيفة في النوم فقلت ما فعل الله بك يا أبا حنيفة قال: غفر لي فقلت له بالعلم" فقال: ما أضر الفتيا على أهلها فقلت: فبم قال بقول الناس في ما لم يعلم الله أنه مني" قال أبو عمر: "وقال سحنون يوما إنا لله ما أشقى المفتي والحاكم ثم قال هانذا يتعلم مني ما تضرب به الرقاب وتوطأ به الفروج وتؤخذ به الحقوق أما كنت عن هذا غنيا". الفرق بين المفتي والقاضي قال أبو عمرو: قال أبو عثمان الحداد: "القاضي أيسر مأثما وأقرب إلى السلامة من الفقيه" يريد المفتي لأن الفقيه من شأنه إصدار ما يرد عليه من ساعته بما حضره من القول والقاضي شأنه الأناة والتثبت ومن تأنى وتثبت تهيأ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة انتهى. وقال غيره: "المفتي أقرب إلى السلامة من القاضي لأنه لا يلزم بفتواه وإنما يخبر بها من استفتاه فإن شاء قبل قوله وإن شاء تركه وأم القاضي فإنه يلزم بقوله فيشترك هو والمفتي في الأخبار عن الحكم ويتميز القاضي بالإلزام والقضاء فهو من هذا الوجه خطره أشد". خطر تولي القضاء ولهذا جاء في القاضي من الوعيد والتخويف ما لم يأت نظيره في المفتي كما رواه أبو داود الطيالسي من حديث عائشة رضي الله عنها أنها ذكر عندها القضاة فقالت: "سمعت رسول الله ﷺ يقول يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط" وروى الشعبي عن مسروق عن عبد الله يرفعه: "ما من حاكم يحكم بين الناس إلا وكل به ملك آخذ بقفاه حتى يقف به على شفير جهنم فيرفع رأسه إلى الله فإن أمره أن يقذفه قذفة في مهوى أربعين خريفا" وفي السنن من حديث ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ "القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار ورجل عرف الحق فجار فهو في النار". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ويل لديان من في الأرض من ديان من في السماء يوم يلقونه إلا من أمر بالعدل وقضى بالحق ولم يقض على هوى ولا على قرابة ولا على رغب ولا رهب وجعل كتاب الله مرآة بين عينيه" وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره عدله فله النار" وفي سنن البيهقي من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ: "الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار برىء الله منه ولزمه الشيطان" وفيه من حديث حسين المعلم عن الشيباني عن ابن أبي أوفى قال قال رسول الله ﷺ: "إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار وكله نفسه" وفي السنن الأربعة من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ: "من قعد قاضيا بين المسلمين فقد ذبح نفسه بغير سكين" وفي سنن البيهقي من حديث أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "ويل للأمراء وويل للعرفاء وويل للأمناء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن نواصيهم كانت متعلقة بالثريا يتجلجلون بين السماء والأرض وأنهم لم يلوا عملا". خطر تولي الإفتاء وأما المفتي ففي سنن أبي داود من حديث مسلم بن يسار قال سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله ﷺ: "من قال علي ما لم أقل فليتبوأ بيتا في جهنم ومن أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ومن أشار على أخيه بأمر يعلم الرشد في غيره فقد خانه" فكل خطر على المفتي فهو على القاضي وعليه من زيادة الخطر ما يختص به ولكن خطر المفتي أعظم من جهة أخرى فإن فتواه شريعة عامة تتعلق بالمستفتى وغيره. وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه وله فالمفتي يفتي حكما عاما كليا أن من فعل كذا ترتب عليه كذا ومن قال كذا لزمه كذا والقاضي يقضي قضاء معينا على شخص معين فقضاؤه خاص ملزم وفتوى العالم عامة غير ملزمة فكلاهما أجره عظيم وخطره كبير. تحريم القول على الله بغير علم وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء وجعله من أعظم المحرمات بل جعله في المرتبة العليا منها فقال تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فرتب المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه وقال تعالى {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام ولما لم يحله: هذا حلال وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه. وقال بعض السلف: "ليتق أحدكم أن يقول أحل الله كذا وحرم كذا فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلم ورود الوحي المبين بتحليله وتحريمه أحله الله وحرمه الله لمجرد التقليد أو بالتأويل". لا ينبغي أن يقال هذا حكم الله وقد نهى النبي ﷺ في الحديث الصحيح أميره بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله وقال: "فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك" فتأمل كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله. ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكما حكم به فقال: "هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر فقال: لا تقل هكذا ولكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب". وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: "لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحدا اقتدى به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام وما كانوا يجترئون على ذلك وإنما كانوا يقولون نكره كذا ونرى هذا حسنا فينبغي هذا ولا نرى هذا" ورواه عنه عتيق بن يعقوب وزاد: "ولا يقولون حلال ولا حرام أما سمعت قول الله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله". قد يطلق لفظ الكراهة على المحرم قلت: وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم وأطلقوا لفظ الكراهة، فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على التنزيه وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى وهذا كثير جدا في تصرفاتهم فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة وقد قال الإمام أحمد في الجمع بين الأختين بملك اليمين: "أكرهه ولا أقول هو حرام" ومذهبه تحريمه وإنما تورع عن إطلاق لفظ التحريم لأجل قول عثمان. وقال أبو القاسم الخرقي فيما نقله عن أبي عبد الله: "ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة" ومذهبه أنه لا يجوز وقال في رواية أبي داود: "ويستحب أن لا يدخل الحمام إلا بمئزر له وهذا استحباب وجوب" وقال في رواية إسحاق ابن منصور: "إذا كان أكثر مال الرجل حراما فلا يعجبني أن يؤكل ماله" وهذا على سبيل التحريم. وقال في رواية ابنه عبد الله: "لا يعجبني أكل ما ذبح للزهرة ولا الكواكب ولا الكنيسة وكل شيء ذبح لغير الله قال الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فتأمل كيف قال: "لا يعجبني" فيما نص الله سبحانه على تحريمه واحتج هو أيضا بتحريم الله له في كتابه وقال في رواية الأثرم: "أكره لحوم الجلالة وألبانها" وقد صرح بالتحريم في رواية حنبل وغيره وقال في رواية ابنه عبد الله: "أكره أكل لحم الحية والعقرب لأن الحية لها ناب والعقرب لها حمة" ولا يختلف مذهبه في تحريمه وقال في رواية حرب: "إذا صاد الكلب من غير أن يرسل فلا يعجبني" لأن النبي ﷺ قال: "إذا أرسلت كلبك وسميت" فقد أطلق لفظه "لا يعجبني" على ما هو حرام عنده وقال في رواية جعفر بن محمد النسائي: "لا يعجبني المكحلة والمرود" يعني من الفضة وقد صرح بالتحريم في عدة مواضع وهو مذهبه بلا خلاف وقال جعفر بن محمد أيضا: "سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل قال لامرأته: كل امرأة أتزوجها أو جارية أشتريها للوطء وأنت حية فالجارية حرة والمرأة طالق قال إن تزوج لم آمره أن يفارقها والعتق أخشى أن يلزمه لأنه مخالف للطلاق قيل له يهب له رجل جارية قال: "هذا طريق الحيلة" وكرهه مع أن مذهبه تحريم الحيل وأنها لا تخلص من الأيمان ونص على كراهة البطة من جلود الحمر وقال تكون ذكية ولا يختلف مذهبه في التحريم وسئل عن شعر الخنزير فقال لا يعجبني وهذا على التحريم وقال: "يكره القد من جلود الحمير ذكيا وغير ذكي لأنه لا يكون ذكيا وأكرهه لمن يعمل وللمستعمل" وسئل عن رجل حلف لا ينتفع بكذا فباعه واشترى به غيره فكره ذلك وهذا عنده لا يجوز وسئل عن ألبان الأتن فكرهه وهو حرام عنده وسئل عن الخمر يتخذ خلا فقال: "لا يعجبني" وهذا على التحريم عنده وسئل عن بيع الماء فكرهه وهذا في أجوبته أكثر من أن يستقصى وكذلك غيره من الأئمة. وقد نص محمد بن الحسن أن كل مكروه فهو حرام إلا أنه لما لم يجد فيه نصا قاطعا لم يطلق عليه لفظ الحرام وروى محمد أيضا عن أبي حنيفة وأبي يوسف إلى أنه إلى الحرام أقرب وقد قال في الجامع الكبير يكره الشرب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء ومراده التحريم وكذلك قال أبو يوسف ومحمد: "يكره النوم على فرش الحرير والتوسد على وسائده" ومرادهما التحريم وقال أبو حنيفة وصاحباه: "يكره أن يلبس الذكور من الصبيان الذهب والحرير وقد صرح الأصحاب أنه حرام" وقالوا: "إن التحريم لما ثبت في حق الذكور وتحريم اللبس يحرم الإلباس كالخمر لما حرم شربها حرم سقيها" وكذلك قالوا: "يكره منديل الحرير الذي يتمخط فيه ويتمسح من الوضوء" ومرادهم التحريم وقالوا: "يكره بيع العذرة" ومرادهم التحريم وقالوا: "يكره الاحتكار في أقوات الآدميين والبهائم إذا أضر بهم وضيق عليهم" ومرادهم التحريم وقالوا: "يكره بيع السلاح في أيام الفتنة" ومرادهم التحريم وقال أبو حنيفة: "يكره بيع أرض مكة" ومرادهم التحريم عندهم قالوا: "ويكره اللعب بالشطرنج" وهو حرام عندهم قالوا: "ويكره أن يجعل الرجل في عنق عبده أو غيره طوق الحديد الذي يمنعه من التحرك وهو الغل" وهو حرام وهذا كثير في كلامهم جدا. وأما أصحاب مالك فالمكروه عندهم مرتبة بين الحرام والمباح ولا يطلقون عليه اسم الجواز ويقولون: "إن أكل كل ذي ناب من السباع مكروه غير مباح" وقد قال مالك في كثير من أجوبته أكره كذا وهو حرام فمنها أن مالكا نص على كراهة الشطرنج وهذا عند أكثر أصحابه على التحريم وحمله بعضهم على الكراهة التي هي دون التحريم. وقال الشافعي في اللعب بالشطرنج: "إنه لهو شبه الباطل أكرهه ولا يتبين لي تحريمه" فقد نص على كراهته وتوقف في تحريمه فلا يجوز أن ينسب إليه وإلى مذهبه أن اللعب بها جائز وأنه مباح فإنه لم يقل هذا ولا ما يدل عليه والحق أن يقال إنه كرهها وتوقف في تحريمها فأين هذا من أن يقال إن مذهبه جواز اللعب بها وإباحته ومن هذا أيضا أنه نص على كراهة تزوج الرجل بنته من ماء الزنا ولم يقل قط إنه مباح ولا جائز والذي يليق بجلالته وإمامته ومنصبه الذي أجله الله به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم وأطلق لفظ الكراهة لأن الحرام يكرهه الله ورسوله وقد قال تعالى عقيب ذكر ما حرمه من المحرمات من عند قوله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى قوله {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} إلى قوله {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} إلى قوله {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} إلى قوله {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ} إلى قوله {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} إلى قوله {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} إلى آخر الآيات ثم قال {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} وفي الصحيح: "إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال". غلط المتأخرين في نقل التحريم إلى الكراهة فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله ورسوله أما المتأخرون فقد اصطلحوا على الكراهة تخصيص بما ليس بمحرم وتركه أرجح من فعله ثم حمل من حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث فغلط في ذلك وأقبح غلطا منه من حمل لفظ الكراهة أو لفظ "لا ينبغي" في كلام الله ورسوله على المعنى الاصطلاحي الحادث وقد اطرد في كلام الله ورسوله استعمال لا ينبغي في المحظور شرعا أو قدرا في المستحيل الممتنع كقول الله تعالى {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} وقوله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وقوله {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} وقوله على لسان نبيه: "كذبني ابن آدم وما ينبغي له وشتمني ابن آدم وما ينبغي له" وقوله ﷺ: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام" وقوله ﷺ في لباس الحرير: "لا ينبغي هذا للمتقين" وأمثال ذلك. ما يقوله المفتي إذا اجتهد والمقصود أن الله سبحانه حرم القول عليه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه والمفتي يخبر عن الله عز وجل وعن دينه فإن لم يكن خبره مطابقا لما شرعه كان قائلا عليه بلا علم ولكن إذا اجتهد واستفرغ وسعه في معرفة الحق وأخطأ لم يلحقه الوعيد وعفى له عن ما أخطأ به وأثيب على اجتهاده ولكن لا يجوز أن يقول لما أداه إليه اجتهاده ولم يظفر فيه بنص عن الله ورسوله: "إن الله حرم كذا وأوجب كذا وأباح كذا وإن هذا هو حكم الله" قال ابن وضاح: "ثنا يوسف بن عدي ثنا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب قال: قال الربيع بن خيثم: "إياكم أن يقول الرجل لشيء إن الله حرم هذا أو نهى عنه فيقول الله: كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه أو يقول: إن الله أحل هذا أو أمر به فيقول الله: كذبت لم أحله ولم آمر به" قال أبو عمر: "وقد روى عن مالك أنه قال في بعض ما كان ينزل به فيسأل عنه فيجتهد فيه رأيه إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين". في كلام الأئمة في أدوات الفتيا وشروطها ومن ينبغي له أن يفتي وأين يسع قول المفتي "لا أدري"؟ أدوات الفتيا قال الإمام أحمد في رواية ابنه صالح عنه: "ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بوجوه القرآن عالما بالأسانيد الصحيحة عالما بالسنن وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي ﷺ وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها". وقال في رواية ابنه عبد الله: "إذا كان عند الرجل الكتب المصنفة فيها قول رسول الله ﷺ واختلاف الصحابة والتابعين فلا يجوز أن يعمل بما شاء ويتخير فيقضي به ويعمل به حتى يسأل أهل العلم ما يؤخذ به فيكون يعمل على أمر صحيح". وقال في رواية أبي الحارث: "لا يجوز الإفتاء إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة" وقال في رواية حنبل: "ينبغي لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تقدم وإلا فلا يفتي". وقال محمد بن عبد الله بن المنادي: "سمعت رجلا يسأل أحمد إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيها قال: لا قال: مائتي ألف قال: لا قال: فثلثمائة ألف قال: لا قال: فأربعمائة ألف قال: بيده هكذا وحرك يده" قال أبو الحسين وسألت جدي محمد بن عبيد الله قلت: "فكم كان يحفظ أحمد بن حنبل قال أخذ عن ستمائة ألف". قال أبو حفص: قال لي أبو إسحاق: "لما جلست في جامع المنصور للفتيا ذكرت هذه المسألة فقال لي رجل فأنت هو ذا لا تحفظ هذا المقدار حتى تفتي الناس فقلت له عافاك الله إن كنت لا أحفظ هذا المقدار فإني هو ذا أفتي الناس بقول من كان يحفظ هذا المقدار وأكثر منه". قال القاضي أبو يعلى: "وظاهر هذا الكلام أنه لا يكون من أهل الاجتهاد إذا لم يحفظ من الحديث هذا القدر الكثير الذي ذكره وهذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتوى" ثم ذكر حكاية أبي إسحاق لما جلس في جامع المنصور قال: "وليس هذا الكلام من أبي إسحاق مما يقتضي أنه كان يقلد أحمد فيما يفتي به لأنه قد نص في بعض تعاليقه على كتاب العلل على الدلالة على منع الفتوى بغير علم لقوله تعالى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}". الفتوى بالتقليد قلت: هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد: أحدها: أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد لأنه ليس بعلم والفتوى بغير علم حرام ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم وهذا قول أكثر الأصحاب وقول جمهور الشافعية. والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه فيجوز له أن يقلد غيره من العلماء إذا كانت الفتوى لنفسه ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به غيره وهذا قول ابن بطة وغيره من أصحابنا قال القاضي: "ذكر ابن بطة في مكاتباته إلى البرمكي: "لا يجوز له أن يفتي بما سمع من يفتي وإنما يجوز أن يقلد لنفسه فأما أن يتقلد لغيره ويفتي به فلا". والقول الثالث: "أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد وهو أصح الأقوال" وعليه العمل قال القاضي: "ذكر أبو حفص في تعاليقه قال: سمعت أبا علي الحسن بن عبد الله النجاد يقول سمعت أبا الحسين بن بشران يقول: "ما أعيب على رجل يحفظ عن أحمد خمس مسائل استند إلى بعض سواري المسجد يفتي بها". شروط الإفتاء عند العلماء قال الشافعي فيما رواه عنه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه له: "لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلا عارفا بكتاب الله بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وتأويله وتنزيله ومكيه ومدنيه وما أريد به ويكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله ﷺ وبالناسخ والمنسوخ ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن ويكون بصيرا باللغة بصيرا بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن ويستعمل هذا مع الإنصاف ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأمصار وتكون له قريحة بعد هذا فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي". وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: "ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه؟ فقال: "ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بالسنن عالما بوجوه القرآن عالما بالأسانيد الصحيحة" وذكر الكلام المتقدم. قال علي بن شقيق: "قيل لابن المبارك: متى يفتي الرجل؟ قال: "إذا كان عالما بالأثر بصيرا بالرأي". وقيل ليحيى بن أكثم: "متى يجب للرجل أن يفتي؟ فقال: "إذا كان بصيرا بالرأي بصيرا بالأثر". قلت: "يريدان بالرأي القياس الصحيح والمعاني والعلل الصحيحة التي علق الشارع بها الأحكام وجعلها مؤثرة فيها طردا وعكسا". فصل في تحريم الإفتاء في دين الله بالرآي المتضمن لمخالفة النصوص والرأي الذي لم تشهد له النصوص بالقبول قال الله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما إما الاستجابة لله والرسول وما جاء به وإما اتباع الهوى فكل ما لم يأت به الرسول فهو من الهوى. وقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} فقسم سبحانه طريق الحكم بين الناس إلى الحق وهو الوحي الذي أنزله الله على رسوله وإلى الهوى وهو ما خالفه. وقال تعالى لنبيه ﷺ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} فقسم الأمر بين الشريعة التي جعله هو سبحانه عليها وأوحى إليه العمل بها وأمر الأمة بها وبين اتباع أهواء الذين لا يعلمون فأمر بالأول ونهى عن الثاني. قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} فأمر باتباع المنزل منه خاصة واعلم أن من اتبع غيره فقد ابتع من دونه أولياء. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه فإنه أوتي الكتاب ومثله معه ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة كما صح عنه ﷺ أنه قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" وقال: "إنما الطاعة في المعروف" وقال في ولاة الأمور: "من أمركم منهم بمعصية الله فلا سمع له ولا طاعة" وقد أخبر ﷺ عن الذين أرادوا دخول النار لما أمرهم أميرهم بدخولها: "إنهم لو دخلوا لما خرجوا منها" مع أنهم إنما كانوا يدخلونها طاعة لأميرهم وظنا أن ذلك واجب عليهم ولكن لما قصروا في الاجتهاد وبادروا إلى طاعة من أمر بعصية الله وحملوا عموم الأمر بالطاعة بما لم يرده الآمر ﷺ وما قد علم من دينه إرادة خلافه فقصوا في الاجتهاد وأقدموا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها من غير تثبت وتبين هل ذلك طاعة لله ورسوله أم لا فما الظن بمن أطاع غيره في صريح مخالفة ما بعث الله به رسوله ثم أمر تعالى برد ما تنازع فيه المؤمنون إلى الله ورسوله إن كانوا مؤمنين وأخبرهم أن ذلك خير لهم في العاجل أو حسن تأويلا في العاقبة. اتفاق الصحابة في مسائل الصفات وقد تضمن هذا أمورا: منها أن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام ولا يخرجون بذلك عن الإيمان وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال بل كلهم على إثبات ما نطق به الكاتب والسنة كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم لم يسوموها تأويلا ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا ولم يبدوا لشيء منها إبطالا ولا ضربوا لها أمثالا ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها بل تلقوها بالقبول والتسليم وقابلوها بالإيمان والتعظيم وجعلوا الأمر فيها كلها أمرا واحدا وأجروها على سنن واحد ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوها عضين وأقروا ببعضها وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين مع أن اللازم لهم فيها أنكروه كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه. المؤمنون لا يخرجهم تنازعهم عن الإيمان والمقصود أن أهل الإيمان لا يخرجهم تنازعهم في بعض مسائل الأحكام عن حقيقة الإيمان إذا ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله كما شرطه الله عليهم بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ولا ريب أن الحكم المعلق على شرط ينتفي عند انتفائه. الرد إلى الله ورسوله دليل على أن كل الأحكام في القرآن والسنة ومنها: أن قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقه وجله جليه وخفيه ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه ولم يكن كافيا لم يأمر بالرد إليه إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع. ومنها: أن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه وتعالى هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول ﷺ هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته. انتفاء الإيمان بانتفاء الرد ومنها: أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم وأن عاقبته أحسن عاقبة ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى الطاغوت ومتابعته وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة وهم الصحابة ومن تبعهم ولا قصدوا قصدهم بل خالفوهم في الطريق والقصد معا ثم أخبر تعالى عن هؤلاء بأنهم إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك ولم يستجيبوا للداعي ورضوا بحكم غيره ثم توعدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول وتحكيم غيره والتحاكم إليه كما قال تعالى {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق أي بفعل ما يرضي الفريقين ويوفق بينهما كما يفعله من يروم التوفيق بين ما جاء به الرسول وبين ما خالفه ويزعم بذلك أنه محسن قاصد الإصلاح والتوفيق والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء به الرسول وبين كل ما خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي فمحض الإيمان في هذا الحرب لا في التوفيق وبالله التوفيق. ثم أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه ولم يكتف منهم أيضا بذلك حتى يسلموا تسليما وينقادوا انقيادا قال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله ومن تخير بعد ذلك فقد ضل ضلالا مبينا. النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي لا تقولوا حتى يقول ولا تأمروا حتى يأمر ولا تفتوا حتى يفتي ولا تقطعوا أمرا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة" وروى العوفي عنه قال: "نهوا أن يتكلوا بين يدي كلامه". والقول الجامع في معنى الآية: "لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله ﷺ أو يفعل". وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببا لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه؟ أليس هذا أولى أن يكون محبطا لأعمالهم؟ وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوه} فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبا إذا كانوا معه إلا باستئذانه فأولى أن يكون من لوازمه أن لا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه وإذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه. انتزاع العلم بموت أصحابه وفي صحيح البخاري من حديث أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: "حج علينا عبد الله بن عمرو بن العاص فسمعته يقول: "سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن الله لا ينزع العلم بعد إذا أعطاكموه انتزاعا ولكن ينزعه مع قبض العلماء بعلمهم فيبقي ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون" وقال وكيع: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ: "لا ينزع الله العلم من صدور الرجال ولكن ينزع العلم بموت العلماء فإذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا" وفي الصحيحين من حديث عروة بن الزبير قال: قالت عائشة: "يا ابن أختي بلغني أن عبد الله بن عمرو مار بنا إلى الحج فالقه فاسأله فإنه قد حمل عن النبي ﷺ علما كثيرا" قال: فلقيته فسألته عن أشياء يذكرها عن رسول الله ﷺ قال عروة: فكان فيما ذكر أن النبي ﷺ قال: "إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعا ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم ويبقي في الناس رءوس جهال يفتونهم بغير علم فيضلون ويضلون" قال عروة: فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته قالت أحدثك أنه سمع رسول الله ﷺ يقول هذا قال عروة: نعم حتى إذا كان عام قابل قالت لي: إن ابن عمرو قد قدم فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم قال: فلقيته فسألته فذكره لي نحو ما حدثني في المرة الأولى قال عروة: فلما أخبرتها بذلك قالت: ما "أحسبه إلا قد صدق أراه لم يزد فيه شيئا ولم ينقص" وقال البخاري في بعض طرقه: "فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون" وقال: فقالت عائشة: "والله لقد حفظ عبد الله". الوعيد على القول بالرأي وقال نعيم بن حماد: ثنا ابن المبارك ثنا عيسى بن يونس عن حريز بن عثمان الزنجي ثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله ﷺ: "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون به ما أحل الله ويحلون به ما حرم الله" قال أبو عمر بن عبد البر: "هذا هو القياس على غير أصل والكلام في الدين بالخرص والظن ألا ترى إلى قوله في الحديث يحلون الحرام ويحرمون الحلال ومعلوم أن الحلال ما في كتاب الله وسنة رسوله تحليله والحرام ما في كتاب الله وسنة رسوله تحريمه فمن جهل ذلك وقال فيما سئل عنه بغير علم وقاس برأيه ما خرج منه عن السنة فهذا الذي قاس الأمور برأيه فضل وأضل ومن رد الفروع إلى أصولها فلم يقل برأيه. وقالت طائفة من أهل العلم: "من أداه اجتهاده إلى رأي رآه ولم تقم عليه حجة فيه بعد فليس مذموما بل هو معذور خالفا كان أو سالفا ومن قامت عليه الحجة فعاند وتمادى على الفتيا برأي إنسان بعينه فهو الذي يلحقه الوعيد" وقد روينا في مسند عبد بن حميد ثنا عبد الرزاق ثنا سفيان الثوري عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار". فصل فيما روى عن صديق الأمة وأعلمها من إنكار الرأي روينا عن عبد بن حميد ثنا أبو أسامة عن نافع عن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: "أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم". وذكر الحسن بن علي الحلواني: حدثنا عارم عن حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة عن ابن سيرين قال: "لم يكن أحد أهيب بما لا يعلم من أبي بكر رضي الله عنه ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر رضي الله عنه وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلا ولا في السنة أثرا فاجتهد برأيه ثم قال هذا رأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله". فصل في المنقول من ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ابن وهب: ثنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو على المنبر: "يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله ﷺ مصيبا إن الله كان يريه وإنما هو منا الظن والتكلف". قلت: مراد عمر رضي الله عنه قوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} فلم يكن له رأي غير ما أراه الله إياه وأما ما رأى غيره فظن وتكلف. قال سفيان الثوري: ثنا أبو إسحاق الشيباني عن أبي الضحى عن مسروق قال: "كتب كاتب لعمر بن الخطاب هذا ما رأى الله ورأى عمر فقال: "بئس ما قلت قل هذا ما رأى عمر فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن عمر". وقال ابن وهب: أخبرني ابن لهيعة عن عبد الله بن أبي جعفر قال: قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: "السنة ما سنه الله ورسوله ﷺ لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة. قال ابن وهب: وأخبرني ابن لهيعة عن أبي الزناد عن محمد بن إبراهيم التيمي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "أصبح أهل الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يعوها وتفلتت منهم أن يرووها فاستبقوها بالرأي". قال ابن وهب: وأخبرني عبد الله بن عباس عن محمد بن عجلان عن عبيد الله ابن عمر أن عمر بن الخطاب قال: "اتقوا الرأي في دينكم". وذكر ابن عجلان عن صدقة بن أبي عبد الله أن عمر بن الخطاب كان يقول: "أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم". وذكر ابن الهادي عن محمد بن إبراهيم التيمي قال: قال عمر بن الخطاب: "إياكم والرأي فإن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم أن يحفظوها فقالوا في الدين برأيهم". وقال الشعبي: عن عمرو بن حرث قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا" وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة. وقال محمد بن عبد السلام الخشني: ثنا محمد بن بشار حدثنا يونس بن عبيد العمري ثنا مبارك بن فضالة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر ابن الخطاب أنه قال: "أيها الناس اتهموا الرأي في الدين فلقد رأيتني وأني لأرد أمر رسول الله ﷺ برأيي فأجتهد ولا آلو" وذلك يوم أبي جندل والكاتب يكتب وقال: "اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم فقال يكتب باسمك اللهم فرضي رسول الله ﷺ وأبيت فقال يا عمر تراني قد رضيت وتأبى؟". وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن يزيد ابن حبيب عن معمر بن أبي حبيبة مولى بنت صفوان عن عبيد بن رفاعة عن أبيه رفاعة بن رافع قال: "بينما أنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة فقال عمر: علي به فجاء زيد فلما رآه عمر فقال عمر: أي عدو نفسه قد بلغت أن تفتي الناس برأيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين والله ما فعلت ولكن سمعت من أعمامي حديثا فحدثت به: من أبي أيوب ومن أبي بن كعب ومن رفاعة بن رافع فقال عمر: علي برفاعة بن رافع فقال: قد كنتم تفعلون ذلك إذا أصاب أحدكم المرأة فأكسل أن يغتسل قال قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله ﷺ لم يأتنا فيه عن الله تحريم ولم يكن فيه عن رسول الله ﷺ شيء فقال عمر: ورسول الله ﷺ يعلم ذلك؟ قال: ما أدري فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار فجمعوا فشاورهم فشار الناس أن لا غسل إلا ما كان من معاذ وعلي فإنهما قالا: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل فقال عمر: هذا وأنتم أصحاب بدر قد اختلفتم فمن بعدكم أشد اختلافا فقال علي: يا أمير المؤمنين إنه ليس أحد أعلم بهذا من شأن رسول الله ﷺ من أزواجه فأرسل إلى حفصة فقالت: لا علم لي فأرسل إلى عائشة فقالت إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فقال لا أسمع برجل فعل ذلك إلا أوجعته ضربا. قول ابن مسعود في ذم الرأي قال البخاري: حدثنا جنيد ثنا يحيى بن زكريا عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله قال: "لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي قبله أما أني لا أقول أمير خير من أمير ولا عام أخصب من عام ولكن فقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم". وقال ابن وهب: ثنا شقيق عن مجالد به قال ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام ويثلم. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو خالد الأحمر عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال قال عبد الله بن مسعود علماؤكم يذهبون ويتخذ الناس رءوسا جهالا يقيسون الأمور برأيهم. وقال سنيد بن داود حدثنا محمد بن فضل عن سالم بن أبي حفصة عن منذر الثوري عن الربيع بن خيثم أنه قال: قال عبد الله: "ما علماك الله في كتابه فأحمد الله وما استأثر به عليك من علم فكله إلى عالمه ولا تتكلف فإن الله عز وجل يقول لنبيه {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}" يروى هذا عن الربيع بن خيثم وعن عبد الله. وقال سعيد بن منصور: حدثنا خلف بن خليفة ثنا أبو زيد عن الشعبي قال: قال ابن مسعود: "إياكم وأرأيت أرأيت فإنما هلك من كان من قبلكم بأرأيت أرأيت ولا تقيسوا شيئا فتزل قدما بعد ثبوتها وإذا سئل أحدكم عما لا يعلم فليقل لا أعلم فإنه ثلث العلم". وصح عنه في المفوضة أنه قال: "أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء منه". قول عثمان في ذم الرأي قال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد عن عبيد الله بن الزبير قال: "أنا والله مع عثمان بن عفان بالجحفة إذ قال عثمان وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج: "أتموا الحج وأخلصوه في شهر الحج فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل فإن الله قد أوسع في الخير" فقال له علي: "عمدت إلى سنة رسول الله ﷺ ورخصة رخص الله للعباد بها في كتابه تضيق عليهم فيها وتنهى عنها وكانت لذي الحاجة ولنائي الدار" ثم أهل علي بعمرة وحج معا فأقبل عثمان بن عفان رضي الله عنه على الناس فقال: "أنهيت عنها إني لم أنه عنها إنما كان رأيا أشرت به فمن شاء أخذه ومن شاء تركه". فهذا عثمان يخبر عن رأيه أنه ليس بلازم للأمة الأخذ به بل من شاء أخذ به ومن شاء تركه بخلاف سنة رسول الله ﷺ فإنه لا يسع أحدا تركها لقول أحد كائنا من كان. قول علي في ذم الرأي قال أبو داود: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء ثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق السبيعي عن عبد خير عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه". قول ابن عباس في ذم الرأي قال ابن وهب: أخبرني بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة عن ابن عباس أنه قال: "من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله ﷺ لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل". وقال عثمان بن مسلم الصفار: ثنا عبد الرحمن بن زياد حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي عن أبي فزارة قال: قال ابن عباس: "إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ فمن قال بعد ذلك برأيه فلا أدري أفي حسناته يجد ذلك أم في سيئاته". وقال عبد الرحمن بن حميد: حدثنا حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن ليث عن بكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار". قول سهل ابن حنيف في ذم الرأي قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي وائل قال: قال سهل بن حنيف: "أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله ﷺ لرددته". قول ابن عمر في ذم الرأي قال ابن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث أن عمرو بن دينار قال: "أخبرني طاووس عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا لم يجد في الأمر يسأل عنه شيئا" قال: "إن شئتم أخبرتكم بالظن". وقال البخاري: قال لي صدقة عن الفضل بن موسى عن موسى بن عقبة عن الضحاك عن جابر بن زيد قال: "لقيني ابن عمر فقال: يا جابر إنك من فقهاء البصرة وتستفتي فلا تفتين إلا بكتاب ناطق أو سنة ماضية". وقال مالك عن نافع عنه: "العلم ثلاث كتاب الله الناطق وسنة ماضيه ولا أدري". قول زيد بن ثابت في ذم الرأي قال البخاري: حدثنا سنيد بن داود ثنا يحيى بن زكريا مولى ابن أبي زائدة عن إسماعيل بن خالد عن الشعبي قال: "أتى زيد بن ثابت قوم فسألوه عن أشياء فأخبرهم بها فكتبوها ثم قالوا: لو أخبرناه فأتوه فأخبروه فقال: اعذرا لعل كل شيء حدثتكم خطأ إنما اجتهدت لكم برأيي". قول معاذ في ذم الرأي قال حماد بن سلمة: ثنا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن يزيد بن أبي عميرة عن معاذ بن جبل قال: "تكون فتن فيكثر فيها المال ويفتح القرآن حتى يقرأه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمنافق والمؤمن فيقرأه الرجل فلا يتبع فيقول: والله لأقرأنه علانية فيقرأه علانية فلا يتبع فيتخذ مسجدا ويبتدع كلاما ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله ﷺ فإياكم وإياه فإنه بدعة وضلالة" قاله معاذ ثلاث مرات. قول أبي موسى في ذم الرأي قال البغوي: ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن حميد عن أبي رجاء العطاردي قال قال أبو موسى الأشعري: "من كان عنده علم فليعلمه الناس وإن لم يعلم فلا يقولن ما ليس له به علم فيكون من المتكلفين ويمرق من الدين". قول معاوية في ذم الرأي قال البخاري: حدثنا أبو اليمان ثنا شعيب عن الزهري قال: "كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه كان عند معاوية في وفد من قريش فقام معاوية فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنه قد بلغني أن رجالا فيكم يتحدثون بأحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله ﷺ فأولئكم جهالكم". فهؤلاء من الصحابة أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي ابن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وزيد ابن ثابت وسهل بن حنيف ومعاذ بن جبل ومعاوية خال المؤمنين وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم يخرجون الرأي عن العلم ويذمونه ويحذرون منه وينهون عن الفتيا به ومن اضطر منهم إليه أخبر أنه ظن وأنه ليس على ثقة منه وأنه يجوز أن يكون منه ومن الشيطان وأن الله ورسوله بريء منه وأن غايته أن يسوغ الأخذ به عند الضرورة من غير لزوم لاتباعه ولا العمل به فهل تجد من أحد منهم قط أنه جعل رأي رجل بعينه دينا تترك له السنن الثابتة عن رسول الله ﷺ ويبدع ويضلل من خالفه إلى اتباع السنن؟ فهؤلاء برك الإسلام وعصابة الإيمان وأئمة الهدى ومصابيح الدجى وأنصح الأئمة للأمة وأعلمهم بالأحكام وأدلتها وأفقههم في دين الله وأعمقهم علما وأقلهم تكلفا وعليهم دارت الفتيا وعنهم انتشر العلم وأصحابهم هم فقهاء الأمة ومنهم من كان مقيما بالكوفة كعلي وابن مسعود وبالمدينة كعمر ابن الخطاب وابنه وزيد بن ثابت وبالبصرة كأبي موسى الأشعري وبالشام كمعاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان وبمكة كعبد الله بن عباس وبمصر كعبد الله بن عمرو بن العاص وعن هذه الأمصار انتشر العلم في الآفاق وأكثر من روى عنه التحذير من الرأي من كان بالكوفة إرهاصا بين يدي ما علم الله سبحانه أنه يحدث فيها بعدهم. فصل فيما يتوهم من استعمال الصحابة الرأي قال أهل الرأي: "وهؤلاء الصحابة ومن بعدهم من التابعين والأئمة وإن ذموا الرأي وحذروا منه ونهوا عن الفتيا والقضاء به وأخرجوه من جملة العلم فقد روي عن كثير منهم الفتيا والقضاء به والدلالة عليه والاستدلال به كقول عبد الله بن مسعود في المفوضة: "أقول فيها برأيي" وقول عمر بن الخطاب لكاتبه: "قل هذا ما رأى عمر بن الخطاب" وقول عثمان بن عفان في الأمر بإفراد العمرة عن الحج: "إنما هو رأي رأيته" وقول علي في أمهات الأولاد: "اتفق رأيي ورأي عمر على أن لا يبعن". وفي كتاب عمر بن الخطاب إلى شريح: "إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض به ولا تلتفت إلى غيره وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقض بما سن رسول الله ﷺ فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسن رسول الله ﷺ فاقض بما أجمع عليه الناس وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله ﷺ ولم يتكلم فيه أحد قبلك فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم وإن شئت أن تتأخر فتأخر وما أرى التأخر إلا خيرا لك" ذكره سفيان الثوري عن الشيباني عن الشعبي عن شريح أن عمر كتب إليه. طريقة أبي بكر في الحكم وقال أبو عبيد في كتاب القضاء: ثنا كثير بن هشام عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: "كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله ﷺ فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به فإن أعياه ذلك سأل الناس هل علمتم أن رسول الله ﷺ قضى فيه بقضاء فربما قام إليه القوم فيقولون قضى فيه بكذا وكذا فإن لم يجد سنة سنها النبي ﷺ جمع رؤساء الناس فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به". طريقة عمر في الحكم وكان عمر يفعل ذلك فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة سأل: "هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء" فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به وإلا جمع علماء الناس واستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به. طريقة ابن مسعود في الحكم وقال أبو عبيد: ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة عن عمير عن عبد الرحمن ابن يزيد عن ابن مسعود قال: "أكثروا عليه ذات يوم فقال: "إنه قد أتى علينا زمان ولسنا نقضي ولسنا هناك ثم إن الله بلغنا ما ترون فمن عرض عليه قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه ﷺ فليقض بما قضى به الصالحون فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه ﷺ ولا قضى به الصالحون فليجتهد رأيه ولا يقل: إني أرى وإني أخاف فإن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك مشتبهات فدع ما يريبك إلا ما لا يريبك". متفرقات من آراء الصحابة وقال محمد بن جرير الطبري: حدثني يعقوب بن إبراهيم أنا هشيم أنا سيار عن الشعبي قال: "لما بعث عمر شريحا على قضاء الكوفة قال له: "انظر ما يتبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول ﷺ وما لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد فيه رأيك". وفي كتاب عمر إلى أبي موسى: "اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور". وقايس علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت في المكاتب وقايسه في الجد والإخوة فشبهه علي بسيل انشعبت منه شعبة ثم انشعبت من الشعبة شعبتان وقايسه زيد على شجرة انشعب منها غصن وانشعب من الغصن غصنان وقولهما في الجد إنه لا يحجب الإخوة وقاس ابن عباس الأضراس بالأصابع وقال: "اعتبرها بها وسئل علي رضي الله عنه عن مسيره إلى صفين هل كان بعد عهده إليه رسول الله ﷺ أم رأي رآه؟ قال: بل رأي رأيته". وقال عبد الله بن مسعود وقد سئل عن المفوضة: "أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله مني بريء". وقال ابن أبي خيثمة: ثنا أبي ثنا محمد بن خازم عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: "من عرض له منك قضاء فليقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فليقض بما قضى فيه نبيه ﷺ فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض فيه نبيه ﷺ فليقض بما قضى به الصالحون فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه ولم يقض به الصالحون فليجتهد رأيه فإن لم يحسن فليقم ولا يستحي". وذكر سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: "سمعت ابن عباس إذا سئل عن شيء فإن كان في كتاب الله قال به وإن لم يكن في كتاب الله وكان عن رسول الله ﷺ قال به فإن لم يكن في كتاب الله ولا عن رسول الله ﷺ وكان عن أبي بكر وعمر قال به فإن لم يكن في كتاب الله ولا عن رسول الله ﷺ ولا عن أبي بكر وعمر اجتهد رأيه". وقال ابن أبي خيثمة: حدثني أبي ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن عبد الملك بن أبجر عن الشعبي عن مسروق قال سألت أبي بن كعب عن شيء فقال: "أكان هذا؟ قلت: لا قال: فأجمعنا حتى يكون فإذا كان اجتهدنا لك رأينا". قال أبو عمر بن عبد البر: "وروينا عن ابن عباس أنه أرسل إلى زيد بن ثابت أفي كتاب الله ثلث ما بقي؟ فقال: أنا أقول برأيي وتقول برأيك". وعن ابن عمر أنه سئل عن شيء فعله: أرأيت رسول الله ﷺ فعل هذا أو شيء رأيته؟ قال: بل شيء رأيته". وعن أبي هريرة أنه كان إذا قال في شيء برأيه قال: "هذه من كيسي" ذكره ابن وهب عن سليمان بن بلال عن كثير بن زيد عن وليد بن رباح عن أبي هريرة. وكان أبو الدرداء يقول: "إياكم وفراسة العلماء احذروا أن يشهدوا عليكم شهادة تكبكم على وجوهكم في النار فوالله إنه للحق يقذفه الله في قلوبهم". قلت: وأصل هذا في الترمذي مرفوعا: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}" وقال أبو عمر: ثنا عبد الوارث بن سفيان ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا إبراهيم بن أبي الفياض البرقي الشيخ الصالح ثنا سليمان بن بزيع الإسكندراني ثنا مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن علي قال: "قلت: يا رسول الله الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن ولم تمض فيه منك سنة قال: "اجمعوا له العالمين أو قال العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد" وهذا غريب جدا من حديث مالك وإبراهيم البرقي وسليمان ليسا ممن يحتج بهما. وقال عمر لعلي وزيد: "لولا رأيكما لاجتمع رأيي ورأي أبي بكر كيف يكون ابني ولا أكون أباه؟ يعني الجد". وعن عمر أنه لقي رجلا فقال: ما صنعت؟ قال: قضى علي وزيد بكذا قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله اوالى وسنة نبيه ﷺ لفعلت ولكني أردك إلى رأي والرأي مشترك فلم ينقض ما قال علي وزيد". وذكر الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "إن الله اطلع في قلوب العباد فرأى قلب محمد ﷺ خير قلوب العباد فاختاره لرسالته ثم اطلع في قلوب العباد بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المؤمنون قبيحا فهو عند الله قبيح". وقال ابن وهب عن ابن لهيعة: "إن عمر بن عبد العزيز استعمل عروة بن محمد السعدي على اليمن وكان من صالحي عمال عمر وإنه كتب إلى عمر يسأله عن شيء من أمر القضاء فكتب إليه عمر: "لعمري ما أنا بالنشيط على الفتيا ما وجدت منا بدا وما جعلتك إلا لتكفيني وقد حملتك ذلك فاقض فيه برأيك". وقال محمد بن سعد: أخبرني روح بن عبادة ثنا حماد بن سلمة عن الجريري أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال للحسن: "أرأيت ما تفتي به الناس أشيء سمعته أم برأيك؟ فقال الحسن: لا والله ما كل ما نفتي به سمعناه ولكن رأينا لهم خير من رأيهم لأنفسهم". وقال محمد بن الحسن: "من كان عالما بالكتاب والسنة وبقول أصحاب رسول الله ﷺ وبما استحسن فقهاء المسلمين وسعه أن يجتهد برأيه فيما يبتلى به ويقضي به ويمضيه في صلاته وصيامه وحجه وجميع ما أمر به ونهى عنه فإذا اجتهد ونظر وقاس على ما أشبه ولم يأل وسعه العمل بذلك وإن أخطأ الذي ينبغي أن يقول به". في تفسير الرأي وتقسيمه ولا تعارض بحمد الله بين هذه الآثار عن السادة الأخيار بل كلها حق وكل منها وله وجه وهذا إنما يتبين بالفرق بين الرأي الباطل الذي ليس من الدين والرأي الحق الذي لا مندوحة عنه لأحد من المجتهدين فنقول وبالله المستعان: معنى الرأي الرأي في الأصل مصدر "رأي الشيء يراه رأيا ثم غلب استعماله على المرئي نفسه من باب استعمال المصدر في المفعول كالهوى في الأصل مصدر هويه يهواه هوى ثم استعمل في الشيء الذي يهوى فيقال: هذا هوى فلان والعرب تفرق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالها فتقول: رأى كذا في النوم رؤيا ورآه في اليقظة رؤية ورأى كذا لما يعلم بالقلب ولا يرى بالعين رأيا ولكنهم خصوه بما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الإمارات فلا يقال لمن رأى بقلبه أمرا غائبا عنه مما يحس به أنه رأيه ولا يقال أيضا للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول ولا تتعارض فيه الإمارات إنه رأى وإن احتاج إلى فكر وتأمل كدقائق الحساب ونحوها. أقسام الرأي وإذا عرف هذا فالرأي ثلاثة أقسام: رأي باطل بلا ريب ورأي صحيح ورأي هو موضع الاشتباه والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف فاستعملوا الرأي الصحيح وعملوا به وأفتوا به وسوغوا القول به وذموا الباطل ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله. والقسم الثالث سوغوا العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه حيث لا يوجد منه بد ولم يلزموا أحد العمل به ولم يحرموا مخالفته ولا جعلوا مخالفه مخالفا للدين بل غايته أنهم خيروا بين قبوله ورده فهو بمنزلة ما أبيح للمضطر من الطعام والشراب الذي يحرم عند عدم الضرورة إليه كما قال الإمام أحمد سألت الشافعي عن القياس فقال لي عند الضرورة وكان استعمالهم لهذا النوع بقدر االضرورة لم يفرطوا فيه ويفرعوه ويولدوه ويوسعوه كما صنع المتأخرون بحيث اعتاضوا به عن النصوص والآثار وكان أسهل عليهم من حفظها كما يوجد كثير من الناس يضبط قواعد الإفتاء لصعوبة النقل عليه وتعسر حفظه فلم يتعدوا في استعماله قدر الضرورة ولم يبغوا العدول إليه مع تمكنهم من النصوص والآثار كما قال تعالى في المضطر إلى الطعام المحرم {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فالباغي الذي يبتغي الميتة مع قدرته على التوصل إلى المذكى والعادي الذي يتعدى قدر الحاجة بأكلها. فصل في أنواع الرأي الباطل والرأي الباطل أنواع: أحدها: الراى المخالف للنص وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه ولا تحل الفتيا به ولا القضاء وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد. النوع الثاني: هو الكلام في الدين بالخرص والظن مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها فإن من جهلها وقاس برأيه فيما سئل عنه بغير علم بل لمجرد قدر جامع بين الشيئين ألحق أحدهما بالآخر أو لمجرد قدر فارق يراه بينهما يفرق بينهما في الحكم من غير نظر إلى النصوص والآثار فقد وقع في الرأي المذموم الباطل. النوع الثالث: الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلال من الجهمية والمعتزلة والقدرية ومن ضاهاهم حيث استعمل أهله قياساتهم الفاسدة وآراءهم الباطلة وشبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة الصريحة فردوا لأجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها وتخطئتهم ومعاني النصوص التي لم يجدوا إلى رد ألفاظها سبيلا فقابلوا النوع الأول بالتكذيب والنوع الثاني: بالتحريف والتأويل فأنكروا لذلك رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة وأنكروا كلامه وتكليمه لعباده وأنكروا مباينته للعالم واستواءه على عرش وعلوه على المخلوقات وعموم قدرته على كل شيء بل أخرجوا أفعال عباده من الملائكة والأنبياء والجن الإنس عن تعلق قدرته ومشيئته وتكوينه لها ونفوا لأجلها حقائق ما أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله وحرفوا لأجلها النصوص عن مواضعها وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرد الذي حقيقته أنه ذبالة الأذهان ونخالة الأفكار وعفارة الآراء ووساوس الصدور فملأوا به الأوراق سوادا والقلوب شكوكا والعالم فسادا وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي والهوى على العقل وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساد فلا إله إلا الله كم نفي بهذه الآراء من حق وأثبت بها من باطل وأميت بها من هدى وأحي بها من ضلالة وكم هدم بها من معقل الإيمان وعمر بها من دين الشيطان وأكثر أصحاب الجحيم هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم ولا عقل بل هم شر من الحمر وهم الذين يقولون يوم القيامة: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}. النوع الرابع: الرأي الذي أحدثت به البدع وغيرت به السنن وعم به البلاء وتربى عليه الصغير وهرم فيه الكبير. فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وإخراجه من الدين. النوع الخامس: ما ذكره أبو عمر بن عبد البر عن جمهور أهل العلم: "أن الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبي ﷺ وعن أصحابه والتابعين رضي الله عنهم أنه القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ورد الفروع بعضها على بعض قياسا دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها فاستعمل فيها الرأي قبل أن ينزل وفرعت وشققت قبل أن تقع وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن قالوا وفي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على جهلها وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ومن كتاب الله عز وجل ومعانيه احتجوا على ما ذهبوا إليه بأشياء" ثم ذكر من طريق أسد بن موسى ثنا شريك عن ليث عن طاووس عن ابن عمر قال لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر يلعن من يسأل عما لم يكن ثم ذكر من طريق أبي داود ثنا إبراهيم بن موسى الرازي ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية أن النبي ﷺ: "نهى عن الأغلوطات". وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي بإسناده مثله وقال: فسره الأوزاعي يعني صعاب المسائل وقال الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن عبادة بن قيس الصنابحي عن معاوية بن أبي سفيان أنهم ذكروا المسائل عنده فقال أتعلمون أن رسول الله ﷺ نهى عن عضل المسائل؟ وقال أبو عمر: واحتجوا أيضا بحديث سهل وغيره أن رسول الله ﷺ كره المسائل وعابها وبأنه ﷺ قال: "إن الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال". وقال ابن أبي خيثمة: ثنا أبي ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا مالك عن الزهري عن سهل بن سعد قال: "لعن رسول الله ﷺ المسائل وعابها" قال أبو بكر هكذا ذكره أحمد بن زهير بهذا الإسناد وهو خلاف لفظ الموطأ قال أبو عمر: "وفي سماع أشهب سئل مالك عن قول رسول الله ﷺ أنهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال فقال: "أما كثرة السؤال فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة السؤال فقد كره رسول الله ﷺ المسائل وعابها وقال الله عز وجل: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فلا أدري أهو هذا أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء" وقال الأوزاعي: عن عبدة بن أبي لبابة: "وددت أن حظي من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شيء ولا يسألوني يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم بالدراهم". قال: واحتجوا أيضا بما رواه ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أباه يقول: قال رسول الله ﷺ: "أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته" وروى ابن وهب أيضا قال حدثني ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم" وقال سفيان بن عيينة عن عمرو عن طاووس قال: قال عمر بن الخطاب وهو على المنبر: "أحرج بالله على كل امرىء سأل عن شيء لم يكن فإن الله قد بين ما هو كائن". وقال أبو عمر: وروى جرير بن عبد الحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "ما رأيت قوما خيرا من أصحاب رسول الله ﷺ ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض ﷺ كلهن في القرآن يسألونك عن المحيض يسألونك عن الشهر الحرام يسألونك عن اليتامى ما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم" قال أبو عمر: "ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث". قلت: ومراد ابن عباس بقوله: "ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة" المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبين لهم أحكامه بالسنة لا تكاد تحصى ولكن إنما كانوا يسألونه عما ينفعهم من الواقعات ولم يكونوا يسألونه عن المقدرات والأغلوطات وعضل المسائل ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه فأجابهم وقد قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}. وقد اختلف في هذه الأشياء المسئول عنها: هل هي أحكام قدرية أو أحكام شرعية؟ على قولين: فقيل: إنها أحكام شرعية عفا الله عنها أي سكت عن تحريمها فيكون سؤالهم عنها سبب تحريمها ولو لم يسألوا لكانت عفوا ومنه قوله ﷺ وقد سئل عن الحج: أفي كل عام؟ فقال: "لو قلت نعم وجبت ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" ويدل على هذا التأويل حديث أبي ثعلبة المذكور: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما" الحديث ومنه الحديث الآخر: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها" وفسرت بسؤالهم عن أشياء من الأحكام القدرية كقول عبد الله بن حذافة: "من أبي يا رسول الله" وقول آخر: "أين أبي يا رسول الله" قال: "في النار" والتحقيق أن الآية تعم النهي عن النوعين وعلى هذا فقوله تعالى {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} أما في أحكام الخلق والقدر فإنه يسؤهم أن يبدو لهم ما يكرهونه مما سألوا عنه وأما في أحكام التكليف فإنه يسؤهم أن يبدو لهم ما يشق عليهم تكليفه مما سألوا عنه. وقوله تعالى {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} فيه قولان: أحدهما أن القرآن إذا نزل بها ابتداء بغير سؤال فسألتم عن تفصيلها وعلمها أبدى لكم وبين لكم والمراد بحين النزول زمنه المتصل به لا الوقت المقارن للنزول وكأن في هذا إذنا لهم في السؤال عن تفصيل المنزل ومعرفته بعد إنزاله ففيه رفع لتوهم المنع من السؤال عن الأشياء مطلقا والقول الثاني أنه من باب التهديد والتحذير أي ما سألتم عنها في وقت نزول الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يسؤكم والمعنى لا تتعروا للسؤال عما يسوءكم بيانه وإن تعرضتم له في زمن الوحي أبدي لكم. وقوله {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي عن بيانها خبرا وأمرا بل طوى بيانها عنكم رحمة ومغفرة وحلما والله غفور حليم فعلى القول الأول عفا الله عن التكليف بها توسعة عليكم وعلى القول الثاني عفا الله عن بيانها لئلا يسؤكم بيانها. وقوله {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} أراد نوع تلك المسائل لا أعيانها أي قد تعرض قوم من قبلكم لأمثال هذه المسائل فلما بينت لهم كفروا بها فاحذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له. ولم ينقطع حكم هذه الآية بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه بل يستعفي ما أمكنه ويأخذ بعفو الله ومن ههنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يا صاحب الميزاب لا تخبرنا لما سأله رفيقه عن مائه أطاهر أم لا وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره فلعله يسوءه إن أبدي له فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله فإنه سبحانه يكره إبداءها ولذلك سكت عنها والله أعلم. كلام التابعين في الرأي قالوا: ومن تدبر الآثار المروية في ذم الرأي وجدها لا تخرج عن هذه الأنواع المذمومة ونحن نذكر آثار التابعين ومن بعدهم بذلك ليتبين مرادهم: قال الخشني: ثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد القطان عن مجالد عن الشعبي قال: "لعن الله أرأيت". قال يحيى بن سعيد: وثنا صالح بن مسلم قال: سألت الشعبي عن مسألة من النكاح فقال: "إن أخبرتك برأيي فبل عليه". قالوا: فهذا قول الشعبي في رأيه وهو من كبار التابعين وقد لقي مائة وعشرين من الصحابة وأخذ عن جمهورهم. وقال الطحاوي: ثنا سليمان بن شعيب ثنا عبد الرحمن بن خالد ثنا مالك بن مغول عن الشعبي قال: "ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول الله ﷺ فخذوه وما كان رأيهم فاطرحوه في الحش". وقال البخاري: حدثنا سنيد بن داود ثنا حماد بن زيد عن زيد عن عمرو بن دينار قال: "قيل لجابر بن زيد: إنهم يكتبون ما يسمعون منك قال: "إنا لله وإنا إليه راجعون يكتبونه وأنا أرجع عنه غدا". قال إسحاق بن راهويه: قال سفيان بن عيينة: "اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم لا أن يقول هو برأيه". وقال ابن أبي خيثمة: ثن الحوطي ثنا إسماعيل بن عياش عن سوادة بن زياد وعمرو بن المهاجر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الناس: "إنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله ﷺ". قال أبو بصيرة: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول للحسن البصري: "بلغني أنك تفتي برأيك فلا تفت برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول الله ﷺ". وقال البخاري: حدثني محمد بن محبوب ثنا عبد الواحد ثنا ابن الزبرقان بن عبد الله الأسيدي أن أبا وائل شفيق ابن سلمة قال: "إياك ومجالسة من يقول: أرأيت أرأيت". وقال أبان بن عيسى بن دينار عن أبيه عن ابن القاسم عن مالك عن ابن شهاب قال: "دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي". وقال يونس عن أبي الأسود وهو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل سمعت عروة بن الزبير يقول: "ما زال أمر بني إسرائيل معتدلا حتى نشأ فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوهم". وذكر ابن وهب عن ابن شهاب أنه قال وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن فقال: "إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي بأيديهم حين اتبعوا الرآى وأخذوا فيه". وقال ابن وهب: حدثني ابن لهيعة أن رجلا سأل سالم بن عبد الله بن عمر عن شيء فقال: "لم أسمع في هذا شيئا فقال له الرجل: فأخبرني أصلحك الله برأيك فقال: لا ثم أعاد عليه فقال: إني أرضى برأيك فقال سالم: إني لعلي إن أخبرتك برأيي ثم تذهب فأرى بعد ذلك رأيا غيره فلا أجدك". وقال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ثنا مالك بن أنس قال كان ربيعة يقول لابن شهاب: "إن حالي ليس يشبه حالك أنا أقول برأيي من شاء أخذه وعمل به ومن شاء تركه". وقال الفريابي: ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: سمعت عبد الرحمن ابن مهدي يقول: سمعت حماد بن زيد يقول: قيل لأيوب السختياني: "مالك لا تنظر في الرأي؟ فقال أيوب: قيل للحمار مالك لا تجتر؟ قال أكره مضغ الباطل". وقال الفريابي: ثنا العباس بن الوليد بن مزيد أخبرني أبي قال: سمعت الأوزاعي يقول: "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول". وقال أبو زرعة: ثنا أبو مسهر قال: كان سعيد بن عبد العزيز إذا سئل لا يجيب حتى يقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله هذا الرأي والرأي يخطىء ويصيب". وقد روى أبو يوسف والحسن بن زياد كلاهما عن أبي حنيفة أنه قال: "علمنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه". وقال الطحاوي: ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ثنا أشهب بن عبد العزيز قال كنت عند مالك فسئل عن البتة فأخذت ألواحي لأكتب ما قال فقال لي مالك: "لا تفعل فعسى في العشي أقول إنها واحدة". وقال معن بن عيسى القزاز: سمعت مالكا يقول: "إنما أنا بشر أخطىء وأصيب فانظروا في قولي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه". فرضي الله عن أئمة الإسلام وجزاهم عن نصيحتهم خيرا ولقد امتثل وصيتهم وسلك سبيلهم أهل العلم والدين من أتباعهم. المتعصبون يعكسون القضية وأما المتعصبون فإنهم عكسوا القضية ونظروا في السنة فما وافق أقوالهم منها قبلوه وما خالفها تحيلوا في رده أو رد دلالته وإذا جاء نظير ذلك أو أضعف منه سندا ودلالة وكان يوافق قولهم قبلوه ولم يستجيزوا رده واعترضوا به على منازعيهم وأشاحوا وقرروا الاحتجاج بذلك السند ودلالته فإذا جاء ذلك السند بعينه أو أقوى منه ودلالته كدلالة ذلك أو أقوى منه في خلاف قولهم دفعوه ولم يقبلوه وسنذكر من هذا إن شاء الله طرفا عند ذكر غائلة التقليد وفساده والفرق بينه وبين الاتباع. وقال بقي بن مخلد: ثنا سحنون والحارث بن مسكين عن بن القاسم عن مالك أنه كان يكثر أن يقول: "إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين". وقال القعنبي: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه فسلمت عليه ثم جلست فرأيته يبكي فقلت له: يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك فقال لي: "يا ابن قعنب وما لي لا أبكي ومن أحق بالبكاء مني والله لوددت أني ضربت بكل مسألة أفتيت فيها بالرأي سوطا وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه وليتني لم أفت بالرأي". وقال ابن أبي داود: ثنا أحمد بن سنان قال: سمعت الشافعي يقول: "مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برأ فأعقل ما يكون قد هاج به". وقال ابن أبي داود: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: "لا تكاد ترى أحدا نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل". وقال عبد الله بن أحمد أيضا: سمعت أبي يقول: "الحديث الضعيف أحب إلي من الرأي" فقال عبد الله: سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه وأصحاب الرأي فتنزل به النازلة فقال أبي: "يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي ضعيف الحديث أقوى من الرأي". أبو حنيفة يقدم الحديث وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي وعلى ذلك بنى مذهبه كما قدم حديث القهقهة مع ضعفه على القياس والرآى وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس ومنع قطع السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم والحديث فيه ضعيف وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف وشرط في إقامة الجمعة المصر والحديث فيه كذلك وترك القياس المحض في مسائل الآبار لآثار فيها غير مرفوعة فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة على القياس والرأي قوله وقول الإمام أحمد وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين بل ما يسميه المتأخرون حسنا قد يسميه المتقدمون ضعيفا كما تقدم بيانه. والمقصود أن السلف جميعهم على ذم الرأي والقياس المخالف للكتاب والسنة وأنه لا يحل العمل به لا فتيا ولا قضاء وأن الرأي الذي لا يعلم مخالفته للكتاب والسنة ولا موافقته فغايته أن يسوغ العمل به عند الحاجة إليه من غير إلزام ولا إنكار على من خالفه. قال أبو عمر بن عبد البر: ثنا عبد الرحمن بن يحيى ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا عبد الله بن يحيى عن أبيه أنه كان يأتي ابن وهب فيقول له: من أين؟ فيقول له: من عند ابن القاسم فيقول له ابن وهب: "اتق الله فإن أكثر هذه المسائل رأي". وقال الحافظ أبو محمد: ثنا عبد الرحمن بن سلمة ثنا أحمد بن خليل ثنا خالد ابن سعيد أخبرني محمد بن عمر بن كنانة ثنا أبان بن عيسى بن دينار قال: "كان أبي قد أجمع على ترك الفتيا بالرأي وأحب الفتيا بما روى من الحديث فأعجلته المنية عن ذلك". وقال أبو عمر: وروى الحسن بن واصل أنه قال: "إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق وتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا". قال أبو عمر: وذكر نعيم بن حماد عن أبي معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق "من يرغب برأيه عن أمر الله يضل". وذكر بن وهب قال: أخبرني بكر بن نصر عن رجل من قريش أنه سمع ابن شهاب يقول وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن فقال: "إن اليهود والنصارى إنما انسخلوا من العلم الذي كان بأيديهم حين اشتقوا الرأي وأخذوا فيه". وذكر ابن جرير في كتاب (تهذيب الآثار) له عن مالك قال: "قبض رسول الله ﷺ وقد تم هذا الأمر واستكمل فإنما ينبغي أن تتبع آثار رسول الله ﷺ ولا تتبع الرأي فإنه من اتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى منه في الرأي فاتبعه فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته". وقال نعيم بن حماد: ثنا ابن المبارك عن عبد الله بن وهب أن رجلا جاء إلى القاسم بن محمد فسأله عن شيء فأجابه فلما ولى الرجل دعاه فقال له: "لا تقل إن القاسم زعم أن هذا هو الحق ولكن إذا اضطررت إليه عملت به". وقال أبو عمر: قال ابن وهب: قال لي مالك بن أنس وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل: "يا أبا عبد الله ما علمته فقل به ودل عليه وما لم تعلم فاسكت وإياك أن تتقلد للناس قلادة سوء". وقال أبو عمر: وذكر محمد بن حارث بن أسد الخشني أنبأنا أبو عبد الله محمد ابن عباس النحاس قال: سمعت أبا عثمان سعيد بن محمد الحداد يقول: سمعت سحنون بن سعيد يقول: "ما أدري ما هذا الرأي؟ سفكت به الدماء واستحلت به الفروج واستحقت به الحقوق غير أنا رأينا رجلا صالحا فقلدناه". وقال سلمة بن شبيب: سمعت أحمد يقول: "رأي الشافعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله عندي رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار". وقال أبو عمر بن عبد البر: أنشدني عبد الرحمن بن يحيى أنشدنا أبو علي الحسن بن الخضر الأسيوطي بمكة أنشدنا عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: دين النبي محمد أثار ** نعم المطية للفتى الأخبار. لا تخدعن عن الحديث وأهله ** فالرأي ليل والحديث نهار. ولربما جهل الفتى طرق الهدى ** والشمس طالعة لها أنوار. ولبعض أهل العلم: العلم قال الله قال رسوله ** قال الصحابة ليس خلف فيه. ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ** بين النصوص وبين رأي سفيه. كلا ولا نصب الخلاف جهالة ** بين الرسول وبين رأي فقيه. كلا ولا رد النصوص تعمدا ** حذرا من التجسيم والتشبيه. حاشا النصوص من الذي رميت به ** من فرقة التعطيل والتمويه. في أنواع الرأي المحمود النوع الأول: رأي أفقه الأمة وأبر الأمة قلوبا وأعمقهم وأقلهم تكلفا وأصحهم قصودا وأكملهم فطرة وأتمهم إدراكا وأصفاهم أذهانا الذين شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل فهموا مقاصد الرسول فنسبة آرائهم وعلومهم وقصودهم إلى ما جاء به الرسول ﷺ كنسبتهم إلى صحبته والفرق بينهم وبين من بعدهم في ذلك كالفرق بينهم وبينهم في الفضل فنسبه رأي من بعدهم إلى رأيهم كنسبة قدرهم إلى قدرهم. قال الشافعي رحمه الله في رسالته البغدادية التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفراني وهذا لفظه: "وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله ﷺ في القرآن والتوراة والإنجيل وسبق لهم على لسان رسول الله ﷺ من الفضل ما ليس لأحد بعدهم فرحمهم الله وهنأهم بما أتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين أدوا إلينا سنن رسول الله ﷺ وشاهدوه والوحي ينزل عليه فعلموا ما أراد رسول الله ﷺ عاما وخاصا وعزما وإرشادا وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم ليعلموا لرسول الله ﷺ فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا أو قول بعضهم إن تفرقوا وهكذا نقول ولم نخرج عن أقاويلهم وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله". ولما كان رأي الصحابة عند الشافعي بهذه المثابة قال في الجديد في كتاب الفرائض في ميراث الجد والإخوة: "وهذا مذهب تلقيناه عن زيد بن ثابت وعنه أخذنا أكثر الفرائض" وقال: "والقياس عندي قتل الراهب لولا ما جاء عن أبي بكر رضي الله عنه" فترك صريح القياس لقول الصديق وقال في رواية الربيع عنه: "والبدعة ما خالف كتابا أو سنة أو أثرا عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ" فجعل ما خالف قول الصحابي بدعة وسيأتي إن شاء الله تعالى إشباع الكلام في هذه المسألة وذكر نصوص الشافعي عند ذكر تحريم الفتوى بخلاف ما أفتى به الصحابة ووجوب اتباعهم في فتاويهم وأن لا يخرج من جملة أقوالهم وأن الأئمة متفقون على ذلك. الصحابة أفضل الناس في الرأي والمقصود أن أحدا ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم وكيف يساويهم وقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته كما رأى عمر في أسارى بدر أن تضرب أعناقهم فنزل القرآن بموافقته ورأى أن تحجب نساء النبي ﷺ فنزل القرآن بموافقته ورأى أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى فنزل القرآن بموافقته وقال لنساء النبي ﷺ لما اجتمعن في الغيرة عليه: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَات} فنزل القرآن بموافقته ولما توفي عبد الله بن أبي قام رسول الله ﷺ ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوبه فقال يا رسول الله: "إنه منافق" فصلى عليه رسول الله ﷺ فأنزل الله عليه {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}. وقد قال سعد بن معاذ لما حكمه النبي ﷺ في بني قريظة: "إني أرى أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذرياتهم وتغنم أموالهم" فقال النبي ﷺ: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات". ولما اختلفوا إلى ابن مسعود شهرا في المفوضة قال: "أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء منه أرى أن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط ولها الميراث وعليها العدة" فقام ناس من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله ﷺ قضى في امرأة منا يقال لها بروع بنت واشق مثل ما قضيت به فما فرح ابن مسعود بشىء بعد الإسلام فرحه بذلك. وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيرا من رأينا لأنفسنا وكيف لا وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نورا وإيمانا وحكمة وعلما ومعرفة وفهما عن الله ورسوله ونصيحة للأمة وقلوبهم على قلب نبيهم ولا وساطة بينهم وبينه وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضا طريا لم يشبه إشكال ولم يشبه خلاف ولم تدنسه معارضة فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس. فصل النوع الثاني من أنواع الرأي المحمود النوع الثاني من الرأي المحمود: الرأي الذي يفسر النصوص ويبين وجه الدلالة منها ويقررها ويوضح محاسنها ويسهل طريق الاستنباط منها كما قال عبدان: "سمعت عبد الله بن المبارك يقول: "ليكن الذي تعتمد عليه الأثر وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث وهذا هو الفهم الذي يختص الله سبحانه به من يشاء من عباده". ومثال هذا رأي الصحابة رضي الله عنهم في العول في الفرائض عند تزاحم الفروض ورأيهم في مسألة زوج وأبوين وامرأة وأبوين أن للأم ثلث ما بقي بعد فرض الزوجين ورأيهم في توريث المبتوتة في مرض الموت ورأيهم في مسألة جر الولاء ورأيه في المحرم يقع على أهله بفساد حجه ووجوب المضي فيه والقضاء والهدى من قابل ورأيهم في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا لكل يوم مسكينا ورأيهم في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر تصلي المغرب والعشاء وإن طهرت قبل الغروب صلت الظهر والعصر ورأيهم في الكلالة وغير ذلك. قال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون أنا عاصم الأحول عن الشعبي قال: سئل أبو بكر عن الكلالة فقال: "إني سأقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد والولد". فإن قيل: كيف يجتمع هذا مع ما صح عنه من قوله: "أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله برأيي؟" وكيف يجامع هذا الحديث الذي تقدم: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار". فالجواب أن الرأي نوعان: أحدهما: رأي مجرد لا دليل عليه بل هو خرص وتخمين فهذا الذي أعاذ الله الصديق والصحابة منه. والثاني: رأي مستند إلى استدلال واستنباط من النص وحده أو من نص آخر معه فهذا من ألطف فهم النصوص وأدقه ومنه رأيه في الكلالة أنها ما عدا الوالد والولد فإن الله سبحانه ذكر الكلالة في موضعين من القرآن ففي أحد الموضعين ورث معها الأخ والأخت من الأم ولا ريب أن هذه الكلالة ما عدا الوالد والولد والموضع الثاني ورث معها ولد الأبوين أو الأب النصف أو الثلثين فاختلف الناس في هذه الكلالة والصحيح فيها قول الصديق الذي لا قول سواه وهو الموافق للغة العرب كما قال: ورثتم قناة المجد لا عن كلالة ** عن ابني مناف عبد شمس وهاشم. أي إنما ورثتموها عن الآباء والأجداد لا عن حواشي النسب وعلى هذا فلا يرث ولد الأب والأبوين لا مع أب ولا مع جد كما لم يرثوا مع الابن ولا ابنه وإنما ورثوا مع البنات لأنهم عصبة فلهم ما فضل عن الفروض. فصل النوع الثالث من أنواع الرأي المحمود النوع الثالث من الرأي المحمود: الذي تواطأت عليه الأمة وتلقاه خلفهم عن سلفهم فإن ما تواطؤا عليه من الرأي لا يكون إلا صوابا كما تواطؤا عليه من الرواية والرؤيا وقد قال النبي ﷺ لأصحابه وقد تعددت منهم رؤيا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر" فاعتبر ﷺ تواطؤ رؤيا المؤمنين فالأمة معصومة فيما تواطأت عليه من روايتها ورؤياها ولهذا كان من سداد الرأي وإصابته أن يكون شورى بين أهله ولا ينفرد به واحد وقد مدح الله سبحانه المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس عنده فيها نص عن الله ولا عن رسوله جمع لها أصحاب رسول الله ﷺ ثم جعلها شورى بينهم. قال البخاري: حدثنا سنيد ثنا يزيد عن العوام بن حوشب عن المسيب ابن رافع قال: "كان إذا جاءه الشيء من القضاء ليس في الكتاب ولا في السنة سمى صوافي الأمر فرفع إليهم فجمع له أهل العلم فإذا اجتمع عليه رأيهم الحق". وقال محمد بن سليمان الباغندي: ثنا عبد الرحمن بن يونس ثنا عمر بن أيوب أخبرنا عيسى بن المسيب عن عامر عن شريح القاضي قال: قال لي عمر بن الخطاب: "أن اقض بما استبان لك من قضاء رسول الله ﷺ فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله ﷺ فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح". وقال الحميدي: ثنا سفيان ثنا الشيباني عن الشعبي قال: "كتب عمر إلى شريح إذا حضرك أمر لا بد منه فانظر ما في كتاب الله فاقض به فإن لم يكن ففيما قضى به رسول الله ﷺ فإن لم يكن ففيما قضى به الصالحون وأئمة العدل فإن لم يكن فأنت بالخيار فإن شئت أن تجتهد رأيك فاجتهد رأيك وإن شئت أن تؤامرني ولا أرى مؤامرتك إياي إلا خيرا لك والسلام". فصل النوع الرابع من أنواع الرأي المحمود النوع الرابع من الرأي المحمود: أن يكون بعد طلب علم الواقعة من القرآن فإن لم يجدها في القرآن ففي السنة فإن لم يجدها في السنة فبما قضى به الخلفاء الراشدون أو اثنان منهم أو واحد فإن لم يجده فبما قاله واحد من الصحابة رضي الله عنهم فإن لم يجده اجتهد رأيه ونظر إلى أقرب ذلك من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وأقضية أصحابه فهذا هو الرأي الذي سوغه الصحابة واستعملوه وأقر بعضهم بعضا عليه. قال علي بن الجعد: أنبأنا شعبة عن سيار الشعبي قال: "أخذ عمر فرسا من رجل على سوم فحمل عليه فعطب فخاصمه الرجل فقال: اجعل بيني وبينك رجلا فقال الرجل: إني أرضى بشريح العراقي فقال شريح: أخذته صحيحا سليما فأنت له ضامن حتى ترده صحيحا سليما قال: فكأنه أعجبه فبعثه قاضيا وقال ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه فإن لم يستبن في كتاب الله فمن السنة فإن لم تجده في السنة فاجتهد رأيك". خطاب عمر في القضاء قال أبو عبيد: ثنا كثير بن هشام عن جعفر بن برقان وقال أبو نعيم: عن جعفر بن برقان عن معمر البصري عن أبي العوام وقال سفيان بن عيينة: ثنا إدريس أبو عبد الله بن إدريس قال: "أتيت سعيد بن أبي بردة فسألته عن رسل عمر بن الخطاب التي كان يكتب بها إلى أبي موسى الأشعري وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بردة فأخرج إليه كتبا فرأيت في كتاب منها رجعنا إلى حديث أبي العوام قال كتب عمر إلى أبي موسى: "أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلى إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له آس الناسي في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك البينة على المدعي واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ومن ادعى حقا غائبا أو بينة فاضرب له أمدا ينتهي إليه فإن بينه أعطيته بحقه وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعلماء ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربا عليه شهادة زور أو مجلودا في حد أو ظنينا في ولاء أو قرابة فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والإيمان ثم الفهم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قايس الأمور عند ذلك وأعرف الأمثال ثن اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند الخصومة أو الخصوم شك أبو عبيد فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذكر فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين بما ليس في نفسه شانه الله فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصا فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام عليك ورحمة الله" قال أبو عبيد: فقلت لكثير: هل أسنده جعفر؟ قال: لا. وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه. شرح الخطاب قوله: "القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة" يريد به أن ما يحكم به الحاكم نوعان: أحدهما: فرض محكم غير منسوخ كالأحكام الكلية التي أحكمها الله في كتابه والثاني: أحكام سنها رسول الله ﷺ وهذان النوعان هما المذكوران في حديث عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ: "العلم ثلاثة فما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة وسنة قأئمة وفريضة عأدلة" رواه ابن وهب عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن رافع عنه ورواه بقية عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة: "أن النبي ﷺ دخل المسجد فرأى جمعا من الناس على رجل فقال ما هذا قالوا يا رسول الله رجل علامة قال وما العلامة قالوا أعلم بالناس بأنساب العرب وأعلم الناس بعربية وأعلم الناس بشعر وأعلم الناس بما اختلف فيه العرب فقال رسول الله ﷺ هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر وقال رسول الله ﷺ "العلم ثلاثة وما خلا فهو فضل علم آية محكمة أو سنة قأئمة أو فريضة عأدلة". الفهم الصحيح نعمة وقوله: "فافهم إذا أدلى إليك" صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد والحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد ويمده حسن القصد وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية ويقطع مادته اتباع الهوى وإيثار الدنيا وطلب محمدة الخلق وترك التقوى. تمكن الحاكم والمفتي بنوعين من الفهم ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجر فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه وكما توصل سليمان صلى الله عليه بقوله: "ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما" إلى معرفة عين الأم وكما توصل أمير المؤمنين علي عليه السلام بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب لما أنكرته: "لتخرجن الكتاب أو لنجردنك" إلى استخراج الكتاب منها وكما توصل الزبير بن العوام بتعذيب أحد ابني أبي الحقيق بأمر رسول الله ﷺ حتى دلهم على كنز جبي لما ظهر له كذبه في دعوى ذهابه بالإنفاق بقوله: "المال كثير والعهد أقرب من ذلك" وكما توصل النعمان بن بشير بضرب المتهمين بالسرقة إلى ظهور المال المسروق عندهم فإن ظهر وإلا ضرب من اتهمهم كما ضربهم وأخبر أن هذا حكم رسول الله ﷺ. ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبة إلى الشريعة التي بعث الله بها ورسوله. معنى الإدلاء وقوله: "فما أدلى إليك" أي ما توصل به إليك من الكلام الذي تحكم به بين الخصوم ومن قولهم أدلى فلان بحجته وأدلى بنسبه ومنه قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} أي تضيفوا ذلك إلى الحكام وتتوصلوا بحكمهم إلى أكلها. فإن قيل: لو أراد هذا المعنى لقيل وتدلوا بالحكام إليها وأما الإدلاء بها إلى الحكام فهو التوصل بالبرطيل بها إليهم فترشوا الحاكم لتتوصلوا برشوته إلى الأكل بالباطل. قيل: الآية تتناول النوعين فكل منهما إدلاء إلى الحكام بسببها فالنهي عنهما معا. وجوب تنفيذ الحق وقوله: "فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له" ولاية الحق: نفوذه فإذا لم ينفذ كان ذلك عزلا له عن ولايته فهو بمنزلة الوالي العدل الذي في توليته مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فإذا عزل عن ولايته لم ينفع ومراد عمر بذلك التحريض على تنفيذ الحق إذا فهمه الحاكم ولا ينفع تكلمه به إن لم يكن له قوة تنفيذه فهو تحريض منه على العلم بالحق والقوة على تنفيذه وقد مدح الله سبحانه أولى القوة أمره والبصائر في دينه فقال: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} فالأيدي: القوى على تنفيذ أمر الله والأبصار: البصائر في دينه. المدعي والمدعى عليه أمام الحاكم سواء وقوله: "وآس الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك" إذا عدل الحاكم في هذا بين الخصمين فهو عنوان عدله في الحكومة فمتى خص أحد الخصمين بالدخول عليه أو القيام له أو بصدر المجلس والإقبال عليه والبشاشة له والنظر إليه كان عنوان حيفه وظلمه وقد رأيت في بعض التواريخ القديمة أن أحد قضاة العدل في بني إسرائيل أوصاهم إذا دفنوه أن ينبشوا قبره بعد مدة فينظروا هل تغير منه شيء أم لا وقال: "إني لم أجر قط في حكم ولم أحاب فيه غير أنه دخل على خصمان كان أحدهما صديقا لي فجعلت أصغي إليه بأذني أكثر من إصغائي إلى الآخر ففعلوا ما أوصاهم به فرأوا أذنه قد أكلها التراب ولم يتغير جسده" وفي تخصيص أحد الخصمين بمجلس أو إقبال أو إكرام مفسدتان: إحداهما: طعمه في أن تكون الحكومة له فيقوى قلبه وجنانه والثانية: أن الآخر ييأس من عدله ويضعف قلبه وتنكسر حجته. ما هي البينة وقوله: "البينة على من المدعي واليمين على من أنكر" البينة في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة اسم لكل ما يبين الحق فهي أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين أو الشاهد واليمين ولا حجر في الاصطلاح ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص وحملها على غير مراد المتكلم منها. وقد حصل بذلك للمتأخرين أغلاط شديدة في فهم النصوص ونذكر من ذلك مثالا واحدا وهو ما نحن فيه من لفظ البينة فإنها في كتاب الله اسم لكل ما يبين الحق كما قال تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} وقال {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ} وقال {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وقال {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} وقال {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} وقال {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} وقال {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} وهذا كثير لم يختص لفظ البينة بالشاهدين بل ولا استعمل في الكتاب فيهما البتة إذا عرف هذا فقول النبي ﷺ للمدعي: "ألك بينة" وقول عمر: "البينة على المدعي" وإن كان هذا قد روى مرفوعا المراد به ألك ما يبين الحق من شهود أو دلالة فإن الشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له ولا يرد حقا قد ظهر بدليله أبدا فيضيع حقوق الله وعباده ويعطلها ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة غيره في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحا لا يمكن جحده ودفعه كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد في صورة من على رأسه عمامة وبيده عمامةوآخر خلفه مكشوف الرأس يعدو أثره ولا عادة له بكشف رأسه فبينة الحال ودلالته هنا تفيد من ظهور صدق المدعي أضعاف ما يفيد مجرد اليد عند كل أحد فالشارع لا يهمل مثل هذه البينة والدلالة ولا يضيع حقا يعلم كل أحد ظهوره وحجته بل لما ظنا هذا من ظنه ضيعوا طريق الحكم فضاع كثير من الحقوق لتوقف ثبوتها عندهم على طريق معين وصار الظالم الفاجر ممكنا من ظلمه وفجوره فيفعل ما يريد ويقول لا يقوم علي بذلك شاهدان اثنان فضاعت حقوق كثيرة لله ولعباده وحينئذ أخرج الله أمر الحكم العلمي عن أيديهم وأدخل فيه من أمر الإمارة والسياسة ما يحفظ به الحق تارة ويضيع به أخرى ويحصل به العدوان تارة والعدل أخرى ولو عرف ما جاء به الرسول على وجهه لكان فيه تمام المصلحة المغنية عن التفريط والعدوان. نصاب الشهادة في القرآن وقد ذكر الله سبحانه نصاب الشهادة في القرآن في خمسة مواضع فذكر نصاب شهادة الزنا أربعة في سورة النساء وسورة النور وأما في غير الزنا فذكر شهادة الرجلين والرجل والمرأتين في الأموال فقال في آية الدين واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان فهذا في التحمل والوثيقة التي يحفظ بها صاحب المال حقه لا في طرق الحكم وما يحكم به الحاكم فإن هذا شيء وهذا شيء وأمر في الرجعة بشاهدين عدلين وأمر في الشهادة على الوصية في السفر باستشهاد عدلين من المسلمين أو آخرين من غيرهم وغير المؤمنين هم الكفار والآية صريحة في قبول شهادة الكافرين على الوصية في السفر عند عدم الشاهدين المسلمين وقد حكم به النبي ﷺ والصحابة بعده ولم يجىء بعدها ما ينسخها فإن المائدة من آخر القرآن نزولا وليس فيها منسوخ وليس لهذه الآية معارضة البتة ولا يصح أن يكون المراد بقوله: "من غيركم" من غير قبيلتكم فإن الله سبحانه خاطب بها المؤمنين كافة بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ولم يخاطب بذلك قبيلة معينة حتى يكون قوله من غيركم أيتها القبيلة والنبي ﷺ لم يفهم هذا من الآية بل إنما فهم ما هي صريحة فيه وكذلك أصحابه من بعده وهو سبحانه ذكر ما يحفظ به الحقوق من الشهود ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلا بذلك فليس في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين ولا بالنكول ولا باليمين المردودة ولا بأيمان القسامة ولا بأيمان اللعان وغير ذلك مما يبين الحق ويظهره ويدل عليه. وقد اتفق المسلمون على أنه يقبل في الأموال رجل وامرأتان وكذلك توابعها من البيع والأجل فيه والخيار فيه والرهن والوصية للمعين وهبته والوقف عليه وضمان المال وإتلافه ودعوى رق مجهول النسب وتسمية المهر وتسمية عوض الخلع يقبل في ذلك رجل وامرأتان. وتنازعوا في العتق والوكالة في المال والإيصاء إليه فيه ودعوى قتل الكافر لاستحقاق سلبه ودعوى الأسير الإسلام السابق لمنع رقه وجناية الخطأ والعمد التي لا قود فيها والنكاح والرجعة هل يقبل فيها رجل وامرأتان أم لا بد من رجلين على قولين وهما روايتان عن أحمد فالأول قول أبي حنيفة والثاني قول مالك والشافعي والذين قالوا لا يقبل إلا رجلان قالوا إنما ذكر الله الرجل والمرأتين في الأموال دون الرجعة الوصية وما معهما فقال لهم الآخرون ولم يذكر سبحانه وصف الإيمان في الرقبة إلا في كفارة القتل ولم يذكر فيها إطعام ستين مسكينا وقلتم نحمل المطلق على المقيد إما بيانا وإما قياسا وقالوا أيضا فإنه سبحانه إنما قال {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وفي الآية الأخرى {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} بخلاف آية الدين فإنه قال {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وفي الموضعين الآخرين لما لم يقل رجلان لم يقل فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان. فإن قيل: اللفظ مذكر فلا يتناول الإناث. قيل قد استقر في عرف الشارع أن الأحكم المذكورة بصيغة المذكرين إذا أطلقت ولم تقترن بالمؤنث فإنها تتناول الرجال والنساء لأنه يغلب المذكر عند الاجتماع كقوله {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} وقوله {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وأمثال ذلك وعلى هذا فقوله {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} يتناول الصنفين لكن قد استقرت الشريعة على أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل فالمرأتان في الشهادة كالرجل الواحد بل هذا أولى فإن حضور النساء عند الرجعة أيسر من حضورهن عند كتابة الوثائق بالديون وكذلك حضورهن عند الوصية وقت الموت فإذا جوز الشارع استشهاد النساء في وثائق الديون التي تكتبها الرجال مع أنها إنما تكتب غالبا في مجامع الرجال فلأن يسوغ ذلك فيما تشهده النساء كثيرا كالوصية والرجعة أولى. يوضحه أنه قد شرع في الوصية استشهاد آخرين من غير المسلمين عند الحاجة فلأن يجوز استشهاد رجل وامرأتين بطرق الأولى والأحرى بخلاف الديون فإنه لم يأمر فيها باستشهاد آخرين من غيرنا إذا كنت مداينة المسلمين تكون بينهم وشهودهم حاضرون والوصية في السفر قد لا يشهدها إلا أهل الذمة وكذلك الميت قد لا يشهد إلا النساء وأيضا فإنما أمر في الرجعة باستشهاد ذوي عدل لأن المستشهد هو المشهود عليه بالرجعة وهو الزوج لئلا يكتمها فأمر بأن يستشهد أكمل النصاب ولا يلزم إذا لم يشهد هذا الأكمل أن لا يقبل عليه شهادة النصاب الأنقص فإن طرق الحكم أعم من طرق حفظ الحقوق وقد أمر النبي ﷺ الملتقط أن يشهد عليه ذوي عدل ولا يكتم ولا يعيب ولو شهد عليه باللقطة رجل وامرأتان قبل بالاتفاق بل يحكم عليه بمجرد وصف صاحبها لها. وقال تعالى في شهادة المال {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقال في الوصية والرجعة {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} لأن المستشهد هناك صاحب الحق فهو يأتي بمن يرضاه لحفظ حقه فإن لم يكن عدلا كان هو المضيع لحقه وهذا المستشهد يستشهد بحق ثابت عنده فلا يكفي رضاه به بل لا بد أن يكون عدلا في نفسه وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى قال {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} لأن صاحب الحق هو الذي يحفظ ماله بمن يرضاه وإذا قال من عليه الحق: أنا أرض بشهادة هذا علي ففي قبوله نزاع والآية تدل على أنه يقبل بخلاف الرجعة والطلاق فإن فيهما حقا لله وكذلك الوصية فيها حق لغائب. ومما يوضح ذلك أن النبي ﷺ قال في المرأة: "أليس شهادتها بنصف شهادة الرجل؟" فأطلق ولم يقيد ويوضحه أيضا أن النبي ﷺ قال للمدعي لما قال هذا غصبني أرضي فقال: "شاهداك أو يمينه" وقد عرف أنه لو أتى برجل وامرأتين حكم له فعلم أن هذا يقوم مقام الشاهدين وأن قوله: "شاهداك أو يمينه" إشارة إلى الحجة الشرعية التي شعارها الشاهدان فإما أن يقال: لفظ "شاهدان" معناه دليلان يشهدان وإما أن يقال: رجلان أو ما يقوم مقامهما والمرأتان دليل بمزلة الشاهد يوضحه أيضا أنه لو لم يأت المدعي بحجة حلف المدعى عليه فيمينه كشهادة آخر فصار معه دليلان يشهدان أحدهما البراءة والثاني اليمين وإن نكل 1 عن اليمين فمن قضى عليه بالنكول قال النكول إقرار أو بدل وهذا جيد إذا كان المدعى عليه هو الذي يعرف الحق دون المدعي قال عثمان لابن عمر: "تحلف أنك بعته وما به عيب تعلمه فلما لم يحلف قضى عليه" وأما الأكثرون فيقولون: "إذا نكل ترد اليمين على المدعي فيكون نكول الناكل دليلا ويمين المدعي دليلا ثانيا" فصار الحكم بدليلين شاهد ويمين والشارع إنما جعل الحكم في الخصومة بشاهدين لأن المدعي لا يحكم له بمجرد قوله والخصم منكر وقد يحلف أيضا فكان أحد الشاهدين يقاوم الخصم المنكر فإن إنكاره ويمينه كشاهد ويبقى الشاهد الآخر خبر عدل لا معارض له فهو حجة شرعية لا معارض لها. وفي الرواية إنما يقبل خبر الواحد إذا لم يعارضه أقوى منه فاطرد القياس والاعتبار في الحكم والرواية يوضحه أيضا أن المقصود بالشهادة أن يعلم بها ثبوت المشهود به وأنه حق وصدق فإنها خبر عنه وهذا لا يختلف بكون المشهود به ملا أو طلاقا أو عتقا أو وصية بل من صدق في هذا صدق في هذا فإذا كان الرجل مع المرأتين كالرجلين يصدقان في الأموال فكذلك صدقهما في هذا وقد ذكر الله سبحانه حكمة تعدد الاثنين في الشهادة وهي أن المرأة قد تنسى الشهادة وتضل عنها فتذكرها الأخرى ومعلوم أن تذكيرها لها بالرجعة والطلاق والوصية مثل تذكيرها لها بالدين وأولى وهو سبحانه أمر بإشهاد امرأتين لتوكيد الحفظ لأن عقل المرأتين وحفظهما يقوم مقام عقل رجل وحفظه ولهذا جعلت على النصف من الرجل في الميراث والدية والعقيقة والعتق فعتق امرأتين يقوم مقام عتق رجل كما صح عن النبي ﷺ من أعتق امرأ مسلما أعتق الله بكل عضو منهما عضوا منه من النار ومن أعتق امرأتين مسلمتين أعتق الله بكل عضو من من النار ولا ريب أن هذه الحكمة في التعدد هي في التحمل فأما إذا عقلت المرأة وحفظت وكانت ممن يوثق بدينها فإن المقصود حاصل بخبرها كما يحصل بأخبار الديانات ولهذا تقبل شهادتها وحدها في مواضع ويحكم بشاهدة امرأتين ويمين الطالب في أصح القولين وهو قول مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد. قال شيخنا قدس الله روحه: "ولو قيل يحكم بشهادة امرأة ويمين الطالب لكان متوجها قال لأن المرأتين إنما أقيمتا مقام الرجل في التحمل لئلا تنسى إحداهما بخلاف الأداء فإنه ليس في الكتاب ولا في السنة أنه لا يحكم إلا بشهادة امرأتين ولا يلزم من الأمر باستشهاد المرأتين وقت التحمل ألا يحكم بأقل منهما فإنه سبحانه أمر باستشهاد رجلين في الديون فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ومع هذا فيحكم بشاهد واحد ويمين الطالب ويحكم بالنكول والرد وغير ذلك". فالطرق التي يحكم بها الحاكم أوسع عن الطرق التي أرشد الله صاحب الحق إلى أن يحفظ حقه بها وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أن سأله عقبة بن الحارث فقال: "إني تزوجت امرأة فجاءة أمة سوداء فقالت إنها أرضعتنا فأمره بفراق امرأته فقال إنها كاذبة فقال: دعها عنك" ففي هذا قبول شهادة المرأة الواحدة وإن كانت أمة وشهادتها على فعل نفسها وهو أصل في شهادة القاسم والخارص والوزان والكيال على فعل نفسه. فصل وهذا أصل عظيم فيجب أن يعرف غلط فيه كثير من الناس فإن الله سبحانه أمر بما يحفظ به الحق فلا يحتاج معه إلى يمين صاحبه وهو الكتاب والشهود لئلا يجحد الحق أو ينسى ويحتاج صاحبه إلى تذكير من لم يذكر إما جحودا وإما نسيانا ولا يلزم من ذلك أنه إذا كان هناك ما يدل على الحق لم يقبل إلا هذه الطريق التي أمره أن يحفظ حقه بها. فصل وإنما أمر الله سبحانه بالعدد في شهود الزنا لأنه مأمور فيه بالستر ولهذا غلظ فيه النصاب فإنه ليس هناك حق يضيع وإنما حد وعقوبة والعقوبات تدرأ بالشبهات بخلاف حقوق الله وحقوق عباده التي تضيع إذا لم يقبل فيها قول الصادقين ومعلوم أن شهادة العدل رجلا كان أو امرأة أقوى من استصحاب الحال فإن استصحاب الحال من أضعف البينات ولهذا يدفع بالنكول تارة وباليمين المردودة وبالشاهد واليمين ودلالة الحال وهو نظير رفع استصحاب الحال في الأدلة الشرعية بالعموم والمفهوم والقياس فيرفع بأضعف الأدلة فهكذا في الأحكام يرفع بأدنى النصاب ولهذا قدم خبر الواحد في أخبار الديانة على الاستصحاب مع أنه يلزم جميع المكلفين فكيف لا يقدم عليه فيما هو دونه ولهذا كان الصحيح الذي دلت عليه السنة التي لا معارض لها أن اللقطة إذا وصفها واصف صفة تدل على صدقه دفعت إليه بمجرد الوصف فقام وصفه لها مقام الشاهدين بل وصفه لها بينة تبين صدقه وصحة دعواه فإن البينة اسم لما يبين الحق. وقد اتفق العلماء على أن مواضع الحاجات يقبل فيها من الشهادات ما لا يقبل في غيرها من حيث الجملة وإن تنازعوا في بعض التفاصيل وقد أمر الله سبحانه بالعمل بشهادة شاهدين من غير المسلمين عند الحاجة في الوصية في السفر منبها بذلك على نظيره وما هو أولى منه كقبول شهادة النساء منفردات في الأعراس والحمامات والمواضع التي تنفرد النساء بالحضور فيها ولا ريب أن قبول شهادتهن هنا أولى من قبول شهادة الكفار على الوصية في السفر وكذلك عمل الصحابة وفقهاء المدينة بشهادة الصبيان على تجارح بعضهم بعضا فإن الرجال لا يحضرون معهم في لعبهم ولو لم تقبل شهادتهم وشهادة النساء منفردات لضاعت الحقوق وتعطلت وأهملت مع غلبة الظن أو القطع بصدقهم ولا سيما إذا جاءوا مجتمعين قبل تفرقهم ورجوعهم إلى بيوتهم وتواطئوا على خبر واحد وفرقوا وقت الأداء واتفقت كلمتهم فإن الظن الحاصل حينئذ من شهادتهم أقوى بكثير من الظن الحاصل من شهادة رجلين وهذا مما لا يمكن دفعه وجحده فلا نظن بالشريعة الكاملة الفاضلة المنتظمة لمصالح العباد في المعاش والمعاد أنها تهمل مثل هذا الحق وتضيعه مع ظهور أدلته وقوتها وتقبله مع الدليل الذي هو دون ذلك. وقد روى أبو داود في سننه في قضية اليهوديين اللذين زنيا فلما شهد أربعة من اليهود عليهما أمر النبي ﷺ برجمهما وقد تقدم حكم النبي ﷺ بشهادة الأمة الواحدة على فعل نفسها وهو يتضمن شهادة العبد وقد حكى الإمام أحمد عن أنس بن مالك إجماع الصحابة على شهادته فقال ما علمت أحدا رد شهادة العبد وهذا هو الصواب فإنه إذا قبلت شهادته على رسول الله ﷺ في حكم يلزم الأمة فلأن تقبل شهادته على واحد من الأمة في حكم جزئي أولى وأحرى وإذا قبلت شهادته على حكم الله ورسوله في الفروج والدماء والأموال في الفتوى فلأن تقبل شهادته على واحد من الناس أولى وأحرى كيف وهو داخل في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فإنه منا وهو عدل وقد عدله النبي ﷺ لقوله: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله" وعدلته الأمة في الرواية عن رسول الله ﷺ والفتوى وهو من رجالنا فيدخل في قوله {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وهو مسلم فيدخل في قول عمر بن الخطاب: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض" وهو صادق فيجب العمل بخبره وأن لا يرد فإن الشريعة لا ترد خبر الصادق بل تعمل به وليس بفاسق فلا يجب التثبت في خبره وشهادته وهذا كله من تمام رحمة الله وعنايته بعباده وإكمال دينهم لهم وإتمام نعمته عليهم بشريعته لئلا تضيع حقوق الله وحقوق عباده مع ظهور الحق بشهادة الصادق لكن إذا أمكن حفظ الحقوق بأعلى الطريقين فهو أولى كما أمر بالكتاب والشهود لأنه أبلغ في حفظ الحقوق. فإن قيل: أمر الأموال أسهل فإنه يحكم فيها بالنكول وباليمين المردودة وبالشاهد واليمين بخلاف الرجعة والطلاق. قيل هذا فيه نزاع والحجة إنما تكون بنص أو إجماع وأما الشاهد واليمين فالحديث الذي في صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ: "قضى بالشاهد واليمين" ليس فيه أنه في الأموال وإنما هو قول عمرو بن دينار ولو كان مرفوعا عن ابن عباس فليس فيه اختصاص الحكم بذلك في الأموال وحدها فإنه لم يخبر عن شرع عام شرعه رسول الله ﷺ في الأموال وكذلك سائر ما روى من حكمه بذلك إنما هو في قضايا معينة قضى فيها بشاهد ويمين وهذا كما لا يدل على اختصاص حكمه بتلك القضايا لا يقتضي اختصاصه بالأموال كما أنه إذا حكم بذلك في الديون لم يدل على أن الأعيان ليست كذلك بل هذا يحتاج إلى تنقيح المناط فينظر ما حكم لأجله إن وجد في غير محله حكمه عدي إليه. وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ: "أن المرأة إذا أقامت شاهدا واحدا على الطلاق فإن حلف الزوج أنه لم يطلق لم يقض عليه وإن لم يحلف حلفت المرأة ويقضي عليه" وقد احتج الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبة بصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولا يعرف في أئمة الفتوى إلا من احتاج إليها واحتج بها وإنما طعن فيها من لم يتحمل أعباء الفقه والفتوى كأبي حاتم البستي وابن حزم وغيرهما وفي هذه الحكومة أنه يقضي في الطلاق بشاهد وما يقوم مقام شاهد آخر من النكول ويمين المرأة بخلاف ما إذا أقامت شاهدا واحدا وحلف الزوج أنه لم يطلق فيمين الزوج عارضت شهادة الشاهد وترجح جانبه بكون الأصل معه وأما إذا نكل الزوج فإنه يجعل نكوله مع يمين المرأة كشاهد آخر ولكن هنا لم يقض بالشاهد ويمين المرأة ابتداء لأن الرجل أعلم بنفسه هل طلق أم لا وهو أحفظ لما وقع منه فإذا نكل وقام الشاهد الواحد وحلفت المرأة كان ذلك دليلا ظاهرا جدا على صدق المرأة. فإن قيل: ففي الأموال إذا قام شاهد وحلف المدعي حكم له ولا تعرض اليمين على المدعي عليه وفي حديث عمرو بن شعيب: "إذا شهد الشاهد الواحد وحلف الزوج أنه لم يطلق لم يحكم عليه". قيل: هذا من تمام حكمة هذه الشريعة وجلالتها أن الزوج لما كان أعلم بنفسه هل طلق أم لا وكان أحفظ لما وقع منه وأعقل له وأعلم بينته وقد يكون قد تكلم بلفظ مجمل أو بلفظ يظنه الشاهد طلاقا وليس بطلاق والشاهد يشهد بما سمع والزوج أعلم بقصده ومراده جعل الشارع يمين الزوج معارضة لشهادة الشاهد الواحد ويقوي جانبه الأصل واستصحاب النكاح فكان الظن المستفاد من ذلك أقوى من الظن المستفاد من مجرد الشاهد الواحد فإذا نكل قوي الأصل في صدق الشاهد فقاوم ما في جانبه الزوج فقواه الشارع بيمين المرأة فإذا حلفت مع شاهدها ونكول الزوج قوي جانبها جدا فلا شيء أحسن ولا أبين ولا أعدل من هذه الحكومة وأما المال المشهود به فإن المدعي إذا قال أقرضته أو بعته أو أعرته أو قال غصبني أو نحو ذلك فهذا الأمر لا يختص بمعرفته المطلوب ولا يتعلق بنيته وقصده وليس مع المدعى عليه من شواهد صدقه ما مع الزوج من بقاء عصمة النكاح وإنما معه مجرد براءة الذمة وقد عهد كثرة اشتغالها بالمعاملات فقوى الشاهد الواحد والنكول أو يمين الطالب على رفعها فحكم له فهذا كله مما يبين حكمة الشارع وأنه يقضي بالبينة التي تبين الحق وهي الدليل الذي يدل عليه والشاهد الذي يشهد به بحسب الإمكان بل الحق أن الشاهد الواحد إذا ظهر صدقه حكم بشهادته وحده وقد أجاز النبي ﷺ شهادة الشاهد الواحد لأبي قتادة بقتل المشرك ودفع إليه سلبه بشهادته وحده ولم يحلف أبا قتادة فجعله بينة تامة وأجاز شهادة خزيمة بن ثابت وحده بمبايعته للأعرابي وجعل شهادته بشهادتين لما استندت إلى تصديقه ﷺ بالرسالة المتضمنة تصديقه في كل ما يخبر به فإذا شهد المسلمون بأنه صادق في خبره عن الله فبطريق الأولى يشهدون أنه صادق عن رجل من أمته ولهذا كان من تراجم بعض الأئمة على حديثه: "الحكم بشهادة الشاهد الواحد إذا عرف صدقه". اليمين على أقوى المتداعيين والذي جاءت به الشريعة أن اليمين تشرع من جهة أقوى المتداعيين فأي الخصمين ترجح جانبه جعلت اليمين من جهته وهذا مذهب الجمهور كأهل المدينة وفقهاء الحديث كالإمام أحمد والشافعي ومالك وغيرهم وأما أهل العراق فلا يحلفون إلا المدعي عليه وحده فلا يجعلون اليمين إلا من جانبه فقط وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه والجمهور يقولون قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قضى بالشاهد واليمين وثبت عنه أنه عرض الأيمان في القسامة على المدعين أولا فلما أبو جعلها من جانب المدعى عليهم وقد جعل الله سبحانه أيمان اللعان من جانب الزوج أولا فإذا نكلت المرأة عن معارضة أيمانه وجب عليها العذاب بالحد وهو العذاب المذكور في قوله وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين فإن المدعي لما ترجح جانبه بالشاهد الواحد شرعت اليمين من جهته وكذلك أولياء الدم ترجح جانبهم باللوث فشرعت اليمين من جهتهم وأكدت بالعدد تعظيما لخطر النفس وكذلك الزوج في اللعان جانبه أرجح من جانب المرأة قطعا فإن إقدامه على إتلاف فراشه ورميها بالفاحشة على رءوس الأشهاد وتعريض نفسه لعقوبة الدنيا والآخرة وفضيحة أهله ونفسه على رءوس الأشهاد مما يأباه طباع العقلاء وتنفر عنه نفوسهم لولا أن الزوجة اضطرته بما رآه وتيقنه منها إلى ذلك فجانبه أقوى من جانب المرأة قطعا فشرعت اليمين من جانبه ولهذا كان القتل في القسامة واللعان وهو قول أهل المدينة فأما فقهاء العراق فلا يقتلون لا بهذا ولا بهذا وأحمد يقتل بالقسامة دون اللعان والشافعي يقتل باللعان دون القسامة وليس في شيء من هذا ما يعارض الحديث الصحيح وهو قوله ﷺ لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه فإن هذا إذا لم يكن مع المدعي إلا مجرد الدعوى فإنه لا يقضى له بمجرد الدعوى فأما إذا ترجح جانبه بشاهد أو لوث أو غيره لم يقض له بمجرد دعواه بل بالشاهد المجتمع من ترجيح جانبه ومن اليمين وقد حكم سليمان بن داود عليه السلام لإحدى المرأتين بالولد لترجح جانبها بالشفقة على الولد وإيثارها لحياته ورضى الأخرى بقتله ولم يلتفت إلى إقرارها للأخرى به وقولها: "هو ابنها" ولهذا كان من تراجم الأئمة على هذا الحديث: "التوسعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل" ليستبين به الحق ثم ترجم ترجمة أخرى أحسن من هذه وأفقه فقال: "الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم له إذا تبين للحاكم أن الحق غير ما اعترف به" فهكذا يكون فهم الأئمة من النصوص واستنباط الأحكام التي تشهد العقول والفطر بها منها ولعمر الله إن هذا هو العلم النافع لا خرص الآراء وتخمين الظنون. فإن قيل: ففي القسامة يقبل مجرد أيمان المدعين ولا تجعل أيمان المدعى عليهم بعد أيمانهم دافعة للقتل وفي اللعان ليس كذلك بل إذا حلف الزوج مكنت المرأة أن تدفع عن نفسها بأيمانها ولا تقتل بمجرد أيمان الزوج فما الفرق. قيل: هذا من كمال الشريعة وتمام عدلها ومحاسنها فإن المحلوف عليه في القسامة حق لآدمي وهو استحقاق الدم وقد جعلت الأيمان المكررة بينة تامة مع اللوث فإذا قامت البينة لم يلتفت إلى أيمان المدعى عليه وفي اللعان المحلوف عليه حق لله وهو حد الزنا ولم يشهد به أربعة شهود وإنما جعل الزوج أن يحلف أيمانا مكررة ومؤكدة باللعنة أنها جنت على فراشه وأفسدته فليس له شاهدا إلا نفسه وهي شهادة ضعيفة فمكنت المرأة أن تعارضها بإيمان مكررة مثلها فإذا نكلت ولم تعارضه صارت أيمان الزوج مع نكولها بينة قوية لا معارض لها ولهذا كانت الأيمان أربعة لتقوم مقام الشهود الأربعة وأكدت بالخامسة هي الدعاء على نفسه باللعنة إن كان كاذبا ففي القسامة جعل اللوث وهو الأمارة الظاهرة الدالة على أن المدعى عليهم قتلوه شاهدا وجعلت الخمسين يمينا شاهدا آخر وفي اللعان جعلت أيمان الزوج كشاهد ونكولها كشاهد آخر. ثبوت الحقوق بأي دليل والمقصود أن الشارع لم يقف الحكم في حفظ الحقوق البتة على شهادة ذكرين لا في الدماء ولا في الأموال ولا في الفروج ولا في الحدود بل قد حد الخلفاء الراشدون والصحابة رضي الله عنهم في الزنا بالحبل وفي الخمر بالرائحة والقيء وكذلك إذا وجد المسروق عند السارق كان أولى بالحد من ظهور الحبل والرائحة في الخمر وكل ما يمكن أن يقال في ظهور المسروق أمكن أن يقال في الحبل والرائحة بل أولى فإن الشبهة التي تعرض في الحبل من الإكراه ووطء الشبهة وفي الرائحة لا يعرض مثلها في ظهور العين المسروقة والخلفاء الراشدون والصحابة رضي الله عنهم لم يلتفتوا إلى هذه الشبهة التي تجويز غلط الشاهد ووهمه وكذبه أظهر منها بكثير فلو عطل الحد بها لكان تعطيله بالشبهة التي تمكن في شهادة الشاهدين أولى فهذا محض الفقه والاعتبار ومصالح العباد وهو من اعظم الأدلة على جلالة فقه الصحابة وعظمته ومطابقته لمصالح العباد وحكمة الرب وشرعه وأن التفاوت الذي بين أقوالهم وأقوال من بعدهم كالتفاوت الذي بين القائلين. حكم الحاكم بما يترجح الحق به والمقصود أن الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله لم يرد خبر العدل قط لا في رواية ولا في شهادة بل قبل خبر العدل الواحد في كل موضع أخبر به كما قبل شهادته لأبي قتادة بالقتيل وقبل شهادة خزيمة وحده وقبل شهادة الأعرابي وحده على رؤية هلال رمضان وقبل شهادة الأمة السوداء وحدها على الرضاعة وقبل خبر تميم وحده وهو خبر عن أمر حسي شاهده ورآه فقبله ورواه عنه ولا فرق بينه وبين الشهادة فإن كلا منهما على أمر مستند إلى الحس والمشاهدة فتميم شهد بما رآه وعاينه وأخبر به النبي ﷺ فصدقه وقبل خبره فأي فرق بين أن يشهد العدل الواحد على أمر رآه وعاينه يتعلق بمشهود له وعليه وبين أن يخبر بما رآه وعاينه مما يتعلق بالعموم وقد أجمع المسلمون على قبول أذان المؤذن الواحد وهو شهادة منه بدخول الوقت وخبر عنه يتعلق بالمخبر وغيره وكذلك أجمعوا على قبول فتوى المفتي الواحد وهي خبر عن حكم شرعي يعم المستفتي وغيره. لا يلزم التعدد في الحكم كلزومه في التحمل وسر المسألة أن لا يلزم من الأمر بالتعدد في جانب التحمل وحفظ الحقوق الأمر بالتعدد في جانب الحكم والثبوت فالخبر الصادق لا تأتي الشريعة برده أبدا وقد ذم الله في كتابه من كذب بالحق ورد الخبر الصادق تكذيب بالحق وكذلك الدلالة الظاهرة لا ترد إلا بما هو مثلها أو أقوى منها والله سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق بل بالتثبيت والتبيين فإن ظهرت الأدلة على صدقه قبل خبره وإن ظهرت الأدلة على كذبه رد خبره وإن لم يتبين واحد من الأمرين وقف خبره وقد قبل النبي ﷺ خبر الدليل المشترك الذي استأجره ليدله على طريق المدينة في هجرته لما ظهر له صدقه وأمانته فعلى المسلم أن يتبع هدى النبي ﷺ في قبول الحق ممن جاء به من ولي وعدو وحبيب وبغيض وبر وفاجر ويرد الباطل على من قاله كائنا من كان قال عبد الله ابن صالح ثنا الليث بن سعد عن ابن عجلان عن ابن شهاب أن معاذ بن جبل كان يقول في مجلسه كل يوم قلما يخطئه أن يقول ذلك الله حكم قسط هلك المرتابون إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول: قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى ابتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة وإياكم وزيغة الحكيم فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة وإن المنافق قد يقول كلمة الحق فتلقوا الحق عن ما جاء به فإن على الحق نورا قالوا: وكيف زيغة الحكيم؟ قال: هي الكلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذا فاحذروا زيغته ولا يصدنكم عنه فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة. ما يجب على الحاكم وما يشترط فيه والمقصود أن الحاكم يحكم بالحجة التي ترجح الحق إذا لم يعارضها مثلها والمطلوب منه ومن كل من يحكم بين اثنين أن يعلم ما يقع ثم يحكم فيه بما يجب فالأول مداره على الصدق والثاني مداره على العدل وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا والله عليم حكيم. فالبينات والشهادات تظهر لعباده معلومة وبأمره وشرعه يحكم بين عباده والحكم إما إبداء وإما إنشاء فالإبداء إخبار وإثبات وهو شهادة والإنشاء أمر ونهي وتحليل وتحريم والحاكم فيه ثلاث صفات فمن جهة الإثبات هو شاهد ومن جهة الأمر والنهي هو مفت ومن جهة الإلزام بذلك هو ذو سلطان وأقل ما يشترط فيه صفات الشاهد باتفاق العلماء لأنه يجب عليه الحكم بالعدل وذلك يستلزم أن يكون عدلا في نفسه فأبو حنيفة لا يعتبر إلا العدالة والشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يعتبرون معها الاجتهاد وأحمد يوجب تولية الأصلح فالأصلح من الموجودين وكل زمان بحسبه فيقدم الأدين العدل على الأعلم الفاجر وقضاة السنة على قضاة الجهمية وإن كان الجهمي أفقه ولما سأله المتوكل عن القضاة أرسل إليه درجا مع وزيره يذكر فيه تولية أناس وعزل أناس وامسك عن أناس وقال: لا أعرفهم وروجع في بعض من سمي لقلة علمه فقال: لو لم يولوه لولوا فلانا وفي توليته مضرة على المسلمين وكذلك أمر أن يولى على الأموال الدين السني دون الداعي إلى التعطيل لأنه يضر الناس في دينهم وسئل عن رجلين أحدهما أنكى في العدو مع شربه الخمر والآخر أدين فقال: يغزى مع الأنكى في العدو لأنه أنفع للمسلمين وبهذا مضت سنة رسول الله ﷺ فإنه كان يولي الأنفع للمسلمين على من هو أفضل منه كما ولى خالد بن الوليد من حين أسلم على حروبه لنكايته في العدو وقدمه على بعض السابقين من المهاجرين والأنصار مثل عبد الرحمن بن عوف وسالم مولى أبي حذيفة وعبد الله ابن عمر وهؤلاء ممن أنفق من قبل الفتح وقاتل وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وخالد وكان ممن أنفق بعد الفتح وقاتل فإنه أسلم بعد صلح الحديبية هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة الحجي ثم إنه فعل مع بني جذيمة ما تبرأ النبي ﷺ منه حين رفع يديه إلى السماء وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" ومع هذا فلم يعزله وكان أبو ذر من أسبق السابقين وقال له: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن علي اثنين ولا تولين مال يتيم" وأمر عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل لأنه كان يقصد أخوله بني عذرة فعلم أنهم يطيعونه ما لا يطيعون غيره للقرابة وأيضا فلحسن سياسة عمرو وخبرته وذكائه ودهائه فإنه كان من أدهى العرب ودهاة العرب أربعة هو أحدهم ثم أردفه بأبي عبيدة وقال: "تطاوعا ولا تختلفا" فلما تنازعا فيمن يصلي سلم أبو عبيدة لعمرو فكان يصلي بالطائفتين وفيهم أبو بكر وأمر أسامة بن زيد مكان أبيه لأنه مع كونه خليقا للإمارة أحرص على طلب ثأر أبيه من غيره وقدم أباه زيدا في الولاية على جعفر ابن عمه مع أنه مولى ولكنه من أسبق الناس إسلاما قبل جعفر ولم يلفت إلى طعن الناس في إمارة أسامة وزيد وقال: "إن تطعنوا في إمارة أسامة فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل وأيم الله إن كان خليقا للإمارة ومن أحب الناس إلي" وأمر خالد بن سعيد بن العاص وإخوته لأنهم من كبراء قريش وساداتهم ومن السابقين الأولين ولم يتول أحد بعده. والمقصود أن هديه ﷺ تولية الأنفع للمسلمين وإن كان غيره أفضل منه والحكم بما يظهر الحق ويوضحه إذا لم يكن هناك أقوى منه يعارضه فسيرته تولية الأنفع والحكم بالأظهر ولا يستطل هذا الفصل فإنه من أنفع فصول الكتاب. شروط الصلح بين المسلمين وقوله: "والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا" هذا مروي عن النبي ﷺ رواه الترمذي وغيره من حديث عمرو بن عوف المزني أن رسول الله ﷺ قال: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما" والمسلمون على شرطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما قال الترمذي هذا حديث صحيح وقد ندب الله سبحانه وتعالى إلى الصلح بين الطائفتين في الدماء فقال: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما" وندب الزوجين إلى الصلح عند التنازع في حقوقهما فقال {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وقال تعالى {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وأصلح النبي ﷺ بين بني عمرو بن عوف لما وقع بينهم ولما تنازع كعب ابن مالك وابن أبي حدرد في دين على ابن أبي حدرد أصلح النبي ﷺ بأن استوضع من دين كعب الشطر وغريمه بقضاء الشطر وقال لرجلين اختصما عنده: "اذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما ثم ليحلل كل منكما صاحبه" وقال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم وإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" وجوز في دم العمد أن يأخذ أولياء القتيل ما صولحوا عليه ولما استشهد عبد الله ابن حرام الأنصاري والد جابر وكان عليه دين سأل النبي ﷺ غرماءه أن يقبلوا ثمر حائطه ويحللوا أباه وقال عطاء عن ابن عباس: "أنه كان لا يرى بأسا بالمخارجة" يعني الصلح في الميراث وسميت المخارجة لأن الوارث يعطي ما يصالح عليه ويخرج نفسه من الميراث وصولحت امرأة عبد الرحمن ابن عوف من نصيبها من ربع الثمن على ثمانين ألفا وقد روى مسعر عن أزهر عن محارب قال: قال عمر: "ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن" وقال عمر أيضا: "ردوا الخصوم لعلهم أن يصطلحوا فإنه آثر للصدق وأقل للخيانة" وقال عمر أيضا: "ردوا الخصوم إذا كانت بينهم قرابة فإن فصل القضاء يورث بينهم الشنآن". فصل الحقوق نوعان والحقوق نوعان: حق الله وحق الآدمي فحق الله لا مدخل للصلح فيه كالحدود والزكوات والكفارات ونحوها وإنما الصلح بين العبد وبين ربه في إقامتها لا في إهمالها ولهذا لا يقبل بالحدود وإذا بلغت السلطان فلعن الله الشافع والمشفع. وأما حقوق الآدميين فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عليها والصلح العادل هو الذي أمر الله به ورسوله ﷺ كما قال: "فأصلحوا بينهما بالعدل" والصلح الجائر هو الظلم بعينه وكثير من الناس لا يعتمد العدل في الصلح بل يصلح صلحا ظالما جائرا فيصالح بين الغريمين على دون الطفيف من حق أحدهما والنبي ﷺ صالح بين كعب وغريمه وصالح أعدل الصلح فأمره أن يأخذ الشطر ويدع الشطر وكذلك لما عزم على طلاق سودة رضيت بأن تهب له ليلتها وتبقي على حقها من النفقة والكسوة فهذا أعدل الصلح فإن الله سبحانه أباح للرجل أن يطلق زوجته ويستبدل بها غيرها فإذا رضيت بترك بعض حقها وأخذ بعضه وأن يمسكها كان هذا من الصلح العادل وكذلك أرشد الخصمين اللذين كانت بينهما المواريث بأن يتوخيا الحق بحسب الإمكان ثم يحلل كل منهما صاحبه وقد أمر الله سبحانه بالإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين أولا فإن بغت إحداهما على الأخرى فحينئذ أمر بقتال الباغية لا بالصلح فإنها ظالمة ففي الإصلاح مع ظلمها هضم لحق الطائفة المظلومة وكثير من الظلمة المصلحين يصلح بين القادر الظالم والخصم الضعيف المظلوم بما يرضى به القادر صاحب الجاه ويكون له فيه الحظ ويكون الإغماض والحيف فيه على الضعيف ويظن أنه قد أصلح ولا يمكن المظلوم من أخذ حقه وهذا ظلم بل يكمن المظلوم من استيفاء حقه ثم يطلب إليه برضاه أن يترك بعض حقه يغير محاباة لصاحب الجاه ولا يشتبه بالإكراه للآخر بالمحاباة ونحوها. فصل الصلح نوعان والصلح الذي يحل الحرام ويحرم الحلال كالصلح الذي يتضمن تحريم بضع حلال أو إحلال بضع حرام أو إرقاق حر أو نقل نسب أو ولاء عن محل إلى محل أو أكل ربا أو إسقاط واجب أو تعطيل حد أو ظلم ثالث وما أشبه ذلك فكل هذا صلح جائر مردود. فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى الله سبحانه ورضى الخصمين فهذا أعدل الصلح وأحقه وهو يعتمد العلم والعدل فيكون المصلح عالما بالوقائع عارفا بالواجب قاصدا للعدل فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم كما قال النبي ﷺ: "ألا أنبئنكم بأفضل من درجة الصائم القائم قالوا: بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين الحالقة أما إني أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين" وقد جاء في أثر أصلحوا بين الناس فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة وقد قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. فصل سلطة القاضي في تأجيل الحكم وقوله: "من ادعى حقا غائبا أو بينة فاضرب له أمدا ينتهي إليه" هذا من تمام العدل فإن المدعي قد تكون حجته أو بينته غائبة فلو عجل عليه بالحكم بطل حقه فإذا سأل أمدا تحضر فيه حجته أجيب إليه ولا يتقيد ذلك بثلاثة أيام بل بحسب الحاجة فإن ظهر عناده ومدافعته للحاكم لم يضرب له أمدا بل يفصل الحكومة فإن ضرب هذا الأمد إنما كان لتمام العدل فإذا كان فيه إبطال للعدل لم يجب إليه الخصم. الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل وقوله: "ولا يمنعنك قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق فإن الحق قديم ولا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل" يريد إذا اجتهدت في حكومة ثم وقعت لك مرة أخرى فلا يمنعك الاجتهاد الأول من إعادته فإن الاجتهاد قد يتغير ولا يكون الاجتهاد الأول مانعا من العمل بالثاني إذا ظهر أنه الحق فإن الحق أولى بالإيثار لأنه قديم ساق على الباطل فإن كان الاجتهاد الأول قد سبق الثاني والثاني هو الحق فهو أسبق من الاجتهاد الأول لأنه قديم سابق على ما سواه ولا بيطله وقوع الاجتهاد الأول على خلانه بل الرجوع إليه أولى من التمادي على الاجتهاد الأول. قال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن سماك بن الفضل عن وهب بن منبه عن الحكم بن مسعود القفي قال: "قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأخويها لأبيها وأمها وأخويها لأمها فأشرك عمر بين الإخوة للأم والأب والإخوة للأم في الثلث فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا قال عمر: "تلك ما قضينا يومئذ وهذه على ما قضينا اليوم" فأخذ أمير المؤمنين في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني ولم ينقض الأول بالثاني فجرى أئمة الإسلام بعده على هذين الأصلين. متى ترد شهادة المسلم قوله: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربا عليه شهادة زور أو مجلودا في حد أو ظنينا في ولاء أو قرابة" لما جعل الله سبحانه هذه الأمة أمة وسطا ليكون شهداء على الناس والوسط العدل الخيار كانوا عدولا بعضهم على بعض إلا من قام به مانع الشهادة وهو أن يكون قد جرب عليه شهادة الزور فلا يوثق بعد ذلك بشهادته أو من جلد في حد لأن الله سبحانه نهى عن قبول شهادته أو متهم بأن يجر إلى نفسه نفعا من المشهود له كشهادة السيد لعتيقه بمال أو شهادة العتيق لسيده إذا كان في عياله أو منقطعا إليه يناله نفعه وكذلك شهادة القريب لقريبه لا تقبل مع التهمة وتقبل بدونها هذا هو الصحيح. الاختلاف في شهادة الأقارب وقد اختلف الفقهاء في ذلك: فمنهم من جوز شهادة القريب لقريبه مطلقا كالأجنبي ولم يجعل القرابة مانعة من الشهادة بحال كما يقوله أبو محمد بن حزم وغيره من أهل الظاهر وهؤلاء يحتجون بالعمومات التي لا تفرق بين أجنبي وقريب وهؤلاء أسعد بالعمومات ومنعت طائفة شهادة الأصول للفروع والفروع للأصول خاصة وجوزت شهادة سائر الأقارب بعضهم لبعض وهذا مذهب الشافعي وأحمد وليس مع هؤلاء نص صريح صحيح بالمنع. واحتج الشافعي بأنه لو قبلت شهادة الأب لابنه لكانت شهادة منه لنفسه لأنه منه وقد قال النبي ﷺ: "إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها" قالوا: "وكذلك بنو البنات فقد قال النبي ﷺ في الحسن: "إن ابني هذا سيد" قال الشافعي: "فإذا شهد له فإنما يشهد لشيء منه" قال: وبنوه هم منه فكأنه شهد لبعضه قالوا: "والشهادة ترد بالتهمة والوالد متهم في ولده فهو ظنين في قرابته" قالوا: "وقد قال النبي ﷺ في الأولاد: "إنكم لتبخلون وتجبنون وإنكم لمن ريحان الله" وفي أثر آخر: "الولد مبخلة مجبنة" قالوا: وقد قال النبي ﷺ: "أنت ومالك لأبيك" فإذا كان مال الابن لأبيه فإذا شهد له الأب بمال كان قد شهد به لنفسه قالوا: وقد قال أبو عبيد: ثنا جرير عن معاوية عن يزيد الجزري قال: أحسبه يزيد بن سنان قال الزهري: عن عروة عن عائشة عن النبي ﷺ قال: "لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ظنين في ولاء أو قرابة أو مجلود" قالوا: ولأن بينهما من البعضية والجزئية ما يمنع قبول الشهادة كما منع من إعطائه من الزكاة ومن قتله بالولد وحده بقذفه قالوا ولهذا لا يثبت له في ذمته دين عند جماعة من أهل العلم ولا يطالب به ولا يحبس من أجله قالوا: وقد قال تعالى {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} ولم يذكر بيوت الأبناء لأنها داخلة في بيوتهم أنفسهم فاكتفى بذكرها دونها وإلا فبيوتهم أقرب من بيوت من ذكر في الآية قالوا: وقد قال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} أي ولدا فالولد جزء فلا تقبل شهادة الرجل في جزئه. قالوا: وقد قال ﷺ: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" فكيف يشهد الرجل لكسبه؟ قالوا والإنسان متهم في ولده مفتون به كما قال تعالى {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} فكيف تقبل شهادة المرء لمن قد جعل مفتونا به والفتنة محل التهمة. فصل قال الآخرون: قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُون} وقال تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وقد قال تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقد قال تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ولا ريب في دخول الآباء والأبناء والأقارب في هذا اللفظ كدخول الأجانب وتناولها للجميع بتناول واحد هذا مما لا يمكن دفعه ولم يستثن الله سبحانه ولا رسوله من ذلك أبا ولا ولدا ولا أخا ولا قرابة ولا أجمع المسلمون على استثناء أحد من هؤلاء فتلزم الحجة بإجماعهم. وقد ذكر عبد الرزاق عن أبي بكر بن أبي سبرة عن أبي الزناد عن عبد الله ابن عامر بن ربيعة قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده والأخ لأخيه" وعن عمرو بن سليم الزرقي عن سعيد بن المسيب مثل هذا. وقال ابن وهب: ثنا يونس عن الزهري قال: "لم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده ولا الوالد لوالده ولا الأخ لأخيه ولا الزوج لامرأته ثم دخل الناس بعد ذلك فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من قرابة وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان". وقال أبو عبيد حدثني الحسن بن عازب عن جده شبيب بن غرقدة قال: "كنت جالس عند شريح فأتاه علي بن كاهل وامرأة وخصم فشهد لها علي ابن كاهل وهو زوجها وشهد لها أبوها فأجاز شريح شهادتهما فقال الخصم: هذا أبوها وهذا زوجها فقال له شريح: أتعلم شيئا تجرح به شهادتهما؟ كل مسلم شهادته جائزة". وقال عبد الرزاق: ثنا سفيان بن عيينة عن شبيب بن غرقدة قال: "سمعت شريحا أجاز لامرأة شهادة أبيها وزجها فقال له الرجل: إنه أبوها وزوجها قال شريح: فمن يشهد للمرأة إلا أبوها وزوجها؟ وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا شبابة عن ابن أبي ذئب عن سليمان قال: "شهدت لأمي عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فقضى بشهادتي". وقال عبد الرزاق: ثنا معمر عن عبد الرحمن بن عبد الله الأنصاري قال: "أجاز عمر بن عبد العزيز شهادة الابن لأبيه إذا كان عدلا". قالوا: فهؤلاء عمر بن الخطاب وجميع السلف وشريح وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يجيزون شهادة الابن لأبيه والأب لابنه قال ابن حزم: وبهذا يقول إياس بن معاوية وعثمان البتي وإسحاق بن راهويه وأبو ثور والمزني وأبو سليمان وجميع أصحابنا يعني داود بن علي وأصحابه. وقد ذكر الزهري أن الذين ردوا شهادة الابن لأبيه والأخ لأخيه هم المتأخرون وأن السلف الصالح لم يكونا يردونها. قالوا: وأما حجتكم على المنع فمدارها على شيئين: أحدهما: البعضية التي بين الأب وابنه وأنها توجب أن تكون شهادة أحدهما للآخر شهادة لنفسه وهذه حجة ضعيفة فإن هذه البعضية لا توجب أن تكون كبعضه في الأحكام لا في أحكام الدنيا ولا في أحكام الثواب والعقاب فلا يلزم من وجوب شيء على أحدهما أو تحريمه وجوبه على الآخر وتحريمه من جهة كونه بعضه ولا من وجوب الحد على أحدهما وجوبه على الآخر وقد قال النبي ﷺ: "لا يجني والد على ولده" فلا يجني عليه ولا يعاقب بذنبه ولا يثاب بحسناته ولا يجب عليه الزكاة ولا الحج بغنى الآخر ثم قد أجمع الناس على صحة بيعه منه وإجارته ومضاربته ومشاركته فلو امتنعت شهادته له لكونه جزءه فيكون شاهدا لنفسه لامتنعت هذه العقود إذ يكون عاقدا لها مع نفسه. فإن قلتم: هو متهم بشهادته له بخلاف هذه العقود فإنه لا يتهم فيها معه. قيل: هذا عود منكم إلى المأخذ الثاني وهو مأخذ التهمة فيقال: التهمة وحدها مستقلة بالمنع سواء كان قريبا أو أجنبيا ولا ريب أن تهمة الإنسان في صديقه وعشيره ومن يعينه مودته ومحبته أعظم من تهمته في أبيه وابنه والواقع شاهد بذلك وكثير من الناس يحابي صديقه وعشيره وذا وده أعظم مما يحابي أباه وابنه. فإن قلتم: الاعتبار بالمظنة وهي التي تنضبط بخلاف الحكمة فإنها لانتشارها وعدم انضباطها لا يمكن التعليل بها. قيل: هذا صحيح في الأوصاف التي شهد لها الشرع بالاعتبار وعلق بها الأحكام دون م مظانها فأين علق الشارع عدم قبول الشهادة بوصف الأبوة أو النبوة أو الأخوة؟ والتابعون إنما نظروا إلى التهمة فهي الوصف المؤثر في الحكم فيجب تعليق الحكم به وجودا وعدما ولا تأثير لخصوص القرابة ولا عمومها بل قد توجد القرابة حيث لا تهمة وتوجد التهمة حيث لا قرابة والشارع إنما علق قبول الشهادة بالعدالة وكون الشاهد مرضيا وعلق عدم قبولها بالفسق ولم يعلق القبول والرد بأجنبية ولا قرابة. قالوا: وأما قولكم: "إنه غير متهم معه في تلك العقود" فليس كذلك بل هو متهم معه في المحاباة ومع ذلك فلا يوجب ذلك إبطالها ولهذا لو باعه في مرض موته ولم يحابه لم يبطل البيع ولو حاباه بطل في قدر المحاباة فعلق البطلان بالتهمة لا بمظنته. قالوا: وأما قوله ﷺ: "أنت ومالك لأبيك" فلا يمنع شهادة الابن لأبيه فإن الأب ليس هو ماله لابنه ولا يدل الحديث على عدم قبول شهادة أحدهما للآخر والذي دل عليه الحديث أكثر منازعينا لا يقولون به بل عندهم أن مال الابن له حقيقة وحكما وأن الأب لا يتملك عليه منه شيئا والذي لم يدل عليه الحديث حملتوه إياه والذي دل عليه لم تقولوا به ونحن نتلقى أحاديث رسول الله ﷺ كلها بالقبول والتسليم ونستعملها في وجوهها ولم دل قوله: "أنت ومالك لأبيك" على أن لا تقبل شهادة الولد لوالده ولا الوالد لولده لكنا أول ذاهب إلى ذلك ولما سبقتمونا إليه فأين موضع الدلالة واللام في الحديث ليست للملك قطعا وأكثرهم يقول ولا للإباحة إذ لا يباح مال الابن لأبيه ولهذا فرق بعض السلف فقال: تقبل شهادة الابن لأبيه ولا تقبل شهادة الأب لابنه وهو إحدى الروايتين عن الحسن والشعبي ونص عليه أحمد في رواية عنه ومن يقول هي للإباحة أسعد بالحديث وإلا تعطلت فائدته ودلالته ولا يلزم من إباحة أخذه ما شاء من ماله أن لا تقبل شهادته له بحال مع القطع أو ظهور انتفاء التهمة كما لو شهد له بنكاح أو حد أو مالا تلحقه به تهمة. قالوا: وأما كونه لا يعطى من زكاته ولا يقاد به ولا يحد به ولا يثبت له في ذمته دين ولا يحبس به فالاستدلال إنما يكون بما ثبت بنص أو إجماع وليس معكم شيء من ذلك فهذه مسائل نزاع لا مسائل إجماع ولو سلم ثبوت الحكم فيها أو في بعضها لم يلزم منه عدم قبول شهادة أحدهما للآخر حيث تنتفي التهمة ولا تلازم بين قبول الشهادة وجريان القصاص وثبوت الدين له في ذمته لا عقلا ولا شرعا فإن تلك الأحكام اقتضتها الأبوة التي تمنع من مساواته للأجنبي في حده وإقادته معه وحبسه بدينه فإن منصب أبوته يأبى ذلك وقبحه مركوز في فطر الناس وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه قبيح فهو عند الله قبيح وأما الشهادة فهي خبر يعتمد الصدق والعدالة فإذا كان المخبر به صادقا مبرزا في العدالة غير متهم في الأخبار فليس قبول قوله قبيحا عند المسلمين ولا تأتي الشريعة برد خبر المخبر به واتهامه. قالوا: والشريعة مبناها على تصديق الصادق وقبول خبره وتكذيب الكاذب والتوقف في خبر الفاسق المتهم فهي لا ترد حقا ولا تقبل باطلا. قالوا: وأما حديث عائشة فلو ثبت لم يكن فيه دليل فإنه إنما يدل على عدم قبول شهادة المتهم في قرابته أو ذي ولاية ونحن لا نقبل شهادته إذا ظهرت تهمته ثم منازعونا لا يقولون بالحديث فإنهم لا يردون شهادة كل قرابة والحديث ليس فيه تخصيص لقرابة الإيلاد بالمنع وإنما فيه تعليق المنع بتهمة القرابة فألغيتم وصف التهمة وخصصتم وصف القرابة بفرد منها فكنا نحن أسعد بالحديث منكم وبالله التوفيق. وقد قال محمد بن الحكم: إن أصحاب مالك يجيزون شهادة الأب والابن والأخ والزوج والزوجة على أنه وكل فلانا ولا يجيزون شهادتهم أن فلانا وكله لأن الذي يوكل لا يتهمان عليه في شيء. وأما شهادة الأخ لأخيه فالجمهور يجيزونها وهو الذي في التهذيب من رواية ابن القاسم عن مالك إلا أن يكون في عياله وقال بعض المالكية: "لا تجوز إلا على شرط" ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: "هو أن يكون مبرزا في العدالة" وقال بعضهم: "إذا لم تنله صلته" وقال أشهب: "تجوز في اليسير دون الكثير فإن كان مبرزا جاز في الكثير" وقال بعضهم: "تقبل مطلقا إلا فيما تصح فيه التهمة مثل أن يشهد له بما يكسب به الشاهد شرفا وجاها". والصحيح أنه تقبل شهادة الابن لأبيه والاب لبنه فيما لا تهمة فيه ونص عليه أحمد فعنه في المسألة ثلاث روايات المنع والقبول فيما لا تهمة فيه والتفريق بين شهادة الابن لأبيه فتقبل وشهادة الأب لابنه فلا تقبل واختار ابن المنذر القبول كالأجنبي. وأما شهادة أحدهما على الآخر فنص الإمام أحمد على قبولها وقد دل عليه القرآن في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}. وقد حكى بعض أصحاب محمد عنه رواية ثانية أنها لا تقبل قال صاحب المغني ولم أجد في الجامع يعني جامع الخلال خلافا عن أحمد أنها تقبل وقال بعض الشافعية: "لا تقبل شهادة الابن على أبيه في قصاص ولا حد قذف" قال: "لأنه لا يقتل بقتله ولا يحد بقذفه وهذا قياس ضعيف جدا فإن الحد والقتل في صورة المنع لكون المستحق هو الابن وهنا المستحق أجنبي". ومما يدل على أن احتمال التهمة بين الولد ووالده لا يمنع قبول الشهادة أن شهادة الوارث لمورثه جائزة بالمال وغيره ومعلوم أن تطرق التهمة إليه مثل تطرقها إلى الولد والوالد وكذلك شهادة الابنين على أبيهما بطلاق ضرة أمهما جائزة مع أنها شهادة للأم ويتوفر حظها من الميراث ويخلو لها وجه الزوج ولم ترد هذه الشهادة باحتمال التهمة فشهادة الولد لوالده وعكسه بحيث لا تهمة هناك أولى بالقبول وهذا هو القبول الذي ندين الله به وبالله التوفيق. فصل شهادة الزور وقوله: "إلا مجربا عليه شهادة الزور" يدل على أن المرة الواحدة من شهادة الزور تستقل برد الشهادة وقد قرن الله سبحانه في كتابه بين الإشراك وقول الزور قال تعالى {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وفي الصحيحين أيضا عن النبي ﷺ: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله قال: الشرك بالله ثم عقوق الوالدين وكان متكئا فجلس ثم قال: ألا وقول الزور ألا وقول الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت" وفي الصحيحين عن أنس عن النبي ﷺ: "أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقول الزور". الكذب كبيرة ولا خلاف بين المسلمين أن شهادة الزور من الكبائر واختلف الفقهاء في الكذب في غير الشهادة هل هو من الصغائر أو من الكبائر على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد حكاهما أبو الحسين في تمامه واحتج من جعله من الكبائر بأن الله سبحانه جعله في كتابه من صفات شر البرية وهم الكفار والمنافقون فلم يصف به إلا كافرا أو منافقا وجعله علم أهل النار وشعارهم وجعل الصدق علم أهل الجنة وشعارهم. وفي الصحيح من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: "عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" وفي الصحيحين مرفوعا: "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" وقال معمر عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما كان خلق أبغض إلى رسول الله ﷺ من الكذب ولقد كان الرجل يكذب عنده الكذبة فما تزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة" وقال مروان الطاطري: ثنا محمد بن مسلم ثنا أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: "ما كان شيء أبغض إلى رسول الله ﷺ من الكذب وما جرب على أحد كذبا فرجع إليه ما كان حتى يعرف منه توبة" حديث حسن رواه الحاكم في المستدرك من طريق ابن وهب عن محمد بن مسلم عن أيوب عن ابن سيرين عن عائشة رضي الله عنها وروى عبد الرزاق عن معمر عن موسى بن أبي شيبة أن النبي ﷺ: "أبطل شهادة رجل في كذبة كذبها" وهو مرسل وقد احتج به أحمد في إحدى الروايتين عنه وقال قيس بن أبي حازم: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول: "إياكم والكذب فإن الكذب مجانب الإيمان" يروى موقوفا ومرفوعا وروى شعبة عن سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: "المسلم يطبع على كل طبيعة غير الخيانة والكذب" ويروى مرفوعا أيضا وفي المسند والترمذي من حديث خريم بن فاتك الأسدي أن رسول الله ﷺ: "صلى صلاة الصبح فلما انصرف قام قائما قال: عدلت شهادة الزور الشرك بالله" ثلاث مرات ثم تلا هذه الآية {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} وفي المسند من حديث عبد الله ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: "بين الساعة تسليم الخاصة وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة وقطع الأرحام وشهادة الزور وكتمان شهادة الحق" وقال الحسن بن زياد اللؤلؤي: ثنا أبو حنيفة قال كنا عند محارب بن دثار فتقدم إليه رجلان فادعى أحدهما على الآخر مالا فجحده المدعي عليه فسأله البينة فجاء رجل فشهد عليه فقال المشهود عليه لا والله الذي لا إله إلا هو ما شهد علي بحق وما علمته إلا رجلا صالحا غير هذه الزلة فإنه فعل هذا لحقد كان في قلبه علي وكان محارب متكئا فاستوى جالسا ثم قال: يا ذا الرجل سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ليأتين على الناس يوم تشيب فيه الولدان وتضع الحوامل ما في بطونها وتضرب الطير بأذنابها وتضع ما في بطونها من شدة ذلك اليوم ولا ذنب عليها وإن شاهد الزور لا تقار قدماه على الأرض حتى يقذف به في النار" فإن كنت شدت بحق فاتق الله وأقم على شهادتك وإن كنت شهدت بباطل فاتق الله وغط رأسك واخرج من ذلك الباب وقال عبد الملك بن عمير: "كنت في مجلس محارب بن دثار وهو في قضائه حتى تقدم إليه رجلان فادعى أحدهما على الآخر حقا فأنكره فقال: ألك بينة؟ فقال: نعم ادع فلانا فقال المدعى عليه إنا لله وإنا إليه راجعون والله إن شد علي ليشهدن بزور ولئن سألتني عنه لأزكينه فلما جاء الشاهد قال محارب بن دثار حدثني عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: "إن الطير لتضرب بمناقيرها وتقذف ما في حواصلها وتحرك أذنابها من هول يوم القيامة وإن شاهد الزور لا تقار قدماه على الأرض حتى يقذف به في النار" ثم قال للرجل بم تشهد قال: كنت أشهد على شهادة وقد نسيتها أرجع فأتذكرها فانصرف ولم يشهد عليه بشيء" ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده فقال: ثنا محمد بن بكار ثنا زافر عن أبي علي قال: "كنت عند محارب بن دثار فاختصم إليه رجلان فشهد على أحدهما شاهد فقال الرجل: لقد شهد علي بزور ولئن سئلت عنه ليزكين وكان محارب متكئا فجلس ثم قال: سمعت عبد الله بن عمر قال رسول الله ﷺ: "لا تزول قدما شاهد الزور من مكانهما حتى يوجب الله له النار" وللحديث طرق إلى محارب. فصل الحكمة في عدم سماع قول الكذاب وأقوى الأسباب في رد الشهادة والفتيا والرواية الكذب لأنه فساد في نفس آلة الشهادة والفتيا والرواية فهو بمثابة شهادة الأعمى على رؤية الهلال وشهادة الأصم الذي لا يسمع على إقرار المقر فإن اللسان الكذوب بمنزلة العضو الذي قد تعطل نفعه بل هو شر منه فشر ما في المرء لسان كذوب ولهذا يجعل الله سبحانه شعار الكاذب عليه يوم القيامة وشعار الكاذب على رسوله سواد وجوههم والكذب له تأثير عظيم في سواد الوجه ويكسوه برقعا من المقت يراه كل صادق فسيما الكاذب في وجهه ينادى عليه لمن له عينان والصادق يرزقه الله مهابة وجلالة فمن رآه هابه وأحبه والكاذب يرزقه إهانة ومقتا فمن رآه مقته واحتقره وبالله التوفيق. فصل سبب رد شهادة المجلود في حد القذف وقول أمير المؤمنين رضي الله عنه في كتابه: "أو مجلودا في حد" المراد به القاذف إذا حد للقذف لم تقبل شهادته بعد ذلك وهذا متفق عليه بين الأمة قبل التوبة والقرآن نص فيه وأما إذا تاب ففي قبول شهادته قولان مشهوران للعلماء: "أحدهما لا تقبل وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأهل العراق والثاني تقبل وهو قول الشافعي وأحمد ومالك" وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: "شهادة الفاسق لا تجوز وإن تاب" وقال القاضي إسماعيل: ثنا أبو الوليد ثنا قيس عن سالم عن قيس بن عاصم قال: "كان أبو بكرة إذا أتاه رجل يشهده قال: أشهد غيري فإن المسلمون قد فسقوني" وهذا ثابت عن مجاهد وعكرمة والحسن ومسروق الشعبي في إحدى الروايتين عنهم وهو قول شريح. واحتج أرباب هذا القول بأن الله سبحانه أبد المنع من قبول شهادتهم بقوله: "ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا" وحكم عليهم بالفسق ثم استثنى التائبين من الفاسقين وبقي المنع من قبول الشهادة على إطلاقه وتأبيده. قالوا: وقد روى أبو جعفر الرازي عن آدم بن فائد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا محدود في الإسلام ولا محدودة ولا ذي غمر على أخيه وله طرق إلى عمرو ورواه ابن ماجه من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو رواه البيهقي من طريق المثنى بن الصباح عن عمرو قالوا: وروى يزيد بن أبي زياد الدمشقي عن الزهري عن عروة عن عائشة ترفعه: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود في حد ولا ذي غمر لأخيه ولا مجرب عليه شهادة زور ولا ظنين في ولاء أو قرابة" وروي عن سعيد بن المسيب عن النبي ﷺ مرسلا. قالوا: ولأن المنع من قبول شهادته جعل من تمام عقوبته ولهذا لا يترتب المنع إلا بعد الحد فلو قذف ولم يحد لا ترد شهادته ومعلوم أن الحد إنما زاده طهرة وخفف عنه إثم القذف أو رفعه فهو بعد الحد خير منه قبله ومع هذا فإنما ترد شهادته بعد الحد فردها من تمام عقوبته وحده وما كان من الحدود ولوازمها فإنه لا يسقط بالتوبة ولهذا لو تاب القاذف لم تمنع توبة إقامة الحد عليه فكذلك شهادته وقال سعيد بن جبير: "تقبل توبته فيما بينه وبين الله من العذاب العظيم ولا تقبل شهادته" وقال شريح: "لا تجوز شهادته أبدا وتوبته فيما بينه وبين ربه". وسر المسألة أن رد شهادته جعل عقوبة لهذا الذنب فلا يسقط بالتوبة كالحد. قال الآخرون واللفظ للشافعي: والثنيا في سياق الكلام على أول الكلام وآخره في جميع ما يذهب إليه أهل الفقه إلا أن يفرق بين ذلك خبر وأنبأنا ابن عيينة قال سمعت الزهري يقول: "زعم أهل العراق أن شهادة المحدود لا تجوز وأشهد لأخبرني فلان أن عمر قال لأبي بكرة: "تب أقبل شهادتك" قال سفيان: "نسيت اسم الذي حدث الزهري" فلما قمنا سألت من حضر فقال لي عمرو بن قيس: "هو سعيد بن المسيب" فقلت لسفيان: فهل شككت فيما قال لك؟ قال: لا هو سعيد غير شك قال الشافعي: "وكثيرا ما سمعته يحدث فيسمي سعيدا وكثيرا ما سمعته يقول: عن سعيد إن شاء الله وأخبرني به من أثق به من أهل المدينة عن ابن شهاب عن ابن المسيب أن عمر لما جلد الثلاثة استتابهم فرجع اثنان فقبل شهادتهما وأبى أبو بكرة أن يرجع فرد شهادته ورواه سليمان بن كثير عن الزهري عن ابن المسيب أن عمر قال لأبي بكرة وشبل ونافع: "من تاب منكم قبلت شهادته" وقال عبد الرزاق: ثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن ابن المسيب أن عمر قال للذين شهدوا على المغيرة: "توبوا تقبل شهادتكم" فتاب منهم اثنان وأبى أبو بكرة أن يتوب فكان عمر لا يقبل شهادته. قالوا: والاستثناء عائد على جميع ما تقدمه سوى الحد فإن المسلمون مجمعون على أنه لا يسقط عن القاذف بالتوبة وقد قال أئمة اللغة: "إن الاستثناء يرجع إلى ما تقدم كله" قال أبو عبيد في كتاب القضاء: "وجماعة أهل الحجاز ومكة على قبول شهادته وأما أهل العراق فيأخذون بالقول الأول أن لا تقبل أبدا" وكلا الفريقين إنما تأولوا القرآن فيما نرى والذين لا يقبلونها يذهبون إلى أن المعنى انقطع من عند قوله: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ثم استأنف فقال {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فجعلوا الاستثناء من الفسق خاصة دون الشهادة وأما الآخرون فتأولوا أن الكلام تبع بعضه بعضا على نسق واحد فقال: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} فانتظم الاستثناء كل ما كان قبله. قال أبو عبيد: وهذا عندي هو القول المعمول به لأن من قال به أكثر وهو أصح في النظر ولا يكون القول بالشيء أكثر من الفعل وليس يختلف المسلمون في الزاني المجلود أن شهادته مقبولة إذا تاب. قالوا: وأما ما ذكرتم عن ابن عباس فقد قال الشافعي: "بلغني عن ابن عباس أنه كان يجيز شهادة القاذف إذا تاب" وقال علي بن أبي طلحة عنه في قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ثم قال{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} "فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل" وقال شريك عن أبي حصين عن الشعبي: "يقبل الله توبته ولا يقبلون شهادته" وقال مطرف عنه: "إذا فرغ من ضربه فأكذب نفسه ورجع عن قوله قبلت شهادته". قالوا: وأما تلك الآثار التي رويتموها ففيها ضعف فإن آدم بن فائد غير معروف ورواته عن عمر قسمان ثقات وضعفاء فالثقات لم يذكر أحد منهم أو مجلودا في حد وإنما ذكره الضعفاء كالمثنى بن الصباح وآدم والحجاج وحديث عائشة فيه يزيد وهو ضعيف ولو صحت الأحاديث لحملت على غير التائب فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وقد قبل شهادته بعد التوبة عمر وابن عباس ولا يعلم لهما في الصحابة مخالف. قالوا: وأعظم موانع الشهادة الكفر والسحر وقتل النفس وعقوق الوالدين والزنا ولو تاب من هذه الأشياء قبلت شهادته اتفاقا فالتائب من القذف أولى بالقبول. قالوا: وأين جناية قتله من قذفه؟ قالوا: الحد يدرأ عنه عقوبة الآخرة وهو طهرة له فإن الحدود طهرة لأهلها فكيف تقبل شهادته إذا لم يتطهر بالحد وترد أطهر ما يكون فإنه بالحد والتوبة قد يطهر طهرا كاملا. قالوا: ورد الشهادة بالقذف إنما هو مستند إلى العلة التي ذكرها الله عقيب هذا الحكم وهي الفسق وقد ارتفع الفسق بالتوبة وهو سبب الرد فيجب ارتفاع ما ترتب عليه وهو المنع. قالوا: والقاذف فاسق بقذفه حد أو لم يحد فكيف تقبل شهادته في حال فسقه وترد شهادته بعد زوال فسقه؟ قالوا: ولا عهد لنا في الشريعة بذنب واحد أصلا يتاب منه ويبقي أثره المترتب عليه من رد الشهادة وهل هذا إلا خلاف المعهود منها وخلاف قوله ﷺ: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" وعند هذا فيقال: توبته من القذف تنزله منزلة من لم يقذف فيجب قبول شهادته أو كما قالوا. قال المانعون: القذف متضمن للجناية على حق الله وحق الآدمي وهو من أوفى الجرائم فناسب تغليظ الزجر ورد الشهادة من أقوى أسباب الزجر لما فيه من إيلام القلب والنكاية في النفس إذ هو عزل لولاية لسانه الذي استطال به على عرض أخيه وإبطال لها ثم هو عقوبة في محل الجناية فإن الجناية حصلت بلسانه فكان أولى بالعقوبة فيه وقد رأينا الشارع قد اعتبر هذا حيث قطع يد السارق فإنه حد مشروع في محل الجناية ولا ينتقض هذا بأن لم يجعل عقوبة الزاني بقطع العضو الذي جنى به لوجوه أحدها أنه عضو خفي مستور لا تراه العيون فلا يحصل الاعتبار المقصود من الحد بقطعه الثاني أن ذلك يفضي إلى إبطال آلات التناسل وانقطاع النوع الإنساني الثالث أن لذة البدن جميعه بالزنا كلذة العضو المخصوص فالذي نال البدن من اللذة المحرمة مثل ما نال الفرج ولهذا كان حد الخمر على جميع البدن الرابع أن قطع هذا العضو مفض إلى الهلاك وغير المحصن لا تستوجب جريمته الهلاك والمحصن إنما يناسب جريمته أشنع القتلات ولا يناسبها قطع بعض أعضائه فافترقا. قالوا وأما قبول شهادته قبل الحد وردها بعده فلما تقدم أن رد الشهادة جعل من تمام الحد وتكملته فهو كالصفة والتتمة للحد فلا يتقدم عليه ولأن إقامة الحد عليه ينقص حاله عند الناس وتقل حرمته وهو قبل إقامة الحد قائم الحرمة غير منتهكها. قالوا: وأم التائب من الزنا والكفر والقتل فإنما قبلنا شهادته لأن ردها كان نتيجة الفسق وقد زال بخلاف مسألتنا فإنا قد بينا أن ردها من تتمة الحد فافترقا. قال القابلون: تغليظ الزجر لا ضابط له وقد حصلت مصلحة الزجر بالحداد وكذلك سائر الجرائم جعل الشارع مصلحة الزجر عليها بالحد وإلا فلا تطلق نساؤه ولا يؤخذ ماله ولا يعزل عن مناصبه ولا تسقط روايته لأنه أغلظ في الزجر وقد أجمع المسلمون على قبول رواية أبي بكرة رضي الله عنه وتغليظ الزجر من الأوصاف المنتشرة التي لا تنضبط وقد حصل إيلام القلب والبدن والنكاية في النفس بالضرب الذي أخذ من ظهره وأيضا فإن رد الشهادة لا ينزجر به أكثر القاذفين وإنما يتأثر بذلك وينزجر أعيان الناس وقل أن يوجد القذف من أحدهم وإنما يوجد غالبا من الرعاع والسقط ومن لا يبالي برد شهادته وقبولها وأيضا فكم من قاذف انقضى عمره وما أدى شهادة عند حاكم ومصلحة الزجر إنما تكون بمنع النفوس ما هي محتاجة إليه وهو كثير الوقوع منها ثم هذه المناسبة التي ذكرتموها يعارضها ما هو أقوى منها فإن رد الشهادة أبدا تلزم منه مفسدة فوات الحقوق على الغير وتعطيل الشهادة في محل الحاجة إليها ولا يلزم مثل ذلك في القبول فإنه لا مفسدة فيه في حق الغير من عدل تائب قد أصلح ما بينه وبين الله ولا ريب أن اعتبار مصلحة يلزم منها مفسدة أولى من اعتبار مصلحة يلزم منها عدة مفاسد في حق الشاهد وحق المشهود له وعليه والشارع له تطلع إلى حفظ الحقوق على مستحقيها بكل طريق وعدم إضاعتها فكيف يبطل حقا قد شهد به عدل مرضي مقبول الشهادة على رسول الله ﷺ وعلى دينه رواية وفتوى؟ وأما قولكم: "إن العقوبة تكون في محل الجناية" فهذا غير لازم لما تقدم من عقوبة الشارب والزاني وقد جعل الله سبحانه عقوبة هذه الجريمة على جميع البدن دون اللسان وإنما جعل عقوبة اللسان بسبب الفسق الذي هو محل التهمة فإذا زال الفسق بالتوبة فلا وجه للعقوبة بعدها. أما قولكم: "إن رد الشهادة من تمام الحد" فليس كذلك فإن الحد تم باستيفاء عدده وسببه نفس القذف وأما رد الشهادة فحكم آخر أوجبه الفسق بالقذف لا الحد فالقذف أوجب حكمين ثبوت الفسق وحصول الحد وهما متغايران. فصل رد الشهادة بالتهمة وقوله: "أو ظنينا في ولاء أو قرابة" الظنين: المتهم والشهادة ترد بالتهمة ودل هذا على أنها لا ترد بالقرابة كما لا ترد بالولاء وإنما ترد بتهمتها وهذا هو الصواب كما تقدم وقال أبو عبيد: ثنا حجاج عن ابن جريج قال أخبرني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن أبي الزناد عن عبد الله بن عامر ابن ربيعة عن عمر بن الخطاب أنه قال: "تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده والأخ لأخيه إذا كانوا عدولا لم يقل الله حين قال{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} إلا والدا وولدا وأخا" هذا لفظه وليس في ذلك عن عمر روايتان بل إنما منع من شهادة المتهم في قرابته وولائه وقال أبو عبيد: حدثني يحيى بن بكير عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن عمر بن عبد العزيز كتب أنه تجوز شهادة الولد لوالده وقال إسحاق بن راهويه: "لم تزل قضاة الإسلام على هذا وإنما قبل قول الشاهد لظن صدقه فإذا كان متهما عارضت التهمة الظن فبقيت البراءة الأصلية ليس لها معارض مقاوم". فصل من تقبل شهادته قوله: "فإن الله تبارك وتعالى تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان" يريد بذلك أن من ظهرت لنا منه علانية خير قبلنا شهادته ووكلنا سريرته إلى الله سبحانه فإن الله سبحانه لم يجعل أحكام الدنيا على السرائر بل على الظواهر والسرائر تبع لها وأما أحكام الآخرة فعلى السرائر والظواهر تبع لها. وقد احتج بعض أهل العراق بقول عمر هذا على قبول شهادة كل مسلم لم تظهر منه ريبة وإن كان مجهول الحال فإنه قال: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض" ثم قال: "فإن الله تعالى تولى من عباده السرائر وستر عليهم الحدود" ولا يدل كلامه على هذا المذهب بل قد روى أبو عبيد ثنا الحجاج عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قال عمر بن الخطاب: "لا يوسر أحد في الإسلام بشهداء السوء فإنا لا نقبل إلا العدول" وثنا أسحاق بن على بن مالك بن أنس عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "والله لا يوسرن رجل في الإسلام بغير العدول" ثنا إسماعيل بن إبراهيم الجريري عن أبي نضرة عن أبي فراس أن عمر بن الخطاب قال في خطبته: "من أظهر لنا خيرا ظننا به خيرا وأحببناه عليه ومن أظهر لنا شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه". وقوله: "وستر عليهم الحدود" يعني المحارم وهي حدود الله التي نهى عن قربانها والحد يراد به الذنب تارة والعقوبة أخرى. وقوله: "إلا بالبينات" يريد البينات: الأدلة والشواهد فإنه قد صح عنه الحد في الزنا بالحبل فهو بينة صادقة بل هو أصدق من الشهود وكذلك رائحة الخمر بينة على شربها عند الصحابة وفقهاء أهل المدينة وأكثر فقهاء الحديث. وقوله: "والأيمان" يريد بها أيمان الزوج في اللعان وأيمان أولياء القتيل في القسامة وهي قأئمة مقام البينة. في القياس معناه وأقسامه وقوله: "ثم الفهم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق" هذا أحد ما اعتمد عليه القياسيون في الشريعة وقالوا: هذا كتاب عمر إلى أبي موسى ولم ينكره أحد من الصحابة بل كانوا متفقين على القول بالقياس وهو أحد أصول الشريعة ولا يستغني عنه فقيه. القياس في القرآن وقد أرشد الله تعالى عباده إليه في غير موضع من كتابه فقاس النشأة الثانية على النشأة الأولى في الإمكان وجعل النشأة الأولى أصلا والثانية فرعا عليها وقاس حياة الأموات بعد الموت على حياة الأرض بعد موتها بالنبات وقاس الخلق الجديد الذي أنكره أعداؤه على خلق السموات والأرض وجعله من قياس الأولى كما جعل قياس النشأة الثانية على الأولى من قياس الأولى وقاس الحياة بعد الموت على اليقظة بعد النوم وضرب الأمثال وصرفها في الأنواع المختلفة وكلها أقيسة عقلية ينبه بها عباده على أن حكم الشيء حكم مثله فإن الأمثال كلها قياسات يعلم منها حكم الممثل من الممثل به وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثلا تتضمن تشبيه الشيء بنظيره والتسوية بينهما في الحكم. وقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} فالقياس في ضرب الأمثال من خاصة العقل وقد ركز الله في فطر الناس وعقولهم التسوية بين المتماثلين وإنكار التفريق بينهما والفرق بين المختلفين وإنكار الجميع بينهما. قالوا: ومدار الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين فإنه إما استدلال بمعين علي معين أو بمعين على عام أو بعام على معين أو بعام على عام فهذه الأربعة هي مجامع ضروب الاستدلال. فالاستدلال بالمعين على المعين: هو الاستدلال بالملزوم على لازمه فكل ملزوم دليل على لازمه فإن كان التلازم بين الجانبين كان كل منهما دليل على الآخر ومدلولا له وهذا النوع ثلاثة أقسام أحدهما الاستدلال بالمؤثر على الأثر والثاني الاستدلال بالأثر على المؤثر والثالث الاستدلال بأحد الأثرين على الآخر فالأول كالاستدلال بالنار على الحريق والثاني كالاستدلال بالحريق على النار والثالث كالاستدلال بالحريق على الدخان ومدار ذلك كله على التلازم فالتسوية بين المتماثلين هو الاستدلال بثبوت أحد الأثرين على الآخر وقياس الفرق هو الاستدلال بانتفاء أحد الأثرين على انتفاء الآخر أو بانتفاء اللازم على انتفاء ملزومه فلو جاز التفريق بين المتماثلين لانسدت طرق الاستدلال وغلقت أبوابه. قالوا: وأما الاستدلال بالمعين على العام فلا يتم إلا بالتسوية بين المتماثلين إذ لو جاز الفرق لما كان هذا المعين دليلا على الأمر العام المشترك بين الأفراد ومن هذا أدلة القرآن بتعذيب المعينين الذين عذبهم على تكذيب رسله وعصيان أمره على أن هذا الحكم عام شامل على من سلك سبيلهم واتصف بصفتهم وهو سبحانه قد نبه عباده على نفس هذا الاستدلال وتعدية هذا الخصوص إلى العموم كما قال تعالى عقيب أخباره عن عقوبات الأمم المكذبة لرسلهم وما حل بهم: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} فهذا محض تعدية الحكم إلى من عدا المذكورين بعموم العلة وإلا فلو لم يكن حكم الشيء حكم مثله لما لزمت التعدية ولا تمت الحجة ومثل هذا قوله تعالى عقيب أخباره عن عقوبة قوم عاد حين رأوا العارض في السماء فقالوا {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} فقال تعالى {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌتُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} ثم قال {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فتأمل قوله {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} كيف تجد المعنى أن حكمكم كحكمهم وإنا إذا كنا قد أهلكناهم بمعصية رسلنا ولم يدفع عنهم ما مكنوا فيه من أسباب العيش فأنتم كذلك تسوية بين المتماثلين وأن هذا محض عدل الله بين عباده. ومن ذلك قوله تعالى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} فأخبر أن حكم الشيء حكم مثله. وكذلك كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالسير في الأرض سواء كان السير الحسي على الأقدام والدواب أو السير المعنوي بالتفكير والاعتبار أو كان اللفظ يعمها وهو الصواب فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يجل بالمخاطبين ما حل بأولئك ولهذا أمر سبحانه أولي الأبصار بالاعتبار بما حل بالمكذبين ولولا أن حكم النظير حكم نظيره حتى تعبر العقول منه إليه لما حصل الاعتبار وقد نفى الله سبحانه عن حكمه وحكمته التسوية بين المختلفين في الحكم فقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فأخبر أن هذا حكم باطل في الفطر والعقول لا تليق نسبته إليه سبحانه وقال تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وقال تعالى {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} أفلا تراه كيف ذكر العقول ونبه الفطر بما أودع فيها من إعطاء النظير حكم نظيره وعدم التسوية بين الشيء ومخالفه في الحكم وكل هذا من الميزان الذي أنزله الله مع كتابه وجعله قرينه ووزيره فقال تعالى الله {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} وقال {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} وقال تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} فهذا الكتاب ثم قال {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} والميزان يراد به العدل والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده والقياس الصحيح هو الميزان فالأولى تسميته بالاسم الذي سماه الله به فإنه يدل على العدل وهو اسم مدح واجب على كل واحد في كل حال بحسب الإمكان بخلاف اسم القياس فإنه ينقسم إلى حق وباطل وممدوح ومذموم ولهذا لم يجيء في القرآن مدحه ولا ذمه ولا الأمر به ولا النهي عنه فإنه مورد تقسيم إلى صحيح وفاسد. تقسيمات للقياس فالصحيح هو الميزان الذي أنزله مع كتابه. والفاسد ما يضاده كقياس الذين قاسوا البيع على الربا بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية وقياس الذين قاسوا الميتة على المذكى في جواز أكلها بجامع ما يشتركان فيه من إزهاق الروح هذا بسبب من الآدميين وهذا بفعل الله ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس وأنه ليس من الدين وتجد في كلامهم استعماله والاستدلال به وهذا حق وهذا حق كما سنبينه إن شاء الله تعالى. والأقيسة المستعملة في الاستدلال ثلاثة قياس علة وقياس دلالة وقياس شبه وقد وردت كلها في القرآن. قياس العلة فأما قياس العلة فقد جاء في كتاب الله عز وجل في مواضع منها قوله تعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فأخبر تعالى أن عيسى نظير آدم في التكوين بجامع ما يشتركان فيه من المعنى الذي تعلق به وجود سائر المخلوقات وهو مجيئها طوعا لمشيئته وتكوينه فكيف يستنكر وجود عيسى من غير أب من يقر بوجود آدم من غير أب ولا أم ووجود حواء من غير أم فآدم وعيسى نظيران يجمعهما المعنى الذي يصح تعليق الإيجاد والخلق به. ومنها قوله تعالى {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي: قد كان من قبلكم أمم أمثالكم فانظروا إلى عواقبهم السيئة واعلموا أن سبب ذلك ما كان من تكذيبهم بآيات الله ورسله وهم الأصل وأنتم الفرع والعلة الجامعة التكذيب والحكم الهلاك. ومنها قوله تعالى {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} فذكر سبحانه إهلاك من قبلنا من القرون وبين أن ذلك كان لمعنى القياس وهو ذنوبهم فهم الأصل ونحن الفرع والذنوب العلة الجامعة والحكم الهلاك فهذا محض قياس العلة وقد أكده سبحانه بضرب من الأولى وهو أن من قبلنا كانوا أقوى منا فلم تدفع عنهم قوتهم وشدتهم ما حل بهم. ومنه قوله تعالى {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. وقد اختلف في محل هذا الكاف وما يتعلق به فقيل هو رفع خبر مبتدأ محذوف أي أنتم كالذين من قبلكم وقيل: نصب بفعل محذوف تقديره فعلتم كفعل الذين من قبلكم والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل وقيل إن التشبيه في العذاب ثم قيل العامل محذوف أي لعنهم وعذبهم كما لعن الذين من قبل وقيل بل العامل ما تقدم أي وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم ولعنهم كلعنهم ولهم عذاب مقيم كالعذاب الذي لهم. والمقصود أنه سبحانه ألحقهم بهم في الوعيد وسوى بينهم فيه كما تساووا في الأعمال وكونهم كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا فرق غير مؤثر فعلق الحكم بالوصف الجامع المؤثر وألغى الوصف الفارق ثم نبه على أن مشاركتهم في الأعمال اقتضت مشاركتهم في الجزاء فقال {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} فهذه هي العلة المؤثرة والوصف الجامع وقوله {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} هو الحكم والذين من قبل هم الأصل والمخاطبون الفرع. قال عبد الرزاق في تفسيره: أنا معمر عن الحسن في قوله{فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} قال: "بذنبهم" ويروي عن أبي هريرة. وقال ابن عباس: "استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا وقال آخرون: بنصيبهم من الدنيا". وحقيقة الأمر أن الخلاق هو النصيب والحظ كأنه الذي خلق للإنسان وقدر له كما يقال قسمه الذي قسم له ونصيبه الذي نصب له أي أثبت وقطه الذي قط له أي قطع. ومنه قوله تعالى {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} وقول النبي ﷺ: "إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة" والآية تتناول ما ذكره السلف كله فإنه سبحانه قال: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} فبتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا للدنيا والآخرة وكذلك الأموال والأولاد وتلك القوة والأموال والأولاد هي الخلاق فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة من الخلاق الذي استمتعوا به ولو أرادوا بذلك الله والدار الآخرة لكان لهم خلاق في الآخرة فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة وهذا حال من لم يعمل إلا لدنياه سواء كان عمله من جنس العبادات أو غيرها ثم ذكر سبحانه حال الفروع فقال فاستمتعم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم فدل هذا على أن حكمهم حكمهم وأنه ينالهم ما نالهم لأن حكم النظير حكم نظيره. ثم قال: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} فقيل الذي صفة لمصدر محذوف أي كالخوض الذي خاضوا وقيل لموصوف محذوف أي كخوض القوم الذي خاضوا وهو فاعل الخوض وقيل الذي مصدرية كما أي كخوضهم وقيل: هي موضع الذين. البدع واتباع الهوى جالبة لكل شر والمقصود أنه سبحانه جمع بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض بالباطل لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به وهو الخوض أو يقع في العمل بخلاف الحق والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق فالأول البدع والثاني اتباع الهوى وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء وبهما كذبت الرسل وعصي الرب ودخلت النار وحلت العقوبات فالأول من جهة الشبهات والثاني من جهة الشهوات ولهذا كان السلف يقولون: "احذروا من الناس صنفين صاحب هوى فتنه هواه وصاحب دنيا أعجبته دنياه". وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم. وفي صفة الإمام أحمد رحمه الله: عن الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه أتته البدع فنفاها والدنيا فأباها وهذه حال أئمة المتقين الذين وصفهم الله في كتابه بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات قال تعالى {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وقوله تعالى {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ}. وفي بعض المراسيل: "إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات". فقوله تعالى {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ} إشارة إلى اتباع الشهوات وهو داء العصاة وقوله {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} إشارة إلى الشبهات وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات وكثيرا ما يجتمعان فقل من تجده فاسد الاعتقاد إلا وفساد اعتقاده يظهر في عمله. والمقصود أن الله أخبر أن في هذه الأمة من يستمتع بخلاقه كما استمتع الذين من قبله بخلاقهم ويخوض كخوضهم وأنهم لهم من الذم والوعيد كما للذين من قبلهم ثم حضهم على القياس والاعتبار بمن قبلهم فقال {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. فتأمل صحة هذا القياس وإفادته لمن علق عليه من الحكم وأن الأصل والفرع قد تساويا في المعنى الذي علق به العقاب وأكده كما تقدم بضرب من الأولى وهو شدة القوة وكثرة الأموال والأولاد فإذا لم يتعذر على الله عقاب الأقوى منهم بذنبه فكيف يتعذر عليه عقاب من هو دونه؟ ومنه قوله تعالى {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} فهذا قياس جلي يقول سبحانه إن شئت أذهبتكم واستخلفت غيركم كما أذهبت من قبلكم واستخلفتكم فذكر أركان القياس الأربعة علة الحكم وهي عموم مشيئته وكمالها والحكم وهو إذهابه بهم وإتيانه بغير والأصل وهو من كان من قبل والفرع وهم المخاطبون. ومنه قوله تعالى {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} فأخبر أن من قبل المكذبين أصل يعتبر به والفرع نفوسهم فإذا ساووهم في المعنى ساووهم في العاقبة. ومن قوله تعالى{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} فأخبر سبحانه أنه أرسل محمدا ﷺ إلينا كما أرسل موسى إلى فرعون وأن فرعون عصى رسوله فأخذه أخذا وبيلا فهكذا من عصى منكم محمدا ﷺ وهذا في القرآن كثير جدا فقد فتح لك بابه. فصل قياس الدلالة وأما قياس الدلالة فهو الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة وملزومها ومنه قوله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فدل سبحانه عباده بما أراهم من الإحياء الذي تحققوه وشاهدوه على الإحياء الذي استبعدوه وذلك قياس إحياء على إحياء واعتبار الشيء بنظيره والعلة الموجبة هي عموم قدرته سبحانه وكمال حكمته وإحياء الأرض دليل العلة. منه قوله تعالى {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} فدل بالنظير على النظير وقرب أحدهما من الآخر جدا بلفظ الإخراج أي يخرجون من الأرض أحياء كما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي. منه قوله تعالى {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}. فبين سبحانه كيفية الخلق واختلاف أحوال الماء في الرحم إلى أن صار منه الزوجان الذكر والأنثى وذلك أمارة وجود صانع قادر على ما يشاء والله سبحانه عباده بما أحدثه في النطفة المهينة الحقيرة من الأطوار وسوقها في مراتب الكمال من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها حتى صارت بشرا سويا في أحسن خلق وتقويم على أنه لا يحسن به أن يترك هذا البشر سدى مهملا معطلا لا يأمره ولا ينهاه ولا يقيمه في عبوديته وقد ساقه في مراتب الكمال من حين كان نطفة إلى أن صار بشرا سويا فكذلك يسوقه في مراتب كماله طبقا بعد طبق وحالا بعد حال إلى أن يصير جاره في داره يتمتع بأنواع النعيم وينظر إلى وجهه ويسمع كلامه. ومنه قوله سبحانه {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} فأخبر سبحانه أنهما إحياءان وأن أحدهما معتبر بالآخر مقيس عليه ثم ذكر قياسا آخر أن من الأرض ما يكون أرضا طيبة فإذا أنزلنا عليها الماء أخرجت نباتها بإذن ربها ومنها ما تكون أرضا خبيثة لا تخرج نباتها إلا نكدا أي قليلا غير منتفع به فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تخرج ما أخرجت الأرض الطيبة فشبه سبحانه الوحي الذي أنزله من السماء على القلوب بالماء الذي أنزله على الأرض بحصول الحياة بهذا وهذا وشبه القلوب بالأرض إذا هي محل الأعمال كما أن الأرض محل النبات وأن القلب الذي لا ينتفع بالوحي ولا يزكو عليه ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر ولا تخرج نباتها به إلا قليلا لا ينفع وأن القلب الذي آمن بالوحي وزكا عليه وعمل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتها بالمطر فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله وتدبره بان أثره عليه فشبه بالبلد الطيب الذي يمرع ويخصب ويحسن أثر المطر عليه فينبت من كل زوج كريم والمعرض عن الوحي عكسه والله الموفق. ومنه قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} يقول سبحانه {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} فلستم ترتابون في أنكم مخلوقون ولستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال إلى حين الموت والبعث الذي وعدتم به نظير النشأة الأولى فهما نظيران في الإمكان والوقوع فإعادتكم بعد الموت خلقا جديدا كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها؟ وقد أعاد الله سبحانه هذا المعنى وأبداه في كتابه وبأوجز العبارات وأدلها وأفصحها وأقطعها للعذر وألزمها للحجة كقوله تعالى {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} فدلهم بالنشأة الأولى على الثانية وأنهم لو تذكروا لعلموا أن لا فرق بينهما في تعلق بكل واحدة منهما وقد جمع سبحانه بين النشأتين في قوله وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى وفي قوله {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} إلى قوله {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وفي قوله {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فتضمنت هذه الآيات عشر أدلة أحدها قوله {أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} فذكره مبدأ خلقه ليدله به على النشأة الثانية ثم أخبر أن هذا الجاحد لو ذكر خلقه لما ضرب المثل بل لما نسي خلقه ضرب المثل فتحت قوله {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} ألطف جواب وأبين دليل وهذا كما تقول لمن جحدك أن تكون قد أعطيته شيئا فلان جحدني الإحسان إليه ونسي الثياب التي عليه والمال الذي معه والدار التي هو فيها حيث لا يمكنه جحد أن يكون ذلك منك ثم أجيب عن سؤاله بما يتضمن أبلغ الدليل على ثبوت ما جحده فقال {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فهذا جواب واستدلال قاطع ثم أكد هذا المعنى بالإخبار بعموم علمه لجميع الخلق فإن تعذر الإعادة عليه إنما يكون لقصور علمه أو قصور في قدرته ولا قصور في علم من هو بكل خلق عليم ولا قدرة فوق قدرته من خلق السموات والأرض وإذا أراد شيئا قال له كن فيكون وبيده ملكوت كل شيء فكيف تعجز قدرته وعلمه عن إحيائكم بعد مماتكم ولم تعجز عن النشأة الأولى ولا عن خلق السموات والأرض؟ ثم أرشد عباده إلى دليل واضح جلي متضمن للجواب عن شبه المنكرين بألطف الوجوه وأبينها وأقربها إلى العقل فقال {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} فإذن فهذا دليل على قدم قدرته وإخراج الأموات من قبورهم كما أخرج النار من الشجرة الخضراء وفي ذلك جواب عن شبهة من قال من منكري المعاد الموت بارد يابس والحياة طبعها الرطوبة والحرارة فإذا حل الموت بالجسم لم يمكن أن تحل فيه الحياة بعد ذلك لتضاد ما بينهما وهذه شبهة تليق بعقول المكذبين الذين لا سمع لهم ولا عقل فإن الحياة لا تجامع الموت في المحل الواحد ليلزم ما قالوا بل إذا أوجد الله فيه الحياة وطبعها ارتفع الموت وطبعه وهذا الشجر الأخضر طبعه الرطوبة والبرودة تخرج منه النار الحارة اليابسة. ثم ذكر ما هو أوضح للعقول من كل دليل وهو خلق السموات والأرض مع عظمهما وسعتهما وأنه لا نسبة للخلق الضعيف إليهما ومن لم تعجز قدرته وعلمه عن هذا الخلق العظيم الذي هو أكبر من خلق الناس كيف تعجز عن إحيائهم بعد موتهم ثم قرر هذا المعنى بذكر وصفين من أوصافه مستلزمين لما أخبر به فقال {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} فكونه خلاقا عليما يقتضي أن يخلق ما يشاء ولا يعجزه ما أرداه من الخلق ثم قرر هذا المعنى بأن عموم إرادته وكمالها لا يقصر عنه ولا عن شيء أبدا فقال {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فلا يمكنه الاستعصاء عليه ولا يتعذر عليه بل يأتي طائعا منقادا لمشيئته وأرادته ثم زاده تأكيدا وإيضاحا بقوله{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} فنزه نفسه عما نطق به أعداؤه المنكرون للمعاد معظما لها بأن ملك كل شيء بيده يتصرف فيه تصرف المالك الحق في مملوكه الذي لا يمكنه الامتناع عن أي تصرف شاءه فيه ثم ختم السورة بقوله {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} كما أنهم ابتدأوا منه هو فكذلك مرجعهم إليه فمنه المبدأ وإليه المعاد وهو الأول والآخر وأن إلى ربك المنتهى. ومنه قوله تعالى {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} فتأمل تضمن هذه الكلمات على اختصارها وإيجازها وبلاغتها للأصل والفرع والعلة والحكم. ومنه قوله تعالى {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} فرد عليهم سبحانه ردا يتضمن الدليل القاطع على قدرته على إعادتهم خلقا جديدا فقال {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فلما استبعدوا أن يعيدهم الله خلقا جديدا بعد أن صاروا عظاما ورفاتا قيل لهم كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم سواء كان الموت أو السماء أو الأرض أو أي خلق استعظمتموه وكبر في صدوركم ومضمون الدليل أنكم مربوبون مخلوقون مقهورون على ما يشاء خالقكم وأنتم لا تقدرون على تغيير أحوالكم من خلقة إلى خلقة لا تقبل الاضمحلال كالحجارة والحديد ومع ذلك فلو كنتم على هذه الخلقة من القوة والشدة لنفذت أحكامي فيكم وقدرتي ومشيئتي ولم تسبقوني ولم تفوتوني كما يقول القائل لمن هو في قبضته اصعد إلى السماء فإني لاحقك أي لو صعدت إلى السماء لحقتك وعلى هذا فمعنى الآية لو كنتم حجارة أو حديدا أو أعظم خلقا من ذلك لما أعجزتموني ولما فتموني وقيل المعنى كونوا حجارة أو حديدا عند أنفسكم أي صوروا أنفسكم وقدروها خلقا لا يضمحل ولا ينحل فإنا سنميتكم ثم نحييكم ونعيدكم خلقا جديدا وبين المعنيين فرق لطيف فإن المعنى الأول يقتضي أنكم لو قدرتم على نقل خلقتكم من حالة إلى حالة هي أشد منها وأقوى لنفذت مشيئتنا وقدرتنا فيكم ولم تعجزونا فكيف وأنتم عاجزون عن ذلك؟ والمعنى الثاني يقتضي أنكم صوروا أنفسكم وأنزلوها هذه المنزلة ثم انظروا أتفوتونا وتعجزونا أم قدرتنا ومشيئتنا محيطة بكم ولو كنتم كذلك وهذا من أبلغ البراهين القاطعة التي لا تعرض فيها شبهة البتة بل لا تجد العقول السليمة عن الإذعان والانقياد لها بدا فلما علم القوم صحة هذا البرهان وأنه ضروري انتقلوا إلى المطالبة بمن يعيدهم فقالوا من يعيدنا وهذا سواء كان سؤالا منهم عن تعيين المعيد أو إنكارا منهم له فهو من أقبح التعنت وأبينه ولهذا كان جوابه {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ولما علم القوم أن هذا جواب قاطع انتقلوا إلى باب آخر من التعنت وهو السؤال عن وقت هذه الإعادة فأنغضوا إليه رءوسهم وقالوا متى هو فقال تعالى {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} فليتأمل اللبيب لطف موقع هذا الدليل واستلزامه لمدلوله استلزاما لا محيد عنه وما تضمنه من السؤالات والجواب عنها أبلغ جواب وأصحه وأوضحه فلله ما يفوت المعرضين عن تدبر القرآن المتعوضين عنه بزبالة الأذهان ونخالة الأفكار. ومنه قوله تعالى {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} وقوله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} جعل الله سبحانه إحياء الأرض بعد موتها نظير إحياء الأموات وإخراج النبات منها نظير إخراجهم من القبور ودل بالنظير على نظيره وجعل ذلك آية ودليلا على خمسة مطالب أحدها: وجود الصانع وأنه الحق المبين وذلك يستلزم إثبات صفات كماله وقدرته وإرادته وحياته وعلمه وحكمته ورحمته وأفعاله الثاني أنه يحي الموتى الثالث عموم قدرته على كل شيء الرابع إتيان الساعة وأنه لا ريب فيها الخامس أنه يخرج الموتى من القبور كما أخرج النبات من الأرض. وقد كرر سبحانه ذكر هذا الدليل في كتابه مرارا لصحة مقدماته ووضوح دلالته وقرب تناوله وبعده من كل معارضة وشبهة وجعله تبصرة وذكرى كما قال تعالى {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} فالمنيب إلى ربه يتذكر بذلك فإذا تذكر تبصر به فالتذكر قبل التبصر وإن قدم عليه في اللفظ كما قال تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون والتذكر تفعل من الذكر وهو حضور صورة من المذكور في القلب فإذا استحضره القلب وشاهده على وجهه أوجب له البصيرة فأبصر ما جعل دليلا عليه فكان في حقه تبصرة وذكرى والهدى مداره على هذين الأصلين التذكر والتبصر. وقد دعا سبحانه الإنسان إلى أن ينظر في مبدأ خلقه ورزقه ويستدل بذلك على معاده وصدق ما أخبرت به الرسل فقال في الأول {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} فالدافق على بابه ليس فاعلا بمعنى مفعول كما يظنه بعضهم بل هو بمنزلة ماء جار وواقف وساكن ولا خلاف أن المراد بالصلب صلب الرجل واختلف في الترائب فقيل المراد به ترائبه أيضا وهي عظام الصدر ما بين الترقوة إلى الثندوة وقيل المراد ترائب المرأة والأول أظهر لأنه سبحانه قال {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} ولم يقل يخرج من الصلب والترائب فلا بد أن يكون ماء الرجل خارجا من بين هذين المختلفين كما قال في اللبن: "يخرج من بين فرث ودم" وأيضا فإنه سبحانه أخبر أنه خلقه من نطفة في غير موضع والنطفة هي ماء الرجل كذلك قال أهل اللغة قال الجوهري: "والنطفة الماء الصافي قل أو كثر والنطفة ماء الرجل والجمع نطف" وأيضا فإن الذي يوصف بالدفق والنضح إنما هو ماء الرجل ولا يقال نضحت المرأة الماء ولا دفقته والذي أوجب لأصحاب القول الآخر ذلك أنهم رأوا أهل اللغة قالوا: "الترائب موضع القلادة من الصدر" قال الزجاج: "أهل اللغة مجمعون على ذلك" وأنشدوا لامرىء القيس: مهفهفة بيضاء غير مفاضة…ترائبها مصقولة كالسجنجل. وهذا لا يدل على اختصاص الترائب بالمرأة بل بطلق على الرجل والمرأة قال الجوهري: "الترائب عظام الصدر ما بين الترقوة والثندوة". وقوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} الصحيح أن الضمير يرجع على الإنسان أي أن الله على رده إليه لقادر يوم القيامة وهو اليوم الذي تبلى فيه السرائر ومن قال أن الضمير يرجع على الماء أي إن الله على رجعه في الإحليل أو في الصدر أو حبسه عن الخروج لقادر فقد أبعد وإن كان الله سبحانه قادرا على ذلك ولكن السياق يأباه وطريقة القرآن وهي الاستدلال بالمبدأ والنشأة الأولى على المعاد والرجوع إليه وأيضا فإنه قيده بالظرف وهو {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} والمقصود أنه سبحانه دعا الإنسان أن ينظر في مبدأ خلقه ورزقه فإن ذلك يدله دلالة ظاهرة على معاده ورجوعه إلى ربه. وقال تعالى {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فجعل سبحانه نظره في إخراج طعامه من الأرض دليلا على إخراجه هو منها بعد موته استدلالا بالنظير على النظير. ومن ذلك قوله سبحانه ردا على الذين قالوا {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا َوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} أي مثل هؤلاء المكذبين والمراد به النشأة الثانية وهي الخلق الجديد وهي المثل المذكور في غير موضع وهم هم بأعيانهم فلا تنافي في شيء من ذلك بل هو الحق الذي دل عليه العقل والسمع ومن لم يفهم ذلك حق فهمه تخبط عليه أمر المعاد وبقي منه في أمر مريج والمقصود أنه دلهم سبحانه بخلق السموات والأرض على الإعادة والبعث وأكد هذا القياس بضرب من الأولى وهو أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس فالقادر على خلق ما هو أكبر وأعظم منكم أقدر على خلقكم وليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته فليس مع المكذبين بالقيامة إلا مجرد تكذيب الله ورسوله وتعجيز قدرته ونسبة علمه إلى القصور والقدح في حكمته ولهذا يخبر الله سبحانه عمن أنكر ذلك بأنه كافر بربه جاحد له لم يقر برب العالمين فاطر السموات والأرض كما قال تعالى {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} وقال المؤمن للكافر الذي قال {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَأئمة وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} فقال له {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} فمنكر المعاد كافر برب العالمين وإن زعم أنه مقر به. ومنه قوله تعالى {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} يقول تعالى انظروا كيف بدأت الخلق فاعتبروا الإعادة بالابتداء. ومنه قوله تعالى {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} وقوله تعالى {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وقوله {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} وقال تعالى {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} ودعا علينا والسجل الورق المكتوب فيه والكتاب نفس المكتوب واللام بمنزلة على أي نطوي السماء كطي الدرج على ما فيه من السطور المكتوبة ثم استدل على النظير بالنظير فقال {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}. فصل قياس الشبه وأما قياس الشبه فلم يحكمه الله سبحانه إلا عن المبطلين فمنه قوله تعالى إخبارا عن إخوة يوسف أنهم قالوا لما وجدوا الصواع في رحل أخيهم {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} فلم يجمعوا بين الأصل والفرع بعلة ولا دليلها وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع سوى مجرد الشبه الجامع بينه وبين يوسف فقالوا: هذا مقيس على أخيه بينهما شبه من وجوه عديدة وذاك قد سرق فكذلك هذا وهذا هو الجمع بالشبه الفارغ والقياس بالصورة المجردة عن العلة المقتضية للتساوي وهو قياس فاسد والتساوي في قرابة الأخوة ليس بعلة للتساوي في السرقة لو كانت حقا ولا دليل على التساوي فيها فيكون الجمع لنوع شبه خال عن العلة ودليلها. ومنه قوله تعالى إخبارا عن الكفار أنهم قالوا {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} فاعتبروا صورة مجرد الآدمية وشبه المجانسة فيها واستدلوا بذلك على أن حكم أحد الشبهين حكم الآخر فكما لا نكون نحن رسلا فكذلك أنتم فإذا تساوينا في هذا الشبه فأنتم مثلنا لا مزية لكم علينا وهذا من أبطل القياس فإن الواقع من التخصيص والتفضيل وجعل بعض هذا النوع شريفا وبعضه دنيا وبعضه مرءوسا وبعضه رئيسا وبعضه ملكا وبعضه سوقة يبطل هذا القياس كما أشار سبحانه إلى ذلك في قوله {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}. وأجابت الرسل عن هذا السؤال بقولهم {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وأجاب الله سبحانه عنه بقوله {للَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وكذلك قوله سبحانه {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} فاعتبروا المساواة في البشرية وما هو من خصائصها من الأكل والشرب وهذا مجرد قياس شبه وجمع صوري ونظير هذا قوله ذَلِكَ {بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا}. ومن هذا قياس المشركين الربا على البيع بمجرد الشبه الصوري ومنه قياسهم الميتة على الذكي في إباحة الأكل بمجرد الشبه. وبالجملة فلم يجىء هذا القياس في القرآن إلا مردودا مذموما ومن ذلك قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} فبين الله سبحانه أن هذه الأصنام أشباح وصور خالية عن صفات الإلهية وأن المعنى المعتبر معدوم فيها وأنها لو دعيت لم تجب فهي صورة خالية عن أوصاف ومعان تقتضي عبادتها وزاد هذا تقريرا بقوله {لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي أن جميع ما لهذه الأصنام من الأعضاء التي نحتتها أيديكم إنما هي صور عاطلة عن حقائقها وصفاتها لأن المعنى المراد المختص بالرجل هو مشيها وهو معدوم في هذه الرجل والمعنى المختص باليد هو بطشها وهو معدوم في هذه اليد والمراد بالعين إبصارها وهو معدوم في هذه العين ومن الأذن سمعها وهو معدوم فيها والصور في ذلك كله ثابتة موجودة وكلها فارغة خالية من الأوصاف والمعاني فاستوى وجودها وعدمها وهذا كله مدحض لقياس الشبه الخالي عن العلة المؤثرة والوصف المقتضي للحكم والله أعلم. فصل معنى المثل وحكمة ذكره في القرآن ومن هذا ما وقع في القرآن من الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون فإنها تشبيه شيء بشيء في حكمه وتقريب المعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين من الآخر كقوله تعالى في حق المنافقين {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فضرب للمنافقين بحسب حالهم مثلين مثلا ناريا ومثلا مائيا لما في النار والماء من الإضاءة والإشراق والحياة فإن النار مادة النور. والماء مادة الحياة وقد جعل الله سبحانه الوحي الذي أنزله من السماء متضمنا لحياة القلوب واستنارتها ولهذا سماه روحا ونورا وجعل قابليه أحياء في النور ومن لم يرفع به رأسا أمواتا في الظلمات وأخبر عن حال المنافقين بالنسبة إلى حظهم من الوحي وأنهم بمنزلة من استوقد نارا لتضيء له وينتفع بها وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام فاستضاءوا به وانتفعوا به وآمنوا به وخالطوا المسلمين ولكن لما ألم يكن لصحبتهم مادة من قلوبهم من نور الإسلام طفىء عنهم وذهب الله بنورهم ولم يقل بنارهم فإن النار فيها الإضاءة والإحراق فذهب الله بما فيها من الاضاءة وأبقى عليهم ما فيها من وتركهم في ظلمات لا يبصرون فهذا حال من أبصر ثم عمي وعرف ثم أنكر ودخل في الإسلام ثم فارقه بقلبه فهو لا يرجع ولهذا قال فهم لا يرجعون ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي فشبههم بأصحاب صيب وهو المطر الذي يصوب أي ينزل من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق فلضعف بصائرهم وعقولهم اشتدت عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه وخطابه الذي يشبه الصواعق فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق فلضعفه وخوره جعل أصبعيه في أذنيه وغمض عينيه خشية من صاعقة تصيبه وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثير من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة إذا سمعوا شيئا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ويقول مخنثهم سدوا عنا هذا الباب واقرأوا شيئا غير هذا وترى قلوبهم مولية وهو يجمحون لثقل معرفة الرب سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته على عقولهم وقلوبهم وكذلك المشركون على اختلاف شركهم إذا جرد لهم التوحيد وتليت عليهم النصوص المبطلة لشركهم اشمأزت قلوبهم وثقلت عليهم ولو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم لفعلوا ولذلك تجد أعداء أصحاب رسول الله ﷺ إذا سمعوا نصوص الثناء على الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله ﷺ ثقل ذلك عليهم جدا وأنكرته قلوبهم وهذا كله شبه ظاهر ومثل محقق من إخوانهم من المنافقين في المثل الذي ضربه الله لهم بالماء فإنهم لما تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم. فصل المثل في حق المؤمن وقد ذكر الله المثلين المائي والناري في سورة الرعد ولكن في حق المؤمنين فقال تعالى {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات وشبه القلوب بالأودية فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء كثيرا وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير فسالت أودية بقدرها واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها وكما أن السيل إذا خالط الأرض ومر عليها احتمل غثاء وزبدا فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات ليقلعها ويذهبها كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه فيتكدر بها شاربه وهي من تمام نفع الدواء فإنه أثارها ليذهب بها فإنه لا يجامعها ولا يشاركها وهكذا يضرب الله الحق والباطل ثم ذكر المثل الناري فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} وهو الخبث الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد فتخرجه النار وتميزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيرمى ويطرح ويذهب جفاء فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي يستقي منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم كذلك يستقر في قرار القبل وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما والله الموفق. فصل ومنها قوله تعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر فتروقه بزينتها وتعجبه فيميل إليها ويهواها اغترارا منه بها حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبينها فشبهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها فتعشب ويحسن نباتها ويروق منظرها للناظر فيغتر به ويظن أنه قادر عليها مالك لها فيأتيها أمر الله فتدرك نباتها الآفة بغتة فتصبح كأن لم تكن قبل فيخيب ظنه وتصبح يداه صفرا منها فكذا حال الدنيا والواثق بها سواء وهذا من أبلغ التشبيه والقياس ولما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات والجنة سليمة منها قال {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} فسماها هنا دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا فعم بالدعوة إليها وخص بالهداية من يشاء فذاك عدله وهذا فضله. فصل ومنها قوله تعالى {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ} فإنه سبحانه ذكر الكفار ووصفهم بأنهم {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} ثم ذكر المؤمنين ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربهم فوصفهم بعبودية الظاهر والباطن وجعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق أصم عن سماعه فشبهه بمن بصره أعمى عن رؤية الأشياء وسمعه أصم عن سماع الأصوات والفريق الآخر بصير القلب سميعه كبصير العين وسميع الأذن فتضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}. ومنها قوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فذكر سبحانه أنهم ضعفاء وأن الذين اتخذوهم أولياءهم أضعف منهم فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتا وهو من أوهن البيوت وأضعفها وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون الله أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفا كما قال تعالى {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} وقال تعالى {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} وقال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}. فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليا يتعزز به ويتكبر به ويستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصوده وفي القرآن أكثر من ذلك وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده. فإن قيل: فهم يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت فكيف نفي عنهم علم ذلك بقوله {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. فالجواب أنه سبحانه لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت وإنما نفى عنهم علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتا فلو علموا ذلك لما فعلوه ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزا وقدرة فكان الأمر بخلاف ما ظنوه. فصل ومنها قوله تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}. ذكر سبحانه للكافرين مثلين: مثلا بالسراب ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان أحدهما من يظن انه على شيء فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه وهذه حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له وهكذا الأعمال التي لغير الله وعلى غير أمره يحسبها العامل نافعة له وليست كذلك وهذه هي الأعمال التي قال الله عز وجل فيها {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالقيعة وهي الأرض القفر الخالية من البناء والشجر والنبات والعالم فمحل السراب أرض قفر لا شيء بها والسراب لا حقيقة له وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى وتأمل ما تحت قوله {يَحْسَبُهُ الظَّمْآن} والظمآن الذي قد اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه فلم يجده شيئا بل خانه أحوج ما كان إليه فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول ولغير الله جعلت كالسراب فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها فلم يجدوا شيئا ووجدوا الله سبحانه ثم فجازاهم بأعمالهم ووفاهم حسابهم. وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ في حديث التجلي يوم القيامة: "ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها السراب فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن الله فيقال: كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون قالوا: نريد أن تسقينا فيقال: اشربوا فيتساقطون في جهنم ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم: كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون فيقولون: نريد أن تسقينا فيقال لهم: اشربوا فيتساقطون" وذكر الحديث وهذه حال كل صاحب باطل فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه فإن الباطل لا حقيقة له وهو كاسمه باطل فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة كالعمل لغير الله أو على غير أمره بطل العمل ببطلان غايته وتضرر عامله ببطلانه وبحصول ضد ما كان يؤمله فلم يذهب عليه عمله واعتقاده لا له ولا عليه بل صار معذبا بفوات نفعه وبحصول ضد النفع فلهذا قال تعالى {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى. فصل النوع الثاني: أصحاب مثل الظلمات المتراكمة وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال فتراكمت عليهم ظلمة الطبع وظلمة النفوس وظلمة الجهل حيث لم يعملوا بعلمهم فصاروا جاهلين وظلمة اتباع الغنى والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي لا ساحل له وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج موج ومن فوقه سحاب مظلم فهو في ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة وهو الماء والظلمات المضادة للنور نظير المثلين الذين ضربهما الله للمنافقين والمؤمنين وهو المثل المائي والمثل الناري وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور والموت المضاد للحياة فكذلك الكفار في هذين المثلين حظهم من الماء السراب الذي يغر الناظر ولا حقيقة له وحظهم الظلمات المتراكمة وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا وأصحاب المثل الثاني هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى وآثروا الباطل على الحق وعموا عنه بعد أن أبصروه وجحدوه بعد أن عرفوه فهذا حال المغضوب عليهم والأول حال الضالين وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ} إلى قوله {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم وهم أهل النور والضالين هم أصحاب السراب والمغضوب عليهم وهم أهل الظلمات المتراكمة والله أعلم. فالمثل الأول من المثلين لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع والمثل الثاني لأصحاب العلم الذي لا ينفع والاعتقادات الباطلة وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم وهكذا أمواج الشكوك والشبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين وليطابق بينهما وبين المثلين يعرف عظمة القرآن وجلالته وأنه تنزيل من حكيم حميد. وأخبر سبحانه أن الموجب لذلك أنه لم يجعل لهم نورا بل تركهم في على الظلمة التي خلقوا فيها فلم يخرجهم منها إلى النور فإنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال: "إن الله خلق خلقه في ظلمة وألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل" فلذلك أقول: جف القلم على علم الله فالله سبحانه خلق الخلق في ظلمة فمن أراد هدايته جعل له نورا وجوديا يحي به قلبه وروحه كما يحي بدنه بالروح التي ينفخها فيه فهما حياتان: حياة البدن بالروح وحياة الروح والقلب بالنور ولهذا سمى سبحانه الوحي روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه كما قال تعالى {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقال {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقال تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} فجعل وحيه روحا ونورا فمن لم يحيه بهذا الروح فهو ميت ومن لم يجعل له نورا منه فهو في الظلمات ما له من نور. فصل ومنها قوله تعالى {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} فشبه أكثر الناس بالأنعام والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له وجعل الأكثرين أضل سبيلا من الأنعام لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي وتتبع الطريق فلا تحيد عنها يمينا ولا شمالا والأكثرون يدعوهم الرسل ويهدونهم السبيل فلا يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتتجنبه وما ينفعها فتؤثره والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوبا تعقل بها ولا ألسنة تنطق بها وأعطى ذلك لهؤلاء ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار فهم أضل من البهائم فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق مع الدليل إليه أضل وأسوأ حالا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه. فصل ومنها قوله تعالى {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وهذا دليل قياس احتج الله سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم لا يحتاجون فيها إلى غيرهم ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ الإنسان من نفسه ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها معلوم لها فقال هل لكم مما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك سواء تخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها ويستأثرون ببعضها عليكم كما يخاف الشريك شريكه وقال ابن عباس: "تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا" والمعنى هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي فإن كان هذا الحكم باطلا في فطركم وعقولكم مع أنه جائز عليكم ممكن في حقكم إذ ليس عبيدكم ملكا لكم حقيقة وإنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم وأنتم وهم عبيد لي فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول. فصل قياس الطرد وقياس العكس ومنها قوله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس وهو نفي الحكم لنفي علته وموجبه فإن القياس نوعان قياس طرد يقتضي إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه وقياس عكس يقتضي نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه فالمثل الأول ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان فالله سبحانه هو المالك لكل شيء ينفق كيف يشاء على عبيده سرا وجهرا وليلا ونهارا يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء فكيف يجعلونها شركاء لي ويعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين هذا قول مجاهد وغيره وقال ابن عباس: "هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه رزقا حسنا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء لأنه لا خير عنده" فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟ والقول الأول أشبه بالمراد فإنه أظهر في بطلان الشرك وأوضح عند المخاطب وأعظم في إقامة الحجة وأقرب نسبا بقوله {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ثم قال {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموجد كمن رزقه منه رزقا حسنا والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء فهذا ما نبه عليه المثل وأرشد إليه فذكره ابن عباس منبها على إرادته لا أن الآية اختصت به فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره فيحكيه قوله. فصل وأما المثل الثاني فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبد من دونه أيضا فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق بل هو أبكم القلب واللسان قد عدم النطق القلبي واللساني ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير ولا يقضي لك حاجة والله سبحانه حي قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد فإن أمره بالعدل وهو الحق يتضمن أنه سبحانه عالم به معلم له راض به آمر لعباده به محب لأهله لا يأمر بسواه بل تنزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل بل أمره وشرعه عدل كله وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه وهو المجاورون له عن يمينه على منابر من نور وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما كما في الحديث الصحيح: "اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك" فقضاؤه هو أمره الكوني {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فلا يأمر إلا بحق وعدل وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم فالقضاء غير المقضي والقدر غير المقدر ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم وهذا نظير قول رسوله شعيب {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فقوله {وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} نظير قوله ناصيتي بيدك وقوله {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} نظير قوله: "عدل في قضاؤك" فالأول ملكه والثاني حمده وهو سبحانه له الملك وله الحمد وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالعدل ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة وحكمة وعدل فهو على الحق في أقواله وأفعاله فلا يقضي يقضى على العبد بما يكون ظالما له به ولا يأخذه بغير ذنبه ولا ينقصه من حسناته شيئا ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله. قال محمد بن جرير الطبري وقوله {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقول: إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته لا يظلم أحدا منهم شيئا ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به ثم حكى عن مجاهد من طريق شبل بن أبي نجيح عنه: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال: "الحق" وكذلك رواه ابن جريج عنه. وقالت فرقة: هي مثل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} وهذا اختلاف عبارة فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقالت فرقة: في الكلام حذف تقديره: إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم وإن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم فقد أصابوا. وقالت فرقة أخرى: معنى كونه على صراط مستقيم أن مراد العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه فهو حق. وقالت فرقة أخرى: معناه كل شيء تحت قدرته وقهره وفي ملكه وقبضته وهذا وإن كان حقا فليس هو معنى الآية وقد فرق شعيب بين قوله ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وبين قوله {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فهما معنيان مستقلان. فالقول قول مجاهد وهو قول أئمة التفسير ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز: أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم. وقد قال تعالى {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره فصراطه الذي هو سبحانه عليه هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قول الحق وفعله وبالله التوفيق. فصل وفي الآية قول ثان مثل الأية سواء أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر وقد تقدم ما في هذا القول وبالله التوفيق. فصل ومنها قوله تعالى في تشبيه من أعرض عن كلامه وتدبره {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} شبههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحمر رأت الأسد أو الرماة ففرت منه وهذا من بديع القياس والتمثيل فإن القوم في جهلهم بما بعث الله به رسوله كالحمر وهي لا تعقل شيئا فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور وهذا غاية الذم لهؤلاء فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها وتحت المستنفرة معنى أبلغ من النافرة فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضا وحضه على النفور فإن في الاستفعال من الطلب قدرا زائدا على الفعل المجرد فكأنها تواصت بالنفور وتواطأت عليه ومن قرأها بفتح الفاء فالمعنى أن القسورة استنفرها وحملها على النفور ببأسه وشدته. فصل ومنها قوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فقاس من حمله سبحانه كتابه ليؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه ثم خالف ذلك ولم يحمله إلا على ظهر قلب فقراءته بغير تدبر ولا تفهم ولا اتباع له ولا تحكيم له وعمل بموجبه كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها وحظه منها حمله على ظهره ليس إلا فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره فهذا المثل وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به ولم يؤد حقه ولم يرعه حق رعايته. فصل ومنها قوله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فشبه سبحانه من أتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره فترك العمل به واتبع هواه وآثر سخط الله على رضاه ودنياه على آخرته والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات وأوضعها قدرا وأخسها نفسا وهمته لا تتعدى بطنه وأشدها شرها وحرصا ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض بتشمم ويستروح حرصا وشرها ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم الطري والعذرة أحب إليه من الحلوى وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا واحدا يتناول منها شيئا إلا هر عليه وقهره لحرصه وبخله وشرهه ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية وحال زرية نبحه وحمل عليه كأنه يتصور مشاركته له ومنازعته في قوته وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة وضع له خطمه بالأرض وخضع له ولم يرفع إليه رأسه. وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه سر بديع وهو أن الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة فهو شديد اللهف عليها ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى قال ابن جريج الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع قلت مراده بانقطاع فؤاده أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث وهكذا الذي انسلخ من آيات الله لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها فهذا يلهف على الدنيا من قلة صبره عنها وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء وإذا عطش أكل الثرى من العطش وإن كان فيه صبر على الجوع وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا يلهث قائما وقاعدا وماشيا وواقفا وذلك لشدة حرصه فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث فهكذا مشبهه شدة الحرص وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهف فإن حملت عليه الموعظة والنصيحة فهو يلهف وإن تركته ولم تعظه فهو يلهف قال مجاهد وذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به وقال ابن عباس: "إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها وإن تركته لم يهتد إلى خير كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طرد لهث" وقال الحسن: "هو المنافق لا يثبت على الحق دعي أو لم يدع وعظ أو لم يوعظ كالكلب يلهث طرد أو ترك" وقال عطاء: "ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه" وقال أبو محمد بن قتيبة: "كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال الصحة وحال المرض والعطش فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته" وقال: "إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث" ونظيره قوله سبحانه {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ}. وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعنى فمنها قوله {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته فإنها نعمة والله هو الذي أنعم بها عليه فأضافها إلى نفسه ثم قال: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم ولم يقل فسلخناه منها لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباع هواه ومنها قوله سبحانه: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي لحقه وأدركه كما قال في قوم فرعون: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} وكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا على غرة وخطفة فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته فكان من الغاوين العاملين بخلاف علمهم الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء ومنها أنه سبحانه قال: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم فإن هذا كان من العلماء وإنما هي باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاة الله فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به فنعوذ بالله من علم لا ينفع وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم وإن لم يرفعه الله فهو موضوع لا يرفع أحد به رأسا فإن الخافض الرافع سبحانه خفضه ولم يرفعه والمعنى لو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه قال ابن عباس: "ولو شئنا لرفعناه بعمله بها" وقالت طائفة الضمير في قوله {لَرَفَعْنَاهُ}: "عائد على الكفر" والمعنى لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بما معه من آياتنا قال مجاهد وعطاء: "لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه" وهذا المعنى حق والأول هو مراد الآية وهذا من لوازم المراد وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها وقوله {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} قال سعيد بن جبير: "ركن إلى الأرض" وقال مجاهد: "سكن" وقال مقاتل: "رضي بالدنيا" وقال أبو عبيدة: "لزمها وأبطأ والمخلد من الرجال هو الذي يبطيء مشيته ومن الدواب التي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته" وقال الزجاج: "خلد وأخلد وأصله من الخلود وهو الدوام والبقاء" ويقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به قال مالك بن نويرة: بأبناء حي من قبائل مالك ** وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا. قلت: ومنه قوله تعالى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} أي قد خلقوا للبقاء لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون وهم على سن واحد أبدا وقيل هم المقرطون في آذانهم والمسورون في أيديهم وأصحاب هذا القول فسروا اللفظة ببعض لوازمها وذلك أمارة التخليد على ذلك السن فلا تنافي بين القولين وقوله: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} قال الكلبي اتبع مسافل الأمور وترك معاليها وقال أبو روق اختار الدنيا على الآخرة وقال عطاء: "أراد الدنيا وأطاع شيطانه" وقال ابن دريد: "كان هواه مع القوم" يعني الذين حاربوا موسى وقومه وقال يمان: "اتبع امرأته لأنها هي التي حملته على ما فعل". فإن قيل: الاستدراك بلكن يقتضي أن يثبت بعدها ما نفي قبلها أو ينفي ما أثبت كما تقول: لو شئت لأعطيته لكني لم أعطه ولو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته فالاستدراك يقتضي ولو شئنا لرفعناه بها ولكنا لم نشأ أو لم نرفع فكيف استدرك بقوله: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} بعد قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}. قيل: هذا من الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني وذلك أن مضمون قوله {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات من إيثار الله ومرضاته على هواه ولكنه آثر الدنيا وأخلد إلى الأرض واتبع هواه. وقال الزمخشري: المعنى: لو لزم آياتنا لرفعناه بها فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها قال: ألا ترى إلى قوله {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ} فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون {وَلَوْ شِئْنَا} في معنى ما هو فعله ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال لو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ فهذا منه شنشنة نعرفها من قدري ناف للمشيئة العامة مبعد للنجعة في جعل كلام الله معتزليا قدريا فأين قوله: {وَلَوْ شِئْنَا} من قوله ولو لزمها ثم إذا كان اللزوم لها موقوفا على مشيئة الله وهو الحق بطل أصله وقوله: "إن مشيئة الله تابعة للزومه الآيات" من أفسد الكلام وأبطله بل لزومه لآياته تابع لمشيئة الله فمشيئة الله سبحانه متبوعة لا تابعة وسبب لا مسبب وموجب مقتض لا مقتضى فما شاء الله وجب وجوده ولم لم يشأ امتنع وجوده. فصل ومنها قوله تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} وهذا من أحسن القياس التمثيلي فإنه شبه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه ولما كان المرتاب يمزق عرض أخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت ولما كان المغتاب عاجزا عن دفعه عن نفسه بكونه غائبا عن ذمه كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه ولما كان مقتضى الأخوة التراحم والتواصل والتناصر فعلق عليها المغتاب ضد مقتضاها من الذم والعيب والطعن كان ذلك نظير تقطيع لحم أخيه والأخوة تقتضي حفظه وصيانته والذب عنه ولما كان المغتاب متمتعا بعرض أخيه متفكها بغيبته وذمه متحليا بذلك شبه بآكل لحم أخيه بعد تقطيعه ولما كان المغتاب محبا لذلك معجبا به شبه بمن يحب أن يأكل لحم أخيه ميتا ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه. فتأمل هذا التشبيه والتمثيل وحسن موقعه ومطابقة المعقول فيه المحسوس وتأمل إخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتا ووصفهم بذلك في آخر الآية والإنكار عليهم في أولها أن يحب أحدهم ذلك فكما أن هذا مكروه في طباعهم فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره فاحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه وشبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم وهم أشد شيء نفرة عنه فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة أن يكونوا أشد شيء نفرة عما هو نظيره ومشبهه وبالله التوفيق. فصل ومنها قوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} فشبه تعالى أعمال الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح شديدة في يوم عاصف فشبه سبحانه أعمالهم في حبوطها وذهابها باطلا كالهباء المنثور لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان وكونها لغير الله عز وجل وعلى غير أمره برماد طيرته الريح العاصف فلا يقدر صاحبه على شيء منه وقت شدة حاجته إليه فلذلك قال {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء فلا يرون له أثرا من ثواب ولا فائدة نافعة فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه موافقا لشرعه والأعمال أربعة فواحد مقبول وثلاثة مردودة فالمقبول: الخالص الصواب فالخالص أن يكون لله لا لغيره والصواب أن يكون مما شرعه الله على لسان رسوله والثلاثة مردودة ما خالف ذلك. وفي تشبيهها بالرماد سر بديع وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا فكانت الأعمال التي لغير الله وعلى غير مراده طعمة للنار وبها تسعر النار على أصحابها وينشىء الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارا وعذابا كما ينشىء لأهل الأعمال الموافقة لأمره ونهيه التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيما وروحا فأثرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رمادا فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار. فصل كلمة التوحيد وأثرها في نفس المؤمن ومنها قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فشبه سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون: "الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله" فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة فكل عمل صالح مرضي لله ثمرة هذه الكلمة وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: "كلمة طيبة شهادة أن لا إله إلا الله كشجرة طيبة وهو المؤمن أصلها ثابت قول لا إله إلا الله في قلب المؤمن وفرعها في السماء يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء" وقال الربيع بن أنس: "كلمة طيبة هذا مثل الإيمان فالإيمان الشجرة الطيبة وأصلها الثابت الذي لا يزول الإخلاص فيه وفرعه في السماء خشية الله" والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علوا التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة الصاعدة إلى السماء ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها وقيامه بحقوقها ومراعاتها حق رعايتها. فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها واتصف قلبه بها وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها فعرف حقيقة الإلهية التي يثبتها قلبه لله ويشهد بها لسانه وتصدقها جوارحه ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللا غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى وهذه الكلمة الطيبة تثمر كلاما كثيرا طيبا يقارنه عمل صالح فيرفع العمل الصالح إلى الكلم الطيب كما قال تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملا صالحا كل وقت. والمقصود أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفا بمعناها وحقيقتها نفيا وإثباتا متصفا بموجبها قائما قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل من هذا الشاهد أصلها ثابت راسخ في قلبه وفروعها متصلة بالسماء وهي مخرجة لثمرتها كل وقت. ومن السلف من قال: "إن الشجرة الطيبة هي النخلة" ويدل عليه حديث ابن عمر الصحيح ومنهم من قال: "هي المؤمن نفسه" كما قال محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله: "ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة" يعني بالشجرة الطيبة المؤمن ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم فيبلغ عمله وقوله السماء وهو في الأرض وقال عطية العوفي في قوله {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} قال: "ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرج منه كلام طيب وعمل صالح يصعد إلى الله" وقال الربيع بن أنس: "أصلها ثابت وفرعها في السماء" قال: "ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له أصلها ثابت" قال: "أصل عمله ثابت في الأرض وفرعها في السماء" قال: "ذكره في السماء ولا اختلاف بين القولين والمقصود بالمثل المؤمن والنخلة مشبهة به وهو مشبه بها وإذا كانت النخلة شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك" ومن قال من السلف: "إنها شجرة في الجنة فالنخلة من أشرف أشجار الجنة". حكمة تشبيه المؤمن بالشجرة وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به ويقتضيه علم الذي تكلم به وحكمته. فمن ذلك أن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر فكذلك شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه به فعروقها العلم والمعرفة واليقين وساقها الإخلاص وفروعها الأعمال وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصفات الممدوحة والأخلاق الزكية والسمت الصالح والهدى والدل المرضي فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله والإخلاص قائم في القلب والأعمال موافقة للأمر والهدي والدل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. ومنها: أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح والعود بالتذكر على التفكر والتفكر على التذكر وإلا أوشك أن تيبس وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب فجددوا إيمانكم" وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك ومن هنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وظفها عليها وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم. ومنها: أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنه لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب ليس من جنسه فإن تعاهده ربه ونقاه وقلعه كمل الغرس والزرع واستوى وتم نباته وكان أوفر لثمرته وأطيب وأزكى وإن تركه أوشك أن يغلب على الغرس والزرع ويكون الحكم له أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته ومن لم يكن له فقه نفس في هذا ومعرفة به فإنه يفوته ربح كثير وهو لا يشعر فالمؤمن دائما سعيه في شيئين سقي هذه الشجرة وتنقية ما حولها فبسقيها تبقى وتدوم وبتنقية ما حولها تكمل وتتم والله المستعان وعليه التكلان. فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الوقفة وقلوبنا المخطئة وعلومنا القاصرة وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار وإلا فلو طهرت منا القلوب وصفت الأذهان وزكت النفوس وخلصت الأعمال وتجرت الهمم للتلقي عن الله ورسوله لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم وتتلاشى عنده معارف الخلق وبهذا تعرف قدر علوم الصحابة ومعارفهم وأن التفاوت الذي بين علومهم وعلوم من بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله ومن يختص برحمته. فصل ضرب المثل للكافر ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار فلا عرق ثابت ولا فرع عال ولا ثمرة زاكية فلا ظل ولا جنى ولا ساق قائم ولا عرق في الأرض ثابت فلا أسفلها مغدق ولا أعلاها مونق ولا جنى لها ولا تعلو بل تعلى. وإذا تأمل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم وكسبهم وجده كذلك فالخسران الوقوف معه والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه. قال الضحاك: "ضرب الله مثلا للكافر بشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار" يقول ليس لها أصل ولا فرع وليس لها ثمرة ولا فيها منفعة كذلك الكافر لا يعمل خيرا ولا يقوله ولا يجعل الله فيه بركة ولا منفعة. وقال ابن عباس: "ومثل كلمة خبيثة وهي الشرك كشجرة خبيثة يعني الكافر اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يقول الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان ولا يقبل الله مع الشرك عملا فلا يقبل عمل المشرك ولا يصعد إلى الله فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء" يقول: ليس له عمل صالح في السماء ولا في الأرض. وقال الربيع بن أنس: "مثل الشجرة الخبيثة مثل الكافر ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع ولا يستقر قوله ولا عمله على الأرض ولا يصعد إلى السماء". وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية: "إن رجلا لقي رجلا من أهل العلم فقال له: ما تقول في الكلمة الخبيثة؟ قال: ما أعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافي بها القيامة". وقوله {اجْتُثَّتْ} أي استؤصلت من فوق الأرض ثم أخبر سبحانه عن فضله وعدله في الفريقين أصحاب الكلم الطيب والكلم الخبيث فأخبر أنه يثبت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة وأنه يضل الظالمين وهم المشركون عن القول الثابت فأضل هؤلاء بعدله لظلمهم وثبت المؤمنين بفضله لإيمانهم. وتحت قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} كنز عظيم من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم ومن حرمه فقد حرم وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}. وقال تعالى لأكرم خلقه {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وفي الصحيحين من حديث البجلي قال: "وهو يسألهم ويثبتهم" وقال تعالى لرسوله {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} فالخلق كلهم قسمان موفق بالتثبيت ومخذول بترك التثبيت ومادة التثبيت أصله ومنشأه من القول الثابت وفعل ما أمر به العبد فبهما يثبت الله عبده فكل من كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا قال تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} فأثبت الناس قلبا أثبتهم قولا والقول الثابت هو القول الحق والصدق وهو ضد القول الباطل الكذب فالقول نوعان: ثابت له حقيقة وباطل لا حقيقة له وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلونا وأقلهم ثباتا وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الإخبار وشجاعته ومهابته ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة. وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به فقال: والله ما فهمت منه شيئا إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل فما منح العبد أفضل من منحة القول الثابت ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم كما في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي ﷺ أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر. سؤال القبر وقد جاء هذا مبينا في أحاديث صحاح فمنها ما في المسند من حديث داود ابن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: "كنا مع النبي ﷺ في جنازة فقال: يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال: ما تقول في هذا الرجل فإن كان مؤمنا قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول له صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقال له هذا منزلك لو كفرت بربك فأما إذا آمنت فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض له فيقال له اسكن ثم يفسح له في قبره وأما الكافر والمنافق فيقال له ما تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري فيقال له لا دريت ولا اهتديت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له هذا منزلك لو آمنت بربك فأما إذا كفرت فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين قال بعض أصحابه يا رسول الله ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك فقال رسول الله ﷺ "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء". وفي المسند نحوه من حديث البراء بن عازب وروى المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء قال: "قال رسول الله ﷺ وذكر قبض روح المؤمن فقال: يأتيه آت يعني في قبره فيقول: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد ﷺ قال: فينتهره فيقول: ما ربك وما دينك وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فذلك حيث يقول الله {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد فيقال له: صدقت" وهذا حديث صحيح وقال حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "قال رسول الله ﷺ: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين قال: إذا قيل له في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد جاءنا بالبينات من عند الله فآمنت به وصدقت فيقال له: صدقت على هذا عشت وعليه مت وعليه تبعث" قال الأعمش عن المنهال بن عمرو وعن زاذان عن البراء بن عازب قال: "قال رسول الله ﷺ وذكر قبض روح المؤمن قال: فترجع روحه في جسده ويبعث إليه ملكان شديدا الاتنهار فيجلسانه وينتهرانه ويقولان: من ربك؟ فيقول الله وما دينك؟ فيقول: الإسلام فيقولان له: ما هذا الرجل أو النبي الذي بعث فيكم؟ فيقول محمد رسول الله فيقولان له: وما يدريك؟ قال: فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت فذلك قول الله تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}" رواه ابن حبان في صحيحه والإمام أحمد وفي صحيحه أيضا من حديث أبي هريرة يرفعه قال: "إن الميت ليسمع خفق نعالهم حين يولولن عنه مدبرين فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه وكان الصيام عن يساره وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه فيؤتى من عند رأسه فتقول الصلاة ما قبلي مدخل فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة ما قبلي مدخل فيؤتى عن يساره فيقول الصيام ما قبلي مدخل فيؤتى من عند رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس ما قبلي مدخل فيقال له اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس قد دنت للغروب فيقال له أخبرنا عما نسألك عنه فيقول دعوني حتى أصلي فيقال إنك ستفعل فأخبرنا عما نسألك فيقول وعم تسألوني فيقال له أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد به عليه فيقول أمحمد ﷺ فيقال نعم فيقول أشهد أنه رسول الله وأنه جاء بالبينات من عند الله فصدقناه فيقال له على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ثم يفسح له قبره سبعون ذراعا وينور له فيه ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له انظر إلى ما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم تجعل نسمته في النسم الطيب وهي طير خضر تعلق بشجر الجنة ويعاد الجسد إلى ما بدأ منه من التراب وذلك قوله تعالى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}" ولا تستطل هذا الفصل المعترض في المفتي والشاهد والحاكم بل وكل مسلم أشد ضرورة إليه من الطعام والشراب والنفس وبالله التوفيق. فصل ومنها قوله تعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله وتعلق بغيره ويجوز لك في هذا التشبيه أمران أحدهما أن تجعله تشبيها مركبا ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيره برجل قد تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة فصور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير في الهوى فتمزق مزقا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة وعلى هذا لا تنظر إلى كل فرد من أفراد المشبه ومقابله من المشبه به والثاني أن يكون من التشبيه المفرق فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به وعلى هذا فيكون قد شبه الإيمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه فمنها هبط إلى الأرض وإليها يصعد منها وشبه تارك الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة والطير الذي تخطف أعضاءه وتمزقه كل ممزق بالشياطين التي يرسلها الله سبحانه وتعالى عليه وتؤزه أزا وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء. فصل ومنها قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} حقيق على كل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل ويتدبره حق تدبره فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه فكيف ما هو أكبر منه ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذوه منه فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوانات ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه فلا أعجز من هذه الآلهة ولا أضعف منها فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله وهذا المثل من أبلغ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم والشهادة على أن الشيطان قد تلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات والإحاطة بجميع المعلومات والغنى عن جميع المخلوقات وأن يصمد إلى الرب في جميع الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإجابة الدعوات فأعطوها صورا وتماثيل يمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات الآلهة الحق وأذلها وأصغرها وأحقرها ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه. وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء إلا هيتهم أن هذا الخلق الأقل الأذل العاجز الضعيف لو اختطف منهم شيئا واستلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه ثم سوى بين العابد والمعبود في الضعف والعجز بقوله {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} قيل الطالب العابد والمطلوب المعبود فهو عاجز متعلق بعاجز وقيل: هو تسوية بين السالب والمسلوب وهو تسوية بين الإله والذباب في الضعف والعجز وعلى هذا فقيل: الطالب الإله الباطل والمطلوب الذباب يطلب منه ما استلبه منه وقيل الطالب الذباب والمطلوب الإله فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه والصحيح أن اللفظ يتناول الجميع فضعف العابد والمعبود والمستلب والمستلب فمن جعل هذا إلها مع القوي العزيز فما قدره حق قدره ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظيمه. فصل ومنها قوله تعالى {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} فتضمن هذا المثل ناعقا أي مصوتا بالغنم وغيرها ومنعوقا به وهو الدواب فقيل: الناعق العابد وهو الداعي للصنم والصنم المنعوق به المدعو وإن حال الكافر في دعائه كحال من ينعق بما لا يسمعه هذا قول طائفة منهم عبد الرحمن بن زيد وغيره. واستشكل صاحب الكشاف وجماعة معه هذا القول وقالوا قوله {إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع دعاء ولا نداء. وقد أجيب عن هذا الاستشكال بثلاثة أجوبة: أحدها: أن (إلا) زائدة والمعنى بما لا يسمع دعاء ونداء قالوا: وقد ذكر ذلك الأصمعي في قول الشاعر: حراجيح ما تنفك إلا مناخة. أي ما تنفك مناخة وهذا جواب فاسد فإن (إلا) لا تزاد في الكلام. الجواب الثاني: أن التشبيه وقع في مطلق الدعاء لا في خصوصيات المدعو. الجواب الثالث: أن المعنى أن مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير أنه هو في دعاء ونداء وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء. وقيل: المعنى ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه مما يقول الراعي أكثر من الصوت فالراعي هو داعي الكفار والكفار هم البهائم المنعوق بها. قال سيبويه: المعنى ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به وعلى قوله فيكون المعنى: ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الغنم والناعق بها. ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركب وأن تجعله من التشبيه المفرق فإن جعلته من المركب كان تشبيها للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد الذي هو الدعاء والنداء وإن جعلته من التشبيه المفرق فالذين كفروا بمنزلة البهائم ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق والله أعلم. فصل ومنها قوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} شبه سبحانه نفقة المنفق في سبيله سواء كان المراد بها الجهاد أو جميع سبل الخير من كل بر بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبة منه سبع سنابل اشتملت كل سنبلة على مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء فوق ذلك بحسب حال المنفق وإيمانه وإخلاصه وإحسانه ونفع نفقته وقدرها ووقوعها موقعها فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان والإخلاص والتثبيت عند النفقة وهو إخراج المال بقلب ثابت قد انشرح صدره بإخراجه وسمحت به نفسه وخرج من قلبه قبل خروجه من يده فهو ثابت القلب عند إخراجه غير جزع ولا هلع ولا متبعه نفسه ترجف يده وفؤاده ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق ومصارفه بمواقعه وبحسب طيب المنفق وزكاته. وتحت هذا المثل من الفقه أنه سبحانه شبه الإنفاق بالبذر فالمنفق ماله الطيب لله لا لغيره باذر ماله في أرض زكية فمغلة بحسب بذره وطيب أرضه وتعاهد البذر بالسقي ونفي الدغل والنبات الغريب عنه فإذا اجتمعت هذه الأمور ولم تحرق الزرع نار ولا لحقته جائحة جاء أمثال الجبال وكان مثله كمثل جنة بربوة وهي المكان المرتفع الذي تكون الجنة فيه نصب الشمس والرياح فتتربى الأشجار هناك أتم تربية فنزل عليها من السماء مطر عظيم القطر متتابع فرواها ونماها فآتت أكلها ضعفي ما يؤتيه غيرها بسبب ذلك الوابل فإن لم يصبها وابل فطل مطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها يزكو على الطل وينمى عليه مع أن في ذكر نوعي الوابل والطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل. فمن الناس من يكون إنفاقه وابلا ومنهم من يكون إنفاقه طلا والله لا يضيع مثقال ذرة فإن عرض لهذا العامل ما يغرق أعماله ويبطل حسناته كان بمنزلة رجل له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت فإذا كان يوم استيفاء الأعمال وإحراز الأجور وجد هذا العامل عمله قد أصابه ما أصاب صاحب هذه الجنة فحسرته حينئذ أشد من حسرة هذا على جنته. فهذا مثل ضربه الله سبحانه في الحسرة لسلب النعمة عند شدة الحاجة إليها مع عظم قدرها ومنقتها والذي ذهبت عنه قد أصابه الكبر والضعف فهو أحوج ما كان إلى نعمته ومع هذا فله ذرية ضعفاء لا يقدرون على نفعه والقيام بمصالحة بل هم في عياله فحاجته إلى نعمته حينئذ أشد ما كانت لضعفه وضعف ذريته فكيف يكون حال هذا إذا كان له بستان عظيم فيه جميع الفواكه والثمر وسلطان ثمره أجل الفواكه وأنفعها وهو ثمر النخيل والأعناب فمغله يقوم بكفايته وكفاية ذريته فأصبح يوما وقد وجده محترقا كله كالصريم فأي حسرة أعظم من حسرته؟ قال ابن عباس: "هذا مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره" وقال مجاهد: "هذا مثل المفرط في طاعة الله حتى يموت" وقال السدي: "هذا مثل المرائي في نفقته الذي ينفق لغير الله ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه" "وسأل عمر بن الخطاب الصحابة يوما عن هذه الآية فقالوا: الله أعلم فغضب عمر وقال: قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين قال: قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك قال ضرب مثلا لعمل قال لأي عمل قال لرجل غني يعمل بالحسنات ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها" قال الحسن: "هذا مثل قل والله من يعقل من الناس شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا". فصل ما يبطل الأعمال من المن والأذى والرياء فإن عرض لهذه الأعمال من الصدقات ما يبطلها من المن والأذى والرياء فالرياء يمنع انعقادها سببا للثواب والمن والأذى يبطل الثواب الذي كانت سببا له فمثل صاحبها وبطلان عمله كمثل صفوان وهو الحجر الأملس عليه تراب فأصابه وابل وهو المطر الشديد فتركه صلدا لا شيء عليه وتأمل أجزاء هذا المثل البليغ وانطباقها على أجزاء الممثل به تعرف عظمة القرآن وجلالته فإ. الحجر في مقابلة قلب هذا المرائي والمان والمؤذي فقلبه في قسوته عن الإيمان والإخلاص والإحسان بمنزلة الحجر والعمل الذي عمله لغير الله بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر فقسوة ما تحته وصلابته تمنعه من النبات والثبات عند نزول الوابل فليس له مادة متصلة بالذي يقبل الماء وينبت الكلأ وكذلك قلب المرائي ليس له ثبات عند وابل الأمر والنهي والقضاء والقدر فإذا نزل عليه وابل الوحي انكشف عنه ذلك التراب اليسير الذي كان عليه فبرز ما تحته حجرا صلدا لا نبات فيه وهذا مثل ضربه الله سبحانه لعمل المرائي ونفقته لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء منه أحوج ما كان إليه وبالله التوفيق. فصل ومنها قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر لا يبتغون به وجه الله وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره فأصابته ريح شديدة البرد جدا يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته. واختلف في الصر فقيل: البرد الشديد وقيل: النار قاله ابن عباس قال ابن الأنباري: "وإنما وصفت النار بأنها صر لتصريتها عند الالتهاب" وقيل: "الصر الصوت الذي يصحب الريح من شدة هبوبها" والأقوال الثلاثة متلازمة فهو برد شديد محرق يبسه للحرث كما تحرقه النار وفيه صوت شديد. وفي قوله: {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} تنبيه على أن سبب إصابتها لحرثهم هو ظلمهم فهو الذي سلط عليهم الريح المذكورة حتى أهلكت زرعهم وأيبسته فظلمهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها. فصل ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}. هذا مثل ضربه الله سبحانه للمشرك والموحد فالمشرك بمنزلة عبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون متشاحون والرجل المتشاكس الضيق الخلق فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى شبه بعبد يملكه جماعة متنافسون في خدمته لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين. والموحد لما كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد لرجل واحد قد سلم له وعلم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه مع رأفة مالكه به ورحمته له وشفقته عليه وإحسانه إليه وتوليه لمصالحه فهل يستوي هذان العبدان. وهذا من أبلغ الأمثال فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما يستحق صاحب الشركاء المتشاكسين الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون. فصل ومنها قوله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال: مثل للكفار ومثلين للمؤمنين فتضمن مثل الكفار: أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب أو صلة صهر أو سبب من أسباب الاتصال فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلا بالله وحده على أيدي رسله فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الإيمان لنفعت الوصلة التي كانت بين لوط ونوح وامرأتيهما فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئا {قِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}. قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله وخالف أمره ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال فلا اتصال فوق اتصال البنوة الأبوة والزوجية ولم يغن نوح عن ابنه ولا إبراهيم عن أبيه ولا نوح ولا لوط عن امرأتيهما من الله شيئا قال الله تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} وقال تعالى {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} وقال تعالى {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا} وقال: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقّ} وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة أن من تعلقوا به من دون الله من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة أو يجيرهم من عذاب الله أو هو يشفع لهم عند الله وهذا أصل ضلالة بني آدم وشركهم وهو الشرك الذي لا يغفره الله وهو الذي بعث الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه بإبطاله ومحاربة أهله ومعاداتهم. فصل وأما المثلان اللذان للمؤمنين: فأحدهما امرأة فرعون ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله فتأتي عامة فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا رب العالمين. المثل الثاني للمؤمنين: مريم التي لا زوج لها لا مؤمن ولا كافر فذكر ثلاثة أصناف من النساء: المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر والمرأة العزب التي لا وصلة بينها وبين أحد فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببها والثانية لا تضرها وصلتها وسببها والثالثة لا يضرها عدم الوصلة شيئا. ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي ﷺ والتحذير من تظاهرهن عليه وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ويردن الدار الآخرة لم ينفعهن اتصالهن برسول الله ﷺ كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة. قال يحيى بن سلام: "ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة". وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم أيضا اعتبار آخر وهو أنها لم يضرها عند الله شيئا قذف أعداء الله اليهود لها ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأهما الله عنه مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه وفي هذا تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون إن كانت قبلها كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي ﷺ فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون. قالوا: فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل والقياس والجمع والفرق واعتبار العلل والمعاني وارتباطها بأحكامها تأثيرا واستدلالا. الاستفادة من ضرب الأمثال قالوا: قد ضرب الله سبحانه الأمثال وصرفها قدرا وشرعا ويقظة ومناما ودل عباده على الاعتبار بذلك وعبورهم من الشيء إلى نظيره واستدلالهم بالنظير على النظير بل هذا أهل عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة ونوع من أنواع الوحي فإنها مبنية على القياس والتمثيل واعتبار المعقول بالمحسوس. تأويل الرؤيا ألا ترى أن الثياب في التأويل كالقمص تدل على الدين فما كان فيها من طول أو قصر أو نظافة أو دنس فهو في الدين كما أول النبي ﷺ القميص بالدين والعلم والقدر المشترك بينهما أن كلا منهما يستر صاحبه ويجمله بين الناس فالقميص يستر بدنه والعلم والدين يستر روحه وقلبه ويجمله بين الناس. ومن هذا تأويل اللبن بالفطرة لما في كل منهما من التغذية الموجبة للحياة وكمال النشأة وأن الطفل إذا خلي وفطرته لم يعدل عن اللبن فهو مفطور على إيثاره على ما سواه وكذلك فطرة الإسلام التي فطر الله عليها الناس. ومن هذا تأويل البقر بأهل الدين والخير الذين بهم عمارة الأرض كما أن البقر كذلك مع عدم شرها وكثرة خيرها وحاجة الأرض وأهلها إليها ولهذا لما رأى النبي ﷺ بقرا تنحر كان ذلك نحرا في أصحابه. ومن ذلك تأويل الزرع والحرث بالعمل لأن العامل زارع للخير والشر ولا بد أن يخرج له ما بذره كما يخرج للباذر زرع ما بذره فالدنيا مزرعة والأعمال البذر ويوم القيامة يوم طلوع الزرع للباذر وحصاده. ومن ذلك تأويل الخشب المقطوع المتساند بالمنافقين والجامع بينهما أن المنافق لا روح فيه ولا ظل ولا ثمر فهو بمنزلة الخشب الذي هو كذلك ولهذا شبه الله تعالى المنافقين بالخشب المسندة لأنهم أجسام خالية عن الإيمان والخير وفي كونها مسندة نكتة أخرى وهي أن الخشب إذا انتفع به جعل في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع وما دام متروكا فارغا غير منتفع به جعل مسندا بعضه إلى بعض فشبه المنافقين بالخشب في الحالة التي لا ينتفع فيها بها. ومن ذلك تأويل النار بالفتنة لإفساد كل منهما ما يمر عليه ويتصل به فهذه تحرق الأثاث والمتاع والأبدان وهذه تحرق القلوب والأديان والإيمان. ومن ذلك تأويل النجوم بالعلماء والأشراف لحصول هداية أهل الأرض بكل منهما ولارتفاع الأشراف بين الناس كارتفاع النجوم. ومن ذلك تأويل الغيث بالرحمة والعلم والقرآن والحكمة وصلاح حال الناس. ومن ذلك خروج الدم في التأويل يدل على خروج المال والقدر المشترك أن قوام البدن بكل واحد منهما. ومن ذلك الحدث في التأويل يدل على الحدث في الدين فالحدث الأصغر ذنب صغير والأكبر ذنب كبير. ومن ذلك أن اليهودية والنصرانية في التأويل بدعة في الدين فاليهودية تدل على فساد القصد واتباع غير الحق والنصرانية تدل على فساد العلم والجهل والضلال. ومن ذلك الحديد في التأويل وأنواع السلاح يدل على القوة والنصر بحسب جوهر ذلك السلاح ومرتبته. ومن ذلك الرائحة الطيبة تدل على الثناء الحسن وطيب القول والعمل والرائحة الخبيثة بالعكس والميزان يدل على العدل والجراد يدل على الجنود والعساكر والغوغاء الذين يموج بعضهم في بعض والنحل يدل على من يأكل طيبا ويعمل صالحا والديك رجل عالي الهمة بعيد الصيت والحية عدو أو صاحب بدعة يهلك بسمه والحشرات أو غاد الناس والخلد رجل أعمى يتكفف الناس بالسؤال والذئب رجل غشوم ظلوم غادر فاجر والثعلب رجل غادر مكار محتال مراوغ عن الحق والكلب عدو ضعيف كثير الصخب والشر في كلامه وسبابه أو رجل مبتدع متبع هواه مؤثر له على دينه والسنور العبد والخادم الذي يطوف على أهل الدار والفأرة امرأة سوء فاسقة فاجرة والأسد رجل قاهر مسلط والكبش الرجل المنيع المتبوع. ومن كليات التعبير أن كل ما كان وعاء للماء فهو دال على الأثاث وكل ما كان وعاء للمال كالصندوق والكيس والجراب فهو دال على القلب وكل مدخول بعضه في بعض وممتزج ومختلط فدال على الاشتراك والتعاون أو النكاح وكل سقوط وخرور من علو إلى سفل فمذموم وكل صعود وارتفاع فمحمود إذا لم يجاوز العادة وكان ممن يليق به وكل ما أحرقته النار فجائحة وليس يرجى صلاحه ولا حياته وكذلك ما انكسر من الأوعية التي لا ينشعب مثلها وكل ما خطف وسرق من حيث لا يرى خاطفه ولا سارقه فإنه ضائع لا يرجى وما عرف خاطفه أو سارقه أو مكانه أو لم يغب عن عين صاحبه فإنه يرجى عوده وكل زيادة محمودة في الجسم والقامة واللسان والذكر واللحية واليد والرجل فزيادة خير وكل زيادة متجاوزة للحد في ذلك فمذمومة وشر وفضيحة وكل ما رأى من اللباس في غير موضعه المختص به فمكروه كالعمامة في الرجل والخف في الرأس والعقد في الساق وكل من استقضي أو استخلف أو أمر أو استوزر أو خطب ممن لا يليق به ذلك نال بلاء من الدنيا وشرا وفضيحة وشهرة قبيحة وكل ما كان مكروها من الملابس فخلقه أهون على لابسه من جديده والجوز مال مكنوز فإن تفقع كان قبيحا وشرا ومن صار له ريش أو جناح صار له مال فإن طار سافر وخروج المريض من داره ساكتا يدل على موته متكلما يدل على حياته والخروج من الأبواب الضيقة يدل على النجاة والسلامة من شر وضيق هو فيه وعلى توبة ولا سيما إن كان الخروج إلى فضاء وسعة فهو خير محض والسفر والنقلة من مكان إلى مكان انتقال من حال إلى حال بحسب حال المكانين ومن عاد في المنام إلى حال كان فيها في اليقظة عاد إليه ما فارقه من خير أو شر وموت الرجل دل على توبته ورجوعه إلى الله لأن الموت رجوع إلى الله قال تعالى {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} والمرهون مأسور بدين أو بحق عليه لله أو لعبيده ووداع المريض أهله أو توديعهم له دال على موته. وبالجملة فما تقدم من أمثال القرآن كلها أصول وقواعد لعلم التعبير لمن أحسن الاستدلال بها وكذلك من فهم القرآن فإنه يعبر به الرؤيا أحسن تعبير وأصول التعبير الصحيحة إنما أخذت من مشكاة القرآن فالسفينة تعبر بالنجاة لقوله تعالى {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} وتعبر بالتجارة والخشب بالمنافقين والحجارة بقساوة القلب والبيض بالنساء واللباس أيضا بهن وشرب الماء بالفتنة وأكل لحم الرجل بغيبته والمفاتيح بالكسب والخزائن والأموال والفتح يعبر مرة بالدعاء ومرة بالنصر وكالملك يرى في محله لا عادة له بدخولها يعبر بإذلال أهلها وفسادها والحبل يعبر بالعهد والحق والعضد والنعاس قد يعبر بالأمن والبقل والبصل والثوم والعدس يعبر لمن أخذه بأنه قد استبدل شيئا أدنى بما هو خير منه من مال أو رزق أو علم أو زوجة أو دار والمرض يعبر بالنفاق والشك وشهوة الرياء والطفل الرضيع يعبر بالعدو لقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} والنكاح بالبناء والرماد بالعمل الباطل لقوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} والنور يعبر بالهدى والظلمة بالضلال ومن ههنا قال عمر بن الخطاب لحابس بن سعد الطائي وقد ولاه القضاء فقال له: "يا أمير المؤمنين إني رأيت الشمس والقمر يقتتلان والنجوم بينهما نصفين فقال عمر: "مع أيهما كنت" قال: "مع القمر على الشمس" قال: "كنت مع الآية الممحوة اذهب فلست تعمل لي عملا ولا تقتل إلا في لبس من الأمر فقتل يوم صفين" وقيل لعابر: "رأيت الشمس والقمر دخلا في جوفي فقال: تموت" واحتج بقوله تعالى {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} وقال رجل لابن سيرين رأيت معي أربعة أرغفة خبز فطلعت الشمس فقال تموت إلى أربعة أيام ثم قرأ قوله تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} وأخذ هذا التأويل أنه حمل رزقه أربعة أيام وقال له آخر رأيت كيسي مملوءا أرضة فقال أنت ميت ثم قرأ: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْض} والنخلة تدل على الرجل المسلم وعلى الكلمة الطيبة والحنظلة تدل على ضد ذلك والصنم يدل على العبد السوء الذي لا ينفع والبستان يدل على العمل واحتراقه يدل على حبوطه لما تقدم في أمثال القرآن ومن رأى أنه ينقض غزلا أو ثوبا لعبيده مرة ثانية فإنه ينقض عهدا وينكثه والمشي سويا في طريق مستقيم يدل على استقامته على الصراط المستقيم والأخذ في بنيات الطريق يدل على عدوله عنه إلى ما خالفه وإذا عرضت له طريقان ذات يمين وذات شمال فسلك أحدهما فإنه من أهلها وظهور عورة الإنسان له ذنب يرتكبه ويفتضح به وهروبه وفراره من شيء نجاة وظفر وغرقه في الماء فتنة في دينه ودنياه وتعلقه بحبل بين السماء والأرض تمسكه بكتاب الله وعهده واعتصامه بحبله فإن انقطع به فارق العصمة إلا أن يكون ولي أمرا فإنه قد يقتل أو يموت. فالرؤيا أمثال مضروبة يضربها الملك الذي قد وكله الله بالرؤيا ليستدل الرائي بما ضرب له من المثل على نظيره ويعبر منه إلى شبهه ولهذا سمي تأويلها تعبيرا وهو تفعيل من العبور كما أن الاتعاظ يسمى اعتبارا وعبرة لعبور المتعظ من النظير إلى نظيره ولولا أن حكم الشيء حكم مثله وحكم النظير حكم نظيره لبطل هذا التعبير والاعتبار ولما وجد إليه سبيل ولقد أخبر سبحانه أنه ضرب الأمثال لعباده في غير موضع من كتابه وأمر باستماع أمثاله ودعا عباده إلى تعقلها والتفكير فيها والاعتبار بها وهذا هو المقصود بها. التساوي بين المتماثلين في الأحكام الشرعية وأما أحكامه الأمرية الشرعية فكلها هكذا تجدها مشتملة على التسوية يبن المتماثلين وإلحاق النظير بنظيره واعتبار الشيء بمثله والتفريق بين المختلفين وعدم تسوية أحدهما بالآخر وشريعته سبحانه منزهة من أن تنهى عن شيء لمفسدة فيه ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو مثلها أو أزيد منها فمن جوز ذلك على الشريعة فما عرفها حق معرفتها ولا قدرها حق قدرها وكيف يظن بالشريعة أنها تبيح شيئا لحاجة المكلف إليه ومصلحته ثم تحرم ما هو أحوج إليه والمصلحة في إباحته أظهر وهذا من أمحل المحال ولذلك كان من المستحيل أن يشرع الله ورسوله من الحيل ما يسقط به ما أوجبه أو يبيح به ما حرمه ولعن فاعله وآذنه بحربه وحرب رسوله وشدد فيه الوعيد لما تضمنه من المفسدة في الدنيا والدين ثم بعد ذلك يسوغ التوصل إليه بأدنى حيلة ولو أن المريض اعتمد هذا فيما يحميه منه الطبيب ويمنعه منه لكان معينا على نفسه ساعيا في ضرره وعد سفيها مفرطا وقد فطر الله سبحانه عباده على أن الحكم النظير حكم نظيره وحكم الشيء حكم مثله وعلى إنكار التفريق بين المتماثلين وعلى إنكار الجمع بين المختلفين والعقل والميزان الذي أنزله الله سبحانه شرعا وقدرا يأبى ذلك. الجزاء من جنس العمل لذلك كان الجزاء مماثلا للعمل من جنسه في الخير والشر فمن ستر مسلما ستره الله ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن أقال نادما أقاله الله عثرته يوم القيامة ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن ضار مسلما ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه ومن خذل مسلما في موضع يجب نصرته فيه خذله الله في موضع يجب نصرته فيه ومن سمح سمح الله له والراحمون يرحمهم الرحمن وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ومن أنفق أنفق عليه ومن أوعى أوعى عليه ومن عفا عن حقه عفا الله له عن حقه ومن جاوز تجاوز الله عنه ومن استقصى استقصى الله عليه فهذا شرع الله وقدره ووحيه وثوابه وعقابه كله قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النظير بالنظير واعتبار المثل بالمثل. القرآن يعلل الأحكام لهذا يذكر الشارع العلة والأوصاف المؤثرة والمعاني المعتبرة في الأحكام القدرية والشرعية والجزائية ليدل بذلك على تعلق الحكم بها أين وجدت واقتضائها لأحكامها وعدم تخلفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضاءها ويوجب تخلف أثرها عنها كقوله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وقوله{ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} وقد جاء التعليل في الكتاب العزيز بالباء تارة وباللام تارة وبأن تارة وبمجموعهما تارة وبكي تارة ومن أجل تارة وترتيب الجزاء على الشرط تارة وبالفاء المؤذنة بالسببية تارة وترتيب الحكم على الوصف المقتضي له تارة وبلما تارة وبأن المشددة تارة وبلعل تارة وبالمفعول له تارة فالأول كما تقدم واللام كقوله {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} وأن كقوله {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} ثم قيل التقدير لئلا تقولوا وقيل كراهة أن تقولوا وأن واللام كقوله {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وغالب ما يكون هذا النوع في النفي فتأمله وكي كقوله {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} والشرط والجزاء كقوله {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} والفاء كقوله {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} وترتيب الحكم على الوصف كقوله {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} وقوله {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وقوله {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} و{اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} ولما كقوله {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وإن المشددة كقوله {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} ولعل كقوله {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} والمفعول له كقوله {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى}. أي لم يفعل ذلك جزاء نعمة أحد من الناس وإنما فعله ابتغاء وجه ربه الأعلى ومن أجل كقوله {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ}. النبي يعلل الأحكام وقد ذكر النبي ﷺ علل الأحكام والأوصاف المؤثرة فيها ليدل على ارتباطها بها وتعديها بتعدي أوصافها وعللها كقوله في نبيذ التمر: "تمرة طيبة وماء طهور" وقوله: "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر" وقوله: "إنما نهيتكم من أجل الدافة" وقوله في الهرة "ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات" ونهيه عن تغطية رأس المحرم الذي وقصته ناقته وتقريبه الطيب وقوله: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" وقوله: "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" ذكره تعليلا لنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها وقوله تعالى {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وقوله في الخمر والميسر {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وقوله ﷺ وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر "أينقص الرطب إذا جف قالوا: نعم فنهى عنه" وقوله: "لا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه" وقوله: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخرة دواء وإنه يتقي بالجناح الذي فيه الداء" وقوله: "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس" وقال وقد سئل عن مس الذكر هل ينقض الوضوء فقال: "هل هو إلا بضعة منك" وقوله في ابنة حمزة: "إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة" وقوله في الصدقة: "إنها لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس". وقد قرب النبي ﷺ الأحكام إلى أمته بذكر نظائرها وأسبابها وضرب لها الأمثال فقال له عمر: "صنعت اليوم يا رسول الله أمرا عظيما قبلت وأنا صائم فقال له رسول الله ﷺ: أرأيت لو تمضمت بماء وأنت صائم فقلت: لا بأس بذلك فقال رسول الله ﷺ: فصم" ولولا أن حكم المثل حكم مثله وأن المعاني والعلل مؤثرة في الأحكام نفيا وإثباتا لم يكن لذكر هذا التشبيه معنى فذكره ليدل به على أن حكم النظير حكم مثله وأن نسبة القبلة التي هي وسيلة إلى الوطء كنسبة وضع الماء في الفم الذي هو وسيلة إلى شربه فكما أن هذا الأمر لا يضر فكذلك الآخر وقد قال ﷺ للرجل الذي سأله فقال: "إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه قال: أنت أكبر ولده قال: نعم قال: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان يجزىء عنه قال: نعم قال: فحج عنه" فقرب الحكم من الحكم وجعل دين الله سبحانه في وجوب القضاء أو في قبوله بمنزلة دين الآدمي وألحق النظير بالنظير وأكد هذا المعنى بضرب من الأولى وهو قوله: "اقضوا الله فالله أحق بالقضاء" ومنه الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: "وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان يكون عليه وزر؟ قالوا: نعم قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر" وهذا من قياس العكس الجلي البين وهو إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لثبوت ضد علته فيه ومنه الحديث الصحيح: "أن أعرابيا أتى رسول الله ﷺ فقال إني امرأتي ولدت غلاما أسود وإني أنكرته فقال له رسول الله ﷺ هل لك من إبل قال نعم قال فما ألوانها قال حمر قال هل فيها من أورق قال إن فيها لورقا قال فإنى ترى ذلك جاءها قال يا رسول الله عرق نزعه قال ولعل هذا عرق نزعه" ولم يرخص له في الاتنفاء منه ومن تراجم البخاري على هذا الحديث: "باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم السائل" ثم ذكر بعده حديث ابن عباس: "أن امرأة جاءت إلى النبي ﷺ فقالت إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها قال نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته قالت نعم فقال: "اقضوا الله فإن الله أحق بالوفاء". الناس طرفان ووسط في القياس وهذا الذي ترجمه البخاري هو فصل النزاع في القياس لا كما يقوله المفرطون فيه ولا المفرطون فإن الناس فيه طرفان ووسط فأحد الطرفين من ينفي العلل والمعاني والأوصاف المؤثرة ويجوز ورود الشريعة بالفرق بين المتساويين والجمع بين المختلفين ولا يثبت أن الله سبحانه شرع الأحكام لعلل ومصالح وربطها بأوصاف مؤثرة فيها مقتضية لها طردا وعكسا وأنه قد يوجب الشيء ويحرم نظيره من كل وجه ويحرم الشيء ويبيح نظيره من كل وجه وينهى عن الشيء لا لمفسدة فيه ويأمر به لا لمصلحة بل لمحض المشيئة المجردة عن الحكمة والمصلحة وبإزاء هؤلاء قوم أفرطوا فيه وتوسعوا جدا وجمعوا بين الشيئين اللذين فرق الله بينهما بأدنى جامع من شبه أو طرد أو وصف يتخيلونه علة يمكن أن يكون علته وأن لا يكون فيجعلونه هو السبب الذي علق الله ورسوله عليه الحكم بالخرص والظن وهذا هو الذي أجمع السلف على ذمه كما سيأتي إن شاء الله تعالى. والمقصود أن النبي ﷺ يذكر في الأحكام العلل والأوصاف المؤثرة فيها طردا وعكسا كقوله للمستحاضة التي سألته هل تدع الصلاة زمن استحاضتها فقال: "لا إنما ذلك عرق وليس بالحيضة" فأمرها أن تصلي مع هذا الدم وعلل بأنه دم عرق وليس بدم حيض وهذا قياس يتضمن الجمع والفرق. قد تغني العلة عن ذكر الأصل فإن قيل: فشرط صحة القياس ذكر الأصل المقيس عليه ولم يذكر في الحديث. قيل: هذا من حسن الاختصار والاستغناء بالوصف الذي يستلزم ذكر الأصل المقيس عليه فإن المتكلم قد يعلل بعلة يغني ذكرها عن الأصل ويكون تركه لذكر الأصل أبلغ من ذكره فيعرف السامع الأصل حين يسمع ذكر العلة فلا يشكل عليه ورسول الله ﷺ حين علل عدم وجوب الصلاة مع هذا الدم بأنه عرق صار الأصل الذي يرده إليه هذا الكلام معلوما فإن كل سامع سمع هذا يفهم منه أن دم العرق لا يوجب ترك الصلاة ولو قال: "هو عرق فلا يوجب ترك الصلاة كسائر دم العروق" لكان عيا وعد من الكلام الركيك ولم يكن لائقا بفصاحته وإنما يليق هذا بعجرفة المتأخرين وتكلفهم وتطويلهم. ونظير هذا قوله ﷺ لمن سأله عن مس ذكره: "هل هو إلا بضعة منك" فاستغنى بهذا عن تكلف قوله: كسائر البضعات. ومن ذلك قوله ﷺ للمرأة التي سألته: "هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال نعم فقالت أم سليم أو تحتلم المرأة يا رسول الله فقال رسول الله ﷺ: "إنما النساء شقائق الرجال". فبين أن النساء والرجال شقيقان ونظيران لا يتفاوتان ولا يتباينان في ذلك وهذا يدل على أنه من المعلوم الثابت في فطرهم أن حكم الشقيقين والنظيرين حكم واحد سواء كان ذلك تعليلا منه ﷺ للقدر أو للشرع أو لهما فهو دليل على تساوي الشقيقين وتشابه القرينين وإعطاء أحدهما حكم الآخر. فصل حديث معاذ في القياس وقد أقر النبي ﷺ معاذا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله فقال شعبة: حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو عن أناس من أصحاب معاذ عن معاذ أن رسول الله ﷺ لما بعثه إلى اليمن قال: "كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله ﷺ قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله ﷺ؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو قال: فضرب رسول الله ﷺ صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله ﷺ" فهذا حديث وإن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك لأنه يدل على شهرة الحديث وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سمي كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى ولا يعرف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث وقد قال بعض أئمة الحديث: "إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به" قال أبو بكر الخطيب: "وقد قيل إن عبادة بن نسى" رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة على أن أهل العلم قد نقلوه واحتجوا به فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول رسول الله ﷺ: "لا وصية لوارث" وقوله في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وقوله: "إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قأئمة تحالفا وترادا البيع" وقوله: "الدية على العاقلة" وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ولكن ما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له انتهى كلامه. وقد جوز النبي ﷺ للحاكم أن يجتهد رأيه وجعل له على خطئه في اجتهاد الرأي أجرا واحدا إذا كان قصده معرفة الحق واتباعه. فصل الصحابة يجتهدون ويقيسون وقد كان أصحاب رسول الله ﷺ يجتهدون في النوازل ويقيسون بعض الأحكام على بعض ويعتبرون النظير بنظيره. قال أسد بن موسى: ثنا شعبة عن زبيد اليامي عن طلحة بن مصرف عن مرة الطبيب عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة: "كل قوم على بينة من أمرهم ومصلحة من أنفسهم يزرون على من سواهم ويعرف الحق بالمقايسة عند ذوي الألباب" وقد رواه الخطيب وغيره مرفوعا ورفعه غير صحيح. وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي ﷺ في كثير من الأحكام ولم يصنفهم كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق وقال: لم يرد منا التأخير وإنما أراد سرعة النهوض فنظروا إلى المعنى واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلا نظروا إلى اللفظ وهؤلاء سلف أهل الظاهر وهؤلاء سلف أصحاب المعاني والقياس. ولما كان علي رضي الله تعالى عنه باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام فقال كل منهم هو ابني فأقرع علي بينهم فجعل الولد للقارع وجعل عليه للرجلين ثلثي الدية فبلغ النبي ﷺ فضحك حتى بدت نواجذه من قضاء علي رضي الله عنه. واجتهد سعد بن معاذ في بني قريظة وحكم فيهم باجتهاده فصوبه النبي ﷺ وقال: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات". واجتهد الصحابيان اللذان خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر فصوبهما وقال للذي لم يعد: "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك" وقال للآخر: "لك الأجر مرتين". ولما قاس مجزز المدلجي وقاف وحكم بقياسه وقيافته على أن أقدام زيد وأسامة ابنه بعضها مع بعض سر بذلك رسول الله ﷺ حتى برقت أسارير وجهه من صحة هذا القياس وموافقته للحق وكان زيد أبيض وابنه أسامة أسود فألحق هذا القائف الفرع بنظيره وأصله وألغى وصف السواد والبياض الذي لا تأثير له في الحكم. وقد تقدم قول الصديق رضي الله عنه في الكلالة: "أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد والولد" فلما استخلف عمر قال: "إني لأستحيي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر" وقال الشعبي عن شريح قال: قال لي عمر: "اقض بما استبان لك من كتاب الله فإن لم تعلم كل كتاب الله فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله ﷺ فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله ﷺ فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح" وقد اجتهد ابن مسعود في المفوضة وقال: "أقول فيها برأيي" ووفقه الله للصواب وقال سفيان: عن عبد الرحمن الأصبهاني عن عكرمة قال: "أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين فقال: للزوج النصف وللأم الثلث ما بقي وللأب بقية المال فقال: تجده في كتاب الله أو تقوله برأيك قال أقوله برأيي ولا أفضل أما على أب" وقايس علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزيد بن ثابت في المكاتب وقايسه في الجد والإخوة وقاس ابن عباس الأضراس بالأصابع وقال عقلها سواء اعتبروها بها. اجتماع الفقهاء على مسائل في القياس قال المزني: "الفقهاء من عصر رسول الله ﷺ إلى يومنا وهلم جرا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم" قال: "وأجمعوا بأن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل فلا يجوز لأحد إنكار القياس لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها". قال أبو عمر بعد حكاية ذلك عنه: "ومن القياس المجمع عليه صيد ما عدا المكلب من الجوارح قياسا على الكلاب" بقوله: "وما علمتم من الجوارح مكلبين" قال عز وجل {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} فدخل في ذلك المحصنون قياسا وكذلك قوله في الإماء {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} فدخل في ذلك العبد قياسا عند الجمهور إلا من شذ ممن لا يكاد يعد قوله خلافا وقال في جزاء الصيد المقتول في الإحرام {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} فدخل فيه قتل الخطأ قياسا عند الجمهور إلا من شذ وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} فدخل في ذلك الكتابيات قياسا وقال في الشهادة في المداينات {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فدخل في معنى {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} قياسا المواريث والودائع والغصوب وسائر الأموال. وأجمعوا على توريث البنتين الثلثين قياسا على الأختين وقال عمن أعسر بما بقي عليه من الربا {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} فدخل في ذلك كل معسر بدين حلال وثبت ذلك قياسا. ومن هذا الباب توريث الذكر ضعفي ميراث الأنثى منفردا وإنما ورد النص في اجتماعهما بقوله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وقال {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ومن هذا الباب أيضا قياس التظاهر بالبنت على التظاهر بالأم وقياس الرقبة في الظهر على الرقبة في القتل بشرط الإيمان وقياس تحريم الأختين وسائر القرابات من الإماء على الحرائر في الجمع في التسري قال وهذا لو تقصيته لطال به الكتاب. الرد على من ينفون القياس قلت: بعض هذه المسائل فيها نزاع وبعضها لا يعرف فيها نزاع بين السلف وقد رام بعض نفاة القياس إدخال هذه المسائل المجمع عليها في العمومات اللفظية فأدخل قذف الرجال في قذف المحصنات وجعل المحصنات صفة للفروج لا للنساء وأدخل صيد الجوارح كلها في قوله {الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} وقوله {مُكَلِّبِينَ} وإن كان من لفظ الكلب فمعناه مغرين لها على الصيد قاله مجاهد والحسن وهو رواية عن ابن عباس وقال أبو سليمان الدمشقي: "مكلبين معناه معلمين" وإنما قيل لهم مكلبين لأن الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب. وهؤلاء وإن أمكنهم ذلك في بعض المسائل كما جزموا بتحريم أجزاء الخنزير لدخوله في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} وأعادوا الضمير إلى المضاف إليه دون المضاف فلا يمكنهم ذلك في كثير من المواضع وهم مضطرون فيها ولا بد إلى القياس أو القول بما لم يقل به غيرهم ممن تقدمهم فلا يعلم أحد من أئمة الفتوى يقول في قول النبي ﷺ وقد سئل عن فأرة وقعت في سمن: "ألقوها وما حولها وكلوه" إن ذلك مختص بالسمن دون سائر الأدهان والمائعات هذا مما يقطع بأن الصحابة والتابعين وأئمة الفتيا لا يفرقون به بين السمن والزيت والشيرج والدبس كما لا يفرق بين الفأرة والهرة في ذلك وكذلك نهى النبي ﷺ عن بيع الرطب بالتمر لا يفرق عالم يفهم عن الله ورسوله بين ذلك وبين بيع العنب بالزبيب ومن هذا أن الله سبحانه قال في المطلقة ثلاثا {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} أي إن طلقها الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا والمراد به تجديد العقد وليس ذلك مختصا بالصورة التي يطلق فيها الثاني فقط بل متى تفارقا بموت أو خلع أو فسخ أو طلاق حلت للأول قياسا على الطلاق ومن ذلك قول النبي ﷺ: "لا تأكلوا في آنية من الذهب والفضة ولا تشربوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" وقوله: "الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" وهذا التحريم لا يختص بالأكل والشرب بل يعم سائر وجوه الانتفاع فلا يحل له أن يغتسل بها ولا يتوضأ بها ولا يدهن فيها ولا يتكحل منها وهذا أمر لا يشك فيه عالم ومن ذلك نهى النبي ﷺ المحرم عن لبس القميص والسراويل والعمامة والخفين ولا يختص ذلك بهذه الأشياء فقط بل يتعدى النهي إلى الجباب والدلوق والمبطنات والفراجي والأقبية والعرقشينات وإلى القبع والطاقية والكوفية والكلوثة والطيلسان والقلنسوة وإلى الجوربين والجرموقين والزربول ذي الساق وإلى التبان ونحوه. ومن هذا قول النبي ﷺ: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار" فلو ذهب معه بخرقة وتنظف أكثر من الأحجار أو قطن أو صوف أو خز ونحو ذلك جاز وليس للشارع غرض في غير التنظيف والإزالة فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار في الجواز وأولى. ومن ذلك أن النبي ﷺ نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه أو يخطب على خطبته ومعلوم أن المفسدة التي نهى عنها في البيع والخطبة موجودة في الإجارة فلا يحل له أن يؤجر على إجارته وإن قدر دخول الإجارة في لفظ البيع العام وهو بيع المنافع فحقيقتها غير حقيقة البيع وأحكامها غير أحكامه. ومن ذلك قوله سبحانه في آية التيمم {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} فألحقت الأمة أنواع الحدث الأصغر على اختلافها في نقضها بالغائط والآية لم تنص من أنواع الحدث الأصغر إلا عليه وعلى اللمس على قول من فسره بما دون الجماع وألحقت الاحتلام بملامسة النساء وألحقت واجد ثمن الماء بواجده وألحقت من خاف على نفسه أو بهائمه من العطش إذا توضأ بالعادم فجوزت له التيمم وهو واجد للماء وألحقت من خشي المرض من شدة برد الماء بالمريض في العدول عنه إلى البدل وإدخال هذه الأحكام وأمثالها في العمومات المعنوية التي لا يستريب من له فهم عن الله ورسوله في قصد عمومها وتعليق الحكم به وكونه متعلقا بمصلحة العبد أولى من إدخالها في عمومات لفظية بعيدة التناول لها ليست بحرية الفهم مما لا ينكر تناول العمومين لها فمن الناس من يتنبه لهذا ومنهم من يتنبه لهذا ومنهم من يتفطن لتناول العمومين لها. ومن ذلك قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وقاست الأمة الرهن في الحضر على الرهن في السفر والرهن مع وجود الكاتب على الرهن مع عدمه فإن استدل على ذلك بأن النبي ﷺ رهن درعه في الحضر فلا عموم في ذلك فإنما رهنها على شعير استقرضه من يهودي فلا بد من القياس إما على الآية وإما على السنة ومن ذلك أن سمرة بن جندب لما باع خمر أهل الذمة وأخذه في العشور التي عليهم فبلغ عمر فقال قاتل الله سمرة أما علم أن رسول الله ﷺ قال: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها" وهذا محض القياس من عمر رضي الله عنه فإن تحريم الشحوم على اليهود كتحريم الخمر على المسلمين وكما ثمن الشحوم المحرمة فكذلك يحرم ثمن الخمر الحرام. ومن ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم جعلوا العبد على النصف من الحر في النكاح والطلاق والعدة قياسا على ما نص الله عليه من قوله {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} قال عبد الرزاق: أنا سفيان بن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "ينكح العبد اثنيتن". وقال عبد الرزاق: أنبأنا سفيان الثوري وابن جريج قالا: ثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة قال: "ينكح العبد اثنتين". وذكر الإمام أحمد عن محمد بن سيرين قال: "سأل عمر بن الخطاب الناس: كم يتزوج العبد؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: "اثنتين وطلاقه ثنتان" وهذا كان بمحضر من الصحابة فلم ينكره أحد. وقال محمد بن عبد السلام الخشني: حدثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن ليث بن أبي سليم عن عطاء قال: "أجمع أصحاب رسول الله ﷺ أن العبد لا يجمع بين النساء فوق اثنتين". وروى حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس أن عمر قال: "لو أستطيع أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصفا لفعلت فقال رجل: يا أمير المؤمنين فاجعلها شهرا ونصف" فسكت. وقال عبد الله بن عتبة عن عمر: "عدة الأمة إذا لم تحض شهران كعدتها إذا حاضت حيضتين". وروى ابن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عتبة عن عمر: "ينكح العبد امرأتين ويطلق طلقتين وتعتد الأمة حيضتين وإن لم تكن تحيض فشهرين أو شهرا ونصفا" وقال علي: "عدة الأمة حيضتان فإن لم تكن تحيض فشهر ونصف". والمقصود أن الصحابة رضي الله عنهم نصفوا ذلك قياسا على تنصيف الله سبحانه الحد على الأمة. ومن ذلك أن الصحابة قدموا الصديق في الخلافة وقالوا: "رضيه رسول الله ﷺ لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟" فقاسوا الإمامة الكبرى على إمامة الصلاة وكذلك اتفاقهم على كتابة المصحف وجمع القرآن فيه وكذلك اتفاقهم على جمع الناس على مصحف واحد وترتيب واحد وحرف واحد وكذلك منع عمر وعلي من بيع أمهات الأولاد برأيهما وكذلك تسوية الصديق بين الناس في العطاء برأيه وتفضيل عمر برأيه وكذلك إلحاق عمر حد الخمر بحد القذف برأيه وأقره الصحابة وكذلك توريث عثمان بن عفان رضي الله عنه المبتوتة في مرض الموت برأيه ووافقه الصحابة وكذلك قول ابن عباس في نهي النبي ﷺ عن بيع الطعام قبل قبضه قال: "أحسب كل شيء بمنزلة الطعام" وكذلك عمر وزيد لما ورثا الأم ثلث ما بقي في مسألة زوج وأبوين وامرأة وأبوين قاسا وجود الزوج على ما إذا لم يكن زوج فإنه حينئذ يكون للأب ضعف ما للأم فقدرا أن الباقي بعد الزوج والزوجة كل المال وهذا من أحسن القياس فإن قاعدة الفرائض أن الذكر والأنثى إذا اجتمعا وكانا في درجة واحدة فإما أن يأخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى كالأولاد وبني الأب وإما أن تساويه كولد الأم وأما أن الأنثى تأخذ ضعف ما يأخذ الذكر مع مساواته لها في درجته فلا عهد به في الشريعة فهذا من أحسن الفهم عن الله ورسوله وكذلك أخذ الصحابة في الفرائض بالعول وإدخال النقص على جميع ذوي الفروض قياسا على وإدخال النقص على الغرماء إذا ضاق مال المفلس عن توفيتهم وقد قال النبي ﷺ للغرماء: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" وهذا محض العدل على أن تخصيص بعض المستحقين بالحرمان وتوفية بعضهم بأخذ نصيبه ليس من العدل. اتفاق الصحابة في قياس حد الشرب على حد القذف وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن أيوب السختياني عن عكرمة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاور الناس في حد الخمر وقال: "إن الناس قد شربوها واجترءوا عليها" فقال له علي كرم الله وجهه: "إن السكران إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فاجعله حد الفرية" فجعله عمر حد الفرية ثمانين ورواه مالك عن ثور بن زيد الديلي أن عمر شاور الناس ورواه وكيع حدثنا ابن أبي خالد عن الشعبي قال: "استشارهم عمر" فذكره ولم ينفرد علي بهذا القياس بل وافقه عليه الصحابة قال الزهري: أخبرني حميد بن عبد الرحمن ابن عوف عن وبرة الصلي قال: "بعثني خالد بن الوليد إلى عمر فأتيته وعنده علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف متكئون في المسجد فقلت: له إن خالد بن الوليد يقرأ عليك السلام ويقول لك إن الناس انبسطوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فما ترى فقال: عمر هم هؤلاء عندك قال: فقال علي: أراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون فاجتمعوا على ذلك فقال عمر: بلغ صاحبك ما قالوا فضرب خالد ثمانين وضرب عمر ثمانين" قال: "وكان عمر إذا أتي بالرجل القوي المنتهك في الشراب ضربه ثمانين وإذا أتى بالرجل الذي كان منه الزلة الضعيف ضربه أربعين وجعل ذلك عثمان أربعين وثمانين" وهذه مراسيل ومسندات من وجوه متعددة يقوي بعضها بعضا وشهرتها تغني عن إسنادها. الصحابة يقيسون في فرص الجد مع الإخوة وقال عبد الرزاق: حدثنا سفيان الثوري عن عيسى بن أبي عيسى الخياط عن الشعبي قال: "كره عمر الكلام في الجد حتى صار جدا" وقال: "إنه كان من رأي أبي بكر أن الجد أولى من الأخ" وذكر الحديث وفيه فسأل عنها زيد بن ثابت فضرب له مثلا بشجرة خرجت ولها أغصان قال: فذكر شيئا لا أحفظه فجعل له الثلث قال الثوري: "وبلغني أنه قال يا أمير المؤمنين شجرة نبتت فانشعب منها غصن فانشعب من الغصن غصنان فما جعل الغصن الأول أولى من الغصن الثاني وقد خرج الغصنان من الغصن الأول" قال: "ثم سأل عليا فضرب له مثلا واديا سال فيه سيل فجعله أخا فيما بينه وبين ستة فأعطاه السدس وبلغني أن عليا كرم الله وجهه حين سأله عمر جعله سيلا" قال: "فانشعب منه شعبة ثم انشعبت شعبتان" فقال: "أرأيت لو أن هذه الشعبة الوسطى تيبس أما كانت ترجع إلى الشعبتين جميعا" قال الشعب: "فكان زيد يجعله أخا حتى يبلغ ثلاثة هو ثالثهم فإن زادوا على أعطاه الثلث" وكان على يجعله أخا ما بينه وبين ستة وهو سادسهم ويعطيه السدس فإن زادوا على ستة أعطاه السدس وصار ما بقي بينهم وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث الجد والإخوة قال زيد: "وكان رأيي يومئذ أن الإخوة أحق بميراث أخيهم من الجد وعمر بن الخطاب يرى يومئذ أن الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته فتحاورت أنا وعمر محاورة شديدة فضربت له في ذلك مثلا فقلت لو أن شجرة تشعب من أصلها غصن ثم تشعب في ذلك الغصن خوطان ذلك الغصن يجمع الخوطين دون الأصل ويغذوهما ألا ترى يا أمير المؤمنين أن أحد الخوطين أقرب إلى أخيه منه إلى الأصل قال زيد فأنا أعذله وأضرب له هذه الأمثال وهو يأبى إلا أن الجد أولى من الإخوة" ويقول والله لو أني قضيته اليوم لبعضهم لقضيت به للجد كله ولكن لعلى لا أخيب منهم أحدا ولعلهم أن يكونوا كلهم ذوى حق وضرب على وابن عباس لعمر يومئذ مثلا معناه لو أن سيلا سال فخلج منه خليج ثم خلج من ذلك الخليج شعبتان. ورأي الصديق أولى من هذا الرأي وأصح في القياس لعشرة أوجه ليس هذا موضع ذكرها. والجواب عن هذه الأمثلة: أن المقصود أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملون القياس في الأحكام ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر ولا يلتفت إلى من يقدح في كل سند من هذه الأسانيد وأثر من هذه الآثار فهذه في تعددها واختلاف وجوهها وطرقها جارية مجرى التواتر المعنوي الذي لا يشك فيه وإن لم يثبت كل فرد فرد من الأخبار به. وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج قال: أخبرني عمرو قال: أخبرني حي بن يعلى بن أمية أنه سمع أباه يقول وذكر قصة الذي قتلته امرأة أبيه وخليلها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أن اقتلهما فلو اشترك فيه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم قال ابن جريج: فأخبرني عبد الكريم وأبو بكر قالا جميعا: "إن عمر كان يشك فيها حتى قال له علي يا أمير المؤمنين أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور فأخذ هذا عضوا وهذا عضوا أكنت قاطعهم قال: نعم قال: وذلك حين استخرج له الرأي". قياس ابن عباس في مناقشته مع الخوارج وقال عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عمن حدثه عن ابن عباس قال: "أرسلني علي إلى الحرورية لأكلمهم فلما قالوا: لا حكم إلا لله قلت أجل صدقتم لا حكم إلا لله وإن الله حكم في رجل وامرأته وحكم في قتل الصيد فالحكم في رجل وامرأته والصيد أفضل أم الحكم في الأمة يرجع بها ويحقن دماءها ويلم شعثها". وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا عكرمة بن عمار ثنا سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول: "قال علي: لا تقاتلوهم حتى يخرجوا فإنهم سيخرجون قال: قلت يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فإني أريد أن أدخل عليهم فأسمع من كلامهم وأكلمهم فقال علي: أخشى عليك منهم قال: وكنت رجلا حسن الخلق لا أوذي أحدا قال فلبست أحسن ما يكون من اليمنية وترجلت ثم دخلت عليهم وهم قائلون فقالوا لي: ما هذا اللباس فتلوت عليهم القرآن قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ولقد رأيت رسول الله ﷺ يلبس أحسن ما يكون من اليمنية فقالوا: لا بأس فما جاء بك فقلت أتيتكم من عند صاحبي وهو ابن عم رسول الله ﷺ وختنه وأصحاب رسول الله ﷺ أعلم بالوحي منكم وعليهم نزل القرآن أبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم فما الذي نقمتم فقال: بعضهم إن قريشا قوم خصمون قال الله عز وجل: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} فقال بعضهم: كلموه فانتحى لي رجلان رجلان أو ثلاثة فقالوا: إن شئت تكلمت وإن شئت تكلمنا فقلت: بل تكلموا فقالوا: ثلاث نقمناهن عليه جعل الحكم إلى الرجال وقال الله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} فقلت: قد جعل الله الحكم من أمره إلى الرجال في ربع درهم في الأرنب وفي المرأة وزوجها فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها أفخرجت من هذه قالوا: نعم قالوا: وأخرى محا نفسه أن يكون أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فأمير الكافرين هو فقلت: لهم أرأيتم إن قرأت من كتاب الله عليكم وجئتكم به من سنة رسول الله ﷺ أترجعون قالوا: نعم قلت: قد سمعتم أو أراه قد بلغكم أنه لما كان يوم الحديبية جاء سهيل بن عمرو إلى رسول الله ﷺ فقال النبي ﷺ لعلي: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ﷺ فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك فقال رسول الله ﷺ لعلي "امح يا علي" أفخرجت من هذه قالوا: نعم قال: وأما قولكم قتل ولم يسب ولم يغنم أفتسبون أمكم وتستحلون منها ما تستحلون من غيرها فإن قلتم نعم فقد كفرتم بكتاب الله وخرجتم من الإسلام فأنتم بين ضلالتين وكلما جئتهم بشيء من ذلك أقول: أفخرجت منها فيقولون نعم قال: فرجع منهم ألفان وبقي ستة آلاف" وله طرق عن ابن عباس وقياسه المذكور من أحسن القياس وأوضحه. وقد أنكر ابن عباس على زيد بن ثابت مخالفته للقياس في مسألة الجد والإخوة فقال ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا وهذا محض القياس. ولما خص الصديق أم الأم بالميراث دون أم الأب قال له بعض الأنصار لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت فشرك بينهما. قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة عن يحي بن سعيد عن القاسم بن محمد قال: "جاءت جدتان إلى أبي بكر فأعطى الميراث أم الأم دون أم الأب فقال: له رجل من الأنصار من بني حارثة يقال له عبد الرحمن بن سهل يا خليفة رسول الله قد أعطيت الميراث التي لو ماتت لم يرثها فجعل الميراث بينهما". ولما شهد أبو بكرة وأصحابه على المغيرة بن شعبة بالحد ولم يكملوا النصاب حدهم عمر قياسا على القاذف ولم يكونوا قذفه بل شهودا وقال عثمان لعمر: "إن نتبع رأيك فرأيك أسد وإن نتبع رأي من قبلك فلنعلم ذو الرأي كان" وقال علي: "اجتمع رأيي ورأي عمر في بيع أمهات الأولاد أن لا يبعن ثم رأيت بيعهن فقال له قاضيه عبيدة السلماني يا أمير المؤمنين رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة". ولما أرسل عمر إلى المرأة فأسقطت جنينها استشار الصحابة فقال له عبد الرحمن بن عوف وعثمان: "إنما أنت مؤدب ولا شيء عليك" وقال له علي: "أما المأثم فأرجو أن يكون محطوطا عنك وأرى عليك الدية فقاسه عثمان وعبد الرحمن على مؤدب امرأته وغلامه وولده وقاسه علي على قاتل الخطأ فاتبع عمر قياس علي". ولما احتضر الصديق رضي الله عنه أوصى بالخلافة إلى عمر رضي الله عنه وقاس ولايته لمن بعده إذ هو صاحب الحل والعقد على ولاية المسلمين له إذا كانوا هم أهل الحل والعقد وهذا من أحسن القياس. رأي الصحابة في المرأة المخيرة وقال علي كرم الله وجهه: "سألني أمير المؤمنين عمر عن الخيار فقلت: إن اختارت زوجها فهي واحدة وهو أحق بها وإن اختارت نفسها فهي واحدة بائنة فقال: ليس كذلك إن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها وإن اختارت زوجها فلا شيء فاتبعته على ذلك فلم خلص الأمر إلى وعلمت أنى أسأل عن الفروج عدت إلى ما كنت أرى فقال له زاذان: لأمر جامعت عليه أمير المؤمنين وتركت رأيك له أحب إلينا من أمر انفردت به فضحك وقال: أما إنه قد أرسل إلى زيد بن ثابت وخالفني وإياه وقال: إن اختارت زوجها فهى واحدة وزوجها أحق بها وإن اختارت نفسها فهي ثلاث" وهذا رأى منهم كلهم رضي الله عنهم ورأى عمر رضي الله عنه أقوى وأصح. وقال عمر لعلى: "إني قد رأيت في الجد رأيا فاتبعوني فقال علي رضي الله عنه: إن نتبع رأيك فرأيك رشيد وإن نتبع رأى من قبلك فنعم ذو الرأي كان" وهل مع زيد بن ثابت في مسائل الجد والأخوة والمعادة والأكدرية نص من القرآن أو سنة أو إجماع إلا مجرد الرأي. ومن ذلك اختلافهم في قول الرجل لامرأته: "أنت على حرام" فقال شيخا الإسلام وبصرا الدين وسمعه أبو بكر وعمر: "هو يمين" وتبعهما حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس وقال سيف الله علي كرم الله وجهه وزيد: "هو طلاق ثلاث" وقال ابن مسعود: "طلقة واحدة" وهذا من الاجتهاد والرأي. الصحابة أول من قاسوا واجتهدوا فالصحابة رضي الله عنهم مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سبيله وهل يستريب عاقل في أن النبي ﷺ لما قال: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" إنما كان ذلك لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه ويمنعه من كمال الفهم ويحول بينه وبين استيفاء النظر ويعمى عليه طريق العلم والقصد فمن قصر النهى على الغضب وحده دون الهم المزعج والخوف المقلق والجوع والظمأ الشديد وشغل القلب المانع من الفهم فقد قل فقهه وفهمه والتعويل في الحكم على قصد المتكلم والألفاظ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني والتوصل بها إلى معرفة مراد المتكلم ومراده يظهر من عموم لفظه تارة ومن عموم المعنى الذي قصده تارة وقد يكون فهمه من المعنى أقوى وقد يكون من اللفظ أقوى وقد يتقاربان كما إذا قال الدليل لغيره لا تسلك هذا الطريق فإن فيها من يقطع الطريق أو هي معطشة مخوفة علم هو وكل سامع أن قصده أعم من لفظه وأنه أراد نهيه عن كل طريق هذا شأنها فلو خالفه وسلك طريقا أخرى عطب بها حسن لومه ونسب إلى مخالفته ومعصيته ولو قال الطبيب للعليل وعنده لحم ضأن لا تأكل الضأن فإنه يزيد في مادة المرض لفهم كل عاقل منه أن لحم الإبل والبقر كذلك ولو أكل منهما لعد مخالفا والتحاكم في ذلك إلى فطر الناس وعقولهم ولو من عليه غيره بإحسانه فقال والله لا أكلت له لقمة ولا شربت له ماء يريد خلاصه من منته عليه ثم قبل منه الدراهم والذهب والثياب والشاة ونحوها لعده العقلاء واقعا فيما هو أعظم مما حلف عليه ومرتكبا لذروة سنامه ولو لامه عاقل على كلامه لمن لا يليق به محادثته من امرأة أوصي فقال والله لا كلمته ثم رآه خاليا به يواكله ويشاربه ويعاشره ولا يكلمه لعدوه مرتكبا لأشد مما حلف عليه وأعظمه. العمل بالقياس فطرة فطر الله عليها الناس وهذا مما فطر الله عليه عباده ولهذا فهمت الأمة من قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} جميع وجوه الانتفاع من اللبس والركوب والمسكن وغيرها. وفهمت من قوله تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفّ} إرادة النهي عن جميع أنواع الأذى بالقول والفعل وإن لم ترد نصوص أخرى بالنهي عن عموم الأذى فلو بصق رجل في وجه والديه وضربهما بالنعل وقال إني لم أقل لهما أف لعده الناس في غاية السخافة والحماقة والجهل من مجرد تفريقه بين التأفيف المنهي عنه وبين هذا الفعل قبل أن يبلغه نهي غيره ومنع هذا مكابرة للعقل والفهم والفطرة فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده والألفاظ لم تقصد لذواتها وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإيماءة أو دلالة عقلية أو قرينة حالية أو عادة له مطردة لا يخل بها أو من مقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته وأنه يستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله وشبهه وعلى كراهة الشيء بكراهة مثله ونظيره ومشبهه فيقطع العارف به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا ويكره هذا ويحب هذا ويبغض هذا وأنت تجد من له اعتناء شديد بمذهب رجل وأقواله كيف يفهم مراده من تصرفه ومذاهبه ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا ويقوله وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه لما لا يوجد في كلامه صريحا وجميع أتباع الأئمة مع أئمتهم بهذه المثابة. العبرة بالإرادة لا باللفظ وهذا أمر يعم أهل الحق والباطل لا يمكن دفعه فاللفظ الخاص قد ينتقل إلى معنى العموم بالإرادة والعام قد ينتقل إلى الخصوص بالإرادة فإذا دعي إلى غداء فقال: والله لا أتغدى أو قيل له "نم" فقال: والله لا أنام أو "اشرب هذا الماء" فقال: والله لا أشرب فهذه كلها ألفاظ عامة نقلت إلى معنى الخصوص بإرادة المتكلم التي يقطع السامع عند سماعها بأنه لم يرد النفي العام إلى آخر العمر والألفاظ ليست تعبدية والعارف يقول ماذا أراد واللفظي يقول ماذا قال كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي ﷺ يقولون ماذا قال آ نفا وقد أنكر الله سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} فذم من لم يفقه كلامه والفقه أخص من الفهم وهو فهم مراد المتكلم من كلامه وهذا قدر زائد على مجرد وضع اللفظ في اللغة وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم. وقد كان الصحابة يستدلون على إذن الرب تعالى وإباحته بإقراره وعدم إنكاره عليهم في زمن الوحي وهذا استدلال على المراد بغير لفظ بل بها عرف من موجب أسمائه وصفاته وأنه لا يقر على باطل حتى يبينه وكذلك استدلال الصديقة الكبرى أم المؤمنين خديجة بما عرفته من حكمة الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته ورحمته أنه لا يخزي محمدا ﷺ فإنه يصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق وإن من كان بهذه المثابة فإن العزيز الرحيم الذي هو أحكم الحاكمين وإله رب العالمين لا يخزيه ولا يسلط عليه الشيطان وهذا استدلال منها قبول ثبوت النبوة والرسالة بل استدلال على صحتها وثبوتها في حق من هذا شأنه فهذا معرفة منها بمراد الرب تعالى وما يفعله من أسمائه وصفاته وحكمته ورحمته وإحسانه ومجازاته المحسن بإحسانه وأنه لا يضيع أجر المحسنين وقد كانت الصحابة أفهم الأمة لمراد نبيها وأتبع له وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده ولم يكن أحد منهم يظهر له مراد رسول الله ﷺ ثم يعدل عنه إلى غيره البتة. كيف يعرف مراد المتكلم والعلم بمراد المتكلم يعرف تارة من عموم لفظه وتارة من عموم علته، والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر. أغلاط أصحاب الألفاظ وأصحاب المعاني وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها وهضمها تارة وتحميلها فوق ما أريد بها تارة ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين. ونحن نذكر بعض الأمثلة لذلك ليعتبر به غيره فنقول: قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فلفظ الخمر عام ففي كل مسكر فإخرج بعض الأشربة المسكرة عن شمول اسم الخمر لها تقصير به وهضم لعمومه بل الحق ما قاله صاحب الشرع كل مسكر خمر وإخراج بعض أنواع الميسر عن شمول اسمه لها تقصير أيضا به وهضم لمعناه فما الذي جعل النرد الخالي عن العوض من الميسر وأخرج الشطرنج عنه مع أنه من أظهر أنواع الميسر كما قال غير واحد من السلف إنه ميسر وقال علي كرم الله وجهه: "هو ميسر العجم". وأما تحميل اللفظ فوق ما يحتمله فكما حمل لفظ قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وقوله في آية البقرة {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} مسألة العينة التي هي ربا بحيلة وجعلها من التجارة لعمر الله إن الربا الصريح تجارة للمرابي وأي تجارة وكما حمل قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} على مسألة التحليل وجعل التيس المستعار الملعون على لسان رسول الله ﷺ داخلا في اسم الزوج وهذا في التجارة يقابل الأول في التقصير. ولهذا كان معرفة حدودها ما أنزل الله على رسوله أصل العلم وقاعدته وأخيته التي يرجع إليها فلا يخرج شيئا من معاني ألفاظه عنها ولا يدخل فيها ما ليس منها بل يعطيها حقها ويفهم المراد منها. ومن هذا لفظ الإيمان والحلف أخرجت طائفة منه الإيمان الالتزامية التي يلتزم صاحبها بها إيجاب شيء أو تحريمه وأدخلت طائفة فيها التعليق المحض الذي لا يقتضي حضا ولا منعا والأول نقص من المعنى والثاني تحميل له فوق معناه. ومن ذلك لفظ الربا أدخلت فيه طائفة ما لا دليل على تناول اسم الربا له كبيع الشيرج بالسمسم والدبس بالعنب والزيت بالزيتون وكل ما استخرج من ربوي وعمل منه بأصله وإن خرج عن اسمه ومقصوده وحقيقته وهذا لا دليل عليه يوجب المصير إليه من من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا ميزان صحيح وأدخلت فيه من مسائل مد عجوة ما هو أبعد شيء عن الربا وأخرجت طائفة أخرى منه ما هو من الربا الصحيح حقيقة قصدا وشرعا كالحيل الربوية التي هي أعظم مفسدة من الربا الصريح ومفسدة الربا البحت الذي لا يتوصل إليه بالسلاليم أقل بكثير وأخرجت منه طائفة بيع الرطب بالتمر وإن كان كونه من الربا أخفى من كون الحيل الربوية منه فإن التماثل موجود فيه في الحال دون المآل وحقيقة الربا في الحيل الربوية أكمل وأتم منها في العقد الربوي الذي لا حيلة فيه. ومن ذلك لفظ البينة قصرت بها طائفة فأخرجت منه الشاهد واليمين وشهادة العبيد العدول الصادقين المقبولي القول على الله ورسوله وشهادة النساء منفردات في المواضع التي لا يحضرهن فيه الرجال كالأعراس والحمامات وشهادة الزوج في اللعان إذا نكلت المرأة وأيمان المدعين الدم إذا ظهر اللوث ونحو ذلك ما يبين الحق أعظم من بيان الشاهدين وشهادة القاذف وشهادة الأعمى على ما يتيقنه وشهادة أهل الذمة على الوصية في السفر إذا لم يكن هناك مسلم وشهادة الحال في تداعي الزوجين متاع البيت وتداعي النجار والخياط آلتهما ونحو ذلك وأدخلت فيه طائفة ما ليس منه كشهادة مجهول الحال الذي لا يعرف بعدالة ولا فسق وشهادة وجوه الأجر ومعاقد القمط ونحو ذلك والصواب أن كل ما بين الحق فهو بينة ولم يعطل الله ولا رسوله حقا بعدما تبين بطريق من الطرق أصلا بل حكم الله ورسوله الذي لا حكم له سواه أنه متى ظهر الحق ووضح بأي طريق كان وجب تنفيذه ونصره وحرم تعطيله وإبطاله وهذا باب يطول استقصاؤه ويكفي المستبصر التنبيه عليه وإذا فهم هذا في جانب اللفظ فهم نظيره في جانب المعنى سواء. الظاهرية وأصحاب الرأي مفرطون وأصحاب الرأي والقياس حملوا معاني النصوص فوق ما حملها الشارع وأصحاب الألفاظ والظواهر قصروا بمعانيها عن مراده فأولئك قالوا: "إذا وقعت قطرة من دم في البحر فالقياس أنه ينجس" ونجسوا بها الماء الكثير مع أنه لم يتغير منه شيء البتة بتلك القطرة وهؤلاء قالوا: "إذا بال جرة من بول وصبها في الماء لم تنجسه وإذا بال في الماء نفسه ولو أدنى شيء نجسه" ونجس أصحاب الرأي والمقاييس القناطير المقنطرة ولو كانت ألف ألف قنطار من سمن أو زيت أو شيرج بمثل رأس الإبرة من البول والدم والشعرة الواحدة من الكلب والخنزير عند من ينجس شعرهما وأصحاب الظواهر والألفاظ عندهم لو وقع الكلب والخنزير بكماله أو أي ميتة كانت في أي ذائب كان من زيت أو شيرج أو خل أو دبس أو ودك غير السمن ألقيت الميتة فقط وكان ذلك المائع حلالا طاهرا كله فإن وقع ما عدا الفأرة في السمن من كلب أو وخنزير أو أي نجاسة كانت فهو طاهر حلال ما لم يتغير. ومن ذلك أن النبي ﷺ قال: "لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين" يعني في الإحرام فسوى بين يديها ووجها في النهي عما صنع على قدر العضو ولم يمنعها من تغطية وجهها ولا أمرها بكشفه البتة ونساؤه ﷺ أعلم الأمة بهذه المسألة وقد كن يسدلن على وجوههن إذا حاذاهن الركبان فإذا جاوزوهن كشفن وجوههن وروى وكيع عن شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة العدوية قالت: سألت عائشة: "ما تلبس المحرمة؟ فقالت: لا تنتقب ولا تتلثم وتسدل الثوب على وجهها" فجاوزت طائفة ذلك ومنعتها من تغطية وجهها جملة قالوا: وإذا سدلت على وجهها فلا تدع الثوب يمس وجهها فإن مسه افتدت ولا دليل على هذا البتة وقياس قول هؤلاء إنها إذا غطت يدها افتدت فإن النبي ﷺ سوى بينهما في النهي وجعلهما كبدن المحرم فنهى عن لبس القميص والنقاب والقفازين هذا للبدن وهذا للوجه وهذا لليدين ولا يحرم ستر البدن فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر الله لها أن تدني عليها من جلبابها لئلا تعرف ويفتتن بصورتها ولولا أن النبي ﷺ قال في المحرم ولا يخمر رأسه لجاز تغطيته بغير العمامة. وقد روى الإمام أحمد عن خمسة من الصحابة عثمان وابن عباس وعبد الله ابن الزبير وزيد بن ثابت وجابر أنهم كانوا يخمرون وجوههم وهم محرمون فإذا كان هذا في حق الرجل وقد أمر بكشف رأسه فالمرأة بطريق الأولى والأحرى. وقصرت طائفة أخرى فلم تمنع المحرمة من البرقع ولا اللثام قالوا: إلا أن يدخلا في اسم النقاب فتمنع منه وعذر هؤلاء أن المرجع إلى ما نهى عنه النبي ﷺ ودخل في لفظ المنهي عنه فقط والصواب النهي عما عما دخل في عموم لفظه وعموم معناه وعلته فإن البرقع واللثام وإن لم يسميا نقابا فلا فرق بينهما وبينه بل إذا نهيت عن النقاب فالبرقع واللثام أولى ولذلك منعتها أم المؤمنين من اللثام. ومن ذلك لفظ الفدية أدخل فيها طائفة خلع الحيلة على فعل المحلوف عليه مما هو ضد الفدية إذ المراد بقاء النكاح بالخلاص من الحنث وهي إنما شرعت لزوال النكاح عند الحاجة إلى زواله وأخرجت منه طائفة ما فيه حقيقة الفدية ومعناها واشترطت له لفظا معنيا وزعمت أنه لا يكون فدية وخلعا إلا به وأولئك تجاوزوا به وهؤلاء قصروا به والصواب أن كل ما دخله المال فهو فدية بأي لفظ كان والألفاظ لم ترد لذواتها ولا تعبدنا بها وإنما هي وسائل إلى المعاني فلا فرق قط بين أن تقول اخلعني بألف أو فادني بألف لا حقيقة ولا شرعا ولا لغة ولا عرفا وكلام ابن عباس والإمام أحمد عام في ذلك لم يقيده أحدهما بلفظ ولا استثنى لفظا دون لفظ بل قال ابن عباس: "عامة طلاق أهل اليمن الفداء" وقال الإمام أحمد: "الخلع فرقة وليس بطلاق" وقال: "الخلع ما كان من جهة النساء" وقال: "ما أجازه المال فليس بطلاق" وقال: "إذا خالعها بعد تطليقتين فإن شاء راجعها فتكون معه على واحدة". وقال في رواية أبي طالب: "الخلع مثل حديث سهلة إذا كرهت المرأة الرجل" وقالت: "لا أبرأ لك قسما ولا أطيع لك أمرا ولا أغتسل لك من جنابة فقد حل له أن يأخذ منها ما أعطاها" لأن النبي ﷺ قال: "أتردين عليه حديقته" قلت: وقد قال في الحديث: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" وجعل أحمد ذلك فداء. وقال ابن هانىء: "سئل أبو عبد الله عن الخلع: أفسخ أم طلاق هو أم تذهب إلى حديث ابن عباس كان يقول فرقة وليس بطلاق؟ فقال أبو عبد الله: كان ابن عباس يتأول في هذه الآية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}" وكان ابن عباس يقول: "هو فداء" قال ابن عباس: "ذكر الله الطلاق في أول الآية والفداء في وسطها وذكر الطلاق بعد" فالفداء ليس هو بطلاق وإنما هو فداء فجعل ابن عباس وأحمد الفداء فداء لمعناه لا للفظه وهذا هو الصواب فإن الحقائق لا تتغير بتغير الألفاظ وهذا باب يطول تتبعه. والمقصود أن الواجب فيما علق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني أن لا يتجاوز بألفاظها ومعانيها ولا يقصر بها ويعطي اللفظ حقه والمعنى حقه وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه وأخبرهم أنهم أهل العلم ومعلوم أن الاستباط إنما هو استنباط المعاني والعلل ونسبة بعضها إلى بعض فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله ومشبهه ونظيره ويلغي ما لا يصح هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط. قال الجوهري: الاستنباط كالاستخراج ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم والله سبحانه ذم من سمع ظاهرا مجردا فأذاعه وأفشاه وحمد من استنبط من أولى العلم حقيقته ومعناه. يوضحه أن الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفي على غير مستنبطه ومنه استنباط الماء من أرض البئر والعين ومن هذا قول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل: "هل خصكم رسول الله ﷺ بشيء دون الناس؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه". ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره ومراد المتكلم بكلامه ومعرفة حدود كلامه بحيث لا يدخل فيها غير المراد ولا يخرج منها شيء من المراد. وأنت إذا تأملت قوله تعالى{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وجدت الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبي ﷺ وأن هذا القرآن جاء من عند الله وأن الذي جاء به روح مطهر فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل ووجدت الآية أخت قوله {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} ووجدتها دالة بأحسن الدلالة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر ووجدتها دالة أيضا بألطف الدلالة على أنه لا يجد حلاوته وطعمه إلا من آمن به وعمل به كما فهمه البخاري من الآية فقال في صحيحه في ذباب {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} "لا يمسه" لا يجد طعمه ولا نفعه إلا من آمن بالقرآن ولا يحمله بحقه إلا المؤمن لقوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} وتجد تحته أيضا أنه لا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي إلا القلوب الطاهرة وان القلوب النجسة ممنوعة من فهمه مصروفة عنه فتأمل هذا النسب القريب وعقد هذه الأخوة بين هذه المعاني وبين المعنى الظاهر من الآية واستنباط هذه المعاني كلها من الآية بأحسن وجه وأبينه فهذا من الفهم الذي أشار إليه علي رضي الله عنه. وتأمل قوله تعالى لنبيه {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} كيف يفهم منه أنه إذا كان وجود بدنه وذاته فيهم دفع عنهم العذاب وهم أعداؤه فكيف وجود سره والإيمان به ومحبته ووجود ما جاء به إذا كان في قوم أو كان في شخص أفليس دفعه العذاب عنهم بطريق الأولى والأحرى؟ وتأمل قوله تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} كيف تجد تحته بألطف دلالة وأدقها وأحسنها أنه من اجتنب الشرك جميعه كفرت عنه كبائره وأن نسبة الكبائر إلى الشرك كنسبة الصغائر إلى الكبائر فإذا وقعت الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر تقع مكفرة باجتناب الشرك وتجد الحديث الصحيح كأنه مشتق من هذا المعنى وهو قوله ﷺ فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: "ابن آدم إنك لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة" وقوله: "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" بل محو التوحيد الذي هو توحيد الكبائر أعظم من محو اجتناب الكبائر للصغائر. وتأمل قوله تعالى {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} كيف نبههم بالسفر الحسي على السفر إليه وجمع لهم بين السفرين كما جمع لهم الزادين في قوله {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فجمع لهم بين زاد سفرهم وزاد معادهم وكما جمع بين اللباسين في قوله {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فذكر سبحانه زينة ظواهرهم وبواطنهم ونبههم بالحسي على المعنوي وفهم هذا القدر زائد على فهم مجرد اللفظ ووضعه في أصل اللسان والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله. فصل أدلة نفاة القياس قد أتينا على ذكر فصول نافعة وأصول جامعة في تقرير القياس والاحتجاج به لعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب ولا بقريب منها فلنذكر مع ذلك ما قابلها من النصوص والأدلة الدالة على ذم القياس وأنه ليس من الدين وحصول الاستغناء عنه والاكتفاء بالوحيين وها نحن نسوقها مفصلة مبينة بحمد الله. قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} وأجمع المسلمون على أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول ﷺ هو الرد إليه في حضوره وحياته وإلى سنته في غيبته وبعد مماته والقياس ليس بهذا ولا هذا. ولا يقال: الرد إلى القياس هو من الرد إلى الله ورسوله لدلالة كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام كما تقدم تقريره لأن الله سبحانه إنما ردنا إلى كتابه وسنة رسوله ولم يردنا إلى قياس عقولنا وآرائنا قط بل قال تعالى لنبيه ﷺ {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقال {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} ولم يقل بما رأيت أنت وقال {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وقال تعالى {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وقال تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وقال {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وقال {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} فلو كان القياس هدى لم ينحصر الهدى في الوحي وقال {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فنفى الإيمان حتى يوجد تحكيمه وحده وهو تحكيمه في حال حياته وتحكيم سنته فقط بعد وفاته وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي لا تقولوا حتى يقول. قال نفاة القياس: والإخبار عنه بأنه حرم ما سكت عنه أو أوجبه قياسا على ما تكلم بتحريمه أو إيجابه تقدم بين يديه فإنه إذا قال: "حرمت عليكم الربا في البر" فقلنا: ونحن نقيس على قولك البلوط فهذا محض التقدم. قالوا: وقد حرم سبحانه أن نقول عليه ما لا نعلم فإذا فعلنا ذلك فقد واقعنا هذا المحرم يقينا فإنا غير عالمين بأنه أراد من تحريم الربا في الذهب والفضة تحريمه في القديد من اللحوم وهذا قفو منا ما ليس لنا به علم وتعد لما حد لنا ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه والواجب أن نقف عند حدوده ولا نتجاوزها ولا نقصر بها. ولا يقال: فإبطال القياس وتحريمه والنهي عنه تقدم بين يدي الله ورسوله وتحريم لما لم ينص على تحريمه وقفو ممنكم ما ليس لكم به علم لأنا نقول: الله سبحانه وتعالى أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا وأنزل علينا كتابه وأرسل إلينا رسوله يعلمنا الكتاب والحكمة فما علمناه وبينه لنا فهو من الدين وما لم يعلمناه ولا بين لنا أنه من الدين فليس من الدين ضرورة وكل ما ليس من الدين فهو باطل فليس بعد الحق إلا الضلال وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فالذي أكمله الله سبحانه وبينه هو ديننا لا دين لنا سواه فأين فيما أكمله لنا "قيسوا ما سكت عنه على ما تكلمت بإيجابه أو تحريمه أو إباحته سواء كان الجامع بينهما علة أو دليل علة أو وصفها شبهيا فاستعملوا ذلك كله وانسبوه إلي وإلى رسولي وإلى ديني واحكموا به علي". قالوا: وقد أخبر سبحانه {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وأخبر رسوله: "أن الظن أكذب الحديث" ونهى عنه ومن أعظم الظن ظن القياسيين فإنهم ليسوا على يقين أن الله سبحانه وتعالى حرم بيع السمسم بالشيرج والحلوى بالعنب والنشا بالبر وإنما هي ظنون مجردة لا تغني من الحق شيئا. قالوا: وإن لم يكن قياس على "السلام عليكم" من الظن الذي نهينا عن اتباعه وتحكيمه وأخبرنا أنه لا يغني من الحق شيئا فليس في الدنيا ظن باطل فأين الضراط من "السلام عليكم" وإن لم يكن قياس الماء الذي لاقى الأعضاء الطاهرة الطيبة عند الله في إزالة الحدث على الماء الذي لاقى أخبث العذرات والميتات والنجاسات ظنا فلا ندري ما الظن الذي حرم الله سبحانه القول به وذمه في كتابه وسلخه من الحق وإن لم يكن قياس أعداء الله ورسوله من عباد الصلبان واليهود الذي هم أشد الناس عدواة للمؤمنين على أوليائه وخيار خلقه وسادات الأمة وعلمائها وصلحائها في تكافؤ دمائهم وجريان القصاص بينهم فليس في الدنيا ظن يذم اتباعه. قالوا: ومن العجب أنكم قستم أعداء الله على أوليائه في جريان القصاص بينهم فقلتم ألف ولي لله قتلوا نصارنيا واحدا يجاهرهم بسب الله ورسوله وكتابه علانية ولم تقيسوا من ضرب رأس رجل بدبوس فنثر دماغه بين يديه على من طعنه بمسلة فقتله. قالوا: وسنبين لكم من تناقض أقيستكم واختلافها وشدة اضطرابها ما يبين أنها من عند غير الله. قالوا: والله تعالى لم يكل بيان شريعته إلى آرائنا وأقيستنا واستنباطنا وإنما وكلها إلى رسوله المبين عنه فما بينه عنه وجب اتباعه وما لم يبينه فليس من الدين ونحن نناشدكم الله هل اعتمادكم في هذه الأقيسة الشبيهة والأوصاف الحدسية التخمينية على بيان الرسول أم على آراء الرجال وظنونهم وحدسهم قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فأين بين النبي ﷺ أني إذا حرمت شيئا أو أوجبته أو أبحته فاستخرجوا وصفا ما شبهبا جامعا بين ذلك وبين جميع ما سكت عنه فألحقوه به وقيسوا عليه. قالوا: والله تعالى قد نهى عن ضرب الأمثال له فكما لا تضرب له الأمثال لا تضرب لدينه وتمثيل ما لم ينص على حكمه بما نص عليه لشبه ما ضرب الأمثال لدينه وهذا بخلاف ما ضربه رسول الله ﷺ من الأمثال في كثير من الأحكام التي سئل عنها كما أمرهم بقضاء الصلاة التي ناموا عنها فقالوا ألا نصليها لوقتها من الغد فقال: "أينهاكم عن الربا ويقبله منكم" وكما قال لعمر وقد سأله عن القبلة للصائم: "أرأيت لو تمضمت بماء ثم مججته" وكما قال لمن سألته عن الحج عن أبيها: "أرأيت لو كان على أبيك دين" وكما قال لمن سأله: هل يثاب على وطء زوجته: "أرأيتم لو وضعها في الحرام". أمثال ضربها صاحب الشرع ومن أحسن هذه الأمثال وأبلغها وأعظمها تقريبا إلى الأفهام ما رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبي ﷺ قال: "إن الله سبحانه أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات ليعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها وإنه كاد أن يبطىء بها فقال عيسى إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم فقال يحيى أخشى إن سبقتني أن يخسف بي أو أعذب فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ المسجد وقعدوا على الشرف فقال إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن أولاهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلي فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك وإن الله أمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك وكلهم يعجبه ريحها وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال أنا أفتدي منكم بكل بقليل وكثير ففدى نفسه منهم وأمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدوا في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله قال النبي ﷺ وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه إلا أن يراجع ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من حثاء جهنم قالوا يا رسول الله وإن صلى وإن صام فقال وإن صلى وإن صام فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله" حديث صحيح. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: "أن رسول الله ﷺ قال: "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا". ومثل ﷺ المؤمن القارىء للقرآن بالأترجة في طيب الطعم والريح وضده بالحنظلة والمؤمن الذي لا يقرأ بالتمرة في طيب الطعم وعدم الريح والفاجر لا القارىء بالريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المؤمن بالخامة من الزرع لا تزال الرياح تميلها ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ومثل ا لمنافق بشجرة الأرز وهي الصنوبرة لا تهتز ولا تميل حتى تقطع مرة واحدة ومثل المؤمن بالنخلة في كثرة خيرها ومنافعها وحاجة الناس إليها وانتيابهم لها لمنافعهم بها وشبه أمته بالمطر في نفع أوله وآخره وحياة الوجود به ومثل أمته والأمتين الكتابيتين قبلها فيما خص الله به أمته وأكرمها به بأجراء عملوا بأجر مسمى لرجل يوما على أن يوفيهم أجورهم فلم يكملوا بقية يومهم وتركوا العمل من أثناء النهار فعملت أمته بقية النهار فاستكملوا أجر الفريقين وضرب الله ولأمته جبريل وميكائيل مثل ملك اتخد دارا ثم ابتنى فيها بيتا ثم جعل مائدة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله هو الملك والرسول محمد الداعي والدار الإسلام والبيت الجنة فمن أجابه دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل دار الملك وأكل منها ومن لم يجبه لم يدخل داره ولم يأكل منها وفي المسند والترمذي من حديث النواس بن سمعان قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الله ضرب مثلا صراطا مستقيما على كنفي الصراط سوران لهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعرجوا وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله فلا يقع أحد في حد من حدود الله حتى يكشف الستر والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم" فليتأمل العارف قدر هذا المثل وليتدبره حق تدبره ويزن به نفسه وينظر أين هو منه وبالله التوفيق وقال: "مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون لولا موضع تلك اللبنة فكنت أنا موضع تلك اللبنة" رواه مسلم وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عنه ﷺ: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعل الدواب والفراش يقعن فيها فأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تقتحمون فيها" ومثل من وقع في الشبهات بالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه وقال الحافظ أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي: حدثنا أبو سعيد الحراني ثنا يحيى بن عبد الله البابلتي ثنا صفوان بن عمرو قال: حدثني سليم ابن عامر قال: قال رسول الله ﷺ: "نصرت بالرعب مسيرة شهر وأوتيت جوامع الكلم وأوتيت الحكمة وضرب لي من الأمثال مثل القرآن وإني بينا أنا نائم إذا أتاني ملكان فقام أحدهما عند رأسي وقام الآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي اضرب مثلا وأنا أفسره فقال الذي عند رأسي وأهوى إلي لتنم عينك ولتسمع أذنك وليع قلبك قال فكنت كذلك أما الأذن فتسمع وأما القلب فيعي وأما العين فتنام قال فضرب مثلا فقال بركة فيها شجرة ثابتة وفي الشجرة غصن خارج فجاء ضارب فضرب الشجرة فوقع الغصن ووقع معه ورق كثير كل ذلك في البركة لم يعدها ثم ضرب الثانية فوقع ورق كثير كل ذلك في البركة لم يعدها ثم ضرب الثالثة فوقع ورق كثير لا أدري ما وقع فيها أكثر أو ما خرج منها قال ففسر الذي عند رجلي فقال أما البركة فهي الجنة وأما الشجرة فهي الأمة وأما الغصن فهو النبي ﷺ وأما الضارب فملك الموت ضرب الضربة الأولى في القرن الأول فوقع النبي ﷺ وأهل طبقتة وضرب الثانية في القرن فوقع كل ذلك في الجنة ثم ضرب الثالثة في القرن الثالث فلا أدري ما وقع فيها أكثر أم ما خرج منها" وفي المسند من حديث جابر: "كان النبي ﷺ إذا خطب احمرت عيناه وعلى صوته واشتد غضبه حتى كأنه نذير جيش يقول صبحكم ومساكم ثم يقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى" وفي حديث المستورد: "بعثت في نفس الساعة سبقتها كما سبقت هذه هذه وأشار بإصبعيه" وفي المسند عنه: "إن مثلي ومثل ما بعثني الله كمثل رجل أتى قومه فقال يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان فالنجاء فأطاعه طائفة منهم فأدلجوا على مهلهم فنجوا وكذبته طائفة فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم وكذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق" وفي الصحيحين عنه: "مثلي ومثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وزرعوا وسقوا وأصاب طائفة أخرى منها هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه خطب الناس فقال: "والله ما الفقر أخشى عليكم وإنما أخشى عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا فقال رجل يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر فصمت رسول الله ﷺ ثم قال كيف قلت فقال يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر فقال رسول الله ﷺ إن الخير لا يأتي إلا بالخير وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فثلطت وبالت ثم اجترت وعادت فأكلت فمن أخذ مالا بحقه يبارك له فيه ومن أخذ ملا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع". وقالت ميمونة: قال رسول الله ﷺ لعمر بن العاص "الدنيا خضرة حلوة فمن اتقى الله فيها وأصلح وإلا فهو كالذي يأكل ولا يشبع" وبين الناس في ذلك كبعد الكوكبين أحدهما يطلع في المشرق والآخر يغيب في المغرب ومثل نفسه ﷺ في الدنيا براكب مر بأرض فلاة فرأى شجرة فاستظل تحتها ثم راح وتركها وفي المسند والترمذي عنه: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يصنع أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع" ومر مع الصحابة بسخلة منبوذة فقال: "أترون هذه هانت على أهلها فوالذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها" وقال: "إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء لا يدرون ما قطعوا منها أكثر أو ما بقي منها فحسرت ظهورهم ونفذ زادهم وسقطوا بين ظهري المفازة فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه فقالوا إن هذا لحديث عهد بريف فانتهى إليهم فقال يا هؤلاء ما شأنكم فقالوا ما ترى كيف حسرت ظهورنا ونفدت أزوادنا بين ظهري هذه المفازة لا ندري ما قطعنا منها أكثر أم ما بقي فقال ما تجعلون لي إن أوردتكم ماء رواء ورياضا خضرا قالوا حكمك قال تعطوني عهودكم ومواثيقكم ألا تعصوني ففعلوا فمال بهم فأوردهم ماء رواء ورياضا خضرا فمكث يسيرا ثم قال هلموا إلى رياض أعشب من رياضكم هذه وماء أروى من مائكم هذا فقال جل القوم ما قدرنا على هذا حتى كدنا أن لا نقدر عليه وقالت طائفة منهم ألستم قد جعلتم لهذا الرجل عهودكم ومواثيقكم أن لا تعصوه فقد صدقكم في أول حديثه فآخر حديثه مثل أوله فراح وراحوا معهم فأوردهم رياضا خضرا وماء رواء وأتى الآخرين العدو من ليلتهم فأصبحوا ما بين قتيل وأسير" وقال: "مثل المؤمن كمثل النحلة أكلت طيبا ووضعت طيبا وإن مثل المؤمن كمثل القطعة الجيدة" من الذهب أدخلت في النار فنفخ عليها فخرجت جيدة وروى ليث عن مجاهد عن ابن عمر يرفعه: "مثل المؤمن مثل النخلة أو النحلة إن شاورته نفعك وإن ماشيته نفعك وإن شاركته نفعك". وقال: "مثل المؤمن والإيمان كمثل الفرس في آخيته يجول ما يجول ثم يرجع إلى أخيته وكذلك المؤمن يفترق ما يفترق ثم يرجع إلى الإيمان" وقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى شيء منه تداعى سائره بالسهر والحمى" وقال: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تكر إلى هذه مرة وإلى هذه مرة وقال مثل القرآن كمثل الإبل المعلقة إن تعهد صاحبها عقلها أمسكها وإن أغفلها ذهبت وإذا قام صاحب القرآن به ذكره وإذا لم يقم به نسيه" وقال موسى بن عبيدة عن ماعز بن سويد العرجي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي ﷺ قال: "مثل المؤمن الذي لا يتم صلاته مثل المرأة التي حملت حتى إذا دنا نفاسها أسقطت فلا حامل ولا ذات رضاع ومثل المصلي كمثل التاجر لا يخلص له الربح حتى يخلص له رأس المال وكذلك المصلي لا يقبل الله له نافلة حتى يؤدي الفريضة" وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة يرفعه: "مثل الذي يسمع الحكمة ولا يحمل إلا شرها كمثل رجل أتى راعيا فقال: آجرني شاة من غنمك فقال: انطلق فخذ بأذن شاة منها فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم" وقال عبد الله بن المبارك: ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني أبو هريرة قال: سمعت معاوية يقول على هذا المنبر: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة وإنما مثل عمل أحدكم كمثل الوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خبث أعلاه خبث أسفله". وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ: "أن رجلا كان فيمن كان قبلكم استضاف قوما فأضافوه ولهم كلبة تنبح قال: فقالت الكلبة: والله لا أنبح ضيف أهلي الليلة قال: فعوى جراؤها في بطنها فبلغ ذلك نبيا لهم أو قيلا لهم فقال: مثل هذه مثل أمة تكون بعدكم يقهر سفهاؤها حكماءها ويغلب سفهاءها علماءها" وفي صحيح البخاري من حديث النعمان بن بشير أن النبي ﷺ قال: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن هم تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" وفي المعجم الكبير عنه من حديث سهل بن سعد قال: "إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء هذا بعود وهذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه" وفي المسند من حديث أبي بن كعب يرفعه: "إن مطعم ابن آدم قد ضرب مثلا للدنيا فانظر ما يخرج من ابن آدم وإن فرخه وملحه قد علم إلى ما يصير" وقال أبو محمد ابن خلاد ثنا عبد الله بن أحمد بن معدان ثنا يوسف بن مسلم المصيصي ثنا حجاج الأعور عن أبي بكر الهذلي عن الحسن عن أبي بن كعب عن رسول الله ﷺ قال: "إني ضربت للدنيا مثلا ولابن آدم عند الموت مثله مثل رجل له ثلاثة أخلاء فلما حضره الموت قال لأحدهم: إنك كنت لي خليلا وكنت أبر الثلاثة عندي وقد نزل بي من أمر الله ما ترى فماذا عندك قال يقول وماذا عندي وهذا أمر الله قد غلبني ولا أستطيع أن أنفس كربتك ولا أفرج غمك ولا أؤخر ساعتك ولكن ها أنذا بين يديك فخذني زادا تذهب به معك فإنه ينفعك قال ثم دعا الثاني فقال إنك كنت لي خليلا وكنت أبر الثلاثة عندي وقد نزل بي من أمر الله ما ترى فماذا عندك قال يقول وماذا عندي وهذا أمر الله غلبني ولا أستطيع أن أنفس كربتك ولا أفرج غمك ولا أؤخر ساعتك ولكن سأقوم عليك في مرضك فإذا مت أنقيت غسلك وجددت كسوتك وسترت جسدك وعورتك قال ثم دعا الثالث فقال قد نزل بي من أمر الله ما ترى وكنت أهون الثلاثة علي وكنت لك مضيعا وفيك زاهدا فما عندك قال عندي أني قرينك وحليفك في الدنيا والآخرة أدخل معك قبرك حين تدخله وأخرج منه حين تخرج منه ولا أفارقك أبدا فقال النبي ﷺ هذا ماله وأهله وعمله أما الأول الذي قال خذني زادا فماله والثاني أهله والثالث عمله" وقد رواه أيضا بسياق آخر من حديث أبي أيضا ولفظه أن رسول الله ﷺ قال يوما لأصحابه: "أتدرون ما مثل أحدكم ومثل ماله وأهله وعمله قالوا الله ورسوله أعلم فقال إنما مثل أحدكم ومثل أهله وماله وعمله كمثل رجل له ثلاثة إخوة فلما حضرته الوفاة دعا بعض إخوته فقال إنه قد نزل بي من الأمر ما ترى فما لي عندك وما لديك فقال لك عندي أن أمرضك ولا أزايلك وأن أقوم بشأنك فإذا مت غسلتك وكفنتك وحملتك مع الحاملين أحملك طورا وأميط عنك طورا فإذا رجعت أثنيت عليك بخير عند من يسألني عنك هذا أخوه الذي هو أهله فما ترونه قالوا لا نسمع طائلا يا رسول الله ثم يقول للأخ الآخر أتري ما قد نزل بي فما لي لديك وما لي عندك فيقول ليس عندي غناءإلا وأنت في الأحياء فإذا مت ذهب بك مذهب وذهب بي مذهب هذا أخوه الذي هو ماله كيف ترونه قالوا لا نسمع طائلا يا رسول الله ثم يقول لأخيه الآخر أترى ما قد نزل بي وما رد علي أهلي ومالي فما لي عندك وما لي لديك فيقول أنا صاحبك في لحدك وأنيسك في وحشتك وأقعد يوم الوزن في ميزانك فأثقل ميزانك هذا أخوه الذي هو عمله كيف ترونه قالوا خير أخ وخير صاحب يا رسول الله قال فإن الأمر هكذا" وقال رسول الله ﷺ: "مثل الجليس الصالح مثل صاحب المسك إما أن يحذيك وإما أن يبيعك وإما أن تجد منه ريحا طيبة ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يصبك من شروره أصابك من ريحه" وفي الصحيح عنه أنه قال: "مثل المنفق والبخيل مثل رجلين عليهما جبتان أو جنتان من حديد من لدن ثديهما إلى تراقيهما فإذا أراد المنفق أن ينفق سبغت عليه حتى يجر بنانه ويعفو أثره وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت ولزمت كل حلقة موضعها فهو يوسعها ولا تتسع" وقال: "مثل الذين يغزون من أمتي ويتعجلون أجورهم كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها". فصل ضرب الأمثال يوضح المعنى قالوا: فهذه وأمثالها من الأمثال التي ضربها رسول الله ﷺ لتقريب المواد وتفهيم المعنى وإيصاله إلى ذهن السامع وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثل به فإنه قد يكون أقرب إلى تعقله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره فإن النفس تأنس بالنظائر والأشباه الأنس التام وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير ففي الأمثال من تأنيس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد ولا ينكره وكلما ظهرت له الأمثال ازداد المعنى ظهورا ووضوحا فالأمثال شواهد المعنى المراد ومزكية له فهي كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه وهي خاصة العقل ولبه وثمرته. الفرق بين المثل والقياس ولكن أين في الأمثال التي ضربها الله ورسوله على هذا الوجه فهمنا أن الصداق لا يكون أقل من ثلاثة دراهم أو عشرة قياسا وتمثيلا على أقل ما يقطع فيه السارق هذا بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالأمثال المضروبة للفهم كما قال إمام الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في جامعه الصحيح: (باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم السامع) فنحن لا ننكر هذه الأمثال التي ضربها الله ورسوله ولا نجهل ما أريد بها وإنما ننكر أن يستفاد وجوب الدم على من قطع من جسده أو رأسه ثلاث شعرات أو أربع من قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك} وأن الآية تدل على ذلك وأن قوله ﷺ في صدقة الفطر: "صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من أقط أو صاع من بر أو صاع من زبيب" يفهم منه أنه لو أعطى صاعا من إهليج جاز وأنه يدل على ذلك بطريق التمثيل والاعتبار وأن قوله ﷺ: "الولد للفراش" يستفاد منه ومن دلالته أنه لو قال له الولي بحضرة الحاكم زوجتك ابنتي وهو بأقصى الشرق وهي بأقصى الغرب فقال قبلت هذا التزويج وهي طالق ثلاثا ثم جاءت بعد ذلك بولد لأكثر من ستة أشهر أنه ابنه وقد صارت فراشا بمجرد قوله: "قبلت هذا التزويج" ومع هذا لو كانت له سرية يطأها ليلا ونهارا لم تكن فراشا له ولو أتت بولد لم يلحقه نسبه إلا أن يدعيه ويستلحقه فإن لم يستلحقه فليس بولده وأين يفهم من قوله ﷺ: "إن في قتل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل" أنه لو ضربه بحجر المنجنيق أو بكور الحداد أو بمزراب الحديد العظام حتى خلط دماغه بلحمه وعظمه إن هذا خطأ شبه عمد لا يوجب قودا وأين يفهم من قوله ﷺ: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن يكن له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطىء في العفو خير له من أن يخطىء في العقوبة" أن من عقد على أمه أو ابنته أو أخته ووطئها فلا حد عليه وأن هذا مفهوم من قوله: "ادرءوا الحدود بالشبهات" فهذا في معنى الشبه التي تدرأ بها الحدود وهي الشبة في المحل أو في الفاعل أو في الاعتقاد ولو عرض هذا على فهم من فرض من العالمين لم يفهمه من هذا اللفظ بوجه من الوجوه وأن من يطأ خالته أو عمته بملك اليمين فلا حد عليه مع علمه بأنها خالته أو عمته وتحريم الله لذلك ويفهم هذا من: "ادرءوا الحدود بالشبهات" وأضعاف أضعاف هذا مما لا يكاد ينحصر. فهذا التمثيل والتشبيه هو الذي ننكره وننكر أن يكون في كلام الله ورسوله دلالة على فهمه بوجه ما. قالوا: ومن أين يفهم من قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} ومن قوله: {فَاعْتَبِرُوا} تحريم بيع الكشك باللبن وبيع الخل بالعنب ونحو ذلك؟ قالوا: وقد قال تعالى {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ولم يقل: "إلى قياساتكم" وآرائكم ولم يجعل الله آراء الرجال وأقيستها حاكمة بين الأمة أبدا. وقالوا: وقد قال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فإنما منعهم من الخيرة عند حكمه وحكم رسوله لا عند آراء الرجال وأقيستهم وظنونهم وقد أمر سبحانه رسوله باتباع ما أوحاه إليه خاصة وقال {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} وقال {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقال تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} قالوا فدل هذا النص على أن ما لم يأذن به الله من الدين فهو شرع غيره الباطل. قالوا: وقد أخبر النبي ﷺ عن ربه تبارك وتعالى أن كل ما سكت عن إيجابه أو تحريمه فهو عفو عفا عنه لعباده يباح إباحة العفو فلا يجوز تحريمه ولا إيجابه قياسا على ما أوجبه أو حرمه بجامع بينهما فإن ذلك يستلزم رفع هذا القسم بالكلية وإلغاءه إذ المسكوت عنه لا بد أن يكون بينه وبين المحرم شبه ووصف جامع أو بينه وبين الواجب فلو جاز إلحاقه به لم يكن هناك قسم قد عفي عنه ولم يكن ما سكت عنه قد عفا عنه بل يكون ما سكت عنه قد حرمه قياسا على ما حرمه وهذا لا سبيل إلى دفعه وحينئذ فيكون تحريم ما سكت عنه تبديلا لحكمه وقد ذم تعالى من بدل غير القول الذي أمر به فمن بدل غير الحكم الذي شرع له فهو أولى بالذم وقد قال النبي ﷺ: "إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم على الناس من أجل مسألته" فإذا كان هذا فيمن تسبب إلى تحريم الشارع صريحا بمسألته عن حكم ما سكت عنه فكيف بمن حرم المسكوت عنه بقياسه وبرأيه؟ يوضحه أن المسكوت عنه لما كان عفوا عفا الله لعباده عنه وكان البحث عنه سببا لتحريم الله إياه لما فيه من مقتضى التحريم لا لمجرد السؤال عن حكمه وكان الله قد عفا عن ذلك وسامح به عباده كما يعفو عما فيه مفسدة من أعمالهم وأقوالهم فمن المعلوم أن سكوته عن ذكر لفظ عام يحرمه يدل على أنه عفو عنه فمن حرمه بسؤاله عن علة التحريم وقياسه على المحرم بالنص كان أدخل في الذم ممن سأله عن حكمه لحاجته إليه فحرم من أجل مسألته بل كان الواجب عليه أن لا يبحث عنه ولا يسأل عن حكمه اكتفاء بسكوت الله عن عفوه عنه فهكذا الواجب عليه أن لا يحرم المسكوت عنه بغير النص الذي حرم الله أصله الذي يلحق به. قالوا: وقد دل على هذا كتاب الله حيث يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} وقد قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: "ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" فأمرهم أن يتركوه من السؤال ما تركهم ولا فرق في هذا بين حياته وبعد مماته فنحن مأمورون أن نتركه ﷺ وما نص عليه فلا نقول له لم حرمت كذا لنلحق به ما سكت عنه بل هذا أبلغ في المعصية من أن نسأله عن حكم شيء لم يحكم فيه فتأمله فإنه واضح. ويدل عليه قوله في نفس الحديث: "وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فجعل الأمور ثلاثة لا رباع لها مأمور به فالفرض عليهم فعله بحسب الاستطاعة ومنهي عنه فالفرض عليهم اجتنابه بالكلية ومسكوت عنه فلا يتعرض للسؤال والتفتيش عنه وهذا حكم لا يختص بحياته فقط ولا يخص الصحابة دون من بعدهم بل فرض علينا نحن امتثال أمره بحسب الاستطاعة واجتناب نهيه وترك البحث والتفتيش عما سكت عنه وليس ذلك الترك جهلا وتجهيلا لحكمه بل إثبات لحكم العفو وهو الإباحة العامة ورفع الحرج عن فاعله فقد استوعب الحديث أقسام الدين كلها فإنها إما واجب وإما حرام وإما مباح والمكروه والمستحب فرعان على هذه الثلاثة غير خارجين عن المباح وقد قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فوكل بيانه إليه سبحانه لا إلى القياسيين والآرائيين وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} فقسم الحكم إلى قسمين قسم أذن فيه وهو الحق وقسم افتري عليه وهو ما لم يأذن فيه فأين أذن لنا أن نقيس البلوط على التمر في جريان الربا فيه وأن نقيس القصدير على الذهب والفضة والخردل على البر فإن كان الله ورسوله وصانا بهذا فسمعا وطاعة لله ورسوله وإلا فإنا قائلون لمنازعينا أم كنتم شهداء إذا وصاكم الله بهذا فما لم تأتنا به وصية من عند الله على لسان رسوله ﷺ فهو عين الباطل وقد أمرنا الله برد ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله ﷺ فلم يبح لنا قط أن نرد ذلك إلى رأي ولا قياس ولا تقليد إمام ولا منام ولا كشوف ولا إلهام ولا حديث قلب ولا استحسان ولا معقول ولا شريعة الديوان ولا سياسة الملوك ولا عوائد الناس التي ليس على شرائع المسلمين أضر منها فكل هذه طواغيت من تحاكم إليها أو دعا منازعة إلى التحاكم إليها فقد حاكم إلى الطاغوت. وقال تعالى {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} قالوا ومن تأمل هذه الآية حق التأمل تبين له أنها نص على إبطال القياس وتحريمه لأن القياس كله ضرب الأمثال للدين وتمثيل ما لا نص فيه بما فيه نص ومن مثل ما له ينص الله على تحريمه أو إيجابه بما حرمه أو أوجبه فقد ضرب لله الأمثال ولو علم سبحانه أن الذي سكت عنه مثل الذي نص عليه لأعلمنا به ولما أغفله سبحانه وما كان ربك نسيا ولبين لنا ما نتقي كما أخبر نفسه بذلك إذ يقول سبحانه {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} ولما وكله إلى آرائنا ومقاييسنا التي ينقض بعضها بعضا فهذا يقيس ما يذهب إليه على ما يزعم أنه نظيره فيجيء منازعه فيقيس ضد قياسه من كل وجه ويبدي من الوصف الجامع مثل ما أبداه منازعوه أو أظهر منه ومحال أن يكون القياسان معا عند الله وليس أحدهما أولى من الآخر فليسا من عنده وهذا وحده كاف في إبطال القياس. وقد قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} وقال {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فكل ما بينه رسول الله ﷺ فعن ربه سبحانه بينه بأمره وأذنه وقد علمنا يقينا وقوع كل اسم في اللغة على مسماه فيها وأن اسم البر لا يتناول الخردل واسم التمر لا يتناول البلوط واسم الذهب والفضة لا يتناول القزدير وأن تقدير نصاب السرقة لا يدخل فيه تقدير المهر وأن تحريم أكل الميتة لا يدل على أن المؤمن الطيب عند الله حيا وميتا إذا مات صار نجسا خبيثا وأن هذا عن البيان الذي ولاه الله ورسوله وبعثه به أبعد شيء وأشده منافاة له فليس هو مما بعث به الرسول قطعا فليس إذا من الدين. وقد قال النبي ﷺ: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم" ولو كان الرأي والقياس خيرا لهم لدلهم عليه وأرشدهم إليه ولقال لهم إذا أوجبت عليكم شيئا وحرمته فقيسوا عليه ما كان بينه وبينه وصف جامع أو ما أشبهه أو قال ما يدل على ذلك أو يستلزمه ولما حذرهم من ذلك أشد الحذر كما ستقف عليه إن شاء الله وقد أحكم اللسان كل اسم على مسماه لا على غيره وإنما بعث الله سبحانه محمد ﷺ بالعربية التي يفهمها العرب من لسانها فإذا نص سبحانه في كتابه أو نص رسوله على اسم من الأسماء وعلق عليه حكما من الأحكام وجب ألا يوقع ذلك الحكم إلا على ما اقتضاه ذلك الاسم ولا يتعدى به الوضع الذي وضعه الله ورسوله فيه ولا يخرج عن ذلك الحكم شيء مما يقتضيه الاسم فالزيادة على ذلك زيادة في الدين والنقص منه نقص في الدين فالأول القياس والثاني التخصيص الباطل وكلاهما ليس من الدين ومن لم يقف مع النصوص فإنه تارة يزيد في النص ما ليس منه ويقول هذا قياس ومرة ينقص منه بعض ما يقتضيه ويخرجه عن حكمه ويقول: هذا تخصيص ومرة يترك النص جملة ويقول ليس العمل عليه أو يقول هذا خلاف القياس أو خلاف الأصول. قالوا: ولو كان القياس من الدين لكان أهله أتبع الناس للأحاديث وكان كلما توغل فيه الرجل.كان أشد اتباعا للأحاديث والآثار. قالوا: ونحن نرى أن كلما اشتد توغل الرجل فيه اشتدت مخالفته للسنن ولا نرى خلاف السنن والآثار إلا عند أصحاب الرأي والقياس فلله كم من سنة صحيحة صريحة قد عطلت به وكم من أثر درس حكمه بسببه فالسنن والآثار عند الآرائيين والقياسيين خاوية على عروشها معطلة أحكامها معزولة عن سلطانها وولايتها لها الاسم ولغيرها الحكم لها السكة والخطبة ولغيرها الأمر والنهي وإلا فلماذا ترك حديث العرايا وحديث قسم الابتداء وأن للزوجة حق العقد سبع ليال إن كانت بكرا وثلاثا إن كانت ثيبا ثم يقسم بالسوية وحديث تغريب الزاني غير المحصن وحديث الاشتراط في الحج وجواز التحلل بالشرط وحديث المسح على الجوربين وحديث عمران بن حصين وأبي هريرة في أن كلام الناسي والجاهل لا يبطل الصلاة وحديث دفع اللقطة إلى من جاء فوصف وعاءها ووكاءها وعفاصها وحديث المصراة وحديث القرعة بين العبيد إذا أعتقوا في المرض ولم يحملهم الثلث وحديث خيار المجلس وحديث إتمام الصوم لمن أكل ناسيا وحديث إتمام صلاة الصبح لمن طلعت عليه الشمس وقد صلى منها ركعة وحديث الصوم عن الميت وحديث الحج عن المريض المأيوس من برئه وحديث الحكم بالقافة وحديث من وجد متاعه عند رجل قد أفلس وحديث النهي عن بيع الرطب بالتمر وحديث بيع المدبر وحديث القضاء بالشاهد مع اليمين وحديث الولد للفراش إذا كان من أمة وهو سبب الحديث وحديث تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا وحديث قطع السارق ربع دينار وحديث رجم الكتابيين في الزنا وحديث من تزوج من امرأة أبيه أمر بضرب عنقه وأخذ ماله وحديث: "لا يقتل مؤمن بكافر" وحديث: "لعن الله المحلل والمحلل له" وحديث: "لا نكاح إلا بولي" وحديث المطلقة ثلاثا لا سكنى لها ولا نفقة وحديث: "أعتق صفية وجعل عتقها صداقها" وحديث: "أصدقها ولو خاتما من حديد" وحديث إباحة لحوم الخيل وحديث: "كل مسكر حرام" وحديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وحديث المزارعة والمساقاة وحديث: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" وحديث الرهن مركوب ومحلوب وحديث النهي عن تخليل الخمر وحديث قسمة الغنيمة للراجل سهم وللفارس ثلاثة وحديث: "لا تحرم المصة والمصتان" وأحاديث حرمة المدينة وحديث إشعار الهدى وحديث: "إذا لم يجد المحرم الإزار فليلبس السراويل" وحديث منع الرجل من تفضيل بعض ولده على بعض وأنه جور لا تجوز الشهادة عليه وحديث: "أنت ومالك لأبيك" وحديث القسامة وحديث الوضوء من لحوم الإبل وأحاديث المسح على العمامة وحديث الأمر بإعادة الصلاة لمن صلى خلف الصف وحده وحديث: "من دخل والإمام يخطب يصلي تحية المسجد" وحديث الصلاة على الغائب وحديث الجهر بآمين في الصلاة وحديث جواز رجوع الأب فيما وهبه لولده ولا يرجع غيره وحديث الكلب الأسود يقطع الصلاة وحديث الخروج إلى العيد من الغد إذا علم بالعيد بعد الزوال وحديث نضح بول الغلام الذي لم يأكل الطعام وحديث الصلاة على القبر وحديث من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته وحديث بيع جابر بعيره واشتراط ظهره وحديث النهي عن جلود السباع وحديث لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره وحديث أن أحق الشروط أن توفوا بما استحللتم به الفروج وحديث من باع عبدا وله مال فماله للبائع وحديث إذا أسلم وتحته أختان اختار أيتهما شاء وحديث الوتر على الراحلة وحديث كل ذي ناب من السباع حرام وحديث من السنة وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة وحديث لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه من ركوعه وسجوده وأحاديث رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه وأحاديث الاستفتاح وحديث كان للنبي ﷺ سكتتان في الصلاة وحديث تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وحديث حمل الصبية في الصلاة وأحاديث القرعة وأحاديث العقيقة وحديث لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذنك وحديث أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل وحديث إن بلالا يؤذن بليل وحديث النهي عن صوم يوم الجمعة وحديث النهي عن الذبح بالسن والظفر وحديث صلاة الكسوف والاستسقاء وحديث النهي عن عسب الفحل وحديث المحرم إذا مات لم يخمر رأسه ولم يقرب طيبا إلى أضعاف ذلك من الأحاديث التي كان تركها من أجل القول بالقياس والرأي فلو كان القياس حقا لكان أهله أتبع الأمة للأحاديث ولا حفظ لهم ترك حديث واحد إلا لنص ناسخ له فحيث رأينا كل من كان أشد توغلا في القياس والرأي كان أشد مخالفة للأحاديث الصحيحة الصريحة علمنا أن القياس ليس من الدين وإن شيئا تترك له السنن لأبين شيء منافاة للدين فلو كان القياس من عند الله لطابق السنة أعظم مطابقة ولم يخالف أصحابه حديثا واحدا منها ولكانوا أسعد بها من أهل الحديث فليروا أهل الحديث والأثر حديثا واحدا صحيحا قد خالفوه كما أريناهم آنفا ما خالفوه من السنة بجريرة القياس. قالوا: وقد أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب وعلينا بعدهم أن لا نقول على الله إلا الحق فلو كانت هذه الأقيسة المتعارضة المتناقضة التي ينقض بعضها بعضا بحيث لا يدري الناظر فيها أيها الصواب حقا لكانت متفقة يصدق بعضها بعضا كالسنة التي يصدق بعضها بعضا وقال تعالى {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} لا بآرائنا ولا مقايسينا وقال {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} فما لم يقله سبحانه ولا هدى إليه فليس من الحق وقال تعالى {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} فقسم الأمور إلى قسمين لا ثالث لهما اتباع لما دعا إليه الرسول واتباع الهوى. فصل نهى الرسول عن القياس ولم يدع إليه والرسول ﷺ لم يدع أمته إلى القياس قط بل قد صح عنه أنه أنكر عمر وأسامة محض القياس في شأن الحلتين اللتين أرسل بهما إليهما فلبسها أسامة قياسا للبس على التملك والانتفاع والبيع وكسوتها لغيره وردها عمر قياسا لتملكها على لبسها فأسامة أباح وعمر حرم قياسا فأبطل رسول الله ﷺ كل واحد من القياسين وقال لعمر: "إنما بعثت بها إليك لتستمع بها" وقال لأسامة: "إني لم أبعثها إليك لتلبسها ولكن بعثتها إليك لتشققها خمرا لنسائك" والنبي ﷺ إنما تقدم إليهم في الحرير بالنص على تحريم لبسه فقط فقاسا قياسا أخطآ فيه فأحدهما قاس اللبس على الملك وعمر قاس التملك على اللبس والنبي ﷺ بين أن ما حرمه من اللبس لا يتعدى إلى غيره وما أباحه من التملك لا يتعدى إلى اللبس وهذا عين إبطال القياس. وصح عنه ما رواه أبو ثعلبة الخشني قال قال رسول الله ﷺ: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" وهذا الخطاب كما يعم أوله للصحابة ولمن بعدهم فهكذا آخره فلا يجوز أن نبحث عما سكت عنه ليحرمه أو يوجبه. وقال عبد الله بن المبارك: ثنا عيسى بن يونس عن جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله ﷺ: "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال". قال قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ثنا نعيم بن حماد ثنا عبد الله فذكره. وهؤلاء كلهم أئمة ثقات حفاظ إلا جرير بن عثمان فإنه كان منحرفا عن علي ومع هذا فاحتج به البخاري في صحيحه وقد روى عنه أنه تبرأ مما نسب إليه من الانحراف عن علي ونعيم بن حماد إمام جليل وكان سيفا على الجهمية روى عنه البخاري في صحيحه. وقد صح عنه صحة تقرب من التواتر أنه قال: "ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" فتضمن هذا الحديث أن ما أمر به أمر إيجاب فهو واجب وما نهى عنه فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو مباح فبطل ما سوى ذلك والقياس خارج عن هذه الوجوه الثلاثة فيكون باطلا والمقيس مسكوت عنه بلا ريب فيكون عفوا بلا ريب فإلحاقه بالمحرم تحريم لما عفا الله عنه وفي قوله: "ذروني ما تركتكم" بيان جلي أن ما لا نص فيه بحرام ولا واجب ودل الحديث على أن أوامره على الوجوب حتى يجيء ما يرفع ذلك أو يبين أن مراده الندب وأن ما لا نستطيعه فساقط عنا. وقد روى ابن المغلس ثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن ثنا أبو قلابة الرقاشي ثنا أبو الربيع الزهراني ثنا سيف بن هارون البرجمي عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان رضي الله عنه قال سئل النبي ﷺ عن أشياء فقال: "الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" وهذا إسناد جيد مرفوع والله المستعان وعليه التكلان. فصل الصحابة ينهون عن القياس وأما الصحابة رضي الله عنهم فقد قال أبو هريرة لابن عباس إذا جاءك الحديث عن رسول الله ﷺ فلا تضرب له الأمثال. وفي صحيح مسلم من حديث سمرة بن جندب قال: قال: رسول الله ﷺ: "أحب الكلام إلى الله عز وجل أربع" فذكر الحديث وفي آخره: "لا تسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح فإنك تقول أثم هو فيقال لا إنما هن أربع فلا تزيد علي". قالوا: فلم يجز سمرة أن ينهي عما عدا الأربع قياسا عليها وجعل ذلك زيادة فلم يزد على الأربع بالقياس التسمية بسعد وفرج وخير وبركة ونحوها ومقتضى قول القاسيين أن الأسماء التي سكت عنها النص أولى بالنهي فيكون إلحاقها بقياس الأولى أو مثله. فإن قيل: فلعل قوله: "إنما هن أربع فلا تزيدن علي" مرفوع من نفس كلام النبي ﷺ ولعل سمرة أراد بها إنما حفظت هذه الأربع فلا تزيدن علي في الرواية. قيل: أما السؤال الأول فصريح في إبطال القياس فإن المعنى واحد ومع هذا فخص النهي بالأربع وأما السؤال الثاني فقوله: "إنما هن أربع" يقتضي تخصيص الرواية والحكم بها ونفي الزيادة عليها رواية وحكما فلا تنافي بين الأمرين. وقال شعبة: سمعت سليمان بن عبد الرحمن قال سمعت عبدة بن فيروز قال: قلت للبراء بن عازب: حدثني ما كره أو نهى عنه النبي ﷺ فقال: "أربع لا تجزىء في الأضاحي" فذكر الحديث قال: "فإني أكره أن تكون ناقصة القرن أو الأذن" قال: "فما كرهت منه فدعه ولا تحرمه على أحد" ولم يأذن له في القياس على الأربع ولم يقس عليها هو ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم. وقال عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال: "كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله نبيه ﷺ وأنزل عليه كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو". وقال عمر بن الخطاب: "قد وضحت الأمور وتبينت السنة ولم يترك لأحد منكم متكلم إلا أن يضل عبد". وقال ابن مسعود: من أتى الأمر على وجهه فقد بين له وإلا فوالله مالنا طاقة بكل ما تحدثون ولو كان القياس من الدين لكان له ولغيره طاقة بقياس كل ما يرد عليهم على نظيره بوصف جامعي شبهي وإذا كان القياسيون لا يعجزون عن ذلك فكيف الصحابة ولو كان القياس من الدين لكان الجميع مبينا ولما قسم ابن مسعود وغيره ما يرد عليهم إلى ما بينه الله وإلى ما لم يبينه فإن الله على قولكم قد بين الجميع بالنص والقياس. فإن قيل: فهذا ينقلب عليكم فإنكم تقولون إن الله سبحانه قد بين الجميع قلنا ما بينه الله سبحانه نطقا فقد بين حكمه وما لم يبينه نطقا بل سكت عنه فقد بين لنا أنه عفو وأما القياسيون فيقولون ما سكت عنه بين أن حكمه حكم ما تكلم به وفرق عظيم بين الأمرين ونحن أسعد بالبيان النطقي والسكوتي منكم لتعميمنا البيانين وعدم تناقضنا فيهما وبالله التوفيق. وقد تقدم قول ابن مسعود: "ليس عام إلا والذي بعده شر منه لا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم". وتقدم قول عمر: العلم ثلاثة: "كتاب ناطق وسنة ماضية ولا أدري" وقوله لأبي الشعثاء: "لا تفتين إلا بكتاب ناطق أو سنة ماضية". وقال سفيان الثوري: عن أبي إسحاق الشيباني قال: "سمعت عبد الله بن أبي أوفي يقول: نهى رسول الله ﷺ عن نبيذ الجر الأخضر قلت: فالأبيض؟ قال: لا أدري ولم يقل وأي فرق بين الأخضر والأبيض" كما يبادر إليه القياسيون. وقال الزهري: "كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه كان عند معاوية في وفد من قريش فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله ﷺ فأولئك جهالكم ومعلوم أن القياس خارج عن كليهما". وتقدم قول معاذ: "تكون فتن يكثر فيها المال ويفتح القرآن حتى يقرأه الرجل والمرأة والكبير والصغير والمؤمن والمنافق ويقرأه الرجل فلا يتبع فيقول والله لأقرأنه علانية فيقرأه علانية فلا يتبع فيتخذ مسجدا ويبتدع فكل ما ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله فإياكم وإياه فإنها بدعة وضلالة". وقال عبد العزيز بن المطلب: عن ابن مسعود: "إنكم إن عملتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم عليكم وحرمتم كثيرا مما أحل لكم". وقال الأوزاعي: عن عبدة بن أبي لبابة عن ابن عباس: "من أحدث رأيا ليس من كتاب الله ولم تمض به سنة رسول الله ﷺ لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل". وقال أبو حنيفة: حدثنا جرير عن مجاهد "أن عمر نهى عن المكايلة يعني المقايسة". وقال الأثرم: ثنا أبو بكر بن أبي سيبة ثنا جعفر بن غياث عن أبيه عن مجاهد قال: قال عمر: "إياك والمكايلة يعنى المقايسة". وقال الأثرم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن حبيب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال عبد الله: "يا أيها الناس إنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثا فعليكم بالأمر الأول". فصل التابعون يذمون القياس وكذلك أئمة التابعين وتابعوهم يصرحون بذم القياس وإبطاله والنهي عنه. قال الطحاوي: ثنا ابن علية حدثني عمرو بن أبي عمران ثنا يحيى بن سليمان الطائفي حدثني داود بن أبي هند قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: "القياس شؤم وأول من قاس إبليس فهلك وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس". وقال ابن وهب: أخبرني مسلم بن علي أن شريحا الكندي هو القاضي قال: "إن السنة سبقت قياسكم". وقال ابن أبي حاتم: ثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ثنا وهب بن إسماعيل عن داود الأودي قال: قال لي الشعبي: "احفظ عني ثلاثا لها بيان إذا سئلت عن مسألة فأجبت فيها فلا تتبع مسألتك أرأيت فإن الله قال في كتابه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} حتى فرغ من الآية الأولى والثانية إذا سئلت عن مسألة فلا تقس شيئا بشيء فربما حرمت حلالا أو حللت حراما وإذا سئلت عما لا تعلم فقل: لا أعلم وأنا شريكك". وقال ابن وهب: أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى بن أبي عيسى عن الشعبي أنه سمعه يقول: "إياكم والمقايسة فوالذي نفسي بيده إن أخذتم بالمقايسة لتحلن الحرام ولتحرمن الحلال ولكن ما بلغكم من أصحاب رسول الله ﷺ فاحفظوه". وقال الطحاوي: ثنا يوسف بن يزيد القراطيسي ثنا سعيد بن منصور ثنا جرير بن عبد الحميد عن المغيرة بن مقسم عن الشعبي قال: "السنة لم توضع بالقياس". وقال الخشني: ثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا صالح بن مسلم قال: "قال لي عامر الشعبي يوما وهو آخذ بيدي إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس". وقال عباس بن الفرج الرياشي عن الأصمعي أنه قيل له: "إن الخليل بن أحمد يبطل القياس" فقال: "أخذ هذا عن إياس بن معاوية". وقال علي بن عبد العزيز البغوي: ثنا أبو الوليد القرشي أخبرنا محمد بن عبد الله بن بكار القرشي ثنا سليمان بن جعفر ثنا محمد بن يحيى الربعي عن ابن شبرمة أن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال لأبي حنيفة: "اتق الله ولا تقس فإنا غدا نقف نحن ومن خالفنا بين يدي الله فنقول: قال رسول الله ﷺ قال الله وتقول أنت وأصحابك: رأينا وقسنا فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء". وبهذا الإسناد إلى ابن شبرمة قال: "دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد بن الحنفية فسلمت عليه وكنت له صديقا ثم أقبلت على جعفر وقلت له أمتع الله بك هذا رجل من أهل العراق وله فقه وعقل فقال لي جعفر لعله الذي يقيس الدين برأيه ثم أقبل علي فقال أهو النعمان فقال له أبو حنيفة نعم أصلحك الله فقال له جعفر اتق الله ولا تقس الدين برأيك فإن أول من قاس إبليس إذ أمره الله بالسجود لآدم فقال أنا أخير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ثم قال لأبي حنيفة: أخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان فقال لا أدري قال جعفر هي لا إله إلا الله فلو قال لا إله ثم أمسك كان مشركا فهذه كلمة أولها شرك وآخرها إيمان ثم قال له ويحك أيهما أعظم عند الله قتل النفس التي حرم الله أو الزنا قال بل قتل النفس فقال له جعفر إن الله قد قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة فكيف يقوم لك قياس ثم قال: أيهما أعظم عند الله الصوم أو الصلاة قال بل الصلاة قال فما بال المرأة إذا حاضت تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة اتق الله يا عبد الله ولا تقس فإنا نقف غدا نحن وأنت بين يدي الله فنقول قال الله عز وجل وقال رسول الله ﷺ وتقول أنت وأصحابك قسنا ورأينا فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء". وقال ابن وهب: سمعت مالك بن أنس يقول: الزم ما قاله رسول الله ﷺ في حجة الوداع: "أمران تركتهما لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه". قال ابن وهب: وقال مالك: "كان رسول الله ﷺ إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء فإذا كان رسول رب العالمين لا يجيب إلا بالوحي وإلا لم يجب فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب برأيه أو قياس أو تقليد من يحسن به الظن أو عرف أو عادة أو سياسة أو ذوق أو كشف أو منام أو استحسان أو خرص والله المستعان وعليه التكلان". وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو: ثنا يزيد بن عبد ربه قال: سمعت وكيع بن الجراح يقول ليحيى بن صالح الوحاظي: "يا أبا زكريا احذر ا لرأي فإني سمعت أبا حنيفة يقول: البول في المسجد أحسن من بعض قياسهم". وقال عبد الرزاق: قال لي حماد بن أبي حنيفة: قال أبي: "من لم يدع القياس في مجلس القضاء لم يفقه". فهذا أبو حنيفة يقول: "إنه لا يفقه من لم يدع القياس في موضع الحاجة إليه وهو مجلس القضاء" قالوا: "فتبا لكل شيء لا يفقه المرء إلا بتركه". وقال عبد الرزاق عن معمر عن ابن شبرمة: "ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس". وقال داود بن الزبرقان عن مجالد بن سعيد قال: حدثنا الشعبي يوما قال: "يوشك أن يصير الجهل علما والعلم جهلا قالوا: وكيف يكون هذا يا أبا عمرو؟ قال: كنا نتبع الآثار وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فأخذ الناس في غير ذلك وهو القياس. وقال وكيع: حدثنا عيسى الخياط عن الشعبي قال: "لأن أتعنى بعنية أحب إلي من أن أقول في مسألة برأي". قلت: رواه أبو محمد بن قتيبة بالعين المهملة وعنية بوزن غنية ثم فسره بأن العنية أخلاط تنقع في أبوال الإبل حينا حتى تطلى بها الإبل من الجرب. وقال الأثرم: حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن جابر عن الشعبي عن مسروق قال: "لا أقيس شيئا بشيء قيل: لم؟ قال: أخشى أن تزل رجلي". وسئل عن مسألة فقال: لا أدري فقيل له: فقس لنا برأيك فقال: أخاف أن تزل قدمي. وكان يقول: إياكم والقياس والرأي فإن الرأي قد يزل. وكان الشعبي يقول: "لا تجالس أصحاب القياس فتحل حراما أو تحرم حلالا". وقال الخلال: ثنا أبو بكر المروزي قال: "سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل ينكر على أصحاب القياس ويتكلم فيه بكلام شديد". وقال الأثرم: ثنا محمد بن كناسة ثنا صالح بن مسلم عن الشعبي قال: "لقد بغض إلي هؤلاء القوم هذا المسجد حتى لهو أبغض إلى من كناسة داري قلت: من هم يا أبا عمرو قال: هؤلاء الآرائيون أرأيت أرأيت" وقال حماد بن يزيد: عن مطر الوراق قال: "ترك أصحاب الرأي الآثار والله" وقال محمد بن خاقان: "سمعت ابن المبارك في آخر خرجة خرج فقلنا له أوصنا فقال: لا تتخذوا الرأي إماما". فصل تناقض القياس قالوا: ولو كان القياس حجة لما تعارضت الأقيسة وناقض بعضها بعضا فترى كل واحد من المتنازعين من أرباب القياس يزعم أن قوله هو القياس فيبدي منازعه قياسا آخر ويزعم أنه هو القياس وحجج الله وبيناته لا تتعارض ولا تتهافت. قالوا: فلو جاز القول بالقياس في الدين لأفضى إلى وقوع الاختلاف الذي حذر الله منه ورسوله بل عامة الاختلاف بين الأمة إنما نشأ من جهة القياس فإنه إذا ظهر لكل واحد من المجتهدين قياس مقتضاه نقيض حكم الآخر اختلف ولا بد وهذا يدل على أنه من عند غير الله من ثلاثة أوجه أحدهما صريح قوله تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} الثاني أن الاختلاف سببه اشتباه الحق وخفاؤه وهذا لعدم العلم الذي يميز بين الحق والباطل الثالث أن الله سبحانه ذم الاختلاف في كتابه ونهى عن التفرق والتنازع فقال {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وقال {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وقال {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} وقال {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} والزبر الكتب أي كل فرقة صنفوا كتبا أخذوا بها وعملوا بها ودعوا إليها دون كتب الآخرين كما هو الواقع سواء وقال {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قال ابن عباس: "تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف". وقال النبي ﷺ: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" وقال: "اقرأوا القرآن ما ائتلف عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا" وكان التنازع والاختلاف أشد شيء على رسول الله ﷺ وكان إذا رأى من الصحابة اختلافا يسيرا في فهم النصوص يظهر في وجهه حتى كأنما فقىء فيه حب الرمان ويقول أبهذا أمرتم ولم يكن أحد بعده أشد عليه الاختلاف من عمر رضي الله عنه وأما الصديق فصان الله خلافته عن الاختلاف المستقر في حكم واحد من أحكام الدين وأما خلافة عمر فتنازع الصحابة تنازعا يسيرا في قليل من المسائل جدا وأقر بعضهم بعضا على اجتهاده من غير ذم ولا طعن فلما كانت خلافة عثمان اختلفوا في مسائل يسيرة صحب الاختلاف فيها بعض الكلام واللوم كما لام علي عثمان في أمر المتعة وغيرها ولامه عمار بن ياسر وعائشة في بعض مسائل قسمة الأموال والولايات فلما أفضت الخلافة إلى علي كرم الله وجهه في الجنة صار الاختلاف بالسيف. مضار الاختلاف والمقصود أن الاختلاف مناف لما بعث الله به رسوله قال عمر رضي الله عنه: "لا تختلفوا فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا" ولما سمع أبي ابن كعب وابن مسعود يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين صعد المنبر وقال: رجلان من أصحاب النبي ﷺ اختلفا فعن أي فتياكم يصدر المسلمون لا أسمع اثنين اختلفا بعد مقامي هذا إلا صنعت وصنعت وقال علي كرم الله وجهه في الجنة في خلافته لقضاته اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف وأرجو أن أموت كما مات أصحابي. وقد أخبر النبي ﷺ أن هلاك الأمم من قبلنا إنما كان باختلافهم على أنبيائهم وقال أبو الدرداء وأنس وواثلة بن الأسقع: "خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نتنازع في شيء من الدين فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله قال ثم انتهرنا قال يا أمة محمد لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار ثم قال أبهذا أمرتم أو ليس عن هذا نهيتم إنما هلك من كان قبلكم بهذا" وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابني العاص أنهما قالا: "جلسنا مجلسا في عهد رسول الله ﷺ كأنه أشد اغتباطا فإذا رجال عند حجرة عائشة يتراجعون في القدر فلما رأيناهم اعتزلناهم ورسول الله ﷺ خلف الحجرة يسمع كلامهم فخرج علينا رسول الله ﷺ مغضبا يعرف في وجهه الغضب حتى وقف عليهم وقال يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضا ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به ثم التفت فرآني أنا وأخي جالسين فغبطنا أنفسنا أن لا يكون رآنا معهم" قال البخاري: "رأيت أحمد بن حنبل وعلي ابن عبد الله والحميدي وإسحاق بن إبراهيم يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" وقال أحمد بن صالح: "أجمع آل عبد الله على أنها صحيفة عبد الله". لا قياس أولى من قياس قالوا: وأيضا فإذا اختلفت الأقيسة في نظر المجتهدين فإما أن يقال كل مجتهد مصيب فيلزم أن يكون الشيء وضده صوابا وإما أن يقال: المصيب واحد وهو القول الصواب ولكن ليس أحد القياسين بأولى من الآخر ولا سيما قياس الشبه فإن الفرع قد يكون فيه وصفان شبيهان للشيء وضده فليس جعل أحدهما صوابا دون الآخر بأولى من العكس. قالوا: وأيضا فالنبي ﷺ قال: "أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصارا" وجوامع الكلم: هي الألفاظ الكلية العامة المتناولة لأفرادها فإذا انضاف ذلك إلى بيانه الذي هو أعلى رتب البيان لم يعدل عن الكلمة الجامعة التي في غاية البيان لما دلت عليه إلى لفظ أطوال منها وأقل بيانا مع أن الكلمة الجامعة تزيل الوهم وترفع الشك وتبين المراد. فكان يقول: "لا تبيعوا كل مكيل ولا موزون بمثله إلا سواء بسواء" فهذا أخصر وأبين وأدل من أن يذكر ستة أنواع ويدل بها على مالا ينحصر من الأنواع فكمال علمه ﷺ وكمال شفقته ونصحه وكمال فصاحته وبيانه يأبى بذلك. قالوا: وأيضا فحكم القياس إما أن يكون موافقا للبراءة الأصلية وإما أن يكون مخالفا لها فإن كان موافقا لم يفد القياس شيئا لأن مقتضاه متحقق بها وإن كان مخالفا لها امتنع القول به لأنها متيقنة فلا ترفع بأمر لا تتيقن صحته إذ اليقين يمتنع رفعه بغير يقين. قالوا: وأيضا فإن غالب القياسات التي رأينا القياسيين يستعملونها رجم بالظنون وليس ذلك من العلم في شيء ولا مصلحة للأمة في اقتحامهم ورطات الرجم بالظنون حتى يخبطوا فيها خبط عشواء في ظلماء ويحكموا بها على الله ورسوله. قالوا: وأيضا فقول القياسي هذا حلال وهذا حرام هو خبر عن الله سبحانه أنه أحل كذا وحرمه وأنه أخبر عنه بأنه حلال أو حرام فإن حكم الله خبره فكيف يجوز لأحد أن يشهد على الله أنه أخبر بما لم يخبر به هو ولا رسوله قال الله تعالى {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ}. قالوا: وأيضا فالقياس لا بد فيه من علة مستنبطة من حكم الأصل والحكم في الأصل احتمل أن يكون لنا طريق إلى العلم بعلته واحتمل أن لا يكون لنا طريق وإذا كان لنا طريق احتمل أن يكون معللا وأن يكون غير معلل وإذا كان معللا احتمل أن تكون العلة هي هذه المعينة وأن تكون جزء علة وأن تكون العلة غيرها وإذا ظهرت العلة احتمل أن لا تكون في الفرع وإذا كانت فيه احتمل أن يتخلف الحكم عنها لمعارض آخر وما هذا شأنه كيف يكون من حجج الله وبيناته وأدلة الأحكام التي هدى الله بها عباده. قالوا: وأيضا فلو كان القياس حجة لأفضى ذلك إلى تكافؤ الأدلة الشرعية وهو محال فإنه قد يتردد فرع بين أصلين أحدهما التحريم والآخر الإباحة فإذا ظهر في نظر المجتهد شبه الفرع بكل واحد منهما لزم الحكم بالحل والحرمة في شيء واحد وهو محال. قالوا: وأيضا فليس قياس الفرع على الأصل في تعدية حكمه إليه أولى من قياسه عليه في عدم ثبوته بغير النص فحينئذ فنقول حكم الفرع حكم من أحكام الشرع فلا يجوز ثبوته بغير النص كحكم الأصل فما الذي جعل قياسكم أولى من هذا ومعلوم أن هذا أقرب إلى النصوص وأشد موافقة لها من قياسكم وهذا ظاهر. قالوا: وأيضا فحكم الله بإيجاب الشيء يتضمن محبته له وإرادته لوجوده وعلمه بأنه أوجبه وكلامه الطلبي والخبري وجعل فعله سببا لمحبته لعبده ورضاه عنه وإثباته عليه وتركه سببا لضد ذلك ولا سبيل لنا إلى العلم بهذا إلا من خبر الله عن نفسه أو خبر رسوله عنه فكيف يعلم ذلك بقياس أو رأي هذا ظاهر الامتناع. لم يستعمل القياس كحجة في زمن الرسول قالوا: ولو كان القياس من حجج الله وأدلة أحكامه لكان حجة في زمن النبي ﷺ كسائر الحجج فلما لم يكن حجة في زمنه ﷺ لم يكن حجة بعده. وتقرير هذه الحجة بوجهين: أحدهما أن الصحابة لم يكن أحد منهم يقيس على ما سمع منه ﷺ ما لم يسمع ولو كان هو معقول النصوص لكان تعدية الحكم به وشمول المعنى كتعدية الحكم باللفظ وشموله لجميع أفراده وذلك لا يختص بزمان دون زمان فلما قلتم لا يكون القياس في زمن النص علم أنه ليس بحجة الوجه الثاني أن تعلق النصوص بالصحابة كتعلقها بمن بعدهم ووجوب اتباعها على الجميع واحد. قالوا: ولأنا لسنا على ثقة من عدم تعليق الشارع الحكم بالوصف الذي بيديه القياسيون وأنه إنما علق الحكم بالاسم بحيث يوجد بوجوده وينتفي بانتفائه بل تعليق الحكم بالاسم تعليق بما لنا طريق إلى العلم به طردا وعكسا بخلاف تعليقه بالوصف الشبهي فإنه خرص وحزر وما كان هكذا لم ترد به الشريعة. قالوا: ولأن الأصل عدم العمل بالظنون إلا فيما تيقنا أن الشرع أوجب علينا العمل به للأدلة الدالة على تحريم اتباع الظنون فمعنا منع يقيني من اتباع الظن فلا نتركه إلا بيقين يوجب اتباعه. قالوا: ولأن تشابه الفرع والأصل يقتضي ألا يثبت الفرع إلا بما يثبت به الأصل فإن كان القياس حقا لزم توقف الفرع في ثبوته على النص كالأصل فالقول بالقياس من أبين الأدلة على بطلان القياس. قالوا: ولأن الحكم لا يخلو إما أن يتعلق بالاسم وحده أو بالوصف المشترك وحده أو بهما فإن تعلق بالاسم وحده أو بهما بطل القياس وإن تعلق بالوصف المشترك بينهما لزم أمران محذوران: أحدهما: إلغاء الاسم الذي اعتبره الشارع فإن الوصف إذا كان أعم منه وكان هو المستقل بالحكم كان الأخص وهو الاسم عديم التأثير الثاني: أنه إذا كان الاسم عديم التأثير لم يكن جعل ما دل عليه أصلا لما سكت عنه أولى من العكس إذ التأثير للوصف وحده بل يلزم أن لا يكون هناك فرع وأصل بل تكون الصورتان فردين من أفراد العموم المعنوي كما يكون أفراد العام لفظا كذلك ليس بعضها أصلا لبعض. قالوا: ولا ريب أن البيان بالألفاظ العامة أعلى من البيان بالقياس فكيف يعدل الشارع مع كمال حكمته عن البيان الجلي إلى البيان الأخفى؟ قالوا: ونسأل القياسي عن محل القياس أيجب في الشيئين إذا تشابها من كل وجه أم إذا اشتبها من بعض الوجوه وإن اختلفا في بعضها فإن قال بالأول ترك قوله وادعى محالا إذ ما من شيئين إلا وبينهما جامع وفارق وإن قال بالثاني قيل له فهلا حكمت للفرع بضد حكم الأصل من أجل الوجه الذي خالفه فيه فإن كانت تلك جهة وفاق تدل على الائتلاف فهذه جهة افتراق تدل على الاختلاف فليس إلحاق صور النزاع بموجب الوفاق أولى من إلحاقه بموجب الافتراق. قالوا: ولا ينفعه الاعتذار بأنه متى وقع الاتفاق في المعنى الذي ثبت الحكم من أجله عديت الحكم وإلا فلا. قيل له: إذا كان في الأصل عدة أوصاف فتعيينك أن هذا الوصف الذي من أجله شرع الحكم قول بلا علم وقد عارضك فيه منازعوك فادعوا أن الحكم شرع لغير ما ذكرت مثاله أن الشارع لما نص على ربا الفضل في الأعيان المذكورة في الحديث فقال قائل إن المعنى الذي حرم التفاضل لأجله هو الكيل في المكيلات والوزن في الموزونات قال له منازعه لا بل كونها مطعومة فقال آخر: لا بل هو كونها مقتاتة ومدخرة فقال آخر: لا بل كونها تجري فيها الزكاة فقال آخر: لا بل كونها جنسا واحدا وكل فريق يزعم أن الصواب ما ادعاه دون منازعه ويقدح فيما ادعاه الآخر ولا يتهيأ له قدح في قول منازعه إلا ويتهيأ لمنازعه مثله أو أكثر منه أو دونه فلو ظن آخرون فقالوا العلة كونه مما تنبته الأرض واحتج بأن الله سبحانه امتن على عباده بما تنبته لهم الأرض وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْض} وقال إن من تمام النعمة فيه أن لا يباع بعضه ببعض متفاضلا لكان قوله واحتجاجه من جنس قول الآخرين واحتجاجهم وما هذا سبيله فكيف يكون من الدين بسبيل؟ قالوا: وأيضا فإذا كان النص في الأصل قد دل على شيئين: ثبوت الحكم فيه نطقا وتعديته إلى ما في معناه بالعلة فإذا نسخ الحكم في الأصل هل يبقى الحكم في الفرع أو يزول فإن قلتم يبقى فهو محال وإن قلتم (يزول) تناقضتم إذ من أصلكم أن نسخ بعض ما يتناوله النص لا يوجب نسخ جميع ما يتناوله كالعام إذا خص بعض أفراده لم يوجب ذلك تخصيص غيره فإذا كان حكم الأصل قد دل على شيئين فارتفع أحدهما فما الموجب لارتفاع الثاني وإن قلتم يثبت بالقياس ويرتفع بالقياس قيل إنما أثبتموه لوجود العلة الجامعة عندكم والعلة لم تزل بالنسخ وهي سبب ثبوته وما دام السبب قائما فالمسبب كذلك ولو زالت العلة بالنسخ لأمكن تصحيح قولكم. فإن قلتم: نسخ حكم الأصل يقتضي نسخ كون العلة علة. قيل: هذه دعوى لا دليل عليها فإن النص اقتضى ثبوت حكم الأصل وكون وصف كذا علة مقتضي التعدية على قولكم فهما حكمان متغايران فزوال أحدهما لا يستلزم زوال الآخر. قالوا: ولو كان القياس من الدين لقال النبي ﷺ لأمته إذا أمرتكم بأمر أو نهيتكم عن شيء فقيسوا عليه ما كان مثله أو شبهه ولكان هذا أكثر شيء في كلامه وطرق الأدلة عليه متنوعة لشدة الحاجة إليه ولا سيما عند غلاة القياسيين الذين يقولون: إن النصوص لا تفي بعشر معشار الحوادث وعلى قول هذا الغالي الجافي عن النصوص فالحاجة إلى القياس أعظم من الحاجة إلى النصوص فهلا جاءت الوصية باتباعه ومراعاته والوصية بحفظ حدود ما أنزل الله على رسوله وأن لا تتعدى ومعلوم أن الله سبحانه حد لعباده حدود الحلال والحرام بكلامه وذم من لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله والذي أنزله هو كلامه فحدود ما أنزله الله هو الوقوف عند حد الاسم الذي علق عليه الحل والحرمة فإنه هو المنزل على رسوله وحده بما وضع له لغة أو شرعا بحيث لا يدخل فيه غير موضوعه ولا يخرج منه شيء من موضوعه ومن المعلوم أن حد البر لا يتناول الخردل وحد التمر لا يدخل فيه البلوط وحد الذهب لا يتناول القطن ولا يختلف الناس أن حد الشيء ما يمنع دخول غيره فيه ويمنع خروج بعضه منه وقد تقدم تقرير هذا وأعدناه لشدة الحاجة إليه فإن أعلم الخلق بالدين أعلمهم بحدود الأسماء التي علق بها الحل والحرمة والأسماء التي لها حدود في كلام الله ورسوله ثلاثة أنواع نوع له حد في اللغة كالشمس والقمر والبر والبحر والليل والنهار فمن حمل هذه الأسماء على غير مسماها أو خصها ببعضه أو أخرج منها بعضه فقد تعدى حدودها ونوع له حد في الشرع كالصلاة والصيام والحج والزكاة والإيمان والإسلام والتقوى ونظائرها فحكمها في تناولها لمسمياتها الشرعية كحم النوع الأول في تناوله لمسماه اللغوي ونوع له حد في العرف لم يحده الله ورسوله بحد غير المتعارف ولا حد له في اللغة كالسفر والمرض المبيح للترخص والسفه والجنون الموجب للحجر والشقاق الموجب لبعث الحكمين والنشوز المسوغ لهجر الزوجة وضربها والتراضي المسوغ لحل التجارة والضرار المحرم بين المسلمين وأمثال ذلك وهذا النوع في تناوله لمسماه العرفي كالنوعين الآخرين في تناولهما لمسماهما ومعرفة حدود هذه الأسماء ومراعاتها مغن عن القياس غير محوج إليه وإنما يحتاج إلى القياس من قصر في هذه الحدود ولم يحط بها علما ولم يعطها حقها من الدلالة. مثاله تقصير طائفة من الفقهاء في معرفة حد الخمر حيث خصوه بنوع خاص من المسكرات فلما احتاجوا إلى تقرير تحريم كل مسكر سلكوا طريق القياس وقاسوا ما عدا ذلك النوع في التحريم عليه فنازعهم الآخرون في هذا القياس وقالوا لا يجري في الأسباب وطال النزاع بينهم وكثر السؤال والجواب وكل هذا من تقصيرهم في معرفة حد الخمر فإن صاحب الشرع قد حده بحد يتناول كل فرد من أفراد المسكر فقال: "كل مسكر خمر" فأغنانا هذا الحد عن باب طويل عريض كثير التعب من القياس وأثبتنا التحريم بنصه لا بالرأي والقياس. ومن ذلك أيضا تقصير طائفة في لفظ الميسر حيث خصوه بنوع من أنواعه ثم جاءوا إلى الشطرنج مثلا فراموا تحريمه قياسا عليه فنازعهم آخرون في هذا القياس وصحته وطال النزاع ولو أعطوا لفظ الميسر حقه وعرفوا حده لعلموا أن دخول الشطرنج فيه أولى من دخول غيره كما صرح به من صرح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وقالوا: "الشطرنج من الميسر". ومن ذلك تقصير طائفة في لفظ السارق حيث أخرجوا منه نباش القبور ثم راموا قياسه في القطع على السارق فقال لهم منازعوهم: الحدود والأسماء لا تثبت قياسا فأطالوا وأعرضوا في الرد عليهم ولو أعطوا لفظ السارق حده لرأوا أنه لا فرق في حده ومسماه بين سارق الأثمان وسارق الأكفان وأن إثبات الأحكام في هذه الصور بالنصوص لا بمجرد القياس. ونحن نقول قولا ندين الله به ونحمد الله على توفيقنا له ونسأله الثبات عليه: إن الشريعة لم تحوجنا إلى قياس قط وإن فيها غنية وكفاية عن كل رأي وقياس وسياسة واستحسان ولكن ذلك مشروط بفهم يؤتيه الله عبده فيها وقد قال تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وقال علي كرم الله وجهه: "إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه" وقال النبي ﷺ لعبد الله بن عباس: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" وقال أبو سعيد: "كان أبو بكر أعلمنا برسول الله ﷺ" وقال عمر لأبي موسى: "الفهم الفهم". فصل تناقض القياسيين دليل على فساد القياس قالوا: ومما يبين فساد القياس وبطلانه تناقض أهله فيه واضطرابهم تأصيلا وتفصيلا. أما التأصيل فمنهم من يحتج بجميع أنواع القياس وهي: قياس العلة والدلالة والشبه والطرد وهم غلاتهم كفقهاء ما وراء النهر وغيرهم فيحتجون في طرائقهم على منازعهم في مسألة المنع من إزالة النجاسة بالمائعات بأنه مائع لاتبنى عليه القناطر ولا تجري فيه السفن فلا تجوز إزالة النجاسة به كالزيت والشيرج وأمثال ذلك من الأقيسة التي هي إلى التلاعب بالدين أقرب منها إلى تعظيمه. وطائفة يحتجون باللأقيسة الثلاثة دونه وتقول قياس العلة أن يكون الجامع هو العلة التي لأجلها شرع الحكم في الأصل وقياس الدلالة: أن يجمع بينهما بديل العلة وقياس الشبه أن يتجاذب الحادثة أصلان حاظر ومبيح ولكل واحد من الأصلين أوصاف فتلحق الحادثة بأكثر من الأصلين أوصاف فتلحق الحادثة بأكثر الأصلين شبها بها مثل أن يكون بالإباحة أشبه بأربعة أوصاف وبالحظر بثلاثة فيلحق بالإباحة. وقد قال الإمام أحمد في هذا النوع في راوية أحمد بن الحسين: "القياس أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال فأردت أن تقيس عليه فهذا الخطأ وقد خالفه في بعض أحواله ووافقه في بعضها فإذا كان مثله في كل أحواله فما أقبلت به وأدبرت به فليس في نفسي منه شيء" وبهذا قال أكثر الحنفية والمالكية والحنابلة وقالت طائفة لا قياس إلا قياس العلة فقط وقالت فرقة بذلك ولكن إذا كانت العلة منصوصة. ثم اختلف القياسيون في محل القياس فقال جمهورهم يجرى في الأسماء والأحكام وقالت فرقة: "لا بل لا تثبت الأسماء قياسا وإنما محل القياس الأحكام". ثم اختلفوا فأجراه جمهورهم في العبادات واللغات والحدود والأسباب وغيرها ومنعته طائفة في ذلك واستثنت طائفة الحدود والكفارات فقط واستثنت طائفة أخرى معها الأسباب. وكل هؤلاء قسموه إلى ثلاثة أقسام: قياس أولى وقياس مثل وقياس أدنى ثم اضطربوا في تقديمه على العموم أو بالعكس على قولين واضطربوا في تقديمه على خبر الآحاد الصحيح فجمهورهم قدم الخبر. وقال أبو بكر بن الفرج القاضي وأبو بكر الأبهري المالكيان: هو مقدم على خبر الواحد ولا يمكنهم ولا أحد من الفقهاء طرد هذا القول البتة بل لا بد من تناقضهم واضطربوا في تقديمه على الخبر المرسل وعلى قول الصحابي فمنهم من قدم القياس ومنهم من قدم المرسل وقول الصحابي وأكثرهم بل كلهم يقدمون هذا تارة وهذا تارة فهذا تناقضهم في التأصيل. وأما تناقضهم في التفصيل فنذكر منه طرفا يسيرا يدل على ما وراءه من قياسهم في المسألة قياسا وتركهم فيها مثله أو ما هو أقوى منه أو تركهم نظير ذلك القياس أو أقوى منه في مسألة أخرى لا فرق بينهما البتة. أمثلة من تناقض القياسيين فمن ذلك أنهم أجازوا الوضوء بنبيذ التمر وقاسوا في أحد القولين عليه سائر الأنبذة وفي القول الآخر لم يقيسوا عليه فإن كان هذا القياس حقا فقد تركوه وإن كان باطلا فقد استعملوه ولم يقيسوا عليه الخل ولا فرق بينهما وكيف كان نبيذ التمر تمرة طبية وماء طهورا ولم يكن الخل عنبة طيبة وماء طهورا والمرق لحما طيبا وماء طهورا ونقيع المشمش والزبيب كذلك فإن ادعوا الإجماع على عدم الوضوء بذلك فليس فيه إجماع فقد قال الحسن بن صالح بن حي وحميد بن عبد الرحمن: "يجوز الوضوء بالخل وإن كان الإجماع كما ذكرتم فهلا قستم المنع من الوضوء بالنبيذ على ما أجمعوا عليه من المنع من الوضوء بالخل فإن قلتم اقتصرنا على موضع النص ولم نقس عليه قيل لكم فهلا سلكتم ذلك في جميع نصوصه واقتصرتم على محالها الخاصة ولم تقيسوا عليها فإن قلتم لأن هذا خلاف القياس قيل لكم فقد صرحتم أن ما ثبت على خلاف القياس يجوز القياس عليه ثم هذا يبطل أصل القياس فإنه إذا جاز ورود الشريعة بخلاف القياس علم أن القياس ليس من الحق وأنه عين الباطل فإن الشريعة لا ترد بخلاف الحق أصلا ثم من قاعدتكم أن خبر الواحد إذا خالف الأصول لم يقبل وفي أي الأصول وجدتم ما يجوز التطهير به خارج المصر والقرية ولا يجوز التطهير به داخلهما فإن قالوا اقتصرنا في ذلك على موضع النص قيل فهلا اقتصرتم به على خارج مكة فقط حيث جاء الحديث وكيف ساغ لكم قياس الغسل من الجنابة في ذلك على الوضوء دون القياس داخل المصر على خارجه وقياس العنبة الطيبة والماء الطهور واللحم الطيب والماء الطهور والدبس الطيب والماء الطهور على التمرة الطيبة والماء الطهور فقستم قياسا وتركتم مثله وما هو أولى منه فهلا اقتصرتم على مورد الحديث ولا عديتموه إلى أشباهه ونظائره"؟ ومن ذلك أنكم قستم على خبر مروي: "يا بني المطلب إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس" فقستم على ذلك الماء الذي يتوضأ به وأبحتم لبني المطلب غسالة أيدي الناس التي نص عليها الخبر وقستم الماء المستعمل في رفع الحدث وهو طاهر لاقى أعضاء طاهرة على الماء الذي لاقى العذرة والدم والميتات وهذا من أفسد القياس وتركتم قياسا أصح منه وهو قياسه على الماء المستعمل في محل التطهير من عضو إلى عضو ومن محل إلى محل فأي فرق بين انتقاله من عضو المتطهر الواحد إلى عضوه الآخر وبين انتقاله إلى عضو أخيه المسلم وقد قال النبي ﷺ: "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد" ولا ريب عند كل عاقل أن قياس جسد المسلم على جسد أخيه أصح من قياسه على العذرة والجيف والميتات والدم. ومن ذلك أنكم قستم الماء الذي توضأ به الرجل على العبد الذي أعتقه في كفارته والمال الذي أخرجه في زكاته وهذا من أفسد القياس وقد تركتم قياسا أصح في العقول والفطر منه وهو قياس هذا الماء الذي قد أدى به عبادة على الثوب الذي قد صلي فيه وعلى الحصى الذي رمى به الجمار مرة عند من يجوز منكم الرمي بها ثانية وعلى الحجر الذي استجمر به مرة إذا غسله أو لم يكن به نجاسة. ومن ذلك أنكم قستم الماء الذي وردت عليه النجاسة فلم تغير له لونا ولا طعما ولا ريحا على الماء الذي غيرت النجاسة لونه أو طعمه أو ريحه وهذا من أبعد القياس عن الشرع والحس وتركتم قياسا أصح منه وهو قياسه على الماء الذي ورد على النجاسة فقياس الوارد على المورود مع اسوائهما في الحد والحقيقة والأوصاف أصح من قياس مائة رطل ماء وقع فيه شعرة كلب على مائة رطل خالطها مثلها بولا وعذرة حتى غيرها. ومن ذلك أنكم فرقتم بين ماء جار بقدر طرف الخنصر تقع فيه النجاسة فلم تغيره وبين الماء العظيم المستبحر إذا وقع فيه مثل رأس الإبرة من البول فنجستم الثاني دون الأول وتركتم محض القياس فلم تقيسوا الجانب الشرقي من غدير كبير في غربيه نجاسة على الجانب الشمالي والجنوبي وكل ذلك مماس لما قد تنجس عندكم مماسة مستوية. وقاسوا باطن الأنف على ظاهره في غسل الجنابة فأوجبوا الاستنشاق ولم يقيسوه عليه في الوضوء الذي أمر رسول الله ﷺ فيه بالاستنشاق نصا ففرقوا بينهما وأسقطوا الوجوب في محل الأمر به وأوجبوه في غيره والأمر بغسل الوجه في الوضوء كالأمر بغسل البدن في الجنابة سواء. ومن ذلك أنكم قستم النسيان على العمد في الكلام في الصلاة وفي فعل المحلوف عليه ناسيا وفيما يوجب الفدية من محظورات الإحرام كالطيب واللباس والحلف والصيد وفي حمل النجاسة في الصلاة ثم فرقتم بين النسيان والعمد في السلام قبل تمام الصلاة وفي الأكل والشرب في الصوم وفي ترك التسمية على الذبيحة وفي غير ذلك من الأحكام وقستم الجاهل على الناسي في عدة مسائل وفرقتم بينهما في مسائل أخر ففرقتم بينهما فيمن نسى أنه صائم فأكل أو شرب لم يبطل صومه ولو جهل فظن وجود الليل فأكل أو شرب فسد صومه مع أن الشريعة تعذر الجاهل كما تعذر الناسي أو أعظم كما عذر النبي ﷺ المسيء في صلاته بجهله بوجوب الطمأنينة فلم يأمره بإعادة ما مضى وعذر الحامل المستحاضة بجهلها بوجوب الصلاة والصوم عليها مع الاستحاضة ولم يأمرها بإعادة ما مضى وعذر عدي بن حاتم بأكله في رمضان حين تبين له الخيطان اللذان جعلهما تحت وسادته ولم يأمره بالإعادة وعذر أبا ذر بجهله بوجوب الصلاة إذا عدم الماء فأمره بالتيمم ولم يأمره بالإعادة وعذر الذين تمعكوا في التراب كتمعك الدابة لما سمعوا فرض التيمم ولم يأمرهم بالإعادة وعذر معاوية بن الحكم بكلامه في الصلاة عامدا لجهله بالتحريم وعذر أهل قباء بصلاتهم إلى بيت المقدس بعد نسخ استقباله بجهلهم بالناسخ ولم يأمرهم بالإعادة وعذر الصحابة والأئمة بعدهم من ارتكب محرما جاهلا بتحريمه فلم يحدوه. وفرقتم بين قليل النجاسة في الماء وقليلها في الثوب والبدن وطهارة الجميع شرط لصحة الصلاة وترك الجميع صريح القياس في مسألة الكلب فطائفة لم تقس عليه غيره وطائفة قاست عليه الخنزير وحده دون غيره كالذئب الذي هو مثله أو شر منه وقياس الخنزير على الذئب أصح من قياسه على الكلب وطائفة قاست عليه البغل والحمار وقياسهما على الخيل التي هي قرينتهما في الذكر وامتنان الله سبحانه على عباده لها بركوبها واتخاذها زينة وملامسة الناس لها أصح من قياس البغل على الكلب فقد علم كل أحد أن الشبه بين البغل والفرس أظهر وأقوى من الشبه بينه وبين الكلب وقياس البغل والحمار على السنور بشدة ملامستهما والحاجة إليهما وشربهما من آنية البيت أصح من قياسهما على الكلب. وقستم الخنافس والزنابير والعقارب والصردان على الذباب في أنها لا تنجس بالموت بعدم النفس السائلة لها وقلة الرطوبات والفضلات التي توجب التنجيس فيها ونجس من نجس منكم العظام بالموت مع تعريها من الرطوبات والفضلات جملة ومعلوم أن النفس السائلة التي في تلك الحيوانات المقيسة أعظم من النفس السائلة التي في العظام. وفرقتم بين ما شرب منه الصقر والبازي والحدأة والعقاب والأحناش وسباع الطير وما شرب منه سباع البهائم من غير فرق بينهما قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن الفرق في هذا بين سباع الطير وسباع ذوات الأربع فقال: "أما في القياس فهما سواء ولكني أستحسن في هذا". وتركتم صريح القياس في التسوية بين نبيذ التمر والزبيب والعسل والحنطة ونبيذ العنب وفرقتم بيم المتماثلين ولا فرق بينهما البتة مع أن النصوص الصحيحة الصريحة قد سوت بين الجميع. وفرقتم بين من معه إناءان: طاهر ونجس فقلتم: يريقهما ويتيمم ولا يتحرى فيهما ولو كان معه ثوبان كذلك يتحرى فيهما والوضوء بالماء النجس كالصلاة في الثوب النجس ثم قلتم: فلو كانت الآنية ثلاثة تحري ففرقتم بين الاثنين والثلاثة وهو فرق بين متماثلين وهذا على أصحاب الرأي وأما أصحاب الشافعي ففرقوا بين الإناء الذي كله بول وبين الإناء الذي نصفه فأكثر بول فجوزا الاجتهاد بين الثاني والإناء الطاهر دون الأول وتركوا محض القياس في التسوية بينهما. وقستم القيء على البول وقلتم: كلاهما طعام أو شراب خرج من الجوف ولم تقيسوا الجشوة الخبيثة على الفسوة ولم تقولوا: كلاهما ريح خارجة من الجوف. وقستم الوضوء وغسل الجنابة على الاستنجاء وغسل النجاسة في صحته بلا نية ولم تقيسوهما على التيمم وهما أشبه به من الاستنجاء ثم تناقضتم فقلتم لو انغمس جنب في البئر لأخذ الدلو ولم ينو الغسل لم يرتفع حدثه كما قاله أبو يوسف ونقض أصله في أن مس الماء لبدن الجنب يرفع حدثه وإن لم ينو وقال محمد بل يرتفع حدثه ولا يفسد الماء فنقض أصله في فساء الماء الذي يرفع الحدث. وقستم التيمم إلى المرفقين على غسل اليدين إليهما ولم تقيسوا المسح على الخفين إلى الكعبين على غسل الرجلين إليهما ولا فرق بينهما البتة وأهل الحديث أسعد بالقياس منكم كما هم أسعد بالنص. وقستم إزالة النجاسة عن الثياب بالمائعات على إزالتها بالماء ولم تقيسوا إزالتها من القذر بها على الماء فما الفرق ثم قلتم: تزال من المخرجين بكل مزيل جامد ولا تزال من سائر البدن إلا بالماء وقلتم من المخرجين بالروث اليابس ولا تزال بالرجيع اليابس مع تساويهما في النجاسة. وقستم قليل القيء على كثيره في النجاسة ولم تقيسوه عليه في كونه حدثا وقستم نوم المتورك على المضطجع في نقض الوضوء ولم تقيسوا عليه نوم الساجد وتركتم محض القياس المؤيد بالسنة المستفيضة في مسح العمامة وهي ملبوس معتاد ساتر لمحل الفرض ويشق نزعه على كثير من الناس إما لحنك أو لكلاب أو لبرد على المسح على الخفين والسنة قد سوت بينهما في المسح كما هما سواء في القياس ويسقط فرضهما في التيمم وقستم مسح الوجه واليدين في التيمم على الوضوء في وجوب الاستيعاب ولم تقيسوا مسح الرأس في الوضوء على الوجه في وجوب الاستيعاب والفعل والباء والأمر في الموضعين سواء وقستم وجود الماء في الصلاة على وجوده خارجها في بطلان صلاة المتيمم به ولم تقيسوا القهقهة في الصلاة على القهقهة في خارجها وفرقتم بين تقديم الزكاة قبل وجوبها فأجزتموه وبين تقديم الكفارة قبل وجوبها فمنعتموه وقستم وجه المرأة في الإحرام على رأس الرجل وتركتم قياس وجهها على يديها أو على بدن الرجل وهو محض القياس وموجب السنة فإن النبي ﷺ سوى بين يديها ووجهها وبين يدي الرجل ووجهه حيث قال لا تلبس القفازين ولا النقاب وكذلك قال لا يلبس المحرم القميص ولا السراويل ولا تنتقب المرأة فتركتم محض القياس وموجب السنة. وقستم المزارعة والمساقاة على الإجارة الباطلة فأبطلتموهما وتركتم محض القياس وموجب السنة وهو قياسهما على المضاربة والمشاركة فإنهما أشبه بهما منهما بالإجارة فإن صاحب الأرض والشجر يدفع أرضه وشجره لمن يعمل عليهما وما رزق الله من نماء فهو بينه وبين العامل وهذا كالمضاربة سواء فلو لم تأت السنة الصحيحة بجوازها لكان القياس يقتضي جوازها عند القياسيين. واشترط أكثر من جوزها كون البذر من رب الأرض وقاسها على المضاربة في كون المال من واحد والعمل من واحد وتركوا محض القياس وموجب السنة فإن الأرض كالمال في المضاربة والبذر يجرى مجرى الماء والعمل فإنه يموت في الأرض ولهذا لا يجوز أن يرجع إلى ربه مثل بذره ويقتسما الباقي ولو كان كرأس المال في المضاربة لجاز بل اشترط أن يرجع إليه مثل بذره كما يرجع إلى رب المال مثل ماله فتركوا القياس كما تركوا موجب السنة الصحيحة الصريحة وعمل الصحابة كلهم. وقستم إجارة الحيوان للانتفاع بلبنه على إجارة الخبز للأكل وهذا من أفسد القياس وتركتم محض القياس وموجب القرآن فإن الله سبحانه قال {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فقياس الشاة والبقرة والناقة للانتفاع بلبنها على الظئر أصح وأقرب إلى العقل من قياس ذلك على إجارة الخبز للأكل فإن الأعيان المستخلفة شيئا بعد شيء بعد شيء تجرى مجرى المنافع كما جرت مجراها في المنيحة والعارية والضمان بالإتلاف فتركتم محض القياس. وقستم على ما لا خفاء بالفرق بينه وبينه وهو أن الخبز والطعام تذهب جملته بالأكل ولا يخلفه غيره بخلاف اللبن ونقع البئر وهذا من أجلى القياس. وقستم الصداق على ما يقطع فيه يد السارق وتركتم محض القياس وموجب السنة فإنه عقد معاوضة فيجوز بما يتراضى عليه المتعاوضان ولو خاتما من حديد. وقستم الرجل يسرق العين ثم يملكها بعد ثبوت القطع على ما إذا ملكها قبل ذلك وتركتم محض القياس وموجب السنة فإن النبي ﷺ لم يسقط القطع عن سارق الرداء بعد ما وهبه إياه صفوان وفرقتم بين ذلك وبين الرجل يزني بالأمة ثم يملكها فلم تروا ذلك مسقطا للحد مع أنه لا فرق بينهما. وقستم قياسا أبعد من هذا فقلتم: إذا قطع بسرقتها مرة ثم عاد فسرقها لم يقطع بها ثانيا وتركتم محض القياس على ما إذا زنى بامرأة فحد بها ثم زنى بها ثانية فإن الحد لا يسقط عنه ولو قذفه فحد ثم قذفه ثانيا لم يسقط عنه الحد. وقستم نذر صوم يوم العيد في الانعقاد ووجوب الوفاء على النذر صوم اليوم القابل له شرعا وتركتم محض القياس وموجب السنة ولم تقيسوه على صوم يوم الحيض وكلاهما غير محل الصوم شرعا فهو بمنزلة الليل. وقستم وجعلتم المحتقن بالخمر كشاربها في الفطر بالقياس ولم تجعلوه كشاربها في الحد وقستم الكافر الذمي والمعاهد على المسلم في قتله به ولم تقيسوه على الحربي في إسقاط القود. ومن المعلوم قطعا أن الشبه الذي بين المعاهد والحربي أعظم من الشبه الذي بين الكافر والمسلم والله سبحانه وتعالى قد سوى بين الكفار كلهم في إدخالهم نار جهنم وفى قطع الموالاة بينهم وبين المسلمين وفى عدم التوارث بينهم وبين المسلمين وفي منع قبول شهادتهمعلى المسلمين وغير ذلك وقطع المساواة بين المسلمين والكفار فتركتم محض القياس وهو التسوية بين ما سوى الله بينه وسويتم بين ما فرق الله بينه. ومن العجب أنكم قستم المؤمن على الكافر في جريان القصاص بينهما في النفس والطرف ولم تقيسوا العبد المؤمن على الحر في جريان القصاص بينهما في الأطراف فجعلتم حرمة عدو الله الكافر في أطرافه أعظم من حرمة وليه المؤمن وكأن نقص المؤمن العبودية الموجب للأجرين عند الله أنقص عندكم من نقص الكفر وقلتم يقتل الرجل بالمرأة ثم ناقضتم فقلتم لا يؤخذ طرفه بطرفها وقلتم يقتل العبد بالعبد وإن كانت قيمة أحدهما مائة درهم وقيمة الآخر مائة ألف درهم ثم ناقضتم فقلتم لا يؤخذ طرفه بطرفه إلا أن تتساوى قيمتهما فتركتم محض القياس فإن الله سبحانه ألغى التفاوت بين النفوس والأطراف في الفضل لمصلحة المكلفين ولعدم ضبط التساوي فألغيتم ما اعتبره الله سبحانه من الحكمة والمصلحة واعتبرتم ما ألغاه من التفاوت وقستم قوله: "إن كلمت فلانا أو بايعته فامرأتي طالق وعبدي حر" علي ما إذا قال: "أن أعطيتني ألفا فأنت طالق" ثم عديم ذلك إلى قوله: "الطلاق يلزمني لا أكلم فلانا" ثم كلمه ولم تقيسوه على قوله: "إن كلمت فلانا فعلي صوم سنة أو حج إلى بيت الله أو فمالى صدقة" وقلتم: هذا يمين لا تعليق مقصود فتركتم محض القياس فإن قوله: "الطلاق يلزمني لا أكلم فلانا" يمين لا تعليق وقد أجمع الصحابة على أن قصد اليمين في العتق يمنع من وقوعه وحكي غير واحد إجماع الصحابة أيضا على أن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق إذا حنث وممن حكاه أبو محمد بن حزم وحكاه أبو القاسم عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التميمي المعروف بابن بزيزة في كتابه المسمى بمصالح الأفهام في شرح كتاب الأحكام في باب ترجمة (الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه). وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والشرط وغير ذلك: هل يلزم أم لا فقال علي بن أبي طالب وشريح وطاوس: "لا يلزم من ذلك شيء ولا يقضي بالطلاق على من حلف به فحنث ولم يعرف لعلي كرم الله وجهه في الجنة في ذلك مخالف من الصحابة" قال: وصح عن عطاء فيمن قال لامرأته: "أنت طالق إن لم أتزوج عليك" قال: إن لم يتزوج عليها حتى يموت أو تموت فإنهما يتوارثان وهو قول الحكم بن عتبة ثم حكى عن عطاء فيمن حلف بطلاق امرأته ليضربن زيدا فمات أحدهما أو ماتا معا فلا حنث عليه ويتوارثان وهذا صريح في أن يمين الطلاق لا يلزم ولا تطلق الزوجة بالحنث فيها ولو حنث قبل موته لم يتوارثا فحيث أثبت التوارث دل على أنها زوجة عنده وكذلك عكرمة مولى ابن عباس أيضا عنده يمين الطلاق لا يلزم كما ذكره عنه سنيد بن داود في تفسيره في سورة النور عند قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ومن العجب أنكم قلتم: إذا قال: "إن شفى الله مريضي فعلي صوم شهر أو صدقة أو حجة" لزمه لأنه قاصد للنذر فإذا قال: "إن كلمت فلانا فعلي صوم أو صدقة لم يلزمه لأنه نذر لجاج وغضب فهو يمين فيه كفارة اليمين فجعلتم قصده لعدم الوقوع مانعا من ثلاثة أشياء إيجاب ما التزم ووجوبه عليه ووقوعه". وقلتم: لو قال: "إن فعلت كذا فعلي الطلاق" وفعله لزمه ولم يمنع قصد الحلف من وقوعه وهو أبغض الحلال إلى الله ومنع من وجوب القربات التي هي أحب شيء إلى الله فخالفتم صريح القياس والمنقول عن الصحابة والتابعين بأصح إسناد يكون ثم ناقضتم القياس من وجه آخر فقلتم: إذا قال: "الطلاق يلزمني لأفعلن كذا إن شاء الله" ثم لم يفعله لم يحنث لأنه أخرجه مخرج اليمين وقد قال النبي ﷺ: "من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك" فجعلتموه يمينا ثم قلتم: يلزمه وقوع الطلاق لأنه تعليق فليس بيمين ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم لو قال: "الطلاق يلزمني لا أجامعها سنة" فهو مول فيدخل في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُر} والألية والإيلاء والائتلاء هو الحلف بعينه كما فىالحديث: "تألى على الله أن لا يفعل خيرا" وقال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} وقال الشاعر: قليل الألايا حافظ ليمنيه ** وإن بدرت منه الألية برت. ثم قلتم: وليس بيمين فيدخل في قوله: "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم" فيالله العجب ما الذي أحله عاما وحرمه عاما وجعله يمينا وليس بيمين ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم: إن قال: "إن فعلت كذا فأنا كافر" وفعله لم يكفر لأنه لم يقصد الكفر وإنما قصد مع نفسه من الفعل بمنعها من الكفر وهذا حق لكن نقضتموه في الطلاق والعتاق مع أنه لا فرق بينهما البتة في هذا المعنى الذي منع من وقوع الكفر ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم: لو قال: "إن فعلت كذا فعلي أن أطلق امرأتي" فحنث لم يلزمه أن يطلقها ولو قال: "إن فعلته فالطلاق يلزمني" فحنث وقع عليه الطلاق ولا تفرق اللغة ولا الشريعة بين المصدر وأن الفعل. فإن قلتم: الفرق بينهما أنه التزم في الأول التطبيق وهو فعله وفي الثاني وقوع الطلاق وهو أثر فعله. قيل: هذا الفرق الذي تخيلتموه لا يجدي شيئا فإن الطلاق هو التطليق بعينه وإنما أثره كونها طالقا وهذا غير الطلاق فههنا ثلاثة أمور مرتبة التزام التطليق وهذا غير الطلاق بلا شك والثاني إيقاع التطليق وهو الطلاق بعينه الذي قال الله فيه {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وقال النبي ﷺ: "الطلاق لمن أخذ بالساق" الثالث صيرورة المرأة طالقا وبينونتها فالقائل: "إن فعلت كذا فعلي الطلاق" لم يرد هذا الثالث قطعا فإنه ليس إليه ولا من فعله وإنما هو إلى الشارع والمكلف إنما يلزم ما يدخل تحت مقدرته وهو إنشاء الطلاق فلا فرق أصلا بين هذا اللفظ وبين قوله: "فعلي أن أطلق" فالتفريق بينهما تفريق بين متساويين وهو عدول عن محض القياس من غير نص ولا إجماع ولا قول صاحب. يوضحه أن قوله: "فالطلاق لازم لي" إنما هو فعله الذي يلزمه بالتزامه وأما كونها طالقا فهذا وصفها فليس هو لازما له وإنما هو لازم لها ا فلينظر اللبيب المنصف الذي العلم أحب إليه من التقليد إلى مقتضى القياس المحض واتباع الصحابة والتابعين في هذه المسألة ثم ليختر لنفسه ما شاء والله الموفق. ثم ناقضتم أيضا من وجه آخر فقلتم: لو قال: "إن حلفت بطلاقك أو وقع مني يمين بطلاقك" أو لم يقل: بطلاقك بل قال: "متى حلفت أو أوقعت يمينا فأنت طالق" ثم قال: "إن كلمت فلانا فأنت طالق" حنث وقد وقع عليه الطلاق لأنه قد حلف وأوقع اليمين فأدخلتم الحلف بالطلاق في اسم اليمين والحلف في كلام المكلف ولم تدخلوه في اسم اليمين والحلف في كلام الله ورسوله وزعمتم أنكم اتبعتم في ذلك القياس والإجماع وقد أريناكم مخالفتكم لصريح القياس مخالفة لا يمكنكم الانفكاك عنها بوجه ومخالفتكم للمنقول عن الصحابة والتابعين كأصحاب ابن عباس فظهر عند المنصفين أنا أولى بالقياس والاتباع منكم في هذه المسألة وبالله التوفيق. وقلتم: لو شهد عليه أربعة بالزنا فصدق الشهود سقط عنه الحد وإن كذب لهم أقيم عليه الحد وهذا من أفسد قياس في الدنيا فإن تصديقهم إنما زادهم قوة وزاد الإمام يقينا وعلما أعظم من العلم الحاصل بالشهادة وتكذيبه وتفريقكم بأن البينة لا يعمل بها إلا مع الإنكار فإذا أقر فلا عمل للبينة والإقرار مرة لا يكفي فيسقط الحد تفريق باطل فإن العمل هاهنا بالبينة لا بالإقرار وهو إنما صدر منه تصديق البينة التي وجب الحكم بها بعد الشهادة فسواء أقر أم لم يقر فالعمل إنما هو بالبينة. وقلتم: لو وجد الرجل امرأة على فراشه فظن أنها امرأته فوطئها حد حد الزنا ولا يكون هذا شبهة مسقطة للحد ولو عقد على ابنته أو أمه ووطئها كان ذلك شبهة مسقطة للحد ولو حبلت امرأة لا زوج لها ولا سيد وولدت مرة بعد مرة لم تحد ولو تقيأ الخمر كل يوم لم يحد فتركتم محض القياس والثابت عن الصحابة ثبوتا لا شك فيه من الحد بالحبل ورائحة الخمر. وقلتم: لو شهد عليه أربعة بالزنا فطعن في عدالتهم حبس إلا أن تزكى الشهود ولو شهد عليه اثنان بمال فطعن في عدالتهما لم يحبس قبل التزكية فتركتم محض القياس وقستم دعوى المرأتين الولد وإلحاقه بهما وجعلهما أمين له على دعوى الرجلين وهذا من أفسد القياس فإن خروج الولد من أمين معلوم الاستحالة وتخليقه من ماء الرجلين ممكن بل واقع كما شهد به القائف عند عمر وصدقه. وقلتم: لو قال الأجنبي: "طلق امرأتي" فله أن يطلق في المجلس وبعده ولو قال لامرأته: "طلقي نفسك" فلها أن تطلق نفسها ما دامت في المجلس ثم فرقتم بينهما بأن "طلقي نفسك" تمليك لا توكيل لاستحالة أن يكون وكيلا في التصرف لنفسه فيقيد بالمجلس وأما بالنسبة إلى الأجنبي فتوكيل فلا يتقيد وهذا الفرق دعوى مجردة ولم تذكروا حجة على أن قوله: "طلقي نفسك" تمليك وقولكم: "الوكيل لا يتصرف لنفسه" جوابه له أن يتصرف لنفسه ولموكله ولهذا كان ألا الشريك وكيلا بعد قبض المال والتصرف وإن كان متصرفا لنفسه فإن تصرفه لا يختص به ثم ناقضتم هذا الفرق فقلتم: لو قال: "أبرىء نفسك من الدين الذي عليك" فإنه لا يتقيد بالمجلس ويكون توكيلا مع أنه تصرف مع نفسه ففرقتم بين "طلقي نفسك" و"أبرىء نفسك مما عليك من الدين" وهو تفريق بين متماثلين فتركتم محض القياس. وقالوا: من أقام شهود زور على أن زيدا طلق امرأته فحكم الحاكم بذلك فهي حلال لمن تزوجها من الشهود وكذلك لو أقام شهود زور على أن فلانة تزوجته بولي ورضى فقضى القاضي بذلك فهي له حلال وكذلك لو شهدوا عليه بأنه أعتق جاريته هذه فقضى القاضي بذلك فهي حلال لمن تزوجها ممن يدري باطن الأمر فتركوا محض القياس وقواعد الشريعة ثم ناقضوا فقالوا لو شهدوا له زورا بأنه وهب له مملكته هذه أو باعها منه لم يحل له وطؤها بذلك ثم ناقضوا بذلك أعظم مناقضة فقالوا لو شهد بأنه تزوجها بعد انقضاء عدتها من المطلق وكانا كاذبين فإنها لا تحل وحبسها على زوجها أعظم من حبسها على عدته فأحلوها في أعظم العصمتين وحرموها في أدناهما وحرمة النكاح أعظم من حرمة العدة. وقلتم: لا يحد الذمي إذا زنا بالمسلمة ولو كانت قرشية علوية أو عباسية ولا بسب الله ورسوله وكتابه ودينه جهرة في أسواقنا ومجامعنا ولا بتخريب مساجد المسلمين ولو أنها المساجد الثلاثة ولا ينتقض عهده بذلك وهو معصوم المال والدم حتى إذا منع دينارا واحدا مما عليه من الجزية وقال: "لا أعطيكموه" انتقض بذلك عهده وحل ماله ودمه ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم: لو سرق لمسلم عشرة دراهم لقطعت يده ولو قذفه حد بقذفه فيا للقياس الفاسد الباطل المناقض للدين والعقل الموجب لهذه الأقوال التي يكفي في ردها تصورها كيف استجاز المستجيز تقديمها على السنن والآثار والله المستعان. وأجزتم شهادة الفاسقين والمحدودين في القذف والأعميين في النكاح ثم ناقضتم فقلتم لو شهد فيه عبدان صالحان عالمان يفتيان في الحلال والحرام لم يصح النكاح ولم ينعقد بشهادتهما فمنعتم انعقاده بشهادة من عدله الله ورسوله ﷺ وعقد تموه بشهادة من فسقه الله ورسوله ومنع من قبول شهادته. وقلتم: لو شهد شاهد على زيد أنه غصب عمر مالا أو شجه أو قذفه وشهد آخر بأنه أقر بذلك ولم يتم النصاب لم يقض عليه بشيء ولو شهد شاهد بأنه طلق امرأته أو أعتق عبده أو باعه وشهد آخر بإقراره بذلك تمت الشهادة وقضي عليه. وقلتم: لو قال له: "بعتك هذا العبد بألف" فإذا هو جارية أو بالعكس فالبيع باطل فلو قال: "بعتك هذه النعجة بعشرة" فإذا هي كبش أو بالعكس فالبيع صحيح ثم فرقتم بأن قلتم المقصود من الجارية والعبد مختلف والمقصود من النعجة والكبش متقارب وهو اللحم وهذا غير صحيح فإن الدر والنسل المقصود من الأنثى لا يوجد في الذكر وعسب الفحل وضرابه المقصود منه لا يوجد في الأنثى ثم ناقضتم أبين مناقضة بأن قلتم: لو قال: "بعتك هذا القمح" فإذا هو شعير أو "هذه الألية" فإذا هي شحم لم يصح للبيع مع تقارب القصد. وقلتم: لو باعه ثوبا من ثوبين لم يصح البيع لعدم التعيين فلو كانت ثلاثة أثواب فقال: "بعتك واحد منها" صح البيع فيالله العجب كيف أبطلتموه مع قلة الجهالة والغرر وصححتموه مع زيادتهما أفترى زيادة الثوب الثالث خففت الغرر ولا دفعت الجهالة وتفريقكم بأن العقد على واحد من اثنين يتضمن الجهالة والتعزير لأنه قد يكون أحدهما مرتفعا والآخر رديئا فيفضي إلى التنازع والاختلاف فإذا كانت ثلاثة فالثلاثة تتضمن الجيد والردىء والوسط فكأنه قال بعتك أوسطها وذلك أقل غررا من بيعه واحدا من اثنين ردىء وجيد وإذا أمكن حمل كلام المتعاقدين على الصحة فهو أولى من إلغائه وهذا الفرق ما زاد المسألة إلا غرارا وجهالة فإن النزاع كان يكون في ثوبين فقط وأما الآن فصار في ثلاثة وإذا قال: "إنما وقع العقد على الوسط" قال الآخر: "بل على الأدنى أو على الأعلى". وقلتم: لو اشترى جارية ثم أراد وطأها قبل الإستبراء لم يجز ولو تيقنا فراغ رحمها بأن كانت بكرا أو كانت بائعتها امرأة معه في الدار بحيث تيقن أنها غير مشغولة الرحم أو باعها وقد ابتدأت في الحيضة ونحو ذلك ثم قلتم لو وطئها السيد البارحة ثم زوجها منه الغد جاز له وطؤها ورحمها مشتغل على ماء الوطء فتركتم محض القياس والمصلحة وحكمة الشارع لفرق متخيل لا يجدى شيئا وهو أن النكاح لما صح كان ذلك حكما بفراغ الرحم فإذا حكم بفراغ رحمها جاز له وطؤها فيقال يا لله العجب كيف يحكم بفراغ رحمها وهو حديث عهد بوطئها وهل هذا إلا حكم باطل مخالف للحس والعقل والشرع نعم لو أنكم قلتم: "لا يحل له تزوجها حتى يستبرئها ويحكم بفراغ رحمها" لكان هذا فرقا صحيحا وكلاما متوجها ويقال حينئذ لا معنى لاستبراء الزوج فله أن يطئها عقيب العقد فذا محض القياس وبالله التوفيق. وقلتم: من طاف أربعة أشواط من السبع فلم يكمله حتى رجع إلى أهله أنه يجبره بدم وصح حجه إقامة للأكثر مقام الكل فخرجتم عن محض القياس لأن الأركان لا مدخل للدم في تركها وما أمر به الشارع لا يكون المكلف ممتثلا به حتى يأتى بجميعه ولا يقوم أكثره مقام كله كما لا يقوم الأكثر مقام الكل في الصلاة والصيام والزكاة والوضوء وغسل الجنابة فهذا هو القياس الصحيح والمأمور ما لم يفعل ما أمر به فالخطاب متوجه إليه بعد وهو في عهدته والنبي ﷺ لم يسامح المتوضىء بترك لمعة في محل الفرض لم يصبها الماء ولا أقام الأكثر مقام الكل والذي جاءت به الشريعة هو الميزان العادل لا هذا الميزان العائل وبلله التوفيق. وقستم الأدهان بالخل والزيت في الإحرام على الأدهان بالمسك والعنبر في وجوب الفدية ويا بعد ما بينهما ولم تقيسوا نبيذ التمر على نبيذ العنب مع قرب الأخوة التي بينهما. وقلتم: لو أفطر في نهار رمضان فلزمته الكفارة ثم سافر لم تسقط عنه لأن سفره قد يتخذ وسيلة وحيلة إلى إسقاط ما أوجب الشرع فلا تسقط وهذا لخلاف ما إذا مرض أو حاضت المرأة فإن الكفارة تسقط لأن الحيض والمرض ليس من فعله ثم ناقضتم أعظم مناقضة فقلتم لو احتال لإسقاط الزكاة عند آخر الحول فملك ماله لزوجته لحظة فلما انقضى الحول استرده منها واعتذاركم بالفرق بأن هذا تحيل على منع الوجوب وذلك تحيل على إسقاط الواجب بعد ثبوته والفرق بينهما ظاهر اعتذار لا يجدي شيئا فإنه كما لا يجوز التحيل لإسقاط ما أوجبه الله ورسوله لا يجوز التحيل لإسقاط أحكامه بعد انعقاد أسبابها ولا تسقط بذلك. وإذا انعقد سبب الوجود لم يكن للمكلف لإسقاطه بعد ذلك سبيل وسبب الوجوب هنا قائم وهو الغنى بملك النصاب وهو لم يخرج عن الغنى بهذا التحيل ولا يعده الله ولا رسوله ولا أحد من خلقه ولا نفسه فقيرا مسكينا بهذا التحيل يستحق أخذ الزكاة ولا تجب عليه الزكاة. هذا من أقبح الخداع والمكر فكيف يروج على من يعلم خفايا الأمور وخبايا الصدور وأين القياس والميزان والعدل الذي بعث الله به رسله من التحيل على المحرمات وإسقاط الواجبات وكيف تخرج الحيلة المفسدة التي في العقود المحرمة عن كونها مفسدة أم كيف يقلل بها مصلحة محضة ومن المعلوم أن المفسدة تزيد بالحيلة ولا تزول وتتضاعف ولا تضعف فكيف تزول المفسدة العظيمة التي اقتدت لعنة الله ورسوله للمحلل والمحلل له بأن يشترطا ذلك قبل العقد ثم يعقدا بنية ذلك الشرط ولا يشرطاه في صلب العقد فإذا أخليت صلب العقد من التلفظ بشرطه حسب والله ورسوله والناس وهما يعلمون أن العقد إنما عقد على ذلك فيالله العجيب أكانت هذه اللعنة على مجرد ذكر الشرط في صلب العقد تقدم على العقد انقلبت اللعنة رحمة وثوابا وهل الاعتبار في العقود إلا بحقائقها ومقاصدها وهل الألفاظ إلا مقصودة لغيرها قصد الوسائل فكيف يضاع المقصود ويعدل عنه في عقد مساو لغيره من كل وجه لأجل تقديم لفظ أو تأخيره أو إبداله بغيره والحقيقة واحدة هذا مما تنزه عنه الشريعة الكاملة المشتملة على مصالح العباد في دينهم ودنياهم فأصحاب الحيل تركوا محض القياس فإن ما احتالوا عليه من العقود المحرمة مساو من كل وجه لها في القصد والحقيقة والمفسدة والفارق أمر صوري أو لفظي لا تأثير له البتة فأي فرق بين أن يبيعه تسعة دراهم بعشرة ولا شيء معها وبين أن يضم إلى أحد العوضين خرقة تساوي فلسا أو عود حطب أو أذن شاة ونحو ذلك فسبحان الله ما أعجب حال هذه الضميمة الحقيرة التي لا تقصد كيف جاءت إلى المفسدة التي أذن الله ورسوله بحرب من توسل إليها بعقد الربا فأزالتها ومحتها بالكلية بل قلبتها مصلحة وجعلت حرب الله ورسوله سلما ورضا وكيف جاء محلل الربا المستعار الذي هو أخو محلل النكاح إلى تلك المفاسد العظيمة فكشطها كشط الجلد عن اللحم بل قبلها مصالح بإدخال سلعة بين المرابيين تعاقدا عليها صورة ثم أعيدت إلى مالكها ولله ما أفقه ابن عباس في الدين وأعلمه بالقياس والميزان حيث سئل عما هو أقرب من ذلك بكثير فقال: "دراهم بدراهم دخلت بينهما جريرة" فيالله العجب كيف اهتدت هذه الجريرة لقلب مفسدة الربا مصلحة ولعنتة آكله رحمة وتحريمه إذنا وإباحة. ثم أين القياس والميزان في إباحة العينة التي لا غرض للمرابيين في السلعة قط وإنما غرضهما ما يعلمه الله ورسوله وهما والحاضرون من أخذ مائة حالة وبذل مائة وعشرين مؤجلة ليس لهما غرض وراء ذلك البتة فكيف يقول الشارع الحكيم إذا أردتم حل هذا فتحيلوا عليه بإحضار سلعة يشتريها آكل الربا بثمن مؤجل في ذمته ثم يبيعها للمرابي بنقد حاضر فينصرفان على مائة بمائة وعشرين والسلعة حرف جاء لمعنى في غيره وهل هذا إلا عدول عن محض القياس وتفريق بين متماثلين في الحقيقة والقصد والمفسدة من كل وجه بل مفسدة الحيل الربوية أعظم من مفسدة الربا الخالي عن الحيلة فلو لم تأت الشريعة بتحريم هذه الحيل لكان محض القياس والميزان العادل يوجب تحريمها ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى من احتال على استباحة ما حرمه بما لم يعاقب به من ارتكب ذلك المحرم عاصيا فهذا من جنس الذنوب التي يتاب منها وذاك من جنس البدع التي يظن صاحبها أنه من المحسنين. والمقصود ذكر تناقض أصحاب القياس والرأي فيه وأنهم يفرقون بين المتماثلين ويجمعون بين المختلفين كما فرقتم بين ما لو وكل رجلين معا في الطلاق فقلتم لأحدهما أن ينفرد بإيقاعه ولو وكلهما معا في الخلع لم يكن لأحدهما أن ينفرد به وفرقتم بين الأمرين بما لا يجدي شيئا وهو أن الخلع كالبيع وليس لأحد الوكيلين الانفراد به لأنه أشرك بينهما في الرأي ولم يرض بانفراد أحدهما وأما الطلاق فليس المقصود منه المال وإنما هو تنفيذ قوله وامتثال أمره فهو كما لو أمرهما بتبليغ الرسالة وهذا فرق لا تأثير له البتة بل هو باطل فإن احتياج الطلاق ومفارقة الزوجة إلى الرأي والخبرة والمشاورة مثل احتياج الخلع أو أعظم ولهذا أمر الله سبحانه ببعث الحكمين معا وليس لأحدهما أن ينفرد بالطلاق مع أنهما وكيلان عند القياسيين والله تعالى جعلهما حكمين ولم يجعل لأحدهما الانفراد فما بال وكيلي الزوج لأحدهما الانفراد وهل هذا إلا خروج عن محض القياس وموجب النص. وقلتم: لو قال لامرأته: "طلقي نفسك" ثم نهاها في المجلس ثم طلقت نفسها وقع الطلاق ولو قال ذلك لأجنبي ثم نهاه في المجلس ثم طلق لم يقع الطلاق فخرجتم عن موجب القياس وفرقتم بأن قوله لها تمليك وقوله للأجنبي توكيل وقد تقدم بطلان هذا الفرق قريبا. وقلتم: لو وصى إلى عبد غيره فالوصية باطلة وإن أجاز سيده ولو وكل عبد غيره فالوكالة جائزة وإن ردها السيد ولكن تكره بدون إذنه. وقلتم: إذا أوصى بأن يعتق عنه عبدا بعينه فأعتقه الوارث عن نفسه وقع عن الميت ولو أعتقه الوصي عن نفسه لم يجز عن نفسه ولا عن الميت وفرقتم بأن تصرف الوارث بحق الملك فنفذ تصرفه وإن خالف الموصي وتصرف الوصي بحق الوكالة فلا يصح فيما خالف الموصي وهذا فرق لا يصح فإن تعيين الموصي للعتق في هذا العبد قطع ملك الوارث له فهو كما لو أوصى إلى أجنبي بعتقه سواء وإنما ينتقل إلى الوارث من التركة ما زاد على الدين والوصية اللازمة. وقلتم: لو قال: "ثلث مالي لفلان وفلان" وأحدهما ميت فالثلث كله للحي ولو قال بين فلان وفلان وأحدهما ميت فللحي نصفه وهذا تفريق بين متماثلين لفظا ومعنى وقصدا واقتضاء (الواو) للتشريك كاقتضاء (بين) ولهذا استويا في الإقرار وفي استحقاق كل واحد منهما النصف لو كانا حيين. وقلتم: لو أوصى له بثلث ماله وليس له من المال شيء ثم اكتسب مالا فالوصية لازمة في ثلثه ولو أوصى له بثلث غنمه ولا غنم له ثم اكتسب غنما فالوصية باطلة فتركتم محض القياس وفرقتم تفريقا لا تأثير له ولا يتحصل منه عند التحقيق شيء والله المستعان وعليه التكلان. فصل القياسيون يجمعون بين ما فرق الله ويفرقون بين ما جمع وجمعتم بين ما فرق الله بينه من الأعضاء الطاهرة والأعضاء النجسة فنجستم الماء الذي يلاقي هذه وهذه عند رفع الحدث وفرقتم بين ما جمع الله بينه من الوضوء والتيمم فقلتم: يصح أحدهما بلا نية دون الآخر وجمعتم بين ما فرق الله بينهما من الشعور والأعضاء فنجستم كليهما بالموت وفرقتم بين ما جمع الله بينهما من سباع البهائم فنجستم منها الكلب والخنزير دون سائرها وجمعتم بين ما فرق الله بينه وهو الناسي والعامد والمخطء والذاكر والعالم والجاهل فإنه سبحانه فرق بينهم في الإثم فجمعتم بينهم في الحكم في كثير من المواضع كمن صلى بالنجاسة ناسيا أو عامدا وكمن فعل المحلوف عليه ناسيا أو عامدا وكمن تطيب في إحرامه أو قلم ظفره أو حلق شعره ناسيا أو عامدا فسويتم بينهما وفرقتم بين ما جمع الله بينه من الجاهل والناسي فأوجبتم القضاء على من أكل في رمضان جاهلا ببقاء النهار دون الناسي وفي غير ذلك من المسائل وفرقتم بين ما جمع الله بينه من عقود الإجارات كاستئجار الرجل لطحن الحب بنصف كر من دقيق واستئجاره لطحنه بنصف كر منه فصححتم الأول دون الثاني مع استوائهما من جميع الوجوه وفرقتم بأن العمل في الأول في العوض الذي استأجره به ليس مستحقا عليه وفي الثاني العمل مستحق عليه فيكون مستحقا له وعليه وهذا فرق صوري لا تأثير له ولا تتعلق بوجوده مفسدة قط لا جهالة ولا ربا ولا غرر ولا تنازع ولا هي مما يمنع صحة العقد بوجه وأي غرر أو مفسدة أو مضرة للمتعاقدين في أن يدفع إليه غزله ينسجه ثوبا بربعه وزيتونه يعصره زيتا بربعه وحبه يطحنه بربعه وأمثال ذلك مما هو مصلحة محضة للمتعاقدين لا تتم مصلحتهما في كثير من المواضع إلا به فإنه ليس كل واحد يملك عوضا يستأجر به من يعمل له ذلك والأجير محتاج إلى جزء من ذلك والمستأجر محتاج إلى العمل وقد تراضيا بذلك ولم يأت من الله ورسوله نص يمنعه ولا قياس صحيح ولا قول صاحب ولا مصلحة معتبرة ولا مرسلة ففرقتم بين ما جمع الله بينه وجمعتم بين ما فرق الله بينه فقلتم لو اشترى عنبا ليعصره خمرا أو سلاحا ليقتل به مسلما ونحو ذلك إن البيع صحيح وهو كما لو اشتراه ليقتل به عدو الله ويجاهد به في سبيله أو اشترى عنبا ليأكله كلاهما سواء في الصحة وجمعتم بين ما فرق الله بينه فقلتم لو استأجر دارا ليتخذها كنيسة يعبد فيها الصليب والنار جاز له كما لو استأجرها ليسكنها ثم ناقضتم أعظم مناقضة فقلتم لو استأجرها ليتخذها مسجدا لم تصح الإجارة وفرقتم بين ما جمع الله بينه فقلتم لو استأجر أجيرا بطعامه وكسوته لم يجز والله سبحانه لم يفرق بين ذلك وبين استئجاره بطعام مسمى وثياب معينة وقد كان الصحابة يؤجر أحدهم نفسه في السفر والغزو بطعام بطنه ومركوبه وهم أفقه الأمة وفرقتم بين ما جمع الله بينه من عقدين متساويين من كل وجه وقد صرح المتعاقدان فيهما بالتراضي وعلم الله سبحانه تراضيهما والحاضرون فقلتم هذا عقد باطل لا يفيد الملك ولا الحل حتى يصرحا بلفظ بعت واشتريت ولا يكفيهما أن يقول كل واحد منهما أنا راض بهذا كل الرضى ولا قد رضيت بهذا عوضا عن هذا مع كون هذا اللفظ أدل على الرضى الذي جعله الله سبحانه شرطا للحل من لفظه بعت واشتريت فإنه لفظ صريح فيه وبعت واشتريت إنما يدل عليه باللزوم وكذلك عقد النكاح وليس ذلك من العبادات التي تعبدنا الشارع فيها بألفاظ لا يقوم غيرها مقامها كالأذان وقراءة الفاتحة في الصلاة وألفاظ التشهد وتكبيرة الإحرام وغيرها بل هذه العقود تقع من البر والفاجر والمسلم والكافر ولم يتعبدنا الشارع فيها بألفاظ معينة فلا فرق أصلا بين لفظ الإنكاح والتزويج وبين كل لفظ يدل على معناهما. وأفسد من ذلك اشتراط العربية مع وقوع النكاح من العرب والعجم والترك والبربر ومن لا يعرف كلمة عربية والعجب أنكم اشترطتم تلفظه لفظ لا يدري ما معناه البتة وإنما هو عنده بمنزلة صوت في الهواء فارغ لا معنى تحته فعقدتم العقد به وأبطلتموه بتلفظه باللفظ الذي يعرفه ويفهم معناه ويميز بين معناه وغيره وهذا من أبطل القياس ولا يقتضي القياس إلا ضد هذا فجمعتم بين ما فرق الله بينه وفرقتم بين ما جمع الله بينه. وبإزاء هذا القياس قياس من يجوز قراءة القرآن بالفارسية ويجوز انعقاد الصلاة بكل لفظ يدل على التعظيم كسبحان الله وجل الله والله العظيم ونحوه عربيا كان أو فارسيا ويجوز إبدال لفظ التشهد بما يقوم مقامه وكل هذا من جنايات الآراء والأقيسة والصواب اتباع ألفاظ العبادات والوقوف معها وأما العقود والمعاملات فإنما يتبع مقاصدها والمراد منها بأي لفظ كان إذا لم يشرع الله ورسوله لنا التعبد بألفاظ معينة لا نتعداها. وجمعتم بين ما فرق الله بينه من إيجاب النفقة والسكنى للمبتوتة وجعلتموها كالزوجة وفرقتم بين ما جمع الله ورسوله بينه من ملازمة الرجعية المعتدة والمتوفي عنها زوجها منزلهما حيث يقول تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن وحيث أمر النبي ﷺ المتوفي عنها أن تمكث في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله وجمعتم بين ما فرق الله بينهما من بول الطفل والطفلة الرضيعين فقلتم: يغسلان وفرقتم بين ما جمعت السنة بينه من وجوب غسل قليل البول وكثيره وفرقتم بين ما جمع الله ورسوله بينهما من ترتيب أعضاء الوضوء وترتيب أركان الصلاة فأوجبتم الثاني دون الأول ولا فرق بينهما لا في المعنى ولا في النقل والنبي ﷺ هو المبين عن الله سبحانه أمره ونهيه ولم يتوضأ قط إلا مرتبا ولا مرة واحدة في عمره كما لم يصل إلا مرتبا ومعلوم أن العبادة المنكوسة ليست كالمستقيمة ويكفي هذا الوضوء اسمه وهو أنه وضوء منكس فكيف يكون عبادة وجمعتم بين ما فرق الله بينه من إزالة النجاسة ورفع الحدث فسويتم بينهما في صحة كل منهما بغير نية وفرقتم بين ما جمع الله بينهما من الوضوء والتيمم فاشترطتم النية لأحدهما دون الآخر وتفريقكم بأن الماء يطهر بطبعه فاستغنى عن النية بخلاف التراب فإنه لا يصير مطهرا إلا بالنية فرق صحيح بالنسبة إلى إزالة النجاسة فإنه مزيل لها بطبعه وأما رفع الحدث فإنه ليس رافعا له بطبعه إذ الحدث ليس جسما محسوسا يرفعه الماء بطبعه بخلاف النجاسة وإنما يرفعه بالنية فإذا لم تقارنه النية بقي على حاله فهذا هو القياس المحض. وجمعتم بين ما فرق الله بينه فسويتم بين بدن أطيب المخلوقات وهو ولي الله المؤمن وبين بدن أخبث المخلوقات وهو عدوه الكافر فنجستم كليهما بالموت ثم فرقتم بين ما جمع الله بينه فقلتم لو غسل المسلم ثم وقع في ماء لم ينجسه ولو غسل الكافر ثم وقع في ماء نجسه ثم ناقضتم في الفرق بأن المسلم إنما غسل ليصلي عليه فطهر بالغسل لاستحالة الصلاة عليه وهو نجس بخلاف الكافر وهذا الفرق ينقض ما أصلتموه من أن النجاسة بالموت نجاسة عينية فلا تزول بالغسل لأن سببها قائم وهو الموت وزوال الحكم مع بقاء سببه ممتنع فأي القياسين هو المعتد به في هذه المسألة؟ وفرقتم بين ما جمعت السنة والقياس بينهما فقلتم: لو طلعت عليه الشمس وقد صلى من الصبح ركعة بطلت صلاته ولو غربت عليه الشمس وقد صلى من العصر ركعة صحت صلاته والسنة الصحيحة الصريحة قد سوت بينهما وتفريقكم بأنه في الصبح خرج من وقت كامل إلى غير وقت كامل ففسدت صلاته وفي العصر خرج من وقت كامل إلى وقت كامل وهو وقت صلاة فافترقا ولو لم يكن في هذا القياس إلا مخالفته لصريح السنة لكفى في بطلانه فكيف وهو قياس فاسد في نفسه فإن الوقت الذي خرج إليه في الموضعين ليس وقت الصلاة الأولى فهو ناقص بالنسبة إليها ولا ينفع كماله بالنسبة إلى الصلاة التي هو فيها. فإن قيل: لكنه خرج إلى وقت نهي في الصبح وهو وقت طلوع الشمس ولم يخرج إلى وقت نهي في المغرب. قيل: هذا فرق فاسد لأنه ليس بوقت نهي عن هذه الصلاة التي هو فيها بل هو وقت أمر بإتمامها بنص صاحب الشرع حيث يقول: "فليتم صلاته" وإن كان وقت نهي بالنسبة إلى التطوع فظهر أن الميزان الصحيح مع السنة الصحيحة وبالله التوفيق. وجمعتم بين ما فرق الله بينه فقلتم: المختلعة البائنة التي قد ملكت نفسها يلحقها الطلاق فسويتم بينها وبين الرجعية في ذلك وقد فرق الله بينهما بأن جعل هذه مفتدية لنفسها مالكة لها كالأجنبية وتلك زوجها أحق بها ثم فرقتم بين ما جمع الله بينه فأوقعتم عليها مرسل الطلاق دون معلقه وصريحه دون كنايته ومن المعلوم أن من ملكه الله أحد الطلاقين ملكه الآخر ومن لم يملكه هذا لم يملكه هذا. وجمعتم بين ما فرق الله بينه فمنعتم من أكل الضب وقد أكل على مائدة رسول الله ﷺ وهو ينظر وقيل له أحرام هو فقال لا فقستموه على الأحناش والفيران وفرقتم بين ما جمعت السنة بينه من لحوم الخيل التي أكلها الصحابة على عهد رسول الله ﷺ مع لحوم الأبل وأذن الله تعالى فيها فجمع الله تعالى ورسوله بينهما في الحل وفرق الله ورسوله بين الضب والحنش في التحريم. وجمعتم بين ما فرقت السنة بينه من لحوم الإبل وغيرها حيث قال: "توضئوا من لحوم الإبل ولا تتوضئوا من لحوم الغنم" فقلتم لا نتوضأ من هذا ولا من هذا وفرقتم بين ما جمعت الشريعة بينه فقلتم في القيء إن كان ملء الفم فهو حدث وإن كان دون ذلك فليس بحدث لا يعرف في الشريعة شيء يكون كثيره حدثا دون قليله وأما النوم فليس بحدث وإنما هو مظنته فاعتبروا ما يكون مظنة وهو الكثير وفرقتم بين ما جمع الله بينه فقلتم لو فتح على الإمام في قراءته لم تبطل صلاته ولكن تكره لإن فتحه قراءة منه والقراءة خلف الإمام مكروهة ثم قلتم فلو فتح على قارىء غير إمامه بطلت صلاته لأن فتحه عليه مخاطبة له فأبطلت الصلاة ففرقتم بين متماثلين لأن الفتح إن كان مخاطبة في حق غير الإمام فهو مخاطبة في حق الإمام وإن لم يكن مخاطبة في حق الإمام فليس بمخاطبة في حق غيره ثم ناقضتم من وجه آخر أعظم مناقضة فقلتم لما نوى الفتح على غير الإمام خرج عن كونه قارئا إلى كونه مخاطبا بالنية ولو نوى الربا الصريح والتحليل الصريح وإسقاط الزكاة بالتمليك الذي اتخذه حيلة لم يكن مرابيا ولا مسقطا للزكاة ولا محللا بهذه النية. فيالله العجب كيف أثرت نية الفتح والإحسان على القارىء وأخرجته عن كونه قارئا إلى كونه مخاطبا ولم تؤثر نية الربا والتحليل مع إساءته بهما وقصده نفس ما حرمه الله فتجعله مرابيا محللا؟ وهل هذا إلا خروج عن محض القياس وجمع بين ما فرق الشارع بينهما وتفريق بين ما جمع بينهما؟ وقلتم: لو اقتدى المسافر بالمقيم بعد خروج الوقت لا يصح اقتداؤه ولو اقتدى المقيم بالمسافر بعد خروج الوقت صح اقتداؤه. وهذا تفريق بين متماثلين ولو ذهب ذاهب إلى عكسه لكان من جنس قولكم سواء ولأمكنه تعليله بنحو ما عللتم به. ووجهتم الفرق بأن من شرط صحة اقتداء المسافر بالمقيم أن ينتقل فرضه إلى فرض إمامه وبخروج الوقت استقر الفرض عليه استقرارا لا يتغير بتغير حاله فبقي فرضه ركعتين فلو جوزنا له اقتداءه بالمقيم بعد خروج الوقت جوزنا اقتداء من فرضه ركعتان بمن فرضه أربع وهذا لا يصح كمصلي الفجر إذا اقتدى بمصلي الظهر وليس كذلك المقيم إذا اقتدى بالمسافر بعد خروج الوقت إذ ليس من شرط صحة اقتداء المقيم بالمسافر أن ينتقل فرضه إلى فرض إمامه بدليل أنه لو اقتدى به في الوقت لم ينتقل فرضه إلى فرض إمامه بخلاف المسافر فإنه لو اقتدى بالمقيم في الوقت انتقل فرضه إلى فرض إمامه. ثم ناقضتم وقلتم: إذا كان الإمام مسافرا وخلفه مسافرون ومقيمون فاستخلف الإمام مقيما فإن فرض الإمام لا ينتقل إلى فرض إمامه وهو فرض المقيمين مع أن الفرق في الأصل مدخول وذلك أن الصلاتين سواء في الاسم والحكم والوضع والوجوب وإن اختلفتا في كون الإمام مصليا فإذا صلى الإمام أربعا وجب على المأموم أن يصلي بصلاته كما لو كان في الوقت وخرج الوقت لا أثر له في ذلك فإن الذي فرضه الله عليه في الوقت هو بعينه فرضه بعد الوقت ولا سيما إذا كان نائما أو ناسيا فإن وقت اليقظة والذكر هو الوقت الذي شرع الله له الصلاة فيه وعذر السفر قائم وارتباط صلاته بصلاة الإمام حاصل فما الذي فرق بين الصورتين مع اتحاد السبب الجامع وقيام الحكمة المجوزة للقصر والمرجحة لمصلحة الاقتداء عند الانفراد وفرقتم بين ما جمعت الشريعة بينهما وهو الحيض والنفاس فجعلتم أقل الحيض محدودا إما بثلاثة أيام أو بيوم وليلة أو بيوم ولم تحدوا أقل النفاس وكلاهما دم خارج من الفرج يمنع أشياء ويوجب أشياء وليسا اسمين شرعيين لم يعرفا إلا بالشريعة بل هما اسمان لغويان رد الشارع أمته فيهما إلى ما يتعارفه النساء حيضا ونفاسا قليلا كان أو كثيرا وقد ذكرتم هذا بعينه في النفاس فما الذي فرق بينه وبين الحيض ولم يأت عن الله ولا عن رسوله ولا عن الصحابة تحديد أقل الحيض بحد أبدا ولا في القياس ما يقتضيه. والعجب أنكم قلتم: المرجع فيه إلى الوجود حيث لم يحده الشارع ثم ناقضتم فقلتم: حد أقله يوم وليلة. وأما أصحاب الثلاث فإنما اعتمدوا على حديث توهموه صحيحا وهو غير صحيح باتفاق أهل الحديث فهم أعذر من وجه قال المفرقون: بل فرقنا بينهما بالقياس الصحيح فإن للنفاس علما ظاهرا يدل على خروجه من الرحم وهو تقدم الولد عليه فاستوى قليله وكثيره لوجود علمه الدال عليه وليس مع الحيض علم يدل على خروجه من الرحم فإذا امتد زمنه صار امتداده علما ودليلا على أنه حيض معتاد وإذا لم يمتد لم يكن معنا ما يدل عليه أنه حيض فصار كدم الرعاف. ثم ناقضوا في هذا الفرق نفسه أبين مناقضة فقال أصحاب الثلاث: لو امتد يومين ونصف يوم دائما لم يكن حيضا حتى يمتد ثلاثة أيام. وقال أصحاب اليوم: لو امتد من غدوة إلى العصر دائما لم يكن حيضا حتى يمتد إلى غروب الشمس فخرجوا بالقياس عن محض القياس. وقلتم: إذا صلى جالسا ثم تشهد في حال القيام سهوا فلا سجود عليه وإن قرأ في حال التشهد فعليه السجود وهذا فرق بين متساويين من كل وجه وقلتم إذا افتتح الصلاة في المسجد فظن أنه قد سبقه الحدث فانصرف ليتوضأ ثم علم أنه لم يسبقه الحدث وهو في المسجد جاز له المضي على صلاته وكذلك لو ظن أنه قد أتم صلاته ثم علم أنه لم يتم ثم قلتم لو ظن أن على ثوبه نجاسة أو أنه لم يكن متوضئا فانصرف ليتوضأ أو يغسل ثوبه ثم علم أنه كان متوضئا أو طاهر الثوب لم يجز له البناء على صلاته ففرقتم بين ما لا فرق بينهما وتركتم محض القياس وفرقتم بأنه لما ظن سبق الحدث فقد انصرف من صلاته انصراف استئناف لا انصراف رفض فإنه لو تحقق ما ظنه جاز له المضي فلم يصر قاصدا للخروج من الصلاة فلم يمتنع البناء وكذلك لو ظن أنه قد أتم صلاته فلم ينصرف انصراف رفض وإذا لم يكن يقصد الرفض لم تصر الصلاة مرفوضة كما لو سلم ساهيا وليس كذلك إذا ظن أنه لم يتوضأ أو أن على ثوبه نجاسة لأنه انصرف منها انصراف رفض ونوى الرفض مقارنا لانصرافه فبطلت كما لو سلم عامدا وهذا الفرق غير مجد شيئا بل هو فرق بين ما جمعت الشريعة بينهما فإنه في الموضعين انصرف انصرافا مأذونا فيه أو مأمورا به وهو معذور في الموضعين بل هذا الفرق حقيق باقتضائه ضد ما ذكرتم فإنه إذا ظن أنه لم يتوضأ فانصرافه مأمور به وهو عاص لله بتركه بخلاف ما إذا ظن أنه قد أتم صلاته فإن انصرافه مباح مأذون له فيه فكيف تصح الصلاة مع هذا الانصراف وتبطل بالانصراف المأمور به ثم إنه أيضا في انصرافه حينما ظن أنه قد أتم صلاته ينصرف انصراف ترك حقيقة لأنه يظن أنه قد فرغ منها فتركها ترك من قد أكملها وما ظن أنه محدث فإنما تركها ترك قاصد لتكملتها فهي أولى بالصحة. وقلتم: لو قال: "لله علي أن أصلي ركعتين" وقال آخر: "وأنا لله علي أصلي ركعتين" لم يجز لأحدهما أن يأتم بصلاته لأنهما فرضان بسببين وهو نذر كل واحد منهما ولا يؤدى فرض خلف فرض آخر ثم ناقضتم فقلتم: لو قال الآخر: "وأنا لله علي أن أصلي الركعتين التين أوجبت على نفسك" جاز لأحدهما أن يأتم بالآخر لأنه أوجب على نفسه عين ما أوجبه الآخر على نفسه فصارتا كالظهر الواحدة وهذا ليس يجدي شيئا فإن سبب الوجوب مختلف كما في الصورة الأولى سواء وهو نذر كل واحد منهما على نفسه وليس الواجب على أحدهما هو عين الواجب على الآخر بل هو مثله ولهذا لا يتأدى أحد الواجبين بأداء الآخر ولا فرق بين المسألتين في ذلك البتة فإن كل واحد منهما يجب عليه ركعتان نظير ما وجب على الآخر بنذره فالسبب مماثل والواجب مماثل والتعدد في الجانبين سواء فالتفريق بينهما تفريق بين متماثيلن وخروج عن محض القياس. وفرقتم بين ما جمع النص والميزان بينهما فقلتم إذا ظفر بركاز فعليه فيه الخمس ثم يجوز له صرفه إلى أولاده وإلى نفسه إذا احتاج إليه وإذا وجب عليه عشر الخارج من الأرض لم يكن له صرفه إلى ولده ولا إلى نفسه وكلاهما واجب عليه إخراجه لحق الله وشكر النعمة بما أنعم عليه من المال ولكن لما كان الركاز مالا مجموعا لم يكن نماؤه وكماله بفعله فالمأونة فيه أيسر كان الواجب فيه أكثر ولما كان الزرع فيه من المؤنة والكلفة والعمل أكثر مما في الركاز كان الواجب فيه نصفه وهو العشر فإذا اشتدت المؤنة بالسقى بالكلفة حط الواجب إلى نصفه وهو نصف العشر فإن اشتدت المؤنة في المال غيره بالتجارة والبيع والشراء كل وقت وحفظه وكراء مخزنه ونقله خفت إلى شطره وهو ربع العشر فهذا من كمال حكمة الشارع في اعتبار كثرة الواجب وقلته فكيف يجوز له أن يعطي الواجب الأكثر الذي هو مؤنة وتعبا وكلفة لأولاده ويمسكه لنفسه وقد أضعفه عليه الشارع أكثر من كل واجب في الزكاة ومخرج الجميع وإيجابه واحد نصا واعتبارا فالتفريق بينهما تفريق بين ما جمعت الشريعة بينهما حيث قال النبي ﷺ: "في الركاز الخمس وفي الرقة ربع العشر". وقلتم: لو أودع من لا يعرفه مالا فغاب عنه سنين ثم عرفه فلا زكاة عليه لأنه لا يقدر على ارتجاعه منه فهو كما لو دفنه بمغارة فنسيه ثم ناقضتم فقلتم: لو أودعه من يعرفه فنسيه سنين ثم عرفه فعليه زكاة تلك السنين الماضية كلها والمال خارج عن قبضته وتصرفه وهو غير قادر على ارتجاعه في الصورتين ولا فرق بينهما وقد صرحتم في مسألة المغارة أنه لو دفنه في موضع منها ثم نسيه فلا زكاة عليه إذا عرفه بعد ذلك ولا فرق في هذا بين المغارة وبين المودع بوجه ثم ناقضتم من وجه آخر وقلتم لو دفنه في داره وخفي عليه موضعه سنين ثم عرفه وجبت عليه الزكاة لما مضى. وقلتم: لو وجبت عليه أربع شياه فأخرج ثنتين سمينتين تساوى الأربع جاز فطرد قياسكم هذا أنه لو وجب عليه عشر أقفزة بر فأخرج خمسة من بر مرتفع يساوي قيمة العشرة التي هي عليه جاز وطرده لو وجب عليه خمسة أبعرة فأخرج بعيرا يساوي قيمة الخمسة أنه يجوز ولو وجب عليه صاع في الفطرة فأخرج ربع صاع يساوي الصاع الذي لو أخرجه لتأدى به الواجب أنه يجوز فإن طردتم هذا القياس فلا يخفي ما فيه من تغيير المقادير الشرعية والعدول عنها ولزمكم طرده في أن من وجب عليه عتق رقبة فأعتق عشر رقبة تساوي قيمة رقبة غيرها جاز ومن نذر الصدقة بمائة شاة فتصدق بعشرين تساوي قيمة المائة جاز ثم ناقضتم فقلتم لو وجب عليه أضحيتان فذبح واحدا سمينا يساوي وسطين لم يجز ثم فرقتم بأن قلتم المقصود في الأضحية الذبح وإراقة الدم وإراقة دم واحد لا تقوم مقام إراقة دمين والمقصود في الزكاة سد خلة الفقير وهو يحصل بالأجود الأقل كما يحصل بالأكثر إذا كان دونه وهذا فرق إن صح لكم في الأضحية لم يصح لكم فيما ذكرناه من الصور فكيف ولا يصح في الأضحية فإن المقصود في الزكاة أمور عديدة منها سد خلة الفقير ومنها إقامة عبودية الله بفعل نفس ما أمر به ومنها شكر نعمته عليه في المال ومنها إحراز المال وحفظه بإخراج هذا المقدار منه ومنها المواساة بهذا المقدار لما علم الله فيه من مصلحة رب المال ومصلحة الآخذ ومنها التعبد بالوقوف عند حدود الله وأن لا ينقص منها ولا يغير وهذه المقاصد إن لم تكن أعظم من مقصود إراقة الدم في الأضحية فليست بدونه فكيف يجوز إلغاؤها واعتبار مجرد إراقة الدم لهم إن هذا الفرق ينعكس عليكم من وجه آخر وهو أن مقصود الشارع من إراقة دم الهدي والأضحية التقرب إلى الله سبحانه بأجل ما يقدر عليه من ذلك النوع وأعلاه وأغلاه ثمنا وأنفسه عند أهله فإنه لن يناله سبحانه لحومها ولا دماؤها وإنما يناله تقوى العبد منه ومحبته له وإيثاره بالتقرب إليه بأحب شيء إلى العبد وآثره عنده وأنفسه لديه كما يتقرب المحب إلى محبوبه بأنفس ما يقدر عليه وأفضله عنده. ولهذا فطر الله العباد على من تقرب إلى محبوبه بأفضل هدية يقدر عليها وأجلها وأعلاها كان أحظى لديه وأحب إليه ممن تقرب إليه بألف واحد ردىء من ذلك النوع. وقد نبه سبحانه على هذا بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} وقال تعالى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} وسئل النبي ﷺ عن أفضل الرقاب فقال: "أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها" ونذر عمر أن ينحر نجيبة فأعطى بها نجيبتين فسأل النبي ﷺ أن يأخذهما بها وينحرهما فقال: "لا بل انحرها إياها" فاعتبر في الأضحية عين المنذور دون ما يقوم مقامه وإن كان أكثر منه فلأن يعتبر في الزكاة نفس الواجب دون ما يقوم مقامه ولو كان أكثر منه أولى وأحرى. وطرد قياسكم أنه لو وجب عليه أربع شياه جياد فأخرج عشرا من أردأ الشياه وأهزلها وقيمتهن قيمة الأربع أو وجب عليه أربع حقاق جياد فأخرج عشرين ابن لبون من أردأ الإبل وأهزلها أنه يجوز فإن منعتم ذلك نقضتم القياس وإن طردتموه تيممتم الخبيث منه تنفقون وسلطتم رب المال على إخراج رديئه ومعايبه عن جيده والمرجع في التقويم إلى اجتهاده وفي هذا من مخالفة الكتاب والميزان ما فيه. وفرقتم بين ما جمع الشارع بينه وجمعتم بين ما فرق بينه أما الأول فقلتم: يصح صوم رمضان بنية من النهار قبل الزوال ولا يصح صوم الظهار وكفارة الوطء في رمضان وكفارة القتل إلا بنية من الليل وفرقتم بينهما بأن صوم رمضان لما كان معينا بالشرع أجزء بنية من النهار بخلاف صوم الكفارة وبنيتم على ذلك أنه لو قال: "لله علي صوم يوم" فصامه بنية قبل الزوال لم يجزئه ولو قال: "لله علي أن أصوم غدا" فصامه بنية قبل الزوال جاز وهذا تفريق بين ما جمع الشارع بينه من صوم الفرض وأخبر أنه لا صيام لمن لم يبيته من الليل وهذا في صوم الفرض وأما النفل فصح عنه أنه كان ينشئه بنية من النهار فسويتم بينهما في إجزائهما بنية من النهار وقد فرق الشارع بينهما وفرقتم بين بعض الصوم المفروض وبعض في اعتبار النية من الليل وقد سوى الشارع بينهما. والفرق بالتعين وعدمه عديم التأثير فإنه وإن تعين لم يصر عبادة إلا بالنية ولهذا لو أمسك عن الأكل والشرب من غير نية لم يكن صائما فإذا لم تقارن النية جميع أجزاء اليوم فقد خرج بعضه عن أن يكون عبادة فلم يؤد ما أمر به وتعيينه لا يزيد وجوبه إلا تأكيدا واقتضاء. فلو قيل: إن المعين أولى بوجوب النية من الليل من غير المعين لكان أصح في القياس والقياس الصحيح هو الذي جاءت به السنة من الفرق بين الفرض والنفل فلا يصح الفرض إلا بنية من الليل والنفل يصح بنية من النهار لأنه يتسامح فيه ما لا يتسامح في الفرض كما يجوز أن يصلي النفل قاعدا وراكبا على دابته إلى القبلة وغيرها وفي ذلك تكثير النفل وتيسير الدخول فيه والرجل لما كان مخيرا بين الدخول فيه وعدمه ويخير بين الخروج منه وإتمامه خير بين التبييت والنية من النهار فهذا محض القياس وموجب السنة ولله الحمد. وفرقتم بين ما جمع الله بينهما من جماع الصائم والمعتكف فقلتم: لو جامع في الصوم ناسيا لم يفسد صومه ولو جامع المعتكف ناسيا فسد اعتكافه وفرقتم بينهما بأن الجماع من محظورات الاعتكاف ولهذا لا يباح ليلا ولا نهارا وليس من محظورات الصوم لأنه يباح ليلا وهذا فرق فاسد جدا لأن الليل ليس محلا للصوم فلم يحرم فيه الجماع وهو محل للاعتكاف فحرم فيه الجماع فنهار الصائم كليل المعتكف في ذلك ولا فرق بينهما والجماع محظور في الوقتين ووزان ليل الصائم اليوم الذي يخرج فيه المعتكف من اعتكافه فهذا هو القياس المحض والجمع بين ما جمع الله بينه والتفريق بين ما فرق الله بينه وبالله التوفيق. وقلتم: لو دخل عرفة في طلب بعير له أو حاجة ولم ينو الوقوف أجزأه عن الوقوف ولو دار حول البيت في طلب شيء سقط منه ولم ينو الطواف لم يجزئه وهذا خروج عن محض القياس وفرقتم تفريقا فاسدا فقلتم المقصود الحضور بعرفة في هذا الوقت وقد حصل بخلاف الطواف فإن المقصود العبادة ولا تحصل إلا بالنية فيقال والمقصود بعرفة العبادة أيضا فكلاهما ركن مأمور به ولم ينو المكلف امتثال الأمر لا في هذا ولا في هذا فما الذي صحح هذا وأبطل هذا ولما تنبه بعض القياسيين لفساد هذا الفرق عدل إلى فرق آخر فقال: الوقوف ركن يقع في نفس الإحرام فنية الحج مشتملة عليه فلا يفتقر إلى تجديد نية كأجزاء الصلاة من الركوع والسجود ينسحب عليها نية الصلاة وأما الطواف فيقع خارج العبادة فلا تشمل عليه نية الإحرام فافتقر إلى النية ونحن نقول لأصحاب هذا الفرق ردونا إلى الأول فإنه أقل فسادا وتناقضا من هذا فإن الطواف والوقوف كلاهما جزء من أجزاء العبادة فكيف نضمنت جزءا من أجزاء العبادة لهذا الركن دون هذا وأيضا فإن طواف المعتمر يقع في الإحرام وأيضا فطواف الزيارة يقع في بقية الإحرام فإنه إنما حل من إحرامه قبله تحللاأول ناقصا والتحلل الكامل موقوف على الطواف. وفرقتم بين ما جمعت السنة والقياس بينهما فقلتم: إذا أحرم الصبي ثم بلغ فجدد إحرامه قبل أن يقف بعرفة أجزأه عن حجة الإسلام وإذا أحرم العبد ثم عتق فجدد إحرامه لم يجزئه عن حجة الإسلام والسنة قد سوت بينهما وكذا القياس فإن إحرامهما قبل البلوغ والعتق صحيح وهو سبب للثواب وقد صارا من أهل وجوب الحج قبل الوقوف بعرفة فأجزأهما عن حجة الإسلام كما لو لم يوجد منهما إحرام قبل ذلك فإن غاية ما وجد منهما من الإحرام أن يكون وجوده كعدمه فوجود الإحرام السابق على العتق لم يضره شيئا بحيث يكون عدمه أنفع له من وجوده وتفريقكم بأن إحرام الصبي إحرام تخلق وعادة وبالبلوغ انعدم ذلك فصح منه الإحرام عن حجة الإسلام وأما العبد فإحرامه إحرام عبادة لأنه مكلف فصح إحرامه موجبا فلا يتأتى له الخروج منه حتى يأتي بموجبه فرق فاسد فإن الصبي مثاب على إحرامه بالنص وإحرامه إحرام عبادة وإن كانت لا تسقط الفرض كإحرام العبد سواء. وفرقتم بين ما حمع القياس الصحيح بينه فقلتم: لو قال: "أحجوا فلانا حجة" فله أن يأ النفقة ويأكل بها ويشرب ولا يحج ولو قال: "أحجوه عني" لم يكن له أن يأخذ النفقة إلا بشرط الحج وفرقتم بأن في المسألة الأولى أخرج كلامه مخرج الإيصاء بالنفقة له وكأنه أشار عليه بالحج ولا حق للموصي في الحج الذي يأتي به فصححنا الوصية بالمال ولم نلزم الموصى له بما لا حق للموصى فيه وأما في المسألة الثانية فإنما قصد أن يعود نفعه إليه بثواب النفقة في الحج فإن لم يحصل له غرضه لم تنفذ الوصية ولهذا الفرق نفسه هو المبطل للفرق بين المسألتين فإنه بتعين الحج قطع ما توهمتموه من دفع المال إليه بفعل ما يريد وإنما قصد إعانته على طاعة الله ليكون شريكا له في الثواب ذاك بالبدن وهذا بالمال ولهذا عين الحج مصرفا للوصية لا يجوز إلغاء ذلك وتمكينه من المال يصرفه في ملاذه وشهواته هذا من أفسد القياس وهو كما لو قال: "أعطوا فلانا ألفا ليبني مسجدا أو سقاية أو قنطرة" لم يجز أن يأخذ الألف ولا يفعل ما أوصى به كذلك الحج سواء. وفرقتم بين ما جمع محض القياس بينهما فقلتم: إذا اشترى عبدا ثم قال له: "أنت حر أمس" عتق عليه ولو تزوجها ثم قال لها: "أنت طالق أمس" لم تطلق وفرقتم بأن العبد لما كان حرا أمس اقتضى تحريم شرائه واسترقاته اليوم وأما الطلاق فكونها مطلقة أمس لا يقتضي تحريم نكاحها اليوم وهذا فرق صورى لا تأثير له البتة فإن الحكم إن جاز تقديمه على سببه وقع العتق والطلاق في الصورتين وإن امتنع تقديمه في الموضعين على سببه لم يقع واحد منهما فما بال أحدهما وقع دون الآخر؟ فإن قيل: نحن لم نفرق بينهما في الإنشاء وإنما فرقنا بينهما في الإقرار والأخبار فإذا أقر بأن العبد حر بالأمس فقد بطل أن يكون عبدا اليوم فعتق باعترافه وإذا أقر بأنها طالق أمس لم يلزم بطلان النكاح اليوم لجواز أن يكون المطلق الأول قد طلقها أمس قبل الدخول فتزوج هو بها اليوم. قلنا: إذا كانت المسألة على هذا الوجه فلا بد أن يقول أنت طالق أمس من غير أو ينوي ذلك فينفعه حيث يدين فأما إذا أطلق فلا فرق بين العتق والطلاق. فإن قيل: يمكن أن يطلقها بالأمس ثم يتزوجها اليوم. قيل: هذا يمكن في الطلاق الذي لم يستوف إذا كان مقصوده الأخبار فأما إذا قال: "أنت طالق أمس ثلاثا" ولم يقل من زوج كان قبلي ولا نواه فلا فرق أصلا بين ذلك وبين قوله للعبد: "أنت حر أمس" هذا التفصيل هو محض القياس وبالله التوفيق. وجمعتم بين ما فرقتما السنة بينهما فقلتم: يجب على البائن الإحداد كما يجب على المتوفي عنهما والإحداد لم يكن ذلك لأجل العدة وإنما كان من أجل موت الزوج والنبي ﷺ نفى وأثبت وخص الإحداد بالمتوفي عنها زوجها وقد فارقت المبتوتة في وصف العدة وقدرها وسببها وفإن سببها الموت وإن لم يكن الزوج دخل بها وسبب عدة البائن الفراق وإن كان الزوج حيا ثم فرقتم بين ما جمعت السنة بينهما فقلتم إن كانت الزوجة ذمية أو غير بالغة فلا إحداد عليها والسنة تقضي التسوية كما يقضيه القياس. وفرقتم بين ما جمع القياس المحض بينهما فقلتم: لو ذبح المحرم صيدا فهو ميتة لا يحل أكله ولو ذبح الحلال صيدا حرميا فليس بميتة وأكله حلال وفرقتم بأن المانع في ذبح المحرم فيه فهو كذبح المجوسى والوثنى فالذابح غير أهل وفي المسألة الثانية الذابح أهل والمذبوح محل للذبح إذا كان حلال وإنما منع منه حرمة المكان ألا ترى أنه لو خرج من الحرم حل ذبحه وهذا من أفسد فرق وهو باقتضاء عكس الحكم أولى فإن المانع في الصيد الحرمي في نفس المذبوح فهو كذبح مالا يؤكل والمانع في ذبح المحرم في الفاعل فهو كذبح الغاصب. وقلتم: لو أرسل كلبه على صيد في الحل فطرده حتى أدخله الحرم فأصابه لم يضمنه ولو أرسل سهمه على صيد في الحل فأطارته الريح حتى قتل صيدا في الحرم ضمنه وكلاهما تولد القتل فيه عن فعله وفرقتم بأن الرمي حصل بمباشرته وقوته التي أمدت السهم فهو محض فعله بخلاف مسألة الكلب فإن الصيد فيه يضاف إلى فعل الكلب وهذا الفرق لا يصح فإن أرسال السهم والكلب كلاهما من فعله فالذي تولد منهما تولد عن فعله وجريان السهم وعدو الكلب كلاهما هو السبب فيه وكون الكلب له اختيار والسهم لا اختيار له فرق لا تأثير له إذا كان اختيار الكلب بسبب إرسال صاحبه له. وقلتم: لو رهن أرضا مزروعة أو شجرا مثمرا دخل الزرع والثمر في الرهن ولو باعهما لم يدخل الزرع والثمر في البيع وفرقتم بينهما بأن الرهن متصل بغيره واتصال الرهن بغيره يمنع صحة الإشاعة فلو لم يدخل فيه الزرع والثمرة لبطل بخلاف المبيع فإن اتصاله بغيره لا يبطله إذ الإشاعة لا تنافيه وهذا قياس في غاية الضعف لأن الاتصال هنا إتصال مجاورة لا إشاعة فهو كرهن زيت في ظروفه وقماش في أعداله ونحوه. وقلتم: لو أكره على هبة جارية لرجل فوهبها له ملكها فأعتقها الموهوب له نفذ عتقه ولو باعها لم يصح بيعه وهذا خروج عن محض القياس وتفريقكم بأن هذا عتق صدر عن إكراه والإكراه لا يمنع صحة العتق وذاك بيع صدر عن إكراه والإكراه يمنع صحة البيع لا يصح لأنه إنما أكره على التمليك ولم يكن للمكره غرض في الإعتاق والتمليك لم يصح والعتق لم يكره عليه فلا ينفذ كالبيع سواء هذا مع أنكم تركتم القياس في مسألة الإكراه على البيع والعتق فصححتم العتق دون البيع وفرقتم بأن العتق لا يدخله خيار فصح مع الإكراه كالطلاق والبيع يدخله الخيار فلم يصح مع الإكراه وهذا فرق لا تأثير له وهو فاسد في نفسه فإن الإقرار والشهادة والإسلام لا يدخله خيار ولا تصح مع الإكراه وإنما امتنعت عقود المكره من النفوذ لعدم الرضا الذي هو مصحح العقد وهو أمر تستوي فيه عقوده كلها معاوضتها وتبرعاتها وعتقه وطلاقه وخلعه وإقراره وهذا هو محض القياس والميزان فإن المكره محمول على ما أكره عليه غير مختار له فأقواله كأقوال النائم والناسي فاعتبار بعضها وإلغاء بعضها خروج عن محض القياس وبالله التوفيق. وقلتم: لو وقع في الغدير العظيم الذي إذا تحرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر قطرة دم أو خمر أو بول آدمي نجسه كله وإذا وقع في آبار الفلوات والأمصار العر والروث والأخباث لا تنجسها ما لم يأخذ وجه ربع الماء أو ثلثه وقيل أن لا يخلو دلو عن شيء منه ومعلوم أن ذلك الماء أقرب إلى الطيب والطهارة حسا وشرعا من هذا ومن العجب أنكم نجستم الأدهان والألبان والخل والمائعات بأسرها بالقطرة من البول والدم وعفوتم عما دون ربع الثوب من النجاسة المخففة وعما دون قدر الكف من المغلظة وقستم العفو عن ربع الثوب على وجوب مسح ربع الرأس ووجوب حلق ربعه في الإحرام وأين مسح الرأس من غسل النجاسة ولم تقيسوا الماء والمائع على الثوب مع عدم ظهور أثر النجاسة فيهما البتة وظهور عينها ورائحتها في الثوب ولا سيما عند محمد حيث يعفو عن قدر ذراع في ذراع وعن أبي يوسف عن قدر شبر في شبر وبكل حال فالعفو عما هو دون ذلك بكثير مما لا نسبة له إليه في الماء والمائع الذي لا يظهر أثر النجاسة فيه بوجه بل يحيلها ويذهب عينها وأثرها أولى وأحرى. وجمعهم بين ما فرق الشرع بينهما فقسم المنى الذي هو أصل الآدميين على البول والعذرة وفرقتم بين ما جمع الشرع والحس بينهما ففرقتم بين بعض الأشربة المسكرة وغيرها مع استوائها في الإسكار فجعلتم بعضها نجسا كالبول وبعضها طاهرا طيبا كاللبن والماء وقلتم لو وقع في البئر نجاسة تنجس ماؤها وطينها فإن نزح منها دلو فترشرش على حيطانها تنجست حيطانها وكلما نزح منها شيء نبع مكانه شيء فصادف ماء نجسا وطينا نجسا فإذا وجب نزح أربعين دلوا مثلا فنزح تسعة وثلاثون كان المنزوح والباقي كله نجسا والحيطان التي أصابها الماء والطين الذي في قرار البئر حتى إذا نزح الدلو الأربعون قشقش النجاسة كلها فطهر الطين والماء وحيطان البئر وطهر نفسه فما رؤى أكرم من هذا الدلو ولا أعقل ولا أخير. فصل وقالت الحنابلة والشافعية: "لو تزوجها على أن يحج بها لم تصح التسمية ووجب مهر المثل" وقاسوا هذه التسمية على ما إذا تزوجها على شيء لا يدري ما هو ثم قالت الشافعية: "لو تزوج الكتابية على أن يعلمها القرآن جاز" وقاسوه على جواز إسماعها إياه فقاسوا أبعد قياس وتركوا محض القياس فإنهم صرحوا بأنه لو استأجرها ليحملها إلى الحج جاز ونزلت الإجارة على العرف فكيف صح أن يكون مورد العقد الإجارة ولا يصح أن يكون صداقا ثم ناقضتم أبين مناقضة فقلتم لو تزوجها على أن يرد عبدها الآبق من مكان كذا وكذا صح مع أنه يقدر على رده وقد يعجز عنه فالغرر الذي في هذا الأمر أعظم من الغرر في حملها إلى الحج بكثير وقلتم لو تزوجها على أن يعلمها القرآن أو بعضه صح وقد تقبل التعليم ولا تقبله وقد يطاوعها لسانها وقد يأبى عليها وقلتم لو تزوجها على مهر المثل صحت التسمية مع اختلافه لامتناع من يساويها من كل وجه أو لقربه وإن اتفق من يساويها في النسب فنادر جدا من يساويها في الصفات والأحوال التي يقل المهر بسببها ويكثر فالجهالة التي في حجه بها دون هذا بكثير وقلتم لو تزوجها على عبد مطلق صح ولها الوسط ومعلوم أن في الوسط من التفاوت ما فيه وقلتم: لو تزوجها على أن يشتري لها عبد زيد صحت التسمية مع أنه غرر ظاهر إذ تسليم المهر موقوف على أمر غير مقدور له وهو رضى زيد ببيعه ففيه من الخطر ما في رد عبدها الآبق وكلاهما أعظم خطرا من الحج بها وقلتم لو تزوجها على أن يرعى غنمها مدة صح وليس جهالة حملانها إلى الحج بأعظم من جهالة أوقات الرعي ومكانه على أن هذه المسألة بعيدة من أصول أحمد ونصوصه ولا تعرف منصوصة عنه بل نصوصه على خلافها قال في رواية منها فيمن تزوج على عبد من عبيده جاز وإن كانوا عشرة عبيد يعطى من أوسطهم فإن تشاحا أقرع بينهما قلت وتستقيم القرعة في هذا قال نعم وقلتم لو خالعها على كفالة ولدها عشر سنين صح وإن لم يذكر قدر الطعام والإدام والكسوة فياللعجب أين جهالة هذا من جهالة حملانها إلى الحج؟ فصل وقالت الشافعية: له أن يجبر ابنته البالغة المفتية العالمة بدين الله التي تفتي في الحلال والحرام على نكاحها بمن هي أكره الناس له وأشد الناس عنه نفرة بغير رضاها حتى لو عينت كفوا شابا جميلا دينا تحبه وعين كفوا شيخا مشوها دميما كان العبرة بتعيينه دونها فتركوا محض القياس والمصلحة ومقصود النكاح من الود والرحمة وحسن المعاشرة وقالوا لو أراد أن يبيع لها حبلا أو عود أراك من مالها لم يصح إلا برضاها وله أن يرقها مدة العمر عند من هي أكره شيء فيه بغير رضاها قالوا وكما خرجتم عن محض القياس خرجتم عن صريح السنة فإن رسول الله ﷺ خير جارية بكرا زوجها أبوها وهي كارهة وخير أخرى ثيبا ومن العجب أنكم قلتم لو تصرف في حبل من مالها على غير وجه الحظ لها كان مردودا حتى إذا تصرف في بعضها على خلاف حظها كان لازما ثم قلتم هو أخبر بحظها منها وهذا يرده الحس فإنها أعلم بميلها ونفرتها وحظها ممن تحب أن تعاشره وتكره عشرته وتعلقتم بما رواه مسلم من حديث ابن عباس يرفعه: "الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها" وهو حجة عليكم وتركتم ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة يرفعه: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن" وفيهما أيضا من حديث عائشة قالت: "قلت يا رسول الله تستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: نعم قلت فإن البكر تستأذن فتستحي قال: إذنها صماتها" فنهى أن تنكح بدون استئذانها وأمر بذلك وأخبر أنه هو شرعه وحكمه فاتفق على ذلك أمره ونهيه وخبره وهو محض القياس والميزان. فصل وقالت الحنابلة والشافعية والحنفية: "لا يصح بيع المقاثي والمباطخ والباذنجان إلا لقطة" ولم يجعلوا المعدوم تبعا للموجود مع شدة الحاجة إلى ذلك وجعلوا المعدوم منزلا منزلة الموجود في منافع الإجارة للحاجة إلى ذلك وهذا مثله من وجه لأنه يستخلف كما تستخلف المنافع وما يقدر من عروض الخطر له فهو مشترك بينه وبين المنافع وقد جوزوا بيع الثمرة إذا بدا الصلاح في واحدة منها ومعلوم أن بقية الأجزاء معدومة فجاز بيعها تبعا للموجود فإن فرقوا بأن هذه أجزاء متصلة وتلك أعيان منفصلة فهو فرق فاسد من وجهين أحدهما أن هذا لا تأثير له البتة الثاني أن الثمرة التي بدا صلاحها ما يخرج أثمارا متعددة كالتوت والتين فهو كالبطيخ والباذنجان من كل وجه فالتفريق خروج عن القياس والمصلحة وإلزام بما لا يقدر عليه إلا بأعظم كلفة ومشقة وفيه مفسدة عظيمة يردها القياس فإن اللقطة لا ضابطا لها فإنه يكون في المقثأة الكبار والصغار وبين ذلك فالمشتري يريد استقصاءها والبائع يمنعه من أخذ الصغار فيقع بينهما من التنازع والاختلاف والتشاحن ما لا تأتي به شريعة فأين هذه المفسدة العظيمة التي هي منشأ النزاع التي من تأمل مقاصد الشريعة علم قصد الشارع لإبطالها وإعدامها إلى المفسدة اليسيرة التي في جعل ما لم يوجد تبعا لما وجد لما فيه من المصلحة وقد اعتبرها الشارع ولم يأت عنه حرف واحد أنه نهى عن بيع المعدوم وإنما نهى عن بيع الغرر والغرر شيء وهذا شيء ولا يسمى هذا البيع غررا لا لغة ولا عرفا ولا شرعا. فصل وقالت الحنفية والمالكية والشافعية: "إذا شرطت الزوجة أن لا يخرجها الزوج من بلدها أو دارها أو أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى فهو شرط باطل" فتركوا محض القياس بل قياس الأولى فإنهم قالوا: "لو شرطت في المهر تأجيلا أو غير نقد البلد أو زيادة على مهر المثل لزم الوفاء بالشرط" فأين المقصود لها في الشرط الأول إلى المقصود الذي في هذا الشرط وأين فواته إلى فواته وكذلك من قال منهم: "لو شرط أن تكون جميلة شابة سوية فبانت عجوزا شمطاء قبيحة المنظر أنه لا فسخ لأحدهما بفوات شرطه حتى إذا فات درهم واحد من الصداق فلها الفسخ بفواته قبل الدخول فإن استوفى المعقود عليه ودخل بها وقضى وطره منها ثم فات الصداق جميعه ولم تظفر منه بحبة واحدة فلا فسخ لها" وقسم الشرط الذي دخلت عليه على شرط أن لا يؤويها ولا ينفق عليها ولا يطأها أو لا ينفق على أولاده منها ونحو ذلك مما هو من أفسد القياس الذي فرقت الشريعة بين ما هو أحق بالوفاء منه وبين ما لا يجوز الوفاء به وجمعتم بين ما فرق القياس والشرع بينهما وألحقتم أحدهما بالآخر وقد جعل النبي ﷺ الوفاء بشروط النكاح التي يستحل بها الزوج فرج امرأته أولى من الوفاء بسائر الشروط على الإطلاق فجعلتموها أنتم دون سائر الشروط وأحقها بعدم الوفاء. هل يصح شرط الواقف مطلقا وجعلتم الوفاء بشرط الواقف المخالف لمقصود الشارع كترك النكاح وكشرط الصلاة في المكان الذي شرط فيه الصلاة وإن كان وحده وإلى جانبه المسجد الأعظم وجماعة المسلمين وقد ألغى الشارع هذا الشرط في النذر الذي هو قربه محضة وطاعة فلا تتعين عنده بقعة عينها الناذر للصلاة إلا المساجد الثلاثة وقد شرط الناذر في نذره تعينه فألغاه الشارع لفضيلة غيره عليه أو مساواته له فكيف يكون شرط الواقف الذي غيره أفضل منه وأحب إلى الله ورسوله لازما يجب الوفاء به وتعيين الصلاة في مكان معين لم يرغب الشارع فيه ليس بقربة وما ليس بقربة لا يجب الوفاء به في النذر ولا يصح اشتراطه في الوقف. فإن قلتم: الواقف لم يخرج ماله إلا على وجه معين فلزم اتباع ما عليه في الوقف من ذلك الوجه والنادر قصد القربة والقرب متساوية في المساجد غير الثلاثة فتعين بعضها لغو. قيل: هذا الفرق بعينه يوجب عليكم إلغاء ما لا قربة فيه من شروط الواقفين واعتبار ما فيه قربة فإن الواقف إنما مقصوده بالوقف التقرب إلى الله فتقربه بوقفه كتقربه بنذره فإن العاقل لا يبذل ماله إلا لما فيه مصلحة عاجلة أو آجلة والمرء في حياته قد يبذل ماله في أغراضه مباحة كانت أو غيرها وقد يبذله فيما يقربه إلى الله وأما بعد مماته فإنما يبذله فيما يظن أنه يقرب إلى الله ولو قيل له: "إن هذا المصرف لا يقرب إلى الله عز وجل أو إن غيره أفضل وأحب إلى الله منه وأعظم أجرا" لبادر إليه ولا ريب أن العاقل إذا قيل له: "إذا بذلت مالك في مقابلة هذا الشرط حصل لك أجر واحد وإن تركته حصل لك أجران" فإنه يختار ما فيه الأجر الزائد فكيف إذا قيل له: "إن هذا لاأجر فيه البتة" فكيف إذا قيل: "أنه مخالف لمقصود الشارع مضاد له يكرهه الله ورسوله" وهذا كشرط العزوبية مثلا وترك النكاح فإنه شرط لترك واجب أو سنة أفضل من صلاة النافلة وصومها أو سنة دون الصلاة والصوم فكيف يلزم الوفاء بشرط ترك الواجبات والسنن اتباع لشرط الواقف وترك شرط الله ورسوله الذي قضاؤه أحق وشرطه أوثق؟ يوضحه أنه لو شرط في وقفه أن يكون على الأغنياء دون الفقراء كان شرطا باطلا عند جمهور الفقهاء قال أبو المعالي الجويني هو إمام الحرمين رضي الله عنه: "ومعظم أصحابنا قطعوا بالبطلان" هذا هو مع أن وصف الغنى وصف مباح ونعمة من الله وصاحبه إذا كان شاكرا فهو أفضل من الفقير مع صبره عند طائفة كثيرة من الفقهاء والصوفية فكيف يلغى هذا الشرط ويصح شرط الترهب في الأسلام الذي أبطله النبي ﷺ بقوله: "لا رهبانية في الإسلام". يوضحه أن من شرط التعزب فإنما قصد أن تركه أفضل وأحب إلى الله فقصد أن يتعبد الموقف عليه بتركه وهذا هو الذي تبرأ النبي ﷺ منه بعينه فقال: "من رغب عن سنتى فليس منى" وكان قصد أولئك الصحابة هو قصده هؤلاء الواقفين بعينه سواء فإنهم تصدوا ترفية أنفسهم على العبادة وترك النكاح الذي يشغلهم تقربا إلى الله بتركه فقال النبي ﷺ فيهم ما قال وأخبر أنه من رغب عن سنته فليس منه وهذا في غاية الظهور فكيف يحل الإلزام بترك شيء قد أخبر به النبي ﷺ أن من رغب عنه فليس منه هذا مما لا تحتمله الشريعة بوجه. هامش نكل: نكص وجبن. انظر القاموس المحيط. =============== ج2. المحتويات المقدمة شروط الواقفين تعرض على كتاب الله معنى قولهم شرط الواقف كنص الشارع فصل الاختلاف في حكم اللطمة والضربة فصل حكومة داود وسليمان ما يفعل بالجاني على النفس ما يفعل بالجاني على المال ما يفعل بالجاني على العرض فصل الفصل بين الفريقين يحتاج إلى النظر الدقيق فصل المتوسطون بين الفرقين أوامر الشرع محيطة بأفعال المكلفين فصل هل تحيط النصوص بحكم جميع الحوادث رأي الفرقة الأولى فصل رأي الفرقة الثانية فصل رأي الفرقة الثالثة النصوص محيطة بأحكام جميع الحوادث فصل الرد على الفرق الثلاث الاستصحاب معناه وأقسامه استصحاب البراءة الأصلية استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي فصل استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع فصل استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة فصل ما لم يبطله الشارع من الشروط صحيح فصل أجوبة المانعين فصل الجمهور يرد على أجوبة المانعين أخطاء أصحاب القياس الفصل الأول: شمول النصوص وإغناؤها عن القياس المسألة المشتركة في الفرائض اختلاف الصحابة في العمريتين فصل الأخوات مع البنات عصبة فصل صحة قول الجمهور في مسألة ميراث الأخوات فصل المراد بقوله صلى الله عليه وسلم فلأولى رجل ذكر فصل ميراث البنات فصل ميراث بنت الابن فصل ميراث الجد مع الإخوة في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس وأن ما يظن مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم فيه ولا بد إما أن يكون القياس فاسدا أو يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص كونه من الشرع لفظ القياس مجمل المشاركة غير المعارضة العمل الذي يقصد به المال أنواع ثلاثة النوع الأول النوع الثاني فصل النوع الثالث العدل هو الأصل في كل العقود فصل الحوالة توافق القياس فصل القرض يوافق القياس فصل إزالة النجاسة توافق القياس فصل طهارة الخمر باستحالتها توافق القياس فصل الوضوء من لحوم الإبل يوافق القياس فصل الفطر بالحجامة يوافق القياس فصل التيمم يوافق القياس فصل التيمم في عضوين بوافق القياس فصل السلم يوافق القياس فصل الكتابة توافق القياس فصل الإجارة توافق القياس الرد على من جعل الإجارة على خلاف القياس اختلاف بيع المنافع عن بيع الأعيان فصل خطأ من أطلق أن بيع المعدوم لا يجوز الفرق بين المطلق ومطلق العقد فصل بيع مزارع القثاء والبطيخ وما شاكلها فصل صحة ضمان الحدائق والبساتين فصل إجارة الظئر توافق القياس فصل حمل العاقلة الدية يوافق القياس فصل حديث المصراة يوافق القياس فصل الخراج بالضمان فصل إعادة الصلاة لمن صلى منفردا خلف الصف توافق القياس فصل ركوب وحلب الرهن مقابل النفقة على وفق القياس فصل حكم الرسول على من وقع على جارية امرأته يوافق القياس الأصل الأول: من غير مال غيره فصل الأصل الثاني: ضمان المتلفات بالجنس الأصل الثالث من مثل بعبده عتق عليه فصل استكراه الأمة والعبد على الفاحشة نصوص الشرع معقولة فصل المضي في الحج الفاسد يوافق القياس فصل عدم فطر من أكل ناسيا يوافق القياس التسوية بين الخطأ والنسيان في الصوم فصل حكم عمر في امرأة المفقود يوافق القياس تصرف الغريب بين الرد والوقف فصل حكم علي في الزبية يوافق القياس فصل حكم عمر في مسألة البصير والأعمى يوافق القياس فصل حكم علي في التنازع على الولد يوافق القياس كل ما في الشريعة يوافق العقل أمثلة من شبه نفاة القياس كيف يمكن القياس مع الفرق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات الجواب المجمل عن هذه الشبه جواب ابن الخطيب وأبي الحسن البصري جواب أبي الحسن الآمدي جواب أبي بكر الرازي جواب القاضي أبي يعلي جواب القاضي عبد الوهاب المالكي الأجوبة بالتفصيل الغسل من المني دون البول فصل الفرق بين بول الصبي والصبية فصل الفرق بين الصلاة الرباعية وغيرها في القصر فصل الفرق بين قضاء الصوم دون الصلاة بالنسبة للحائض فصل الفرق بين النظر إلى الحرة والأمة فصل الفرق بين السارق وبين المختلس والمنتهب والغاصب فصل الفرق بين دية اليد وقطعها في السرقة فصل تخصيص القطع في ربع دينار فصل القذف بالزنا يخالف القذف بالكفر فصل الاكتفاء في القتل بشاهدين دون الزنا يوافق القياس فصل جلد قاذف الحر دون قاذف العبد يوافق القياس فصل التفريق في العدة يوافق القياس الحكمة في تشريع العدة أجناس العدد فصل الحكمة في عدة الطلاق عدة المختلعة تقسيم النساء بالنسبة إلى العدة الحكمة في عدة المطلقة ثلاثا عدة المخيرة وحكمتها عدة الآيسة والصغيرة وحكمتها فصل الحكمة في تحريم المرأة بعد الطلاق الثالث فصل غسل أعضاء الوضوء دون الموضع الذي خرجت منه الريح يوافق القياس فصل قياس توبة التائب على توبة المحارب فصل قبول رواية العبد وشهادته فصل صدقة السأئمة وإسقاطها عن العوامل فصل تحصين الحرة للرجل دون الأمة يوافق القياس فصل نقض الوضوء بمس ذكره دون غيره يوافق القياس فصل إيجاب الحد بشرب قطرة من الخمر دون غيرها يوافق القياس فصل قصر عدد الزوجات على أربع دون ملك اليمين يوافق القياس فصل إباحة التعدد للرجل دون المرأة توافق القياس فصل جواز استمتاع السيد بأمته دون السيدة بعبدها يوافق القياس فصل الفرق بين الطلقات في تحريم الزوجة يوافق القياس فصل الوضوء من أكل لحوم الإبل دون غيره يوافق القياس فصل الفرق بين الكلب الأسود وغيره في قطع الصلاة يوافق القياس فصل الفرق بين الريح والجشوة يوافق القياس فصل الفرق بين الخيل والإبل في وجوب الزكاة يوافق القياس فصل الفرق بين مقادير الزكاة في الأنواع المختلفة يوافق القياس فصل قطع آلة السرقة دون غيرها يوافق القياس الحكمة في شرع الحدود تفاوت العقوبات بتفاوت الجنايات موجب القتل موجب القطع موجب الجلد فصل موجب تغريم المال التغريم نوعان مقدر وغير مقدر التغريم المقدر التغريم غير المقدر موجب التعزير ومواضعه فصل إيقاع العقوبة بقيام الحجة الحكمة في عدم جعل العقوبة من جنس الذنب ولكم في القصاص حياة مقابلة الإتلاف بمثله في كل الأحوال مفسدة المصلحة في تخيير المجني عليه في بعض الأحوال دون بعض فصل الحكمة في إتلاف بعض الأعضاء التي وقعت بها المعصية دون بعض الحكمة في قطع السارق الحكمة في حد الزنا الجزاء من جنس العمل اختلاف الحد لاختلاف الجريمة فصل جعل حد الرقيق على النصف من حد الحر يوافق القياس فصل شرع اللعان في حق الزوجة دون غيرها يوافق القياس فصل تخصيص المسافر بالرخص دون غيره يوافق القياس فصل الفرق بين نذر الطاعة والحلف عليها يوافق القياس فصل الفرق بين الضبع وغيره من كل ذي ناب يوافق القياس فصل الحكمة في جعل شهادة خزيمة بشهادتين فصل الحكمة في تخصيص أبي بردة بإجزاء تضحيته بعناق فصل الحكمة في التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار فصل الحكمة في تقديم العصبة البعداء على ذوي الأرحام الأقربين فصل الحكمة في الفرق بين الشفعة وأخذ مال الغير الحكمة في تشريع الشفعة فصل رأي من يقصر الشفعة على الجوار رد المبطلين لشفعة الجوار خير الأقوال في شفعة الجوار فصل السر في الفرق بين بعض الأيام وبعضها الآخر فصل السر في تحريم بعض القريبات وتحليل البعض الآخر فصل السر في الفرق بين تحميل العاقلة دية الخطأ في النفوس دون الأموال فصل السر في الفرق بين الحائض والمستحاضة فصل السرفى الفرق بين اتحاد الجنس واختلافه في تحريم الربا الربا نوعان والحكمة في تحريم النوعين ربا النسيئة فصل ربا الفضل والحكمة في تحريمه آراء العلماء في الأنواع التي يحرم فيها ربا الفضل فصل السر في تحريم ربا النساء في المطعوم وما يصلح المطعوم فصل السر في إباحة العرايا ونحوها من ربا الفضل الكلام في بيع اللحم بالحيوان فصل الفرق بين مدة الإحداد على الزوج وغيره فصل الحكمة في مساواة المرأة للرجل في بعض الأحكام دون بعض فصل الحكمة في تفضيل بعض الأزمنة والأمكنة على بعض فصل الجمع بين المختلفات في الحكم لاشتراكها في سببه فصل الفارة كالهرة قي الطهارة فصل ذبيحة غير الكتابي مثل الميتة تصرف الشارع في الأسماء اللغوية فصل الجمع بين الماء والتراب في التطهير فصل شرح الباقي من كتاب أمير لمؤمنين عمر التحذير من الغضب التحريض على تنفيذ الحق والصبر عليه العبودية نوعان عامة وخاصة فصل عاقبة الإخلاص لله فصل عقوبة المتزين بما ليس فيه فصل المقبول من أعمال العباد وغير المقبول فصل جزاء المخلص في دنياه وآخرته ذكر تحريم الإفتاء في دين الله بغير علم وذكر الإجماع على ذلك لا ضير على من لا يعلم أن يقول الله أعلم تكرير السؤال وفوائده ذكر تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به وإلى ما يجب المصير إليه وإلى ما يسوغ من غير إيجاب الاتباع والتقليد حديث علي لكميل بن زياد النهي عن الاستنان بالرجال الرد على من أجاز التقليد بحجج عقلية فصل نهى الأئمة عن تقليدهم فصل في عقد مجلس مناظرة بين مقلد وبين صاحب حجة منقاد للحق حيث كان المقلدون يتضاربون في أقوالهم إعلام الموقعين/الجزء الثاني شروط الواقفين تعرض على كتاب الله فالصواب الذي لا تسوغ الشريعة غيره عرض شرط الواقفين على كتاب الله سبحانه وعلى شرطه فما وافق كتابه وشرطه فهو صحيح وما خالفه كان شرطا باطلا مردودا ولو كان مائة شرط وليس ذلك بأعظم من رد حكم الحاكم إذا خالف حكم الله ورسوله ومن ورد فتوى المفتي وقد نص الله سبحانه على رد وصية الجانف في وصيته والآثم فيها مع أن الوصية تصح في غير قربة وهي أوسع من الوقف وقد صرح صاحب الشرع برد كل عمل ليس عليه أمره فهذا الشرط مردود بنص رسول الله ﷺ فلا يحل لأحد أن يقبله ويعتبره ويصححه. ثم كيف يوجبون الوفاء بالشروط التي إنما أخرج الواقف ماله لمن قام بها وإن لم تكن قربى ولا للواقفين فيها غرض صحيح وإنما غرضهم ما يقربهم إلى الله بها ولا يوجبون الوفاء بالشروط التي انما بذلت المرأة بضعها للزواج بشرط وفائه ولها فيها أصح غرض ومقصود وهي أحق من كل شرط يجب الوفاء به بنص رسول الله ﷺ وهل هذا إلا خروج عن محض القياس والسنة. معنى قولهم شرط الواقف كنص الشارع ثم من العجب العجاب قول من يقول إن شروط الواقف كنصوص الشارع ونحن نبرأ إلى الله من هذا القول ونعتذر مما جاء به قائله ولا نعدل بنصوص الشارع غيرها أبدا وإن أحسن الظن بقائل هذا القول حمل كلامه على أنها كنصوص الشارع في الدلالة وتخصيص عامها بخاصها وحمل مطلقها على مقيدها واعتبار مفهومها كما يعتبر منطوقها وأما أن تكون كنصوصه في وجوب الاتباع وتأثيم من أخل بشيء منها فلا يظن ذلك بمن له نسبة ما إلى العلم فإذا كان حكم الحاكم ليس كنص الشارع بل يرد ما خالف حكم الله ورسوله من ذلك فشرط الواقف إذا كان كذلك كان أولى بالرد والإبطال فقد ظهر تناقضهم في شروط الواقفين وشروط الزوجات وخروجهم فيها عن موجب القياس الصحيح والسنة وبالله التوفيق. يوضح ذلك أن النبي ﷺ كان إذا قسم يعطي الآهل حظين والعزب حظا وقال: "ثلاثة حق الله عونهم" ذكر منهم الناكح يريد العفاف ومصححوا هذا الشرط عكسوا مقصوده فقالوا نعطيه ما دام عزبا فإذا تزوج لم يستحق شيئا ولا يحل لنا أن نعينه لأنه ترك القيام بشرط الواقف وإن كان قد فعل ما هو أحب إلى الله ورسوله فالوفاء بشرط الواقف المتضمن لترك الواجب أو السنة المقدمة على فضل الصوم أو الصلاة لا يحل مخالفته ومن خالفه كان عاصيا آثما حتى إذا خالف الأحب إلى الله ورسوله والأرضى له كان بارا مثابا قائما بالواجب عليه. يوضح بطلان هذا الشرط وأمثاله من الشروط المخالفة لشرع الله ورسوله أنكم قلتم كل شرط يخالف مقصود العقد فهو باطل حتى أبطلتم بذلك شرط دار الزوجة أو بلدها وأبطلتم اشتراط البائع الانتفاع بالمبيع مدة معلومة وأبطلتم اشتراط الخيار فوق ثلاثة وأبطلتم اشتراط نفع البائع في المبيع ونحو ذلك من الشروط التي صححها النص والآثار عن الصحابة والقياس كما صحح عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان اشتراط المرأة دارها أو بلدها أو أن لا يتزوج عليها ودلت السنة على أن الوفاء به أحق من الوفاء بكل شرط وكما صححت السنة اشتراط انتفاع البائع بالمبيع مدة معلومة فأبطلتم ذلك وقلتم يخالف مقتضى العقد وصححتم الشروط المخالفة بمقتضى عقد الوقف لعقد الوقف إذ هو عقد قربة مقتضاة التقرب إلى الله تعالى ولا ريب أن شرط ما يخالف القربة يناقضه مناقضة صريحة فإذا شرط عليه الصلاة في مكان لا يصلى فيه إلا هو وحده أو واحد بعد واحد أو اثنان فعدوله عن الصلاة في المسجد الأعظم الذي يجتمع فيه جماعة المسلمين مع قدمه وكثرة جماعته فيتعداه إلى مكان أقل جماعة وأنقص فضيلة وأقل أجرا اتباعا لشرط الواقف المخالف لمقتضى عقد الوقف خروج عن محض القياس وبالله التوفيق. يوضحه أن المسلمين مجمعون على أن العبادة في المسجد من الذكر والصلاة وقراءة القرآن أفضل منها عند القبور فإذا منعتم فعلها في بيوت الله سبحانه وأوجبتم على الموقوف عليه فعلها بين المقابر إن أراد أن يتناول الوقف وإلا كان تناوله حراما كنتم قد ألزمتموه بترك الأحب إلى الله الأنفع للعبد والعدول إلى الأنقص المفضول أو النهي عنه مع مخالفته لقصد الشارع تفصيلا وقصد الواقف إجمالا فإنه إنما يقصد الأرضى لله والأحب إليه ولما كان في ظنه أن هذا إرضاء لله اشترطه فنحن نظرنا إلى مقصوده ومقصود الشارع وأنتم نظرتم إلى مجرد لفظه سواء وافق رضا الله ورسوله ومقصوده في نفسه أو لا ثم لا يمكنكم طرد ذلك أبدا فإنه لو شرط أن يصلي وحده حتى لا يخالط الناس بل يتوفر على الخلوة والذكر أو شرط أن لا يشتغل بالعلم والفقه ليتوفر على قراءة القرآن وصلاة الليل وصيام النهار أو شرط على الفقهاء ألا يجاهدوا في سبيل الله ولا يصوموا تطوعا ولا يصلوا النوافل وأمثال ذلك فهل يمكنكم تصحيح هذه الشروط فإن أبطلتموها فعقد النكاح أفضل من بعضها أو مساو له في أصل القربة وفعل الصلاة في المسجد الأعظم العتيق الأكثر جماعة أفضل وذكر الله وقراءة القرآن في المسجد أفضل منه بين القبور فكيف تلزمون بهذه الشروط المفضولة وتبطلون ذلك فما هو الفرق بين ما يصح من الشروط وما لا يصح ثم لو شرط المبيت في المكان الموقوف ولم يشترط التعزب فأبحتم له التزوج فطالبته الزوجة بحقها من المبيت وطالبتموه بشرط الواقف منه فكيف تقسمونه بينهما أم ماذا تقدمون ما أوجبه الله ورسوله من المبيت والقسم للزوجة مع ما فيه من مصلحة الزوجين وصيانة المرأة وحفظها وحصول الإواء المطلوب من النكاح أم ما شرطه الواقف وتجعلون شرطه أحق والوفاء به ألزم أم تمنعونه من النكاح والشارع والوقف لم يمنعاه منه فالحق أن مبيته عند أهله إن كان أحب إلى الله ورسوله جاز له بل استحب ترك شرط الواقف لأجله ولم يمنعه فعل ما يحبه الله ورسوله من تناول الوقف بل ترك ما أوجبه سببا لاستحقاق الوقف فلا نص ولا قياس ولا مصلحة للواقف ولا للموقوف عليه ولا مرضاة لله ورسوله. والمقصود بيان بعض ما في الرأي والقياس من التناقض والاختلاف الذي هو من عند غير الله لأن ما كان من عنده فإنه يصدق بعضه بعضا ولا يخالف بعضه بعضا وبالله التوفيق. فصل الاختلاف في حكم اللطمة والضربة وقالت الحنفية والشافعية والمالكية ومتأخروا أصحاب أحمد: "إنه لا قصاص في اللطمة والضربة وإنما فيه التعزير" وحكى بعض المتأخرين في ذلك الإجماع وخرجوا عن محض القياس وموجب النصوص وإجماع الصحابة فإن ضمان النفوس والأموال مبناه على العدل كما قال تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقال {فمن فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقالوَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} فأمر بالمماثلة في العقوبة والقصاص فيجب اعتبارها بحسب الإمكان والأمثل هو المأمور به فهذا الملطوم المضروب قد اعتدي عليه فالواجب أن يفعل بالمعتدي كما فعل به فإن لم يمكن كان الواجب ما هو الأقرب والأمثل وسقط ما عجز عنه العبد من المساواة من كل وجه ولا ريب أن لطمة بلطمة وضربة بضربة في محلهما بالآلة التي لطمه بها أو بمثلها أقرب إلى المماثلة المأمور بها حسا وشرعا من تعزيره بها بغير جنس اعتدائه وقدره وصفته وهذا هو هدي رسول الله ﷺ وخلفائه الراشدين محض القياس وهو منصوص الإمام أحمد ومن خلفه في ذلك من أصحابه فقد خرج عن نص مذهبه وأصوله كما خرج عن محض القياس والميزان قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في كتابه المترجم له: "باب في القصاص من اللطمة والضربة: حدثني إسماعيل ابن سعيد قال: سألت أحمد بن حنبل عن القصاص من اللطمة والضربة فقال: عليه القود من اللطمة والضربة" وبه قال أبو ابن داود وأبو خيثمة وابن أبي شيبة وقال إبراهيم الجوزجاني: "وبه أقول لما حدثنا شبابة بن سوار ثنا شعبة عن يحيى بن الحصين قال: سمعت طارق بن شهاب يقول: لطم أبو بكر رجلا يوما لطمة فقال له: اقتص فعفا الرجل حدثنا شبابة أنبأ شعبة عن مخارق قال: سمعت طارقا يقول: لطم ابن أخ لخالد بن الوليد رجلا من مراد فأقاده خالد منه حدثنا أبو بهر حدثنا أبو بكر بن عياش قال: سمعت الأعمش عن كميل بن زياد قال: لطمني عثمان ثم أقادني فعفوت حدثني ابن الأصفهاني حدثنا عبد السلام بن حرب عن ناجية عن عمه يزيد بن عربي قال: رأيت عليا كرم الله وجهه في الجنة أقاد من لطمة وحدثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا عبد الله ابن إسماعيل بن زياد ابن أخي عمرو بن دينار أن ابن الزبير أقاد من لطمة ثنا يزيد بن هارون أنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي فراس قال: خطبنا عمر فقال: إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ولكن إنما بعثتهم ليبلغوكم دينكم وسنة نبيكم ويقسم فيكم فيئكم فمن فعل به غير ذلك فليرفعه إلى فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه فقام إليه عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إن كان رجل من المسلمين على رعية فأدب بعض رعيته لتقصنه منه فقال عمر: أنا لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله ﷺ يقص من نفسه ثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن ابن حرملة قال: تلاحا رجلان فقال أحدهما: ألم أخنقك حتى سلحت؟ فقال: بلى ولكن م يكن لي عليك شهود فشهدوا على ما قال: ثم رفعه إلى عمر بن عبد العزيز فأرسل في ذلك إلى سعيد بن المسيب فقال: يخنقه كما خنقه حتى يحدث أو يفتدي منه فافتدى منه بأربعين بعيرا فقال ابن كثير: أحسبه ذكره عن عثمان ثنا الحسين بن محمد ثنا ابن أبي ذئب عن المطلب بن السائب أن رجلين من بني ليث اقتتلا فضرب أحدهما الآخر فكسر أنفه فانكسر عظم كف الضارب فأقاد أبو بكر من أنف المضروب ولم يقد من يد الضارب فقال سعيد بن المسيب: كان لهذا أيضا القود من كفه قضى عثمان أن كل مقتتلين اقتتلا ضمنا ما بينهما فأقيد منه فدخل المسجد وهو يقول: يا عباد الله كسر ابن المسيب يدي قال الجوزجاني: فهذا رسول الله ﷺ وجلت أصحابه فإلى من يركن بعدهم؟ أو كيف يجوز خلافهم؟". قلت: وفي السنن لأبي داود والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري قال: "بينما رسول الله ﷺ يقسم قسما أقبل رجل فأكب عليه فطعنه رسول الله ﷺ بعرجون كان معه فجرح وجهه فقال له رسول الله ﷺ: تعال فاستقد فقال: بل عفوت يا رسول الله" وفي سنن النسائي وأبي داود وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي ﷺ بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا فلاحاه رجل في صدقته فضربه أبو جهم فشجه فأتوا النبي ﷺ فقالوا: القود يا رسول الله فقال النبي ﷺ: "لكم كذا وكذا" فلم يرضوا فقال النبي ﷺ: "لكم كذا وكذا" فرضوا فقال النبي ﷺ: "إني خاطب العشية على الناس ومخربهم برضاكم" فقالوا: نعم فخطب رسول الله ﷺ فقال: "إن هؤلاء أتوني يريدون القصاص فعرضت عليهم كذا وكذا فقال النبي ﷺ فرضوا أرضيتم؟" فقالوا: لا فهمّ المهاجرون بهم، فأمرهم رسول الله ﷺ أن يكفوا عنهم فكفوا عنهم ثم دعاهم فزادهم فقال: أرضيتم؟ فقالوا: نعم فقال إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم فقالوا: نعم فخطب النبي ﷺ فقال: أرضيتم؟ قالوا: نعم" وهذا صريح في القود في الشجة ولهذا صولحوا من القود مرة بعد مرة حتى رضوا ولو كان الواجب الأرش فقط لقال لهم النبي ﷺ حين طلب القود إنه لا حق لكم فيه وإنما حقكم في الأرش فهذه سنة رسول الله ﷺ وهذا إجماع الصحابة وهذا ظاهر القرآن وهذا محض القياس فعارض المانعون هذا كله بشيء واحد وقالوا اللطمة والضربة لا يمكن فيهما المماثلة والقصاص لا يكون إلا مع المماثلة ونظر الصحابة أكمل وأصح وأتبع للقياس كما هو أتبع للكتاب والسنة فإن المماثلة من كل وجه متعذرة فلم يبق إلا أحد أمرين قصاص قريب إلى المماثلة أو تعزير بعيد منها والأول أولى لأن التعزير لا يعتبر فيه جنس الجناية ولا قدرها بل قد يعزر بالصوت والعصا وقد يكون لطمة أو ضربة بيده فأين حرارة السوط ويبسه إلى اليد وقد يزيد وينقص وفي العقوبة بجنس ما فعله تحر للمماثلة بحسب الإمكان وهذا أقرب إلى العدل الذي أمر الله به وأنزل به الكتاب والميزان فإنه قصاصا بمثل ذلك العضو في مثل المحل الذي ضرب فيه بقدره وقد يساويه أو يزيد قليلا أو ينقص قليلا وذلك عفو لا يدخل تحت التكليف كما لا يدخل تحت التكليف المساواة في الكيل والوزن من كل وجه كما قال تعالى {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} فأمر بالعدل المقدور وعفا عن غير المقدور منه وأما التعزير فإنه لا يسمى قصاصا فإن لفظ القصاص يدل على المماثلة ومنه قص الأثر إذا أتبعه وقص الحديث إذا أتى به على وجهه والمقاصة سقوط أحد الدينين بمثله جنسا وصفة وإنما هو تقويم للجناية فهو قيمة لغير المثلى والعدول إليه كالعدول إلى قيمة المتلف وهو ضرب له بغير تلك الآلة في غير ذلك المحل وهو إما زائد وإما ناقص ولا يكون مماثلا ولا قريبا من المثل فالأول أقرب إلى القياس والثاني تقويم للجناية بغير جنسها كبدل المتلف والنزاع أيضا فيه واقع إذا لم يوجد مثله من كل وجه كالحيوان والعقار والآنية والثياب وكثير من المعدودات والمزروعات فأكثر القياسيين من اتباع الأئمة الأربعة قالوا الواجب في بدل ذلك عند الإتلاف القيمة قالوا لأن المثل في الجنس يتعذر ثم طرد أصحاب الرأي قياسهم فقالوا وهذا هو الواجب في الصيد في الحرم والإحرام إنما تجب قيمته لا مثله كما لو كان مملوكا ثم طردوا هذا القياس في القرض فقالوا لا يجوز قرض ذلك لأن موجب القرض رد المثل وهذا لا مثل له ومنه من خرج عن موجب هذا القياس في الصيد لدلالة القرآن والسنة وآثار الصحابة على أنه يضمن بمثله من النعم وهو مثل المقيد بحسب الإمكان وإن لم يكن مثلا من كل وجه وهذا قول الجمهور منهم مالك والشافعي وأحمد وهم يجوزون قرض الحيوان أيضا كما دلت عليه السنة الصحيحة فإنه قد ثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه استسلف بكرا وقضى جملا رباعيا وقال: "إن خياركم أحسنكم قضاء" ثم اختلفوا بعد ذلك في موجب قرض الحيوان هل يجب رد القيمة أو المثل على قولين وهما في مذهب أحمد وغيره والذي دلت عليه سنة رسول الله ﷺ الصحيحة الصريحة أنه يجب رد المثل وهذا هو المنصوص عن أحمد ثم اختلفوا في الغصب والإتلاف على ثلاثة أقوال وهي في مذهب أحمد أحدها يضمن الجميع بالمثل بحسب الإمكان والثاني يضمن الجميع بالقيمة والثالث أن الحيوان يضمن بالمثل وما عداه كالجواهر ونحوها بالقيمة. واختلفوا في الجدار يهدم هل يضمن بقيمته أو يعاد مثله على قولين وهما للشافعي والصحيح ما دلت عليه النصوص وهو مقتضى القياس الصحيح وما عداه فمناقض للنص والقياس لأن الجميع يضمن بالمثل تقريبا وقد نص الله سبحانه على ضمان الصيد بمثله من النعم ومعلوم أن المماثلة بين بعير وبعير أعظم من المماثلة بين النعامة والبعير وبين شاة وشاة أعظم منها بين طير وشاة وقد رد النبي ﷺ بدل البعير الذي أقرضه مثله دون قيمته ورد عوض القصعة التي كسرتها بعض أزواجه قصعتها نظيرها وقال إناء بإناء وطعام بطعام فسوى بينهما في الضمان وهذا عين العدل ومحض القياس وتأويل القرآن. وقد نص الإمام أحمد على هذا في مسائل إسحاق بن منصور قال إسحاق قلت لأحمد قال سفيان ما انكسر شيئا صحيحا فقيمته صحيحا فقال أحمد: "إن كان يوجد مثله فمثله وإن كان لا يوجد مثله فعليه قيمته" ونص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد فقال: سألت أحمد عن الرجل يكسر قصعة الرجل أو عصاه أو يشق ثوبا لرجل قال: "عليه المثل في العصا والقصعة والثوب" فقلت: أرأيت إن كان الشق قليلا فقال: "صاحب الثوب مخير في ذلك قليلا كان أو كثيرا". وقال في رواية إسحاق بن منصور: "من كسر شيئا صحيحا فإن كان يوجد مثله فمثله وإن كان لا يوجد مثله فعليه قيمته فإذا كسر الذهب فإنه يصلحه إن كان خلخالا وإن كان دينارا أعطى دينارا آخر مكانه" قال إسحاق: كما قال وقال في رواية موسى بن سعيد: "وعليه المثل في العصا والقصعة إذا كسر في الثوب ولا أقول في العبد والبهائم والحيوان وصاحب الثوب مخير إن شاء شق الثوب وإن شاء أخذ مثله" واحتج في رواية ابنه عبد الله بحديث أنس فقال حميد عن أنس: "أن رسول الله ﷺ كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فأخذ النبي ﷺ الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى وجعل يجمع فيها الطعام ويقول غارت أمكم كلوا فأكلوا وحبس الرسول حتى جاءت قصعة التي هو في بيتها فدفع القصعة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته" والحديث في صحيح البخاري وعند الترمذي فيه: "فقال النبي ﷺ: طعام بطعام وإناء بإناء" وقال: حديث صحيح وعند أبي داود والنسائي فيه قالت عائشة: "فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت؟ قال: إناء مثل إناء وطعام مثل طعام" وهذا هو مذهبه الصحيح عنه عند ابن أبي موسى قال في إرشاده ومن استهلك لآدمي ما لا يكال ولا يوزن فعليه مثله إن وجد وقيل عليه قيمته وهو اختيار المحققين من أصحابه وقضى عثمان وابن مسعود على من استهلك لرجل فصلانا بفصلان مثلها وبالمثل قضى شريح والعنبري وقال به قتادة وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وهو الحق وليس مع من أوجب القيمة نص ولا إجماع ولا قياس وليس معهم أكثر ولا أكبر من قوله ﷺ: "من أعتق شركا له في عبد فكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد" قالوا أوجب النبي ﷺ في إتلاف نصيب الشريك القيمة لا المثل فقسنا على هذا كل حيوان ثم عديناه إلى كل غير مثلي قالوا ولأن القيمة أضبط وأحصر بخلاف المثل قال الآخرون أما الحديث الصحيح فعلى الرأس والعين وسمعا له وطاعة ولكن فيما دل عليه وإلا فما لم يدل عليه ولا أريد به فلا ينبغي أن يحمل عليه وهذا التضمين الذي يضمنه ليس من باب تضمين المتلفات بل هو من باب تملك مال الغير بقيمته فإن نصيب الشريك يملكه المعتق ثم يعتق عليه فلا بد من تقدير دخوله في ملكه ليعتق عليه ولا خلاف بين القائلين بالسراية في ذلك وأن الولاء له وإن تنازعوا هل يسري عقيب عتقه أو لا يعتق حتى يؤدي القيمة أو يكون موقوفا فإذا أدى تبين أنه عتق من حين العتق وهي في مذهب الشافعي والمشهور في مذهبه ومذهب أحمد القول الأول وفي مذهب مالك القول الثاني وعلى هذا الخلاف يبتنى ما لو أعتق الشريك نصيبه بعد عتق الأول فعلى القول الأول لا يعتق وعلى القول الثاني يعتق عليه ويكون الولاء بينهما ويبتنى على ذلك أيضا إذا قال أحد الشريكين: "إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر" فعلى القول الأول لا يصح هذا التعليق ويعتق نصيبه من مال المعتق وعلى القول الثاني يصح التعليق ويعتق على المعلق والمقصود أن التضمين ههنا كتضمين الشفيع الثمن إذا أخذ بالشفعة فإنه ليس من باب ضمان الإتلاف ولكن من باب التقويم للدخول في الملك لكن الشفيع أدخل الشارع الشقص في ملكه بالثمن باختياره والشريك المعتق أدخل الشقص في ملكه بالقيمة بغير اختياره فكلاهما تمليك هذا بالثمن وهذا بالقيمة فهذا شيء وضمان المتلف شيء قالوا وأيضا فلو سلم أنه ضمان إتلاف لم يدل على أن العبد الكامل إذا أتلف يضمن بالقيمة والفرق بينهما أن الشريكين إذا كان بينهما ما لا يقسم كالعبد والحيوان والجوهرة ونحو ذلك فحق كل واحد منهما في نصف القيمة فإذا اتفقا على المهايأة جاز وإن تنازعا وتشاجرا بيعت العين وقسم بينهما ثمنها على قدر ملكيهما كما يقسم المثلي فحقهما في المثلي في عينه وفي المتقوم عند التشاجر والتنازع في قيمته فلولا أن حقه في القيمة لما أجيب إلى البيع إذا طلبه وإذا ثبت ذلك فإذا أتلف له نصف عبد فلو ضمناه بمثله لفات حقه من نصف القيمة الواجب له شرعا عند طلب البيع والشريك إنما حقه في نصف القيمة وهما لو تقاسماه تقاسماه بالقيمة فإذا أتلف أحدهما نصيب شريكه ضمنه بالقيمة وعكسه المثلي لو تقاسماه تقاسماه بالمثل فإذا أتلف أحدهما نصيب شريكه ضمنه بالمثل فهذا هو القياس والميزان الصحيح طردا وعكسا الموافق للنصوص وآثار الصحابة ومن خالفه فلا بد له من أحد أمرين إما مخالفة السنة الصحيحة وآثار الصحابة إن طرد قياسه وإما التناقض البين إن لم يطرده. فصل حكومة داود وسليمان وعلى هذا الأصل تبتنى الحكومة المذكورة في كتاب الله عز وجل التي حكم فيها النبيان الكريمان داود وسليمان صلى الله عليهما وسلم إذ حكما في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم والحرث هو البستان وقد روي أنه كان بستان عنب وهو المسمى بالكرم والنفش رعي الغنم ليلا فحكم داود بقيمة المتلف فاعتبر الغنم فوجدها بقدر القيمة فدفعها إلى أصحاب الحرث إما لأنه لم يكن لهم دراهم أو تعذر بيعها ورضوا بدفعها ورضي أولئك بأخذها بدلا عن القيمة وأما سليمان فقضى بالضمان على أصحاب الغنم وأن يضمنوا ذلك بالمثل بأن يعمروا البستان حتى يعود كما كان ولم يضيع عليهم مغله من الإتلاف إلى حين العود بل أعطى أصحاب البستان ماشية أولئك ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان فيستوفوا من نماء غنمهم نظير ما فاتهم من نماء حرثهم وقد اعتبر النمائين فوجدهما سواء وهذا هو العلم الذي خصه الله به وأثنى عليه بإدراكه. وقد تنازع علماء المسلمين في مثل هذه القضية على أربعة أقوال أحدها موافقة الحكم السليماني في ضمان النفش وفي المثل وهو الحق وهو أحد القولين في مذهب أحمد ووجه للشافعية والمالكية والمشهور عندهم خلافه والقول الثاني موافقته في ضمان النفش دون التضمين بالمثل وهذا هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد والثالث موافقته في التضمين بالمثل دون النفش كما إذا رعاها صاحبها باختياره دون ما إذا تفلتت ولم يشعر بها وهو قول داود ومن وافقه والقول الرابع أن النفش لا يوجب الضمان بحال وما وجب من ضمان الراعي بغير النفش فإنه يضمن بالقيمة لا بالمثل وهذا مذهب أبي حنيفة. وما حكم به نبي الله سليمان هو الأقرب إلى العدل والقياس وقد حكم رسول الله ﷺ أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضمان على أهلها فصح بحكمه ضمان النفش وصح بالنصوص السابقة والقياس الصحيح وجوب الضمان بالمثل وصح بنص الكتاب الثناء على سليمان بتفهيم هذا الحكم فصح أنه الصواب وبالله التوفيق. ما يفعل بالجاني على النفس ومن ذلك المماثلة في القصاص في الجنايات الثلاث على النفوس والأموال والأعراض فهذه ثلاث مسائل الأولى هل يفعل بالجاني كما يفعل بالمجني عليه فإن كان الفعل محرما لحق الله كاللواط وتجريعه الخمر لم يفعل به كما فعل اتفاقا وإن كان غير ذلك كتحريقه بالنار وإلقائه في الماء ورض رأسه بالحجر ومنعه من الطعام والشراب حتى يموت فمالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه يفعلون به كما فعل ولا فرق بين الجرح المزهق وغيره وأبو حنيفة وأحمد في رواية عنه يقولان لا يقتل إلا بالسيف في العنق خاصة وأحمد في رواية ثالثة يقول إن كان الجرح مزهقا فعل به كما فعل وإلا قتل بالسيف وفي رواية رابعة يقول إن كان مزهقا أو موجبا للقود بنفسه لو انفرد فعل به كما فعل وإن كان غير ذلك قتل بالسيف والكتاب والميزان مع القول الأول وبه جاءت السنة فإن النبي ﷺ رض رأس اليهودي بين حجرين كما فعل بالجارية وليس هذا قتلا لنقضه العهد لأن ناقض العهد إنما يقتل بالسيف في العنق وفي أثر مرفوع من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه وحديث لا قود إلا بالسيف قال الإمام أحمد ليس إسناده مجيد والثابت عن الصحابة أنه يفعل به كما فعل فقد اتفق على ذلك الكاتب والسنة والقياس وآثار الصحابة واسم القصاص يقتضيه لأنه يستلزم المماثلة. ما يفعل بالجاني على المال المسألة الثانية: إتلاف المال فإن كان مما له حرمة كالحيوان والعبيد فليس له أن يتلف ماله كما أتلف ماله وإن لم تكن له حرمة كالثوب يشقه والإناء يكسره فالمشهور أنه ليس له أن يتلف عليه نظير ما أتلفه بل له القيمة أو المثل كما تقدم والقياس يقتضي أن له أن يفعل بنظير ما أتلفه عليه كما فعله الجاني به فيشق ثوبه كما شق ثوبه ويكسر عصاه كما كسر عصاه إذا كانا متساويين وهذا من العدل وليس مع من منعه نص ولا قياس ولا إجماع فإن هذا ليس بحرام لحق الله وليست حرمة المال أعظم من حرمة النفوس والأطراف وإذا مكنه الشارع أن يتلف طرفه بطرفه فتمكينه من إتلاف ماله في مقابلة ماله هو أولى وأحرى وإن حكمة القصاص من التشفي ودرك الغيظ لا تحصل إلا بذلك ولأنه قد يكون له غرض في أذاه وإتلاف ثيابه ويعطيه قيمتها ولا يشق ذلك عليه لكثرة ماله فيشفي نفسه منه بذلك ويبقى المجني عليه بغبنه وغيظه فكيف يقع إعطاؤه القيمة من شفاء غيظه ودرك ثأره وبرد قلبه وإذاقة الجاني من الأذى ما ذاق هو فحكمة هذه الشريعة الكاملة الباهرة وقياسها معا يأبى ذلك وقوله {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقوله {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقوله {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} يقتضي جواز ذلك وقد صرح الفقهاء بجواز إحراق زروع الكفار وقطع أشجارهم إذا كانوا يفعلون ذلك بنا وهذا عين المسألة وقد أقر الله سبحانه الصحابة على قطع نخل اليهود لما فيه من خزيهم وهذا يدل على أنه سبحانه يحب خزي الجاني الظالم ويشرعه وإذا جاز تحريق متاع الغال بكونه تعدي على المسلمين في خيانتهم في شيء من الغنيمة فلإن يحرقوا ماله إذا حرق مال المسلم المعصوم أولى وأحرى وإذا شرعت العقوبة المالية في حق الله الذي مسامحته به أكثر من استيفائه فلأن تشرع في حق العبد الشحيح أولى وأحرى ولأن الله سبحانه شرع القصاص زجرا للنفوس عن العدوان وكان من الممكن أن يوجب الدية استدراكا لظلامة المجني عليه بالمال ولكن ما شرعه أكمل وأصلح للعباد وأشفى لغيظ المجني عليه وأحفظ للنفوس والأطراف وإلا فمن كان في نفسه من الآخر من قتله أو قطع طرفه قتله أو قطع طرفهوأعطى ديته والحكمة والرحمة والمصلحة تأبى ذلك وهذا بعينه موجود في العدوان على المال. فإن قيل: فهذا ينجبر بأن يعطيه نظير ما أتلفه عليه. قيل: إذا رضي المجني عليه بذلك فهو كما لو رضي بدية طرفه فهذا هو محض القياس وبه قال الأحمدان أحمد بن حنبل وأحمد بن تيمية قال في رواية موسى بن سعيد وصاحب الشيء يخير إن شاء شق الثوب وإن شاء أخذ مثله. ما يفعل بالجاني على العرض المسألة الثالثة: الجناية على العرض فإن كان حراما في نفسه كالكذب عليه وقذفه وسب والدين فليس له أن يفعل به كما فعل به اتفاقا وإن سبه في نفسه أو سخر به أو هزء به أو بال عليه أو بصق عليه أو دعى عليه فله أن يفعل به نظير ما فعل به متحريا للعدل وكذلك إذا كسعه أو صفعه فله أن يستوفي منه نظير ما فعل به سواء وهذا أقرب إلى الكتاب والميزان وآثار الصحابة من التعزير المخالف للجناية جنسا ونوعا وقدرا وصفة وقد دلت السنة الصحيحة الصريحة على ذلك فلا عبرة بخلاف من خالفها ففي صحيح البخاري: "أن نساء النبي ﷺ أرسلن زينب بنت جحش إلى رسول الله ﷺ تكلمه في شأن عائشة فأتته فأغلظت وقالت إن نساءك ينشدنك العدل في بنت ابن أبي قحافة فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبتها حتى إن رسول الله ﷺ لينظر إلى عائشة هل تتكلم فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها قالت فنظر النبي ﷺ إلى عائشة وقال إنها بنت أبي بكر" وفي الصحيحين هذه القصة قالت عائشة: "فأرسل أزواج النبي ﷺ زينب بنت جحش زوج النبي ﷺ وهي التي كانت تساميني في المنزلة عند رسول الله ﷺ" فذكرت الحديث وقالت: "ثم وقعت في فاستطالت علي وأنا أرقب رسول الله ﷺ وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها؟ قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله ﷺ لا يكره أن أنتصر فلما وقعت بها لم أنشبها حتى أثخنت عليها" قالت: فقال رسول الله ﷺ وتبسم: "إنها ابنة أبي بكر" وفي لفظ فيهما: "لم أنشبها أن أثخنتها غلبة" وقد حكى الله سبحانه عن يوسف الصديق أنه قال لإخوته{أنتم شر ماكانا والله أعلم بما تصفون} لما قالوا: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم} ذلك للمصلحة التي اقتضت كتمان الحال ومن تأمل الأحاديث رأى ذلك فيها كثيرا جدا وبالله التوفيق. فصل الفصل بين الفريقين يحتاج إلى النظر الدقيق قالوا: وهذا غيض من فيض وقطرة من بحر من تناقض القياسيين الآرائيين وقولهم بالقياس وتركهم لما هو نظيره من كل وجه أولى منه وخروجهم في القياس عن موجب القياس كما أوجب لهم مخالفة السنن والآثار كما تقدم الإشارة إلى بعض ذلك فليوجدنا القياسيون حديثا واحدا صحيحا صريحا غير منسوخ قد خالفناه لرأي أو قياس أو تقليد رجل ولن يجدوا إلى ذلك سبيلا فإن كانت مخالفة القياسي دينا فقد أريناهم مخالفته صريحا ثم نحن أسعد الناس بمخالفته منهم لأنا إنما خالفناه للنصوص وإن كان حقا فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فانظر إلى هذين البحرين اللذين قد تلاطمت أمواجهما والحزبين اللذين قد ارتفع في معترك الحرب عجاجهما فجر كل منها جيشا من الحجج لا تقوم له الجبال وتتضاءل له شجاعة الأبطال وأتى كل واحد منهما من الكتاب والسنة والآثار بما خضعت له الرقاب وذلت له الصعاب وانقاد له علم كل عالم ونفذ حكمه كل حاكم وكان نهاية كل قدم الفاضل النحرير الراسخ في العلم أن يفهم عنهما ما قالاه ويحيط علما بما أصلاه وفصلاه فليعرف الناظر في هذا المقام قدره ولا يتعدى طوره وليعلم أن وراء سويقته بحارا طامية وفوق مرتبته في العلم مراتب فوق السهى عالية فإن وثق من نفسه أنه من فرسان هذا الميدان وجملة هؤلاء الأقران فليجلس مجلس الحكم بين الفريقين ويحكم بما يرضي الله ورسوله بين هذين الحزبين فإن الدين كله لله وإن الحكم إلا لله ولا ينفع في هذا المقام قاعدة المذهب كيت وكيت وقطع به جمهور من الأصحاب وتحصل بنا في المسألة كذا وكذا وجها وصحح هذا القول خمسة عشر وصحح الآخر سبعة وإن علا نسب علمه قال نص عليه فانقطع النزاع ولز ذلك النص في قرن الإجماع والله المستعان وعليه التكلان. فصل المتوسطون بين الفرقين قال المتوسطون بين الفرقين: قد ثبت أن الله سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان فكلاهما في الإنزال أخوان وفي معرفة الأحكام شقيقان وكما لا يتناقضوا الكتاب في نفسه فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه ولا يتناقض الكتاب والميزان فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة ولا دلالة الأقيسة الصحيحة ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة يصدق بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فلا يناقض القياس الصحيح النص الصحيح أبدا ونصوص الشارع نوعان أخبار وأوامر فكما أن أخباره لا تخالف العقل الصحيح بل هي نوعان نوع يوافقه ويشهد على ما يشهد به جملة أو جملة وتفصيلا ونوع يعجز عن الاستقلال بإدراك تفصيله وإن أدركه من حيث الجملة فهكذا أوامره سبحانه نوعان نوع يشهد به القياس والميزان ونوع لا يستقل بالشهادة به ولكن لا يخالفه وكما أن القسم الثالث في الأخبار محال وهو ورودها بما يرده العقل الصحيح فكذلك الأوامر ليس فيها ما يخالف القياس والميزان الصحيح. أوامر الشرع محيطة بأفعال المكلفين وهذه الجملة إنما تنفصل بعد تمهيد قاعدتين عظيمتين: إحداهما أن الذكر الأمري محيط بجميع أفعال المكلفين أمرا ونهيا وإذنا وعفوا كما أن الذكر القدري محيط بجميعها علما وكتابة وقدرا فعلمه وكتابه وقدره قد أحصى جميع أفعال عباده الواقعة تحت التكليف وغيره وأمره ونهيه وإباحته وعفوه قد أحاط بجميع أفعالهم التكليفية فلا يخرج فعل من أفعالهم عن أحد الحكمين إما الكون وإما الشرع الأمري فقد بين الله سبحانه على لسان رسوله بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمر به وجميع ما نهى عنه وجميع ما أحله وجميع ما حرمه وجميع ما عفا عنه وبهذا يكون دينه كاملا كما قال تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} ولكن قد يقصر فهم أكثر الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص وعن وجه الدلالة وموقعها وتفاوت الأمة في مراتب الفهم عن الله ورسوله لا يحصيه إلا الله ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقدام العلماء في العلم ولما خص سبحانه سليمان بفهم الحكومة في الحرث وقد أثنى عليه وعلى داود بالعلم والحكم وقد قال عمر لأبي موسى في كتابه إليه: "الفهم الفهم فيما أدلي إليك" وقال علي: "إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه" وقال أبو سعيد: "كان أبو بكر أعلمنا برسول الله ﷺ" ودعا النبي ﷺ لعبد الله بن عباس أن يفقه في الدين ويعلمه التأويل والفرق بين الفقه والتأويل أن الفقه هو فهم المعنى المراد والتأويل إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى التي هي أخيته وأصله وليس كل من فقه في الدين عرف التأويل فمعرفة التأويل يختص به الراسخون في العلم وليس المراد به تأويل التعريف وتبديل المعنى فإن الراسخين في العلم يعلمون بطلانه والله يعلم بطلانه. فصل هل تحيط النصوص بحكم جميع الحوادث والناس انقسموا في هذا الموضع إلى ثلاث فرق: رأي الفرقة الأولى فرقة قالت: إن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث وغلا بعض هؤلاء حتى قال ولا بعشر معشارها قالوا فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص ولعمر الله إن هذا مقدار النصوص في فهمه وعلمه ومعرفته لا مقدارها في نفس الأمر واحتج هذا القائل بأن النصوص متناهية وحوادث العباد غير متناهية وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع وهذا احتجاج فاسد جدا من وجوه أحدها أن ما لا تتناهى أفراده لا يمتنع أن يجعل أنواعا فيحكم لكل نوع منها بحكم واحد فتدخل الأفراد التي لا تتناهى تحت ذلك النوع الثاني أن أنواع الأفعال بل والأعراض كلها متناهية والثالث أنه لو قدر عدم تناهيها فإن أفعال العباد الموجودة إلى يوم القيامة متناهية وهذا كما تجعل الأقارب نوعين نوعا مباحا وهو بنات العم والعمة وبنات الخال والخالة وما سوى ذلك حرام وكذلك يجعل ما ينقض الوضوء محصورا وما سوى ذلك لا ينقضه وكذلك ما يفسد الصوم وما يوجب الغسل وما يوجب العدة وما يمنع منه المحرم وأمثال ذلك وإذا كان أرباب المذاهب يضبطون مذاهبهم ويحصرونها بجوامع تحيط بما يحل ويحرم عندهم مع قصور بيانهم فالله ورسوله المبعوث بجوامع الكلم أقدر على ذلك فإنه ﷺ يأتي بالكلمة الجامعة وهي قاعدة عامة وقضية كلية تجمع أنواعا وأفرادا وتدل دلالتين دلالة طرد ودلالة عكس. وهذا كما سئل ﷺ عن أنواع من الأشربة كالبتع والمزر وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال: "كل مسكر حرام" و: "كل عمل ليس عليه أمرنا هو رد" و: "كل قرض جر نفعا فهو ربا" و: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" و: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" و: "كل أحد أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين" و: "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" و: "كل معروف صدقة" وسمى النبي ﷺ هذه الآية جامعة فاذة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ومن هذا قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فدخل في الخمر كل مسكر جامدا كان أو مائعا من العنب أو من غيره ودخل في الميسر كل أكل مال بالباطل وكل عمل محرم يوقع في العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة ودخل في قوله {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} كل يمين منعقدة ودخل في قوله {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} كل طيب من المطاعم والمشارب والملابس والفروج ودخل في قوله {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}{َمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ما لا تحصى أفراده من الجنايات وعقوباتها حتى اللطمة والضربة والكسعة كما فهم الصحابة ودخل في قوله {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} تحريم كل فاحشة ظاهرة وباطنة وكل ظلم وعدوان في مال أو نفس أو عرض وكل شرك بالله وإن دق في قول أو عمل أو إرادة بأن يجعل لله عدلا بغيره في اللفظ أو القصد أو الاعتقاد وكل قول على الله لم يأت به نص عنه ولا عن رسوله في تحريم أو تحليل أو إيجاب أو إسقاط أو خبر عنه باسم أو صفة نفيا أو إثباتا أو خبرا عن فعله فالقول عليه بلا علم حرام في أفعاله وصفاته ودينه ودخل في قوله والجروح قصاص وجوبه في كل جرح يمكن القصاص منه وليس هذا تخصيصا بل هو مفهوم من قوله قصاص وهو المماثلة ودخل في قوله وعلى الوارث مثل ذلك وجوب نفقة الطفل وكسوته ونفقة مرضعته على كل وارث قريب أو بعيد ودخل في قوله {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} جميع الحقوق التي للمرأة وعليها وإن مرد ذلك إلى ما يتعارفه الناس بينهم ويجعلونه معروفا لا منكرا والقرآن والسنة كفيلان بهذا أتم كفالة. فصل رأي الفرقة الثانية الفرقة الثانية: قابلت هذه الفرقة وقالت: القياس كله باطل محرم في الدين ليس منه وأنكروا القياس الجلي الظاهر حتى فرقوا بين المتماثلين وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئا لحكمة أصلا ونفوا تعليل خلقه وأمره وجوزوا بل جزموا بأنه يفرق بين المتماثلين ويقرن بين المختلفين في القضاء والشرع وجعلوا كل مقدور فهو عدل والظلم عندهم هو الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين. وهذا وإن كان قاله طائفة من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في إثبات القدر وخالفوا القدرية والنفاة فقد أصابوا في إثبات القدر وتعليق المشيئة الإلهية بأفعال العباد الاختيارية كما تتعلق بذواتهم وصفاتهم وأصابوا في إثبات تناقض القدرية النفاة ولكن ردوا من الحق المعلوم بالعقل والفطرة والشرع ما سلطوا عليهم به خصومهم وصاروا ممن رد بدعة ببدعة وقابل الفاسد بالفاسد ومكنوا خصومهم بما نفوه من الحق من الرد عليهم وبيان تناقضهم ومخالفتهم الشرع والعقل. فصل رأي الفرقة الثالثة الفرقة الثالثة: قوم نفوا الحكمة والتعليل والأسباب وأقروا بالقياس كأبي الحسن الأشعري وأتباعه ومن قال بقوله من الفقهاء أتباع الأئمة وقالوا: إن علل الشرع إنما هي مجرد أمارات وعلامات محضة كما قالوه في ترك الأسباب. وقالوا: إن الدعاء علامة محضة على حصول المطلوب لا أنه سبب فيه والأعمال الصالحة والقبيحة علامات محضة ليست سببا في حصول الخير والشر وكذلك جميع ما وجدوه من الخلق والأمر مقترنا بعضه ببعض قالوا أحدهما دليل على الآخر مقارن له اقترانا عاديا وليس بينهما ارتباط سببية ولا علة ولا حكمة ولا له فيه تأثير بوجه من الوجوه. وليس عند أكثر الناس غير أقوال هؤلاء الفرق الثلاث وطالب الحق إذا رأى ما في هذه الأقوال من الفساد والتناقض والاضطراب ومناقضة بعضها لبعض ومعارضة بعضها لبعض بقي في الحيرة فتارة يتحيز إلى فرقة منها له ما لها وعليه ما عليها وتارة يتردد بين هذا الفرق تميميا مرة وقيسيا أخرى وتارة يلقي الحرب بينهما ويقف في النظارة وسبب ذلك خفاء الطريقة المثلى والمذهب الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الأديان وعليه سلف الأمة وأئمتها والفقهاء المعتبرون من إثبات الحكم والأسباب والغايات المحمودة في خلقه سبحانه وأمره وإثبات لام التعليل وباء السببية في القضاء والشرع كما دلت عليه النصوص مع صريح العقل والفطرة واتفق عليه الكتاب والميزان. ومن تأمل كلام سلف الأمة وأئمة أهل السنة رآه يمكر قول الطائفتين المنحرفتين عن الوسط فينكر قول المعتزلة المكذبين بالقدر وقول الجهمية المنكرين للحكم والأسباب والرحمة فلا يرضون لأنفسهم بقول القدرية المجوسية ولا بقول القدرية الجبرية نفاة الحكمة والرحمة والتعليل وعامة البدع المحدثة في أصول الدين من قول هاتين الطائفتين الجهمية والقدرية والجهمية رؤس الجبرية وأئمتهم أنكروا حكمة الله ورحمته وإن أقروا بلفظ مجرد فارغ عن حقيقة الحكمة والرحمة والقدرية النفاة أنكروا كمال قدرته ومشيئته فأولئك أثبتوا نوعا من الملك بلا حمد وهؤلاء أثبتوا نوعا من الحمد بلا ملك فأنكر أولئك عموم حمده وأنكر هؤلاء عموم ملكه وأثبت له الرسل وأتباعه عموم الملك وعموم الحمد كما أثبته لنفسه فله كمال الملك وكمال الحمد فلا يخرج عين ولا فعل عن قدرته ومشيئته وملكه وله في كل ذلك حكمة وغاية مطلوبة يستحق عليها الحمد وهو في عموم قدرته ومشيئته وملكه على صراط مستقيم وهو حمده الذي يتصرف في ملكه به ولأجله. والمقصود أنهم كما انقسموا إلى ثلاث فرق في هذا الأصل انقسموا في فرعه وهو القياس إلى ثلاث فرق فرقة أنكرته بالكلية وفرقة قالت به وأنكرت الحكم والتعليل والمناسبات والفرقتان أخلت النصوص عن تناولها لجميع أحكام المكلفين وأنها أحالت على القياس ثم قالت غلاتهم أحالت عليه أكثر الأحكام وقال متوسطوهم بل أحالت عليه كثيرا من الأحكام لا سبيل إلى إثباتها إلا به. النصوص محيطة بأحكام جميع الحوادث والصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث وهو أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث ولم يحلنا الله ولا رسوله على رأي ولا قياس بل قد بين الأحكام كلها والنصوص كافية وافية بها والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص فهما دليلان للكتاب والميزان وقد تخفي دلالة النص أو لا تبلغ العالم فيعدل إلى القياس ثم قد يظهر موافقا للنص فيكون قياسا صحيحا وقد يظهر مخالفا له فيكون فاسدا وفي نفس الأمر لا بد من موافقته أو مخالفته ولكن عند المجتهد قد تخفى موافقته أو مخالفته. فصل الرد على الفرق الثلاث وكل فرقة من هذه الفرق الثلاث سدوا على أنفسهم طريقا من طرق الحق فاضطروا إلى توسعة طريق أخرى أكثر مما تحتمله فنفاة القياس لما سدوا على نفوسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحكم والمصالح وهو من الميزان والقسط الذي أنزله الله احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب فحملوهما فوق الحاجة ووسعوهما أكثر مما يسعانه فحيث فهموا من النص حكما أثبتوه ولم يبالوا بما وراءه حيث لم يفهموا منه نفوه وحملوا الاستصحاب وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها والمحافظة عليها وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس وتركهم له وأخذهم بقياس وتركهم ما هو أولى منه. ولكن أخطأوا من أربعة أوجه: أحدها: رد القياس الصحيح ولا سيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ ولا يتوقف عاقل في أن قول النبي ﷺ لما لعن عبد الله حمارا على كثرة شربه للخمر: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" بمنزلة قوله: لا تلعنوا كل ما يحب الله ورسوله وفي أن قوله: "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس" بمنزلة قوله: ينهيانكم عن كل رجس وفي أن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْس} نهى عن كل رجس وفي أن قوله في الهر: "ليس بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات" بمنزلة قوله: كل ما هو من الطوافين عليكم والطوافات فإنه ليس بنجس ولا يستريب أحد في أن من قال لغيره: "لا تأكل من هذا الطعام فإنه مسموم" نهي له عن كل طعام كذلك وإذا قال: "لا تشرب هذا الشراب فإنه مسكر" نهي له عن كل مسكر و"لا تتزوج هذه المرأة فإنها فاجرة" وأمثال ذلك. الخطأ الثاني: تقصيرهم في فهم لنصوص فكم من حكم دل عليه النص ولم يفهموا دلالته عليه وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين فلم يفهموا من قوله {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفّ} ضربا ولا سبا ولا إهانة غير لفظة أف فقصروا في فهم الكتاب كما قصروا في اعتبار الميزان. الخطأ الثالث: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه وجزمهم بموجبه لعدم علمهم بالناقل وليس عدم العلم علما بالعدم. الاستصحاب معناه وأقسامه وقد تنازع الناس في الاستصحاب ونحن نذكر أقسامه ومراتبها فالاستصحاب استفعال من الصحبة وهي استدامة إثبات ما كان ثابتا أو نفي ما كان منفيا وهو ثلاثة أقسام استصحاب البراءة الأصلية واستصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع. استصحاب البراءة الأصلية فأما النوع الأول فقد تنازع الناس فيه فقالت طائفة من الفقهاء والأصوليين إنه يصلح للدفع لا للإبقاء كما قاله بعض الحنفية ومعنى ذلك أنه يصلح لأن يدفع به من ادعى تغيير الحال لا بقاء الأمر على ما كان فإن بقاءه على ما كان إنما هو مستند إلى موجب الحكم لا إلى عدم المغير له فإذا لم نجد دليلا نافيا ولا مثبتا أمسكنا لا نثبت الحكم ولا ننفيه بل ندفع بالاستصحاب دعوى من أثبته فيكون حال المتمسك بالاستصحاب كحال المعترض مع المستدل فهو يمنعه الدلالة حتى يثبتها لا أنه يقيم دليلا على نفي ما ادعاه وهذا غير حال المعارض فالمعارض لون والمعترض لون فالمعترض يمنع دلالة الدليل والمعارض يسلم دلالته ويقيم دليلا على نقيضه وذهب الأكثرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إلى أنه يصلح لإبقاء الأمر على ما كان عليه قالوا لأنه إذا غلب على الظن انتفاء الناقل غلب على الظن بقاء الأمر على ما كان عليه. استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي ثم النوع الثاني استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه وهو حجة كاستصحاب حكم الطهارة وحكم الحدث واستصحاب بقاء النكاح وبقاء الملك وشغل الذمة بما تشغل به حتى يثبت خلاف ذلك وقد دل الشارع على تعليق الحكم به في قوله في الصيد: "وإن وجدته غريقا فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" وقوله: "وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" لما كان الأصل في الذبائح التحريم وشك هل وجد الشرط المبيح أم لا بقي الصيد على أصله في التحريم ولما كان الماء طاهرا فالأصل بقاؤه على طهارته ولم يزلها بالشك ولما كان الأصل بقاء المتطهر على طهارته لم يأمره بالوضوء مع الشك في الحدث بل قال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" ولما كان الأصل بقاء الصلاة في ذمته أمر الشاك أن يبني على اليقين ويطرح الشك ولا يعارض هذا رفعه للنكاح المتيقن بقول الأمة السوداء إنها أرضعت الزوجين فإن أصل الإبضاع على التحريم وإنما أبيحت الزوجة بظاهر الحال مع كونها أجنبية وقد عارض هذا الظاهر ظاهر مثله أو أقوى منه وهو الشهادة فإذا تعارضا تساقطا وبقي أصل التحريم لا معارض له فهذا الذي حكم به النبي ﷺ وهو عين الصواب ومحض القياس وبالله التوفيق. ولم يتنازع الفقهاء في هذا النوع وإنما تنازعوا في بعض أحكامه لتجاذب المسألة أصلين متعارضين مثاله أن مالكا منع الرجل إذا شك هل أحدث أم لا من الصلاة حتى يتوضأ لأنه وإن كان الأصل بقاء الطهارة فإن الأصل بقاء الصلاة في ذمته فإن قلتم لا نخرجه من الطهارة بالشك قال مالك ولا ندخله في الصلاة بشك فيكون قد خرج منها بالشك فإن قلتم يقين الحدث قد ارتفع بالوضوء فلا يعود بالشك قال منازعهم ويقين البراءة الأصلية قد ارتفع بالوجوب فلا يعود بالشك قالوا والحديث الذي تحتجون به من أكبر حججنا فإنه منع المصلي بعد دخوله في الصلاة بالطهارة المتيقنة أن يخرج منها بالشك فأين هذا من تجويز الدخول فيها بالشك ومن ذلك لو شك هل طلق واحدة أو ثلاثا فإن مالكا يلزمه بالثلاث لأنه تيقن طلاقا وشك هل هو مما تزيل أثره الرجعة أم لا وقول الجمهور في هذه المسألة أصح فإن النكاح متيقن فلا يزول بالشك ولم يعارض يقين النكاح إلا شك محض فلا يزول به وليس هذا نظير الدخول في الصلاة بالطهارة التي لا شك في انتقاضها فإن الأصل هناك شغل الذمة وقد وقع الشك في فراغها ولا يقال هنا إن الأصل التحريم بالطلاق وقد شككنا في الحال فإن التحريم قد زال بنكاح متيقن وقد حصل الشك في ما يرفعه فهو نظير ما لو دخل في الصلاة بوضوء متيقن ثم شك في زواله فإن قيل هو متيقن للتحريم بالطلاق شاك في الحل بالرجعة فكان جانب التحريم أقوى قيل ليست الرجعية بمحرمة وله أن يخلو بها ولها أن تتزين له وتتعرض له وله أن يطأها والوطء رجعة عند الجمهور وإنما خالف في ذلك الشافعي وحده وهي زوجته في جميع الأحكام إلا في القسم خاصة ولو سلم أنها محرمة فقولكم إنه متيقن للتحريم إن أردتم به التحريم المطلق فإنه غير متيقن وإن أردتم به مطلق التحريم لم يستلزم أن يكون بثلاث فإن مطلق التحريم أعم من أن يكون بواحدة أو يكون بثلاث ولا يلزم من ثبوت الأعم وثبوت الأخص وهذا في غاية الظهور. فصل استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع القسم الثالث: استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع وقد اختلف فيه الفقهاء والأصوليون هل هو حجة على قولين أحدهما أنه حجة وهو قول المزني والصيرفي وابن شقالة وابن حامد وأبي عبد الله الرازي والثاني ليس بحجة وهو قول أبي حامد وأبي الطيب الطبري والقاضي أبي علي وابن عقيل وأبي خطاب والحلواني وابن الزاغوني وحجة هؤلاء أن الإجماع إنما كان على الصفة التي كانت قبل محل النزاع كالإجماع على صحة الصلاة قبل رؤية الماء في الصلاة فأما بعد الرؤية فلا إجماع فليس هناك ما يستصحب إذ يمتنع دعوى الإجماع في محل النزاع والاستصحاب إنما يكون لأمر ثابت فيستصحب ثبوته أو لأمر منتف فيستصحب نفيه قال الأولون غاية ما ذكرتم أنه لا إجماع في محل النزاع وهذا حق ونحن لم ندع الإجماع في محل النزاع بل استصحبنا حال المجمع عليه حتى يثبت ما يزيله قال الآخرون: الحكم إذا كان إنما ثبت بالإجماع وقد زال الإجماع زال الحكم بزوال دليله فلو ثبت الحكم بعد ذلك لثبت بغير دليل وقال المثبتون: الحكم كان ثابتا وعلمنا بالإجماع ثبوته فالإجماع ليس هوى لة ثبوته ولا سبب ثبوته في نفس الأمر حتى يلزم من زوال العلة زوال معلولها ومن زوال السبب زوال حكمه وإنما الإجماع دليل عليه وهو في نفس الأمر مستند إلى نص أو معنى نص فنحن نعلم أن الحكم المجمع عليه ثابت في نفس الأمر والدليل لا ينعكس فلا يلزم من انتفاء الإجماع إنتقاء الحكم بل يجوز أن يكون باقيا ويجوز أن يكون منتفيا لكن الأصل بقاؤه فإن البقاء لا يفتقر إلى سبب حادث ولكن يفتقر إلى بقاء سبب ثبوته وأما الحكم المخالف فيفتقر إلى ما يزيل الحكم الأول وإلى ما يحدث الثاني وإلى ما ينفيه فكان ما يفتقر إليه الحادث أكثر مما يفتقر إليه الباقي فيكون البقاء أولى من التغير وهذا مثل استصحاب حال براءة الذمة فإنها كانت بريئة قبل وجود ما يظن به أنه شاغل ومع هذا فالأصل البراءة والتحقيق أن هذا دليل من جنس استصحاب البراءة ومن لا يجوز الاستدلال به إلا بعد معرفة المزيل فلا يجوز الاستدلال به لمن لم يعرف الأدلة الناقلة كما لا يجوز الاستدلال بالاستصحاب لمن يعرف الأدلة الناقلة وبالجملة فالاستصحاب لا يجوز الاستدلال به إلا إذا اعتقد انتفاء الناقل فإن قطع المستدل بانتفاء الناقل قطع بانتفاء الحكم كما يقطع ببقاء شريعة محمد ﷺ وأنها غير منسوخة وإن ظن انتفاء الناقل أو ظن إنتقاء دلالته ظن انتفاء أن كان الناقل معنى مؤثرا وتبين له عدم اقتضائه تبين له انتفاء انتفاء النقل مثل رؤية الماء في الصلاة لا تنقض الوضوء وإلا فمع تجويزه لكونه ناقصا للوضوء لا يطمئن ببقاء الوضوء وكذا كل من وقع النزاع في انتقاض وضوئه ووجوب الغسل عليه فإن الأصل بقاء طهارته كالنزاع في بطلان الوضوء بخروج النجاسات من غير السبيلين وبالخارج النادر منهما وبمس النساء بشهوة وغيرها وبأكل ما مسته النار وغسل الميت وغير ذلك لا يمكنه اعتقاد استصحاب الحال فيه حتى يتيقن له بطلان ما يوجب الانتقال وإلا بقى شاكا وإن لم يتبين له صحة الناقل كما لو أخبره فاسق بخبر فإنه مأمور بالتبيت والتثبيت لم يؤمر بتصديقه ولا بتكذيبه فإن كليهما ممكن منه وهو مع خبره لا يستدل باستصحاب الحال كما كان يستدل به بدون خبره ولهذا جعل لوثا وشبهة وإذا شهد مجهول الحال فإنه هناك شاك في حال الشاهد ويلزم منه الشك في حال المشهود به فإذا تبين كونه عدلا تم الدليل وعند شهادة المجهولين تضعف البراءة أعظم مما تضعف عند شهادة الفاسق فإنه في الشاهد قد يكون دليلا ولكن لا تعرف دلالته وأما هناك فقد علمنا أنه ليس بدليل لكن يمكن وجود المدلول عليه في هذه الصورة فإن صدقه ممكن. فصل استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة ومما يدل على أن استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة أن تبدل حال المحل المجمع على حكمه أولا كتبدل زمانه ومكانه وشخصه وتبدل هذه الأمور وتغيرها لا يمنع استصحاب ما ثبت له قبل التبدل فكذلك تبدل وصفه وحاله لا يمنع الاستصحاب حتى يقوم دليل على أن الشارع جعل ذلك الوصف الحادث ناقلا للحكم مثبتا لضده كما جعل الدباغ ناقلا لحكم نجاسة الجلد وتخليل الخمرة ناقلا للحكم بتحريمها وحدوث الاحتلام ناقلا لحكم البراءة الأصلية وحينئذ فلا يبقى التمسك بالاستصحاب صحيحا وأما مجرد النزاع فإنه لا يوجب سقوط استصحاب حكم الإجماع والنزاع في رؤية الماء في الصلاة وحدوث العيب عند المشتري واستيلاد الأمة لا يوجب رفع ما كان ثابتا قبل ذلك من الأحكام فلا يقبل قول المعترض إنه قد زال حكم الاستصحاب بالنزاع الحادث فإن النزاع لا يرفع ما ثبت من الحكم فلا يمكن المعترض رفعه إلا أن يقيم دليلا على أن ذلك الوصف الحادث جعله الشارع دليلا على نقل الحكم حينئذ فيكون معارضا في الدليل لا قادحا في الاستصحاب فتأمله فإنه التحقيق في هذه المسألة. فصل ما لم يبطله الشارع من الشروط صحيح الخطأ الرابع لهم: اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل وجمهور الفقهاء على خلافه وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه وهذا القول هو الصحيح فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ولا حرام إلا ما حرمه الله ولا دينا إلا ما شرعه الله فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم. والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله فإن العبادة حقه على عباده وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين وهو تحريم ما لم يحرمه والتقرب إليه بما لم يشرعه وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله فإن الحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه وما سكت عنه فهو عفو فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه. وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلها فقال تعالى {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وقال {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} وقال تعالى {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} وقال {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} وقال {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} وهذا كثير في القرآن وفي صحيح مسلم من حديث الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر" وفيه من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي ﷺ: "من علامات المنافق ثلاث وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان" وفي الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ: "يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان" وفيهما من حديث عقبة بن عامر عن النبي ﷺ: "إن أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج" وفي سنن أبي داود عن أبي رافع قال: "بعثتني قريش إلى رسول الله ﷺ فلما رأيته ألقى في قلبي الإسلام فقلت: يا رسول الله والله إني لا أرجع إليهم أبدا فقال رسول الله ﷺ: "إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إليهم فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع" قال: فذهبت ثم أتيت النبي ﷺ فأسلمت وفي صحيح مسلم عن حذيفة قال: "ما منعنى أن أشهد بدرا إلا أني خرجت وأبي حسيل فأخذنا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدا فقلنا: ما نريده ما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه فأتينا رسول الله ﷺ فأخبرناه الخبر فقال: "انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم" وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عامر قال: "دعتني أمي يوما ورسول الله ﷺ قاعد في بيتها فقالت تعال أعطك فقال لها رسول الله ﷺ ما أردت أن تعطيه؟" فقالت: أعطيه تمرا فقال لها رسول الله ﷺ: "أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة" وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: قال الله عز وجل: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" وأمر النبي ﷺ عمر بن الخطاب أن يوفي بالنذر الذي نذره في الجاهلية من اعتكافه ليلة عند المسجد الحرام وهذا عقد كان قبل الشرع وقال ابن وهب ثنا هشام بن سعد عن يزيد بن أسلم أن رسول الله ﷺ قال: "وأي المؤمن واجب" قال ابن وهب: وأخبرني إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق أن رسول الله ﷺ كان يقول: "ولا تعد أخاك عدة وتخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة" قال ابن وهب: وأخبرني الليث بن سعد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: "من قال لصبي تعال هذا لك ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة" وفي السنن من حديث كثير بن عبد الله بن زيد بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده يرفعه: "المؤمنون عند شروطهم" وله شاهد من حديث محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر يرفعه: "الناس على شروطهم ما وافق الحق" وليست العمدة على هذين الحديثين بل على ما تقدم. فصل أجوبة المانعين وأصحاب القول الآخر يجيبون عن هذه الحجج: تارة بنسخها وتارة بتخصيصها ببعض العهود والشروط وتارة بالقدح في سند ما يمكنهم القدح فيه وتارة بمعارضتها بنصوص أخر كقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كاتب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق" وكقوله: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وكقوله تعالى {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وناظائر هذه الآية. قالوا: فصح بهذه النصوص إبطال كل عهد وعقد ووعد وشرط ليس في كتاب الله الأمر به أو النص على إباحته قالوا: وكل شرط أو عقد ليس في النصوص إيجابه ولا الإذن فيه فإنه لا يخلو من أحد وجوه أربعة: إما أن يكون صاحبه قد التزم فيه إباحة ما حرم الله ورسوله أو تحريم ما أباحه أو إسقاط ما أوجبه أو إيجاب ما أسقطه ولا خامس لهذه الأقسام البتة فإن ملكتم المشترط والمعاقد والمعاهد جميع ذلك انسلختم من الدين وإن ملكتموه البعض دون البعض تناقضتم وسألناكم ما الفرق بين ما يملكه من ذلك وما لا يملك ولن تجدوا إليه سبيلا. فصل الجمهور يرد على أجوبة المانعين قال الجمهور: أما دعواكم النسخ فإنها دعوى باطلة تتضمن أن هذه النصوص ليست من دين الله ولا يحل العمل بها وتجب مخالفتها وليس معكم برهان قاطع بذلك فلا تسمع دعواه وأين التجاؤكم إلى الاستصحاب والتسبب به ما أمكنكم؟ وأما تخصيصها فلا وجه له وهو يتضمن إبطال ما دلت عليه من العموم وذلك غير جائز إلا ببرهان من الله ورسوله. وأما ضعف بعضها من جهة السند فلا يقدح في سائرها ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف وإن لم يكن عمدة. وأما معارضتها بما ذكرتم فليس بحمد الله بينها وبينه تعارض وهذا إنما يعرف بعد معرفة المراد بكتاب الله في قوله: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله" ومعلوم أنه ليس المراد به القرآن قطعا فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن بل علمت من السنة فعلم أن المراد بكتاب الله حكمه كقوله: "كتاب الله عليكم" وقول النبي ﷺ: "كتاب الله القصاص في كسر السن" فكتابه سبحانه يطلق على كلامه وحكمه الذي حكم به على لسان رسوله ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له فيكون باطلا فإذا كان الله ورسوله ﷺ قد حكم بأن الولاء للمعتق فشرط خلاف ذلك يكون شرطا مخالفا لحكم الله ولكن أين في هذا أن ما سكت عن تحريمه من العقود والشروط يكون باطلا حراما وتعدي حدود الله هو تحريم ما أحله الله أو إباحة ما حرمه أو إسقاط ما أوجبه لا إباحة ما سكت عنه وعفا عنه بل تحريمه هو نفس تعدي حدوده. وأما ما ذكرتم من تضمن الشرط لأحد تلك الأمور الأربعة ففاتكم قسم خامس وهو الحق وهو ما أباح الله سبحانه للمكلف تنويع أحكامه بالأسباب التي ملكه إياه فيباشر من الأسباب ما يحله له بعد أن كان حرما عليه أو يحرمه عليه بعد أن كان حلالا له أو يوجبه بعد أن لم يكن واجبا أو يسقطه بعد وجوبه وليس في ذلك تغيير لأحكامه بل كل ذلك من أحكامه فهو الذي أحل وحرم وأوجب وأسقط وإنما إلى العبد الأسباب المقتضية لتلك الأحكام ليس إلا فكما أن شراء الأمة ونكاح المرأة يحل له ما كان حراما عليه قبله وطلاقها وبيعها بالعكس يحرمها عليه ويسقط عنه ما كان واجبا عليه من حقوقها كذلك التزامه بالعقد والعهد والنذر والشرط فإذا ملك تغيير الحكم بالعقد ملكه بالشرط الذي هو تابع له وقد قال تعالى{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فأباح التجارة التي ترضى بها المتبايعان فإذا تراضيا على شرط لا يخالف حكم الله جاز لهما ذلك ولا يجوز إلغاؤه وإلزامهما بما لم يلتزما ولا ألزمهما الله ولا رسوله به ولا يجوز إلزمها بما لم يلزمها الله ورسوله به ولاهما التزامها ولا إبطال ما شرطاه مما لم يحرم الله ورسوله عليهما شرطه ومحرم الحلال كمحلل الحرام فهؤلاء ألغوا من شروط المتعاقدين ما لم يلغه الله ورسوله وقابلهم آخرون من القياسيين فاعتبروا من شروط الواقفين ما ألغاه الله ورسوله وكلا القولين خطأ بل الصواب إلغاء كل شرط خالف حكم الله واعتبار كل شرط لم يحرمه الله ولم يمنع منه وبالله التوفيق. أخطاء أصحاب القياس وأما أصحاب الرأي والقياس فإنهم لما لم يعتنوا بالنصوص ولم يعتقدوها وافية بالأحكام ولا شاملة لها وغلاتهم على أنها لم تف بعشر معشارها فوسعوا طرق الرأي والقياس وقالوا بقياس الشبه وعلقوا الأحكام بأوصاف لا يعلم أن الشارع علقها بها واستنبطوا عللا لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها ثم اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس ثم اضطربوا فتارة يقدمون القياس وتارة يقدمون النص وتارة يفرقون بين النص المشهور وغير المشهور واضطرهم ذلك أيضا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شرعت على خلاف القياس فكان خطؤهم من خمسة أوجه أحدهما ظنهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث الثاني معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس الثالث اعتقادهم في كثير من الأحكام الشريعة أنها على خلاف الميزان والقياس والميزان هو العدل فظنوا أن العدل خلاف ما جاءت به من هذه الأحكام الرابع اعتبارها عللا وأوصافا لم يعلم اعتبار الشارع لها وإلغاؤهم عللا وأوصافا اعتبرها الشارع كما تقدم بيانه الخامس تناقضهم في نفس القياس كما تقدم أيضا. ونحن نعقد ههنا ثلاثة فصول: الفصل الأول: في بيان شمول النصوص للأحكام والاكتفاء بها عن الرأي والقياس. الفصل الثاني: في سقوط الرأي والاجتهاد والقياس وبطلانها مع وجود النص. الفصل الثالث: في بيان أن أحكام الشرع كلها على وفق القياس الصحيح وليس فيما جاء به الرسول ﷺ حكم يخالف الميزان والقياس الصحيح. وهذه الفصول الثلاثة من أهم فصول الكتاب وبها يتبين للعالم المنصف مقدار الشريعة وجلالتها وهيمنتها وسعتها وفضلها وشرفها على جميع الشرائع وأن رسول الله ﷺ كما هو عام الرسالة إلى كل مكلف فرسالته عامة في كل شيء من الدين أصوله وفروعه ودقيقه وجليله فكما لا يخرج أحد عن رسالته فكذلك لا يخرج حكم تحتاج إليه الأمة عنها وعن بيانه له ونحن نعلم أنا لا نوفي هذه حقها ولا نقارب وأنها أجل من علومنا وفوق إدراكنا ولكن ننبه أدنى تنبيه ونشير أدنى إشارة إلى ما يفتح أبوابها وينهج طرقها والله المستعان وعليه التكلان. الفصل الأول: شمول النصوص وإغناؤها عن القياس وهذا يتوقف على بيان مقدمة وهي أن دلالة النصوص نوعان حقيقة وإضافية فالحقيقة تابعة لقصد المتكلم وإرادته وهذه الدلالة لا تختلف والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه وجودة فكره وقريحته وصفاء ذهنه ومعرفته بالألفاظ ومراتبها وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباين السامعين في ذلك وقد كان أبو هريرة وعبد الله بن عمر أحفظ الصحابة للحديث وأكثرهم رواية له وكان الصديق وعمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أفقه منهما بل عبد الله بن عباس أيضا أفقه منهما ومن عبد الله بن عمر وقد أنكر النبي ﷺ على عمر فهمه إتيان البيت الحرام عام الحديبية من إطلاق قوله إنك ستأتيه وتطوف به فإنه لا دلالة في هذا اللفظ في تعيين العام الذي يأتونه فيه وأنكر على عدي بن حاتم فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفس العقالين وأنكر علي من فهم من قوله: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردلة من كبر" شمول لفظه لحسن الثوب وحسن النعل وأخبرهم أنه" بطر الحق وغمط الناس" وأنكر على من فهم من قوله "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" أنه كراهة الموت وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احتضر وبشر بالعذاب فإنه حينئذ يكره لقاء الله والله يكره لقاءه وأن المؤمن إذا احتضر وبشر بكرامة الله أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وأنكر على عائشة إذا فهمت من قوله تعالى {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} معارضته لقوله ﷺ: "من نوقش الحساب عذب" وبين لها أن الحساب اليسير هو العرض أي حساب العرض لا حساب المناقشة وأنكر على من فهم من قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة وأنه لا يسلم أحد من عمل السوء وبين إن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهم والحزن والمرض والنصب وغير ذلك من مصائبها وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة وأنكر على من فهم من قوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أنه ظلم النفس بالمعاصي وبين أنه الشرك وذكر قول لقمان لابنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} مع أن سياق اللفظ عند إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك فإن الله سبحانه لم يقل ولم يظلموا أنفسهم بل قال: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ولبس الشيء بالشيء تغطيته به وإحاطته به من جميع جهاته ولا يغطي الإيمان ويحيط به ويلبسه إلا الكفر ومن هذا قوله تعالى {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فإن الخطيئة لا تحيط بالمؤمن أبدا فإن إيمانه يمنعه من إحاطة الخطيئة به ومع أن سياق قوله {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ثم حكم الله أعدل حكم وأصدقه أن من آمن ولم يلبس إيمانه بظلم فهو أحق بالأمن والهدى فدل على أن الظلم الشرك وسأله عمر ابن الخطاب عن الكلالة وراجعه فيها مرارا فقال تكفيك آية الصيف واعترف عمر بأنه خفي عليه فهمها وفهمها الصديق وقد نهى النبي ﷺ عن لحوم الحمر الأهلية ففهم بعض الصحابة من نهيه أنه لكونها لم تخمس وفهم بعضهم أن النهي لكونها كانت حمولة القوم وظهرهم وفهم بعضهم أنه لكونها كانت جوال القرية وفهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة وكبار الصحابة ما قصده رسول الله ﷺ بالنهي وصرح بعلته من كونها رجسا وفهمت المرأة من قوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا جواز المغالاة في الصداق فذكرته لعمر فاعترف به وفهم ابن عباس من قوله تعالى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} مع قوله {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} أن المرأة قد تلد لستة أشهر ولم يفهمه عثمان فهم برجم امرأة ولدت لها حتى ذكره به ابن عباس فأقر به ولم يفهمه عمر من قوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها قتال مانعي الزكاة حتى بين له الصديق فأقر به وفهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} رفع الجناح عن الخمر حتى بين له عمر أنه لا يتناول الخمر، ولو تأمل سياق الآية لفهم المراد منها فإنه إنما رفع الجناح عنهم فيما طعموه متقين له فيه وذلك إنما يكون باجتناب ما حرمه الله من المطاعم فالآية لا تتناول المحرم بوجه ما وقد فهم من قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} انغماس الرجل في العدو حتى بين له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التهلكة بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضات الله وأن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها وقال الصديق رضي الله عنه: "أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها {يا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بالعقاب من عنده" فأخبرهم أنهم يضعونها على غير مواضعها في فهمهم منها خلاف ما أريد بها وأشكل على ابن عباس أمر الفرقة الساكتة التي لم ترتكب ما نهيت عنه من اليهود هل عذبوا أو نجوا حتى بين له مولاه عكرمة دخولهم في الناجين دون المعذبين وهذا هو الحق لأنه سبحانه قال عن الساكتين {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} فأخبر أنهم أنكروا فعلهم وغضبوا عليهم وإن لم يواجهوهم بالنهي فقد واجههم به من أدى الواجب عنهم فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية فلما قام به أولئك سقط عن الباقين فلم يكونوا ظالمين بسكوتهم وأيضا فإن الله سبحانه إنما عذب الذين نسوا ما ذكروا به وعتوا عما نهوا عنه وهذا لا يتناول الساكتين قطعا فلما بين عكرمة لأن عباس أنهم لم يدخلوا في الظالمين المعذبين كساه بردة وفرح به وقد قال عمر بن الخطاب للصحابة ما تقولون في {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} السورة قالوا أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره فقال لابن عباس ما تقول أنت قال هو أجل رسول الله ﷺ أعلمه إياه فقال ما أعلم منها غير ما تعلم وهذا من أدق الفهم وألطفه ولا يدركه كل أحد فإنه سبحانه لم يعلق الاستغفار بعمله بل علقه بما يحدثه هو سبحانه من نعمة فتحه على رسوله ودخول الناس في دينه وهذا ليس بسبب للاستغفار فعلم أن سبب الاستغفار غيره وهو حضور الأجل الذي من تمام نعمة الله على عبده توفيقه للتوبة النصوح والاستغفار بين يديه ليلقى ربه طاهرا مطهرا من كل ذنب فيقدم عليه مسرورا راضيا مرضيا عنه ويدل عليه أيضا قوله فسبح بحمد ربك واستغفره وهو ﷺ كان يسبح بحمده دائما فعلم أن المأمور به من ذلك التسبيح بعد الفتح ودخول الناس في هذا الدين أمر أكبر من ذلك المتقدم وذلك مقدمة بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى وأنه قد بقيت عليه من عبودية التسبيح والاستغفار التي ترقيه إلى ذلك المقام بقية فأمره بتوفيتها ويدل عليه أيضا أنه سبحانه شرع التوبة والاستغفار في خواتم الأعمال فشرعها في خاتمة الحج وقيام الليل وكان النبي ﷺ إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا وشرع للمتوضيء بعد كمال وضوئه أن يقول اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فعلم أن التوبة مشروعة عقيب الأعمال الصالحة فأمر رسوله بالاستغفار عقيب توفيته ما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله حين دخل الناس في دينه أفواجا فكأن التبليغ عبادة قد أكملها وأداها فشرع له الاستغفار عقيبها. والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص وأن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به وهذا كما فهم ابن عباس من قوله {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} مع قوله {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} أن المرأة قد تلد لستة أشعر وكما فهم الصديق من آية الفرائض في أول السورة وآخرها أن الكلالة من لا ولد دله ولا والد وأسقط الإخوة بالجد وقد أرشد النبي ﷺ عمر إلى هذا الفهم حيث سأله عن الكلالة وراجعه السؤال فيها مرارا فقال: "يكفيك آية الصيف" وإنما أشكل على عمر قوله {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} الآية فدله النبي ﷺ على ما يبين له المراد منها وهي الآية الأولى التي نزلت في الصيف فإنه ورث فيها ولد الأم في الكلالة السدس ولا ريب أن الكلالة فيها من لا ولد له ولا والد وإن علا. ونحن نذكر عدة مسائل مما اختلف فيها السلف ومن بعدهم وقد بينتها النصوص ومسائل قد احتج فيها بالقياس وقد بينها النص وأغنى فيها عن القياس. المسألة المشتركة في الفرائض المسألة الأولى: المشتركة في الفرائض وقد دل القرآن على اختصاص ولد الأم فيها بالثلث بقوله تعالى {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} وهؤلاء ولد الأم فلو أدخلنا معهم ولد الأبوين لم يكونوا شركاء في الثلث بل يزاحمهم فيه غيرهم فإن قيل بل ولد الأبوين منهم إلغاء لقرابة الأب قيل هذا وهم لأن الله سبحانه قال في أول الآية {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} ثم قال {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} فذكر حكم واحدهم وجماعتهم حكما يختص به الجماعة منهم كما يختص به واحدهم وقال في ولد الأبوين {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فذكر حكم ولد الأب والأبوين واحدهم وجماعتهم وهو حكم يختص به جماعتهم كما يختص به واحدهم فلا يشاركهم فيه غيرهم فكذا حكم ولد الأم وهذا يدل على أن أحد الصنفين غير الآخرين فلا يشارك أحد الصنفين الآخر وهذا الصنف الثاني هو ولد الأبوين أو الأب بالإجماع والأول هو ولد الأم بالإجماع كما فسرته قراءة بعض الصحابة "من أم" وهي تفسير وزيادة إيضاح وإلا فذلك معلوم من السياق ولهذا ذكر سبحانه ولد الأم في آية الزوجين وهم أصحاب فرض مقدر لا يخرجون عنه ولا حظ لأحد منهم في التعصيب ولم يذكر فيها أحد من العصبة بخلاف ما ذكر في آية العمودين الآية التي قبلها فإن لجنسهم حظا في التعصيب ولهذا قال في آية الإخوة من الأم والزوجين {غَيْرَ مُضَارّ} ولم يقل ذلك في آية العمودين فإن الإنسان كثيرا ما يقصد ضرار الزوج وولد الأم لأنهم ليسوا من عصبته بخلاف أولاده وآبائه فإنه لا يضارهم في العادة فإذا كان النص قد أعطى ولد الأم الثلث لم يجز تنقيصهم منه وأما ولد الأبوين فهم جنس أخر وهم عصبته وقد قال النبي ﷺ: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" وفي هذه المسألة لم تبق الفرائض شيئا فلا شيء للعصبة بالنص وأما قول القائس: "هب أن أبانا كان حمارا" فقول باطل حسا وشرعا فإن الأب لو كان حمارا لكانت الأم أتانا وإذا قيل يقدر وجوده كعدمه قيل هذا باطل فإن الموجود لا يكون كالمعدوم وأما بطلانه شرعا فإن الله سبحانه حكم في ولد الأبوين بخلاف حكمه في ولد الأم. فإن قيل: الأب أن لم ينفعهم لم يضرهم. قيل: بل قد يضرهم كما ينفعهم فإن ولد الأم لو كان واحدا وولد الأبوين مائة وفضل نصف سدس انفرد ولد الأم بالسدس واشترك ولد الأبوين في نصف السدس فهلا قبلتم قولهم ههنا هب أن أبانا كان حمارا وهلا قدرتم الأب معدوما فخرجتم عن القياس كما خرجتم عن النص وإذا جاز أن ينقصهم الأب جاز أن يحرمهم وأيضا فالقرابة المتصلة الملتئمة من الذكر والأنثى لا تفرق أحكامها هذه قاعدة النسب في الفرائض وغيرها فالأخ من الأبوين لا نجعله كأخ من أب وأخ من أم فنعطيه السدس فرضا بقرابة الأم والباقي تعصيبا بقرابة الأب. فإن قيل: فقد فرقتم بين القرابتين فقلتم في ابني عم أحدهما أخ لأم يعطي الأخ للأم بقرابة الأم السدس ويقاسم ابن العم بقرابة العمومة. قيل: نعم هذا قول الجمهور وهو الصواب وإن كان شريح ومن قال بقوله أعطى الجميع لابن العم الذي هو أخ لأم كما لو كان ابن عم الأبوين والفرق بينهما على قول الجمهور أن كليهما في بنوة العم سواء وأما الأخوة للأم فمستقلة ليست مقترنة بأبوة حتى يجعل كابن العم للأبوين فها هنا قرابة الأم منفردة عن قرابة العمومة بخلاف قرابة الأم في مسألتنا فإنها متحدة بقرابة الأب. ومما يبين أن عدم التشريك هو الصحيح أنه لو كان فيها أخوات لأب لفرض لهن الثلثان وعالت الفريضة فلو كان معهن أخوهن سقطن به ويسمى الأخ المشئوم فلما كان بوجوده يصرن عصبة صار تارة ينفعهن وتارة يضرهن ولم يجعل وجوده كعدمه في حال الضرار فكذلك قرابة الأب لما صار الإخوة بها عصبة صار ينفعهم تارة ويضرهم أخرى وهذا شأن العصبة فإن العصبة تارة تحوز المال وتاره تحوزه أكثره وتارة تحوز أقله وتارة تخيب فمن أعطى العصبة مع استغراق الفروض المال خرج عن قياس الأصول وعن موجب النص. فإن قيل: فهذا استحسان. قيل: لكنه استحسان يخالف الكتاب والميزان فإنه ظلم للأخوة من الأم حيث يأخذ حقهم ويعطاه غيرهم وإن كانوا يعقلون عن الميت وينفقون عليه لم يلزم من ذلك أن يشاركوا من لا يعقل ولا ينفق في ميراثه فعقالت المرأة من أعمامها وبنى عمها وأخواتها يعقلون عنها وميراثها لزوجها وولدها كما قضى بذلك رسول الله ﷺ فلا يمتنع أن يعقل ولد الأبوين ويكون الميراث لولد الأم. اختلاف الصحابة في العمريتين المسألة الثانية: العمريتان والقرآن يدل على قول جمهور الصحابة فيها كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت إن للأم ثلث ما يبقى بعد فرض الزوجين وها هنا طريقان: أحدهما: بيان عدم دلالته على إعطائها الثلث كاملا مع الزوجين وهذا أظهر الطريقين والثاني: دلالته على إعطائها ثلث الباقي وهو أدق وأخفى من الأول أما الأول: فإن الله سبحانه إنما أعطها الثلث كاملا إذا انفرد الأبوان بالميراث فإن قوله سبحانه {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} شرط أن في استحقاق الثلث عدم الولد وتفردهما بميراثه فإن قيل ليس في قوله {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ما يدل على أنهما تفردا بميراثه قيل لو لم يكن تفردهما شرطا لم يكن في قوله {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} فائدة وكانت تطويلا يغنى عنه قوله {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فلما قال {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} علم أن استحقاق الأم الثلث موقوف على الأمرين وهو سبحانه ذكر أحوال الأم كلها نصا وإيماء فذكر أن لها السدس مع الإخوة وأن لها الثلث كاملا مع عدم الولد وتفرد الأبوين بالميراث بقي لها حالة ثالثة وهي مع عدم الولد وعدم تفرد الأبوين بالميراث وذلك لا يكون إلا مع الزوج أو الزوجة فإما أن تعطى في هذه الحال الثلث كاملا وهو خلاف مفهوم القرآن وإما أن تعطى السدس فإن الله سبحانه لم يجعله فرضها إلا في موضعين مع الولد ومع الإخوة وإذا امتنع هذا وهذا كان الباقي بعد فرض الزوجين هو المال الذي يستحقه الأبوين ولا يشاركهما فيه مشارك فهو بمنزلة المال كله إذا لم يكن زوج ولا زوجة فإذا تقاسماه أثلاثا كان الواجب أن يتقاسما الباقي بعد فرض الزوجين كذلك. فإن قيل: فمن أين تأخذون حكمها إذا ورثته الأم ومن دون الأب كالجد والعم والأخ وابنه. قيل: إذا كانت تأخذ الثلث مع الأب فأخذها له مع من دونه من العصبات أولى وهذا من باب التنبية. فإن قيل: فمن أين أعطيتموها الثلث كاملا إذا كان معها ومع هذه العصبة الذي هو دون الأب زوج أو زوجة والله سبحانه إنما جعل لها الثلث كاملا إذا انفرد الأبوين بميراثه على ما قررتموه فإذا كان جد وأم أو عم وأم أو أخ وأم أو ابن عم أو ابن أخ مع أحد الزوجين فمن أين أعطيت الثلث كاملا ولم ينفرد الأبوين بالميراث؟ قيل: بالتنبيه ودلالة الأولى فإنها إذا أخذت الثلث كاملا مع الأب فلأن تأخذه مع ابن العم أولى وأما إذا كان أحد الزوجين مع هذه العصبة فإنه ليس له إلا ما بقى بعد الفروض ولو استوعبت الفروض المال سقط كأم وزوج وأخ لأم بخلاف الأب. فإن قيل: فمن أين تأخذون حكمها إذا كان مع العصبة ذو فرض غير البنات والزوجة. قيل: لا يكون ذلك إلا مع ولد الأم أو الأخوات للأبوين أو للأب واحدة أو أكثر والله تعالى قد أعطاها السدس مع الإخوة فدل على أنها تأخذ الثلث مع الواحد إذ ليس بإخوة. بقي الأختان والأخوان فهذا مما تنازع فيه الصحابة فجمهورهم أدخلوا الاثنين في لفظ الإخوة وأبى ذلك ابن عباس ونظره أقرب إلى ظاهر اللفظ ونظر الصحابة أقرب إلى المعنى وأولى به فإن الإخوة إنما حجبوها إلى السدس لزيادة ميراثهم على ميراث الواحد ولهذا لو كانت واحدة أو أخا واحدا لكان لها الثلث معه فإذا كان الإخوة ولد أم كان فرضهم الثلث اثنين كانا أو مائة فالاثنان والجماعة في ذلك سواء وكذلك لو كن أخوات لأب أو لأب وأم ففرض الثنتين وما زاد واحد فحجبها على الثلث إلى السدس باثنين كحجبها بثلاثة سواء لا فرق بينهما البتة. وهذا الفهم في غاية اللطف وهو من أدق فهم القرآن ثم طرد ذلك في الذكور من ولد الأب والأبوين لمعنى يقتضيه وهو توفير السدس الذي حجبت عنه لهم لزيادتهم على الواحد نظرا لهم ورعاية لجانبهم وأيضا فإن قاعدة الفرائض أن كل حكم اختص به الجماعة عن الواحد اشترك فيه الاثنان وما فوقها كولد الأم والبنات وبنات الابن والأخوات للأبوين أو للأب والحجب ها هنا قد اختص به الجماعة فيستوي فيه الاثنان وما زاد عليهما وهذا هو القياس الصحيح والميزان الموافق لدلالة الكتاب وفهم أكابر الصحابة وأيضا فإن الأمة مجمعة على قوله تعالى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} يدخل في حكمه الثنتان وإن اختلفوا في كيفية دخولها في الحكم كما سيأتى فهكذا دخول الأخوين في الإخوة وأيضا فإن لفظ الأخوة كالفظ الذكور والإناث والبنات والبنين وهذا كله قد يطلق ويراد به الجنس الذي جاوز الواحد وإن لم يزد على اثنين فكل حكم علق بالجمع من ذلك دخل فيه الاثنان كالإقرار والوصية والوقف وغير ذلك فلفظ الجمع قد يراد به الجنس المتكثر أعم من تكثيره بواحد أو اثنين كما أن لفظ المثنى قد يراد به المتعدد أعم من أن يكون تعدده بواحد أو أكثر نحو {ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} ودلالتهما حينئذ على الجنس المتكثر وأيضا فاستعمال الاثنين في الجمع بقرينه واستعمال الجمع في الاثنين بقرينه جائز بل واقع وأيضا فإنه سبحانه قال {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وهذا يتناول الأخ الواحد والأخت الواحدة كما يتناول من فوقهما ولفظ الإخوة وسائر ألفاظ الجمع قد يعنى به الجنس من غير قصد التعدد كقوله تعالى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} وقد يعنى به العدد من غير قصد لعدد معين بل لجنس التعدد وقد يعنى به لعدد مع قصد معدود معين فالأول يتناول الواحد وما زاد والثاني يتناول لاثنين وما زاد الثالث يتناول الثلاثه ف فما زاد عند إطلاقه وإذا قيد اختص اقيد به. ومما يدل على أن قوله تعالى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} أن المراد به الاثنان فصاعدا أنه سبحانه قال {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} فقوله {كَانُوا} ضمير جمع ثم قال {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} فذكرهم بصيغة الجمع المضمر وهو قوله {فَهُمْ} والمظهر وهو قوله {شُرَكَاءُ} ولم يذكر قبل ذلك إلا قوله {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} فذكر حكم الواحد وحكم اجتماعه مع غيره وهو يتناول الاثنين قطعا فإن قوله {أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ} أي أكثر من أخ أو أخت ولم يرد أكثر من مجموع الأخت والأخ بل أكثر من الواحد فدل على أن صيغة الجمع في الفرائض تتناول العدد الزائد على الواحد مطلقا ثلاثة كان أو أثر منه وهذا نظير قوله {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} ومما يوضح ذلك أن لفظ الجمع قد يختص بالاثنين مع البيان وعدم اللبس كالجمع المضاف إلى اثنين مما يكون المضاف فيه جزءا من المضاف إليه أو كجزئه نحو قلوبهما وأيديهما فكذلك يتناول الاثنين فما فوقهما مع البيان بطريق الأولى وله ثلاثة أحوال أحدها اختصاصه بالاثنين الثانية صلاحيته لهما الثالثة اختصاصه بما زاد عليهما وهذه الحال له عند إطلاقه وأما عند تقييده فبحسب ما قيد به وهو حقيقة في الموضعين فإن اللفظ تختلف دلالته بالإطلاق والتقييد وهو حقيقة في الاستعمالين فظهر أن فهم جمهور الصحابة أحسن من فهم ابن عباس في حجب الأم بالاثنين كما أن فهمهم في العمريتين أتم من فهمه وقواعد الفرائض تشهد لقولهم فإنه إذا اجتمع ذكر وأنثى في طبقة واحدة كالابن والبنت والجد والجدة والأب والأم والأخ والأخت فإما أن يأخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى أو يساويها فأما أن تأخذ الأنثى ضعف الذكر فهذا خلاف قاعدة الفرائض التي أوجبها شرع الله وحكمته وقد عهدنا الله سبحانه أعطى الأب ضعف ما أعطى الأم إذا انفرد الأبوان بميراث الولد وساوى بينهما في وجود الولد ولم يفضلها عليه في موضع واحد فكان جعل الباقي بينهما بعد نصيب أحد الزوجين أثلاثا هو الذي يقتضيه الكتاب والميزان فإن ما يأخذه الزوج أو الزوجة من المال كأنه مأخوذ بدين أو وصية إذ لا قرابة بينهما وما يأخذه الأبوان يأخذانه بالقرابة فصارا هما المستقلين بميراث الولد بعد فرض الزوجين وهما في طبقة واحدة فقسم الباقي بينهما أثلاثا. فإن قيل: فههنا سؤالان: أحدهما: أنكم هلا أعطيتموها ثلث جميع المال في مسألة زوجة وأبوين فإن الزوجة إذا أخذت الربع وأخذت هي الثلث كان الباقي للأب وهو أكثر من الذي أخذته فوفيتم حينئذ بالقاعدة وأعطيتموها الثلث كاملا والثاني أنكم هلا جعلتم لها ثلث الباقي إذا كان بدل اللأب في المسألتين جد؟ قيل: قد ذهب إلى كل واحد من هذين المذهبين ذاهبون من السلف الطيب فذهب إلى الأول محمد بن سيرين ومن وافقه إلى الثاني عبد الله بن مسعود ولكن أبى ذلك جمهور الصحابة والأئمة بعدهم وقولهم أصح في الميزان وأقرب إلى دلالة الكتاب فإنا لو أعطيناها الثلث كاملا بعد فرض الزوجة كنا قد خرجنا عن قاعدة الفرائض وقياسها وعن دلالة الكتاب فإن الأب حينئذ يأخذ ربعا وسدسا والأم لا تساويه ولا تأخذ شطره وهي في طبقته وهذا لم يشرعه الله قط ودلالة الكتاب لا تقتضيه وأما في مسألة الجد فإن الجد أبعد منها وهو يحجب بالأب فليس في طبقتها فلا يحجبها عن شيء من حقها فلا يمكن أن تعطى ثلث الباقي ويفضل الجد عليها بمثل ما تأخذه فإنها أقرب منه وليس في درجتها ولا يمكن أن تعطى السدس فكان فرضها الثلث كاملا. وهذا مما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من النصوص بالاعتبار الذي هو في معنى الأصل أو بالاعتبار الأولى أو بالاعتبار الذي فيه إلحاق الفرع بأشبه الأصلين به أو تنبيه اللفظ أو إشارته وفحواه أو بدلالة التركيب وهي ضم نص إلى نص آخر وهي غير دلالة الاقتران بل هي ألطف منها وأدق وأصح كما تقدم. فالقياس المحض والميزان الصحيح أن الأم مع الأب كالبنت مع الابن والأخت مع الأخ لأنهما ذكر وأنثى من جنس واحد وقد أعطى الله سبحانه الزوج ضعف ما أعطى الزوجة تفضيلا لجانب الذكورية وإنما عدل عن هذا في ولد الأم لأنهم يدلون بالرحم المجرد ويدلون بغيرهم وهو الأم وليس لهم تعصيب بخلاف الزوجين والأبوين والأولاد فإنهم يدلون بأنفسهم وسائر العصبة يدلون بذكر كولد البنين وكالإخوة للأبوين أو للأب فإعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين معتبر فيمن يدلي بنفسه أو بعصبة وأما من يدلي بالأمومة كولد الأم فإنه لا يفضل ذكرهم على أنثاهم وكان الذكر كالأنثى في الأخذ وليس الذكر كالأنثى في باب الزوجية ولا في باب الأبوة ولا البنوة ولا الأخوة فهذا هو الاعتبار الصحيح والكتاب يدل عليه كما تقدم بيانه. وقد تناظر ابن عباس وزيد بن ثابت في العمريتين فقال له ابن عباس: "أين في كتاب الله في ثلث ما بقي؟ فقال زيد: وليس في كتاب الله إعطاؤها الثلث كله مع الزوجين أو كما قال بل كتاب الله يمنع إعطاؤها الثلث مع أحد الزوجين فإنه لو أعطاها الثلث مع الزوج لقال فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث فكانت تستحقه مطلقا فلما خص الثلث في بعض الأحوال علم أنها لا تستحقه مطلقا ولو أعطيته مطلقا لكان قوله {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} زيادة في اللفظ ونقصا في المعنى وكان ذكره عديم الفائدة ولا يمكن أن تعطى السدس لأنه إنما جعل لها مع الولد أو الإخوة فدل القرآن على أنها لا تعطى السدس مع أحد الزوجين ولا تعطى الثلث وكان قسمة ما بقي بعد فرض الزوجين بين الأبوين مثل قسمة أصل المال بينهما وليس بينهما فرق أصلالا في القياس ولا في المعنى". فإن قيل: فهل هذه دلالة خطابية لفظية أو قياسية محضة؟ قيل: هي ذات وجهين فهي لفظية من جهة دلالة الخطاب وضم بعضه إلى بعض واعتبار بعضه ببعض وقياسية من جهة اعتبار المعنى والجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين وأكثر دلالات النصوص كذلك في قوله: "من اعتق شركا له في عبد" وقوله: "أيما رجل وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به" وقوله: "من باع شركا له في أرض أو ربعة أو حائط" حيث يتناول الحوانيت وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} فخص الإناث باللفظ إذ كن سبب النزول فنص عليهمن بخصوصهن وهذا أصح من فهم من قال من أهل الظاهر المراد بالمحصنات الفروج المحصنات فإن هذا لا يفهمه السامع من هذا اللفظ ولا من قوله {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} ولا من قوله {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} ولا من قوله {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} بل هذا من عرف الشارع حيث يعبر باللفظ الخاص عن المعنى وهذا غير باب القياس وهذا تارة يكون لكون اللفظ الخاص صار في العرف عاما كقوله {وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} ونحوه وتارة لكونه قد علم بالضرورة من خطاب الشارع تعميم المعنى لكل ما كان مماثلا للمذكور وأن التعيين في اللفظ لا يراد به التخصيص بل التمثيل أو لحاجة المخاطب إلى تعيينه بالذكر أو لغير ذلك من الحكم. فصل الأخوات مع البنات عصبة المسألة الثالثة: ميراث الأخوات مع البنات وأنهن عصبة فإن القرآن يدل عليه كما أوجبته السنة الصحيحة فإن الله سبحانه قال{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} وهذا دليل على أن الأخت ترث النصف مع عدم الولد وإنه هو يرث المال كله مع عدم ولدها وذلك يقتضي أن الأخت مع الولد لا يكون لها النصف مما ترك إذ لو كان كذلك لكان قوله {لَيْسَ لَهُ وَلَد} زيادة في اللفظ ونقصا في المعنى وإيهاما لغير المراد فدل على أنها مع الولد لا ترث النصف والولد إما ذكر وإما أنثى فأما الذكر فإنه يسقطها كما يسقط الأخ بطريق الأولى ودل قوله {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} على أن الولد يسقطه كما يسقطها وأما الأنثى فقد دل القرآن على أنها إنما تأخذ النصف ولا تمنع الأخ عن النصف الباقي إذا كانت بنت وأخ بل دل القرآن مع السنة والإجماع أن الأخ يفوز بالنصف الباقي كما قال تعالى {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} وقال النبي ﷺ: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" وليس في القرآن ما ينفي ميراث الأخت مع إناث الولد بغير جهة الفرض وإنما صريحه ينفي أن يكون فرضها النصف مع الولد فبقي ههنا ثلاثة أقسام إما أن يفرض لها أقل من النصف وإما أن تحرم بالكلية وإما أن تكون عصبة والأول محال إذ ليس للأخت فرض مقدر غير النصف فلو فرضنا لها أقل منه لكان ذلك وضع شرع جديد فبقي إما الحرمان وإما التعصيب والحرمان لا سبيل إليه فإنها وأخاها في درجة واحدة وهي لا تزاحم البنت فإذا لم يسقط أخوها بالبنت لم تسقط هي بها أيضا فإنها لو سقطت بالبنت ولم يسقط أخوها بها أقوى منها وأقرب إلى الميت وليس كذلك وأيضا فلو أسقطتها البنت إذا انفردت عن أخيها لأسقطتها مع أخيها فإن أخاها لا يزيدها قوة ولا يحصل لها نفعا في موضع واحد بل لا يكون إلا مضرا لها ضرر نقصان أو ضرر حرمان كما إذا خلفت زوجا وأما وأخوين لأم وأختا لأب وأم فإنها يفرض لها النصف عائلا وإن كان معها أخوها سقطا معا ولا تنتفع به في الفرائض في موضع واحد فلو أسقطتها البنت إذا انفردت لأسقطتها بطريق الأولى مع من يضعفها ولا يقويها وأيضا فإن البنت إذا لم تسقط ابن الأخ وابن العم وابن عم الأب والجد وإن بعد فأن لا تسقط الأخت مع قربها بطريق الأولى وأيضا فإن قاعدة الفرائض إسقاط البعيد بالقريب وتقديم الأقرب على الأبعد وهذا عكس ذلك فإنه يتضمن تقديم الأبعد جدا الذي بينه وبين الميت وسائط كثيرة على الأقرب الذي ليس بينه وبين الميت إلا واسطة الأب وحده فكيف يرث ابن عم جد الميت مثلا مع البنت وبينه وبين الميت وسائط كثيرة وتحرم الأخت القريبة التي ركضت معه في صلب أبيه ورحم أمه هذا من المحال الممتنع شرعا فهذا من جهة الميزان وأما من جهة فهم النص فإن الله سبحانه قال في الأخ {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} ولم يمنع ذلك في ميراثه منها إذ كان الولد أنثى فهكذا قوله {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} لا ينفي أن ترث غير النصف مع إناث الولد أو ترث الباقي إذا كان نصفا لأن هذا غير الذي أعطاها إياه فرضا مع عدم الولد فتأمله فإنه ظاهر جدا وأيضا فالأقسام ثلاثة إما أن يقال يفرض لها النصف مع البنت أو يقال تسقط معها بالكلية أو يقال تأخذ ما فضل بعد فرض البنت أو البنات والأول ممتنع بالنص والقياس فإن الله سبحانه إنما فرض لها النصف مع عدم الولد فلا يجوز إلغاء هذا الشرط وفرض النصف لها مع وجوده والله سبحانه إنما أعطاها النصف إذا كان الميت كلالة لا ولد له ولا والد فإذا كان له ولد لم يكن الميت كلالة فلا يفرض لها معه وأما القياس فإنها لو فرض لها النصف مع وجود البنت لنقصت البنت عن النصف إذا عالت الفريضة كزوجة أو زوج وبنت وأخت وإخوة والإخوة لا يزاحمون الأولاد لا بفرض ولا تعصيب فإن الأولاد أولى منهم فبطل فرض النصف وبطل سقوطها بما ذكرناه فتعين القسم الثالث وهو أن تكون عصبة لها ما بقي وهي أولى به من سائر العصبات الذين هم أبعد منها وبهذا جاءت السنة الصحيحة الصريحة التي قضى بها رسول الله ﷺ فوافق قضاؤه كتاب ربه والميزان الذي أنزله مع كتابه وبذلك قضى الصحابة بعده كابن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهما. فإن قيل: لكن خرجتم عن قوله ﷺ: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" فإذا أعطينا البنت فرضها وجب أن يعطى الباقي لابن الأخ أو العم أو ابنه دون الأخت فإنه رجل ذكر فأنتم عدلتم عن هذا النص وأعطيتموه الأنثى فكنا أسعد بالنص منكم وعملنا وبقضاء رسول الله ﷺ حيث أعطى البنت النصف وبنت الابن السدس والباقي للأخت إذ لم يكن هناك أولى رجل ذكر فكانت الأخت عصبة وهذا توسط بين قولكم وبين قول من أسقط الأخت بالكلية وهذا مذهب إسحاق بن راهويه وهو اختيار أبي محمد بن حزم وسقوطها بالكلية مذهب ابن عباس كما قال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة قيل لابن عباس رجل ترك ابنته وأخته لأبيه وأمه فقال: "لابنته النصف ولأمه السدس وليس لأخته شيء مما ترك وهو لعصبته" فقال له السائل إن عمر قضى بغير ذلك جعل للبنت النصف وللأخت النصف قال ابن عباس: "أأنتم أعلم أم الله" قال معمر: فذكرت ذلك لابن طاووس فقال لي: أخبرني أبي أنه سمع ابن عباس يقول: "قال الله عز وجل {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} فقلتم أنتم: لها النصف" وإن كان له ولد وقال ابن أبي مليكة عن ابن عباس: "أمر ليس في كتاب الله ولا في قضاء رسول الله ﷺ وستجدونه في الناس كلهم ميراث الأخت مع البنت". فالجواب أن نصوص رسول الله ﷺ كلها حق يصدق بعضها بعضا ويجب الأخذ بجميعها ولا يترك له نص إلا بنص آخر ناسخ له لا يترك بقياس ولا رأي ولا عمل أهل بلد ولا إجماع ومحال أن تجمع الأمة على خلاف نص له إلا أن يكون له نص آخر ينسخه فقوله ﷺ: "فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر" عام قد خص منه قوله ﷺ: "تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لا عنت عليه" وأجمع الناس على أنها عصبة عتيقها واختلفوا في كوناه عصبة لقيطها وولدها المنفي باللعان وسنة رسول الله ﷺ تفصل بين المتنازعين فإذا خصت منه هذه الصور بالنص وبعضها مجمع عليه خصت منه هذه الصورة لما ذكرناه من الدلالة. فإن قيل: قوله: "فلأولى رجل ذكر" إنما هو في الأقارب الوارثين بالنسب وهذا لا تخصيص فيه. قيل: فأنتم تقدمون المعتق على الأخت مع البنت وليس من الأقارب فخالفتم النصين معا وهو ﷺ قال: "فلأولى رجل ذكر" فأكده بالذكورة ليبين أن العاصب بنفسه المذكور هو الذكر دون الأنثى وأنه لم يرد بلفظ الرجل ما يتناول الذكر والأنثى كما في قوله: "من وجد متاعه عند رجل قد أفلس" ونحوه مما يذكر فيه لفظ الرجل والحكم يعم النوعين وهو نظير قوله في حديث الصدقات: "فابن لبون ذكر" ليبين أن المراد الذكر دون الأنثى ولم يتعرض في الحديث للعاصب بغيره فدل قضاؤه الثابت عنه في إعطاء الأخت مع البنت وبنت البنت ما بقي أن الأخت عصبة بغيرها فلا تنافي بينه وبين قوله: "فلأولى رجل ذكر" بل هذا إذا لم يكن ثم عصبة بغيره بل كان العصبة عصبة بأنفسهم فيكون أولهما وأقربهم إلى الميت أحقهم بالمال وأما إذا اجتمع العصبتان فقد دل حديث ابن مسعود الصحيح أن تعصيب الأخت أولى من تعصيب من هو أبعد منها فإنه أعطاها الباقي ولم يعطه لابن عمه مع القطع فإن العرب بنو عم بعضهم لبعض فقريب وبعيد ولا سيما إن كان ما حكاه ابن مسعود من قضاء رسول الله ﷺ قضاء عاما كليا فالأمر حينئذ يكون أظهر وأظهر. فصل صحة قول الجمهور في مسألة ميراث الأخوات ومما يبين صحة قول الجمهور أن قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَك} إنما يدل منطوقه على أنها ترث النصف مع عدم الولد والمفهوم إنما يقتضي أن الحكم في المسكوت ليس مماثلا للحكم في المنطوق فإذا كان فيه تفصيل حصل بذلك مقصود المخالفة فلا يجب أن يكون كل صورة من صور المسكوت مخالفة لكل صور المنطوق ومن توهم ذلك فقد توهم باطلا فإن المفهوم إنما يدل بطريق التعليل أو بطريق التخصيص والحكم إذا ثبت لعلة فانتفت في بعض الصور أو جميعها جاز أن يخلفها علة أخرى وأما قصد التخصيص فإنه يحصل بالتفصيل وحينئذ فإذا نفينا إرثها مع ذكور الولد أو نفينا إرثها النصف فرضا مع إناثهم وفينا بدليل الخطاب. فصل المراد بقوله صلى الله عليه وسلم فلأولى رجل ذكر ومما يبين أن المراد بقوله: "فلأولى رجل ذكر" العصبة بنفسه لا بغيره أنه لو كان بعد الفرائض إخوة وأخوات أو بنون وبنات أو بنات ابن وبنو ابن م ينفرد الذكر بالباقي دون الإناث بالنص والإجماع فتعصيب الأخت بالبنت كتعصيبها بأخيها فإذا لم يكن قوله فلأولى رجل ذكر موجبا لاختصاص أخيها دونها لم يكن موجبا لاختصاص ابن عم الجد بالباقي دونها. يوضحه: أنه لو كان معها أخوها لم تسقط وكان الباقي بعد فرض البنات بينها وبين أخيها هذا وأخوها أقرب إلى الميت من الأعمام وبنيهم فإذا لم يسقطها الأخ فلأن لا يسقطها ابن عم الجد بطريق الأولى والأحرى وإذا لم يسقطها ورثت دونه لكونها أقرب منه بخلاف الأخ فإنه تشاركه لاستوائهما في القرب من الميت فهذا محض القياس والميزان الموافق لدلالة الكتاب ولقضاء النبي ﷺ وعلى هذه الطريق فلا تخصيص في الحديث بل هو على عمومه وهذه الطريق أفقه وألطف. يوضح ذلك: أن قاعدة الفرائض أن جنس أهل الفروض فيها مقدمون على جنس العصبة سواء كان ذا فرض محض أو كان له مع فرضه تعصيب في حال إما بنفسه وإما بغيره والأخوات من جنس أهل الفرائض فيجب تقديمهن على من هو أبعد منهن ممن لا يرث إلا بالتعصيب المحض كالأعمام وبنيهم وبني الإخوة والاستدلال بهذا الحديث على حرمانهن مع البنات كالاستدلال على حرمانهن إخوتهن وحرمان بنات الابن بل البنات أنفسهن مع إخوتهن وهذا باطل بالنص والإجماع فكذا الآخر. ومما يوضحه: أنا رأينا قاعدة الفرائض أن البعيد من العصبات يعصب من هو أقرب منه إذا لم يكن له فرض كما إذا كان وبنات وبنات ابن وأسفل منهن ابن ابن ابن فإنه يعصبهن فيحصل لهن الميراث بعد كن محرومات وأما أن البعيد من العصبات يمنع الأقرب من الميراث بعد أن كان وارثا فهذا ممتنع شرعا وعقلا وهو عكس قاعدة الشريعة والله الموفق. وفي الحديث مسلك آخر وهو أن قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها" المراد به من كان من أهلها في الجملة وإن لم يكن في هذه الحال من أهلها كما في اللفظ الآخر: "اقسموا المال بين أهل الفرائض" وهذا أعم من كونه من أهل الفرائض بالقوة أو بالفعل فإذا كانوا كلهم من أهل الفرائض بالفعل كان الباقي للعصبة وإن كان فيهم من هو من أهل الفرائض بالقوة وإن حجب عن الفرض بغيره دخل في اللفظ الأول وإن لم يكن لأولى رجل ذكر معه شيء وإنما يكون له إذا كان أهل الفرائض مطلقا معدومين والله أعلم. فصل ميراث البنات المسألة الرابعة: ميراث البنات وقد دل صريح النص على أن للواحدة النصف ولأكثر من اثنتين الثلثين بقي الثنتان فأشكل دلالة القرآن على حكمها على كثير من الناس فقالوا إنما أثبتناه بالسنة الصحيحة وقالت طائفة: "بالإجماع" وقالت طائفة: "بالقياس على الأختين". قالوا: والله سبحانه نص على الأختين دون الأخوات ونص على البنات دون البنتين فأخذنا حكم كل واحد من الصورتين المسكوت عنها من الأخرى. وقالت طائفة: بل أخذ نصوص القرآن ثم تنوعت طرقهم في الأخذ فقالت طائفة أخذناه من قوله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فإذا أخذ الذكر الثلثين والأنثى الثلث علم قطعا أن حظ ا لأنثيين الثلثان وقالت طائفة إذا كان للواحدة مع الذكر الثلث لا الربع فأن يكون لها الثلث مع الأنثى أولى وأحرى وهذا من تنبيه النص بالأدنى على الأعلى وقالت طائفة أخذناه من قوله سبحانه {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} فقيد النصف بكونها واحدة فدل بمفهومه على أنه لا يكون لها إلا في حال وحدتها فإذا كان معها مثلها فإما أن تنقصها عن النصف وهو محال أو يشتركان فيه وذلك يبطل الفائدة في قوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً} ويجعل ذلك لغوا موهما خلاف المراد به وهو محال فتعين القسم الثالث وهو انتقال الفرض من النصف إلى ما فوقه وهو الثلثان. فإن قيل: فأي فائدة في التقييد بقوله {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} والحكم لا يختص بما فوقهما. قيل: حسن ترتيب الكلام وتأليفه ومطابقة مضمره لظاهر أوجب ذلك فإنه سبحانه قال {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} فالضمير في {كُنَّ} مجموع يطابق الأولاد أي فإن كان الأولاد نساء فذكر لفظ الأولاد وهو جمع وضمير كن وهو ضمير جمع و{نِسَاءً} وهو اسم جمع فلم يكن بد من فوق اثنتين وفيه نكت أخرى وهو أنه سبحانه قد ذكر ميراث الواحدة نصا وميراث الثنتين تنبيها كما تقدم فكان في ذكر العدد الزائد على الاثنتين دلالة على أن الفرض لا يزيد بزيادتهن على الاثنتين كما زاد بزيادة الواحدة على الأخرى وأيضا فإن ميراث الاثنتين قد علم من النص فلو قال: (فإن كانتا اثنتين) كان تكريرا ولم يعلم منه حكم ما زاد عليهما فكان ذكر الجمع في غاية البيان والإيجاز وتطابق أول الكلام وآخره وحسن تأليفه وتناسبه وهذا بخلاف سياق آخر الصورة فإنه قال {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} فلم يتقدم اسم جمع ولا ضمير جمع يقتضي أن يقول فإن كن نساء فوق اثنتين. وقد ذكر ميراث الواحدة وأنه النصف فلم يكن بد من ذكر ميراث الأختين وأنه الثلثان لئلا يتوهم أن الأخرى إذا انضمت إليها أخذت نصفا آخر ودل تشريكه بين البنات وإن كثرن في الثلثين على تشريكه بين الأخوات وإن كثرن في ذلك بطريق الأولى فإن البنات أقرب من الأخوات ويسقطن فرضهن فجاء بيانه سبحانه في كل من الآيتين من أحسن البيان فإنه لما بين ميراث الابنتين بما تقرر بين ميراث ما زاد عليهما وفي آية الإخوة والأخوات لما بين ميراث الأخت والأختين لم يحتج أن يبين ميراث ما زاد عليهما إذ قد علم بيان الزائد على الاثنتين في من هن أولى بالميراث من الأخوات ثم بين حكم اجتماع ذكورهم وإناثهم فاستوعب بيانه جميع الأقسام. فصل ميراث بنت الابن المسألة الخامسة: ميراث بنت الابن السدس مع البنت وسقوطها إذا استكمل البنات الثلثين ودلالة القرآن على هذا أخفى من سائر ما تقدم وبيانها أنه تعالى قال {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} وقد علم أن الخطاب يتناول ولد البنين دون ولد البنات وأن قوله {أَوْلادِكُمْ} يتناول من ينتسب إلى الميت وهم ولده وولد بنيه وأن يتناولهم على الترتيب فيدخل فيه ولد البنين عند عدم ولد الصلب فإذا لم يكن إلا بنت فلها النصف وبقي من نصيب البنات السدس فإذا كان ابن ابن أخذ الباقي كله بالتعصيب للنص فإذا كان معه أخواته شاركنه في الاستحقاق لأنهن معه عصبة وهذا أحد ما يدل على أن قوله: "فلأولى رجل ذكر" لا يمنع أن تأخذ الأنثى إذا كانت عصبة بغيرها ولهذا أخذت الأخت مع البنت الباقي بالتعصيب لأنها عصبة بها وإن لم يكن مع البنت إلا بنات ابن فقد كن بصدد أخذ الثلثين لولا البنت فإذا أخذت النصف فالسدس الباقي لا مانع لهن من أخذه فيفزن به ألا ترى أنه إذا استكمل البنات الثلثين لم يكن لهن شيء ولو لم يكن بنات أخذن جميع الثلثين فإذا قدمت البنت عليهن بالنصف أخذن بقية الثلثين اللذين كن يفزن بهما جميعا لولا البنت وهذا حكم النبي ﷺ. فإن قيل: فمن أين أعطيتم بنات الابن إذا استكمل البنات الثلثين وكان معهن أخوهن والنبي ﷺ جعل الباقي لأولى رجل ذكر. قيل: قد تقدم بيان ذلك مستوفى وأن هذا حكم كل عصبة معه وارث من جنسه في درجته كالأولاد والإخوة بخلاف الأعمام وبني الإخوة. فإن قيل: فكيف عصب ابن ابن الابن من فوقه وليس في درجته. قيل: إذا كان يعصب من هو في درجته مع أنه أنزل ممن فوقه ولا يسقطه فتعصيبه لمن هو فوقه وأقرب منه إلى الميت بطريق الأولى فإذا كان الأنزل لا يقوى هو على إسقاطه فكيف يقوى على إسقاط الأعلى على أن عبد الله بن مسعود لا يعصب به من في درجته ولا من فوقه بل يخصه بالباقي ووجه قوله أنها لا ترث مفردة فلا ترث مع أخيها كالمحجوبة برق أو كفر بخلاف ما إذا كانت وارثة كبنت وبنت ابن معها أخوها فإنه يعصبها اتفاقا لأنها وارثة وقول الجمهور أصح فإنها وارثة في الجملة وهي ممن يستفيد التعصيب بأخيها وهنا إنما سقط ميراثها بالفرض لاستكمال من فوقها الثلثين ولا يلزم من سقوط الميراث بالفرض سقوطه بالتعصيب مع قيام موجبه وهو وجود الأخ وإذا كان وجود الأخ يجعلها عصبة فيمنعها الميراث بالكلية ولولاه ورثت بالفرض وهو الأخ المشئوم فالعدل يقتضي أن يجعلها عصبة فيورثها إذا لم ترث بالفرض وهو الأخ النافع فهذا محض القياس والميزان وقد فهمت دلالة الكتاب عليه. والنزاع في الأخت للأب مع الأخت أو الأخوات للأبوين كبنت الابن مع البنت والبنات سواء وبالله التوفيق. فصل ميراث الجد مع الإخوة المسألة السادسة: ميراث الجد مع الإخوة والقرآن يدل لقول الصديق ومن معه من الصحابة كأبي موسى وابن عباس وابن الزبير وأربعة عشر منهم رضي الله عنهم ووجه دلالة القرآن على هذا القول قوله تعالى {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} إلى آخر الآية فلم يجعل للإخوة ميراثا إلا في الكلالة. وقد اختلف الناس في الكلالة والكتاب يدل على قول الصديق أنها ما عدا الوالد والولد فإنه سبحانه قال في ميراث ولد الأم {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} فسوى بين ميراث الإخوة في الكلالة وإن فرق بينهم في جهة الإرث ومقداره فإذا كان وجود الجد مع الإخوة للأم لا يدخلهم في الكلالة بل يمنعهم من صدق اسم الكلالة على الميت أو عليهم أو على القرابة فكيف أدخل ولد الأب في الكلالة ولم يمنعهم وجوده صدق اسمها وهل هذا إلا تفريق محض بين ما جمع الله بينه. يوضحه الوجه الثاني وهو: أن ولد الولد يمنع الإخوة من الميراث ويخرج المسألة عن كونها كلالة لدخوله في قوله ليس له ولد ونسبة أب الأب إلى الميت كنسبة ولد ولده إليه فكما أن الولد وإن نزل يخرج المسألة عن الكلالة فكذلك أبو الأب وإن علا ولا فرق بينهما البتة. يوضحه الوجه الثالث وهو: أن نسبة الإخوة إلى الجد كنسبة الأعمام إلى أبي الجد فإن الأخ ابن الأب والعم ابن الجد فإذا خلف عمه وأبا جده فهو كما لو خلف أخاه وجده سواء وقد أجمع المسلمون على تقديم أب الجد على العم فكذلك يجب تقديم الجد على الأخ وهذا من أبين القياس وإن لم يكن هذا قياسا جليا فليس في الدنيا قياس جلي. يوضحه الوجه الرابع وهو: أن نسبة ابن الأخ إلى الأخ كنسبة أب الجد إلى الجد فإذا قال الأخ أنا أرث مع الجد لأني ابن أب الميت والجد أبو أبيه فكلانا في القرب إليه سواء صاح ابن الأخ مع أب الجد وقال أنا ابن ابن أب الميت فكيف حرمتموني مع أبي أبي أبيه ودرجتنا واحدة وكيف سمعتم قول أبي مع الجد ولم تسمعوا قولي مع أبي الجد. فإن قيل: أبو الجد جد وإن علا وليس ابن الأخ أخا. قيل: فهذا حجة عليكم لأنه إذا كان أبو الأب أبا وأبو الجد جدا فما للإخوة ميراث مع الأب بحال. فإن قلتم: نحن نجعل أب الجد جدا ولا نجعل أبا الأب أبا. قيل: هكذا فعلتم وفرقتم بين المتماثلين وتناقضتم أبين تناقض وجعلتموه أبا في موضع وأخرجتموه عن الأبوة في موضع. يوضحه الوجه الخامس وهو: أن نسبة الجد إلى الأب في العمود الأعلى كنسبة ابن الأب إلى الابن في العمود الأسفل فهذا أبو أبيه وهذا ابن ابنه فهذا يدلي إلى الميت بأب الميت وهذا يدلى إليه بابنه فكما كان ابن الابن ابنا فكذلك يجب أن يكون أب الأب أبا فهذا هو الاعتبار الصحيح من كل وجه وهذا معنى قول ابن عباس: "ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا". يوضحه الوجه السادس وهو: أن الله سبحانه سمى الجد أبا في قوله {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} وقوله {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} وقوله {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} وقول يوسف {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} وفي حديث المعراج هذا أبوك آدم وهذا أبوك إبراهيم وقال النبي ﷺ لليهود: "من أبوكم قالوا: فلان قال: كذبتم بل أبوكم فلان قالوا: صدقت" وسمي ابن الابن ابنا كما في قوله {يَا بَنِي آدَم} و{يَا بَنِي إِسْرائيل} وقول. النبي ﷺ: "ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا" والأبوة والبنوة من الأمور المتلازمة المتضايفة يمتنع ثبوت أحدهما بدون الآخر فيمتنع ثبوت البنوة لابن الابن إلا مع ثبوت الأبوة لأب الأب. يوضحه الوجه السابع وهو: أن الجد لو مات ورثه بنو بنيه دون إخوته باتفاق الناس فهكذا الأب إذا مات يرثه أبو أبيه دون إخوته وهذا معنى قول عمر لزيد: "كيف يرثني أولاد عبد الله دون إخوتي ولا أرثهم دون إخوتهم" فهذا هو القياس الجلي والميزان الصحيح الذي لا مغمز فيه ولا تطفيف. يوضحه الوجه الثامن وهو: أن قاعدة الفرائض وأصولها إذا كان قرابة المدلي من الواسطة من جنس قرابة الواسطة كان أقوى مما إذا اختلف جنس القرابتين مثال ذلك أن الميت يدلي إليه ابنه بقرابة البنوة وأبوه يدلي إليه بقرابة الأبوة فإذا أدلى إليه واحد ببنوة البنوة وإن بعدت كان أقوى ممن يدلي إليه بقرابة بنوة الأبوة وإن قربت فكذلك قرابة أبوة الأبوة وإن علت أقوى من قرابة بنوة الأب وإن قربت وقد ظهر اعتبار هذا في تقديم جد الجد وإن علا على ابن الأخ وإن قرب وعلا العم لأن القرابة التي يدلي بها الجد من جنس واحد وهي الأبوة والقرابة التي يدلي بها الأخ وبنوه من جنسين وهي بنوة الأبوة ولهذا قدمت قرابة ابن الأخ على قرابة ابن الجد لأنها قرابة بنوة أب وتلك قرابة بنوة أبي أب فبين ابن الأخ فيها وبين الميت جنس واحد وهي الأخوة فبواسطتها وصل إليه بخلاف العم فإن بينه وبينه جنسين أحدهما الأبوة والثاني بنوتها وعلى هذه القاعدة بناء باب العصبات. يوضحه الوجه التاسع وهو: أن كل بني أب أدنى وإن بعدوا عن الميت يقدمون في التعصيب على بني الأب الأعلى وإن كانوا أقرب إلى الميت فابن ابن ابن الأخ يقدم على العم القريب وابن ابن ابن العم وأن نزل. يقدم على عم الأب وهذا مما يبين أن الجنس الواحد يقوم أقصاه مقام أدناه ويقدم الأقصى على من يقدم عليه الأدنى فيقدم ابن ابن الابن على من يقدم عليه الابن وابن ابن الأخ على من يقدم عليه الأخ وابن ابن العم على من يقدم عليه العم فما بال أب الأب وحده خرج من هذه القاعدة ولم يقدم على من يقدم عليه الأب. وبهذا يظهر بطلان تمثيل الأخ والجد بالشجرة التي خرج منها غصنان والنهر الذي خرج منه ساقيتان فإن القرابة التي من جنس واحد أقوى من القرابة المركبة من جنسين وهذه القرابة البسيطة مقدمة على تلك المركبة بالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار الصحيح ثم قياس القرابة على القرابة والأحكام الشرعية على مثلها أولى من قياس قرابة الآدميين على الأشجار والأنهار مما ليس في الأصل حكم شرعي ثم نقول بل النهر الأعلى أولى بالجدول من الجدول التي اشتق منه وأصل الشجرة أولى بغصنها من الغصن الآخر فإن هذا صنوة ونظيره الذي لا يحتاج إليه وذلك أصله وحامله الذي يحتاج إليه واحتياج الشيء إلى أصله أقوى من احتياجه إلى نظيره فأصله أولى به من نظيره. يوضحه الوجه العاشر وهو: أن هذا القياس لو كان صحيحا لوجب طرده ولما انتقض فإن طرده تقديم الإخوة على الجد فلما اتفق المسلمون على بطلان طرده علم أنه فاسد في نفسه. يوضحه الوجه الحادي عشر وهو: أن الجد يقوم مقام الأب في التعصيب في كل صورة من صوره ويقدم على كل عصبة يقدم عليه الأب فما الذي أوجب استثناء الإخوة خاصة من هذه القاعدة. يوضحه الوجه الثاني عشر وهو: أنه إن كان الموجب لاستثنائهم قوتهم وجب تقديمهم عليه وإن كان مساواتهم له في القرب وجب اعتبارها في بنيهم وآبائه لاشتراكهم في السبب الذي اشترك فيه هو والإخوة وهذا مما لا جواب لهم عنه. يوضحه الوجه الثالث عشر وهو: أنه قد اتفق الناس على أن الأخ لا يساوي الجد فإن لهم قولين أحدهما تقديمه عليه والثاني توريثه معه والمورثون لا يجعلونه كأخ مطلقا بل منهم من يقاسم به الإخوة إلى الثلث ومنهم من يقاسمهم به إلى السدس فإن نقصته المقاسمة عن ذلك أعطوه إياه فرضا وأدخلوا النقص عليهم أو حرموهم كزوج وأم وجد وأخ فلو كان الأخ مساويا للجد وأولى منه كما ادعى المورثون أنه القياس لساواه في هذا السدس وقدم عليه فعلم أن الجد أقوى وحينئذ فد اجتمع عصبتان وأحدهما أقوى من الآخر فيقدم عليه. يوضحه الوجه الرابع عشر وهو: أن المورثين للإخوة لم يقولوا في التوريث قولا يدل عليه نص ولا إجماع ولا قياس مع تناقضهم وأما المقدمون له على الإخوة فهم أسعد الناس بالنص والإجماع والقياس وعدم التناقض فإن من المورثين من يزاحم به إلى الثلث ومنهم من يزاحم به إلى السدس وليس في الشريعة من يكون عصبة يقاسم عصبة نظيره إلى حد ثم يفرض له بعد ذلك الحد فلم يجعلوه معهم عصبة مطلقا ولا ذا فرض مطلق ولا قدموه عليهم مطلقا ولا ساووه بهم مطلقا ثم فرضوا له سدسا أو ثلثا بغير نص ولا إجماع ولا قياس ثم حسبوا عليه الإخوة من الأب ولم يعطوهم شيئا ثم إذا كان هناك إخوة لأبوين ثم جعلوا الأخوات معه عصبة إلا في صورة واحدة فرضوا فيها للأخت ثم لم يهينوها بما فرضوا لها بل عادوا عليها بالإبطال فأخذوه وأخذوا ما أصابه فقسموه بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ثم أعالوا هذه المسألة خاصة من مسائل الجد والإخوة ولم يعيلوا غيرها ثم ردوها بعد العول إلى التعصيب وسلم المقدمون له على الإخوة من هذا كله مع فوزهم بدلالة الكتاب والسنة والقياس ودخولهم في حزب الصديق. يوضحه الوجه الخامس عشر وهو: أن الصديق لم يختلف عليه أحد من الصحابة في عهده إنه مقدم على الإخوة قال البخاري في صحيحه في باب ميراث الجد مع الإخوة وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير: "الجد أب" وقرأ ابن عباس {يَا بَنِي آدَمَ} {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ولم يذكر أن أحدا خالف أبا بكر في زمانه وأصحاب النبي ﷺ متوافرون وقال ابن عباس: "يرثني ابن ابني دون إخوتي ولا أرث أنا ابن ابني؟" ويذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أقاويل مختلفة انتنهى. وقال عبد الرزاق: ثنا ابن جريج قال: "سمعت ابن أبي مليكة يحدث أن ابن الزبير كتب إلى أهل العراق إن الذي قال له النبي ﷺ: "لو كنت متخذا خليلا حتى ألقى الله سوى الله لاتخذت أبا بكر خليلا" كان يجعل الجد أبا وقال الدارمي في صحيحه: ثنا سالم بن إبراهيم ثنا وهيب ثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال: "جعله الذي قال رسول الله ﷺ [له]: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذته خليلا ولكن أخوة الإسلام أفضل" يعني أبا بكر جعله أبا ثنا محمد بن يوسف عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة قال: "لقيت مروان بن الحكم بالمدينة فقال يا ابن أبي موسى ألم أخبر أن الجد لا ينزل فيكم منزلة الأب وأنت لا تنكر قال: قلت: لو كنت أنت لم تنكر قال: مروان فأنا أشهد على عثمان بن عفان أنه شهد على أبي بكر أنه جعل الجد أبا إذا لم يكن دونه أب" ثنا يزيد بن هارون ثنا أشعث عن عروة عن الحسن قال: "إن الجد قد مضت فيه سنة وإن أبا بكر جعل الجد أبا ولكن الناس تحيروا" وقال حماد بن سلمة: ثنا هشام بن عروة عن عروة عن مروان قال: قال لي عثمان بن عفان: "إن عمر قال لي إني قد رأيت في الجد رأيا فإن رأيتم أن تتبعوه فاتبعوه فقال عثمان: إن نتبع رأيك فإنه رشد وإن نتبع رأي الشيخ قبلك فنعم ذو الرأي كان قال وكان أبو بكر يجعله أبا والمورثون للإخوة بعدهم عمر وعثمان وعلي وزيد وابن مسعود. فأما عمر فإن أقواله اضطربت فيه وكان قد كتب كتابا في ميراثه فلما طعن دعى به فمحاه وقال الخشني: عن محمد بن يسار عن محمد بن أبي عدي عن شعبة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر حين طعن: "إني لم أقض في الجد شيئا" وقال وكيع عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: مات ابن لابن عمر ابن الخطاب فدعى زيد بن ثابت فقال: "شعب ما كنت تشعب لأني أعلم أني أولى به منهم" وأما علي كرم الله وجهه فقال عبد الرزاق عن معمر ثنى أيوب عن سعيد بن جبير عن رجل من مراد قال: سمعت عليا يقول: "من سره أن يتقحم جراثم جهنم فاليقضي بين الجد والإخوة" وأما عثمان وابن مسعود فقال البغوي: ثنى حجاج بن المنهال ثنى حماد بن سلمة أخبرنا الليث بن أبي سليم عن طاووس أن عثمان وعبد الله بن مسعود قالا: "الجد بمنزلة الأب". فهذه أقوال المورثين كما ترى قد اختلفت في أصل توريثهم معه واضربت في كيفية التوريث وخالفة دلالة الكتاب والسنة والقياس الصحيح بخلاف قول الصديق ومن معه. يوضحه الوجه السادس عشر وهو: أن الناس اليوم قائلان: قائل بقول أبي بكر وقائل بقول زيد ولكن قول الصديق هو الصواب وقول زيد بخلافه فإنه يتضمن تعصيب الجد للإخوات وهو تعصيب الرجل جنسا آخر ليسوا من جنسه وهذا لا أصل له في الشريعة إنما يعرف في الشريعة تعصيب الرجال للنساء إذا كانوا من جنس واحد كالبنين والبنات والإخوة والأخوات ولا ينتقض هذا بالأخوات مع البنات فإن الرجال لم يعصبوهن وإنما عصبهن البنات ولما كان تعصيب البنين أقوى كان الميراث لهم دون الأخوات بخلاف قول من عصب الأخوات بالجد فإنه عصبهن بجنس آخر أقوى تعصيبا منهن وهذا لا عهد به في الشريعة البتة. يوضحه الوجه السابع عشر وهو: أن الجد والإخوة لو اجتمعوا في التعصيب لكانوا إما من جنس واحد أو من جنسين وكلاهما باطل أما الأول فظاهر البطلان لوجهين: أحدهما: اختلاف جهة التعصيب والثاني أنهم لو كانوا من جنس واحد لاستووا في الميراث والحرمان كالإخوة والأعمام وبنيهم إذا انفردوا وهذا هو التعصيب المعقول في الشريعة وأما الثاني فبطلانه أظهر إذ قاعدة الفرائض أن العصبة لا يرثون في المسألة إلا إذا كانوا من جنس واحد وليس لنا عصيبة من جنسين يرثان مجتمعين قط بل هذا محال فإن العصبة حكما أن يأخذ ما بقي بعد الفروض فإذا كان هذا حكم هذا الجنس وجب أن يأخذ دون الآخر وكذلك الجنس الآخر فيفضي أحدهما إلى حرمانهما واشتراكهما ممتنع لاختلاف الجنس وهذا ظاهر جدا. يوضحه الوجه الثامن عشر وهو: أن الجد أب في باب الشهادة وفي باب سقوط القصاص وأب في باب المنع من دفع الزكاة إليه وأب في باب وجوب إعتاقه على ولد ولده وأب في باب سقوط القطع في السرقة وأب عند الشافعي في باب الإجبار في النكاح وفي باب الرجوع في الهبة وفي باب العتق بالملك وفي باب الإجبار على النفقة وفي باب إسلام ابن ابنه تبعا لإسلامه وأب عند الجميع في باب الميراث عند عدم الأب فرضا وتعصيبا في غير محل النزاع فما الذي أخرجه عن أبوته في باب الجد والإخوة فإن اعتبرنا تلك الأبواب فالأمر في أبوته في محل النزاع ظاهر وإن اعتبرنا باب الميراث فالأمر أظهر وأظهر. يوضحه الوجه التاسع عشر وهو: أن الذين ورثوا الإخوة معه إنما ورثوهم المساواة تعصيبه لتعصيبهم ثم نقضوا الأصل فقدموا تعصيبهم على تعصيبه في باب الولاء وأسقطوه بالإخوة لقوة تعصيبهم عندهم ثم نقضوا ذلك أيضا فقدموا الجد عليهم في باب ولاية النكاح وأسقطوا تعصيبهم بتعصيبه وهذا غاية التناقض والخروج عن القياس لا بنص ولا إجماع. يوضحه الوجه العشرون وهو: قول النبي ﷺ: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" فإذا خلفت المرأة زوجها وأمها وأخاها وجدها فإن كان الأخ أولى رجل ذكر فهو أحق بالباقي وإن كانا سواء في بالأولوية وجب اشتراكهما فيه وإن كان الجد أولى وهو الحق الذي لا ريب فيه فهو أولى به وإذا كان الجد أولى رجل ذكر وجب أن ينفرد بالباقي بالنص وهذا الوجه وحده كاف وبالله التوفيق. وليس القصد هذه المسألة بعينها بل بيان دلالة النص والاكتفاء به عما عداه وأن القياس شاهد وتابع لا أنه مستقل في إثبات حكم من الأحكام لم تدل عليه النصوص. ومن ذلك الاكتفاء بقوله: "كل مسكر خمر" عن إثبات التحريم بالقياس في الاسم أو في الحكم كما فعله من لم يحسن الاستدلال بالنص. ومن ذلك الاكتفاء بقوله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} عن إثبات قطع النباش بالقياس اسما أو حكما إذا السارق يعم في لغة العرب وعرف الشارع سارق ثياب الأحياء والأموات. ومن ذلك الاكتفاء بقوله {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} في تناوله لكل يمين منعقدة يحلف بها المسلمون من غير تخصيص إلا بنص أو إجماع وقد بين ذلك سبحانه في قوله {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ} فهذا صريح في أن كل يمين منعقدة فهذا كفارتها وقد أدخلت الصحابة في هذا النص الحلف بالتزام الواجبات والحلف بأحب القربات المالية إلى الله وهو العتق كما ثبت ذلك عن ستة منهم ولا مخالف لهم من بقيتهم وأدخلت فيه الحلف بالبغيض إلى الله وهو الطلاق كما ثبت ذلك عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة ولا مخالف له منهم فالواجب تحكيم هذا النص العام والعمل بعمومه حتى يثبت إجماع الأمة إجماعا متيقنا على خلافه فالأمة لا تجمع على خطأ البتة. ومن ذلك الاكتفاء بقوله ﷺ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد في إبطال كل عقد نهى الله ورسوله عنه وحرمه وأنه لغو لا يعتد به نكاحا كان أو طلاقا أو غيرهما إلا أن تجمع الأمة إجماعا معلوما على أن بعض ما نهى الله ورسوله عنه وحرمه من العقود صحيح لازم معتد به غير مردود فهي لا تجمع على خطأ وبالله التوفيق. ومن ذلك الاكتفاء بقوله تعالى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} مع قوله ﷺ: "وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" فكل ما لم يبين الله ولا رسوله ﷺ تحريمه من المطاعم والمشارب والملابس والعقود والشروط فلا يجوز تحريمها فإن الله سبحانه قد فصل لنا ما حرم علينا فما كان من هذه الأشياء حراما فلا بد أن يكون تحريمه مفصلا وكما أنه لا يجوز إباحة ما حرمه الله فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا عنه ولم يحرمه وبالله التوفيق. في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس وأن ما يظن مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم فيه ولا بد إما أن يكون القياس فاسدا أو يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص كونه من الشرع وسألت شيخنا قدس الله روحه عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: "هذا خلاف القياس" لما ثبت بالنص أو قول الصحابة أو بعضهم وربما كان مجمعا عليه كقولهم: طهارة الماء إذا وقعت فيه نجاسة على خلاف القياس وتطهير النجاسة على خلاف القياس والوضوء من لحوم الإبل والفطر بالحجامة والسلم والإجارة والحوالة والكتابة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والقرض وصحة صوم الآكل الناسي والمضي في الحج الفاسد كل ذلك على خلاف القياس فهل ذلك صواب أم لا؟ فقال: ليس في الشريعة ما يخالف القياس وأنا أذكر ما حصلته من جوابه بخطه ولفظه وما فتح الله سبحانه لي بيمن إرشاده وبركة تعليمه وحسن بيانه وتفهيمه. لفظ القياس مجمل أصل هذا أن تعلم أن لفظ القياس لفظ مجمل يدخل فيه القياس الصحيح والفاسد والصحيح هو الذي وردت به الشريعة وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين فالأول قياس الطرد والثاني قياس العكس وهو من العدل الذي بعث الله به نبيه ﷺ فالقياس الصحيح مثل أن تكون العلة التي علق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه قط وكذلك القياس بإلغاء الفارق وهو أن لا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع فمثل هذا القياس أيضا لا تأتي الشريعة بخلافه وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأحكام بحكم يفارق به نظائره فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم ويمنع مساواته لغيره لكن الوصف الذي اختص به ذلك النوع قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر وليس من شرط القياس الصحيح أن يعلم صحته كل أحد فمن رأى شيئا من الشريعة مخالفا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه ليس مخالفا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر وحيث علمنا أن النص ورد بخلاف قياس علمنا قطعا أنه قياس فاسد بمعنى أن صورة النص امتازت عن تلك الصور التي يظن أنها مثلها بوصف أوجب تخصيص الشارع لها بذلك الحكم فليس في الشريعة ما يخالف قياسا صحيحا ولكن يخالف القياس الفاسد وإن كان بعض الناس لا يعلم فساده ونحن نبين ذلك فيما ذكر في السؤال. المشاركة غير المعارضة فالذين قالوا: "المضاربة والمساقاة والمزارعة على خلاف القياس" ظنوا أن هذه العقود من جنس الإجارة لأنها عمل بعوض والإجارة يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض فلما رأوا العمل والربح في هذه العقود غير معلومين قالوا هي على خلاف القياس وهذا من غلطهم فإن هذه العقود من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضات المحضة التي يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض والمشاركات جنس غير جنس المعوضات وإن كان فيها شوب المعاوضة وكذلك المقاسمة جنس غير جنس المعاوضة المحضة وإن كان فيها شوب المعاوضة حتى ظن بعض الفقهاء أنها بيع يشترط فيها شروط البيع الخاص. العمل الذي يقصد به المال أنواع ثلاثة وإيضاح هذا أن العمل الذي يقصد به المال ثلاثة أنواع: النوع الأول أحدها: أن يكون العمل مقصودا معلوما مقدورا على تسليمه فهذه الإجارة اللازمة. النوع الثاني الثاني: أن يكون العمل مقصودا لكنه مجهول أو غرر فهذه الجعالة وهي عقد جائز ليس بلازم فإذا قال: "من رد عبدي الآبق فله مائة" فقد يقدر على رده وقد لا يقدر وقد يرده من مكان قريب أو بعيد فلهذا لم تكن لازمة لكن هي جائزة فإن عمل العمل استحق الجعل وإلا فلا ويجوز أن يكون الجعل فيها إذا حصل بالعمل جزءا شائعا ومجهولا جهالة لا تمنع التسليم كقول أمير الغزو: "من دل على حصن فله ثلث ما فيه" أو يقول للسرية التي يسير بها: "لكم خمس ما تغنمون أو ربعه" وتنازعوا في السلب هل هو مستحق بالشرع كقول الشافعي أو بالشرط كقول أبي حنيفة ومالك على قولين وهما روايتان عن أحمد فمن جعله مستحقا بالشرط جعله من هذا الباب ومن ذلك إذا جعل للطبيب جعلا على الشفاء جاز كما أخذ أصحاب النبي ﷺ القطيع من الشاء الذي جعله لهم سيد الحي فرقاه أحدهم حتى برىء والجعل كان على الشفاء لا على القراءة ولو استأجر طبيبا إجارة لازمة على الشفاء لم يصح لأن الشفاء غير مقدور له فقد يشفيه الله وقد لا يشفيه فهذا ونحوه مما تجوز فيه الجعالة دون الإجارة اللازمة. فصل النوع الثالث وأما النوع الثالث فهو: مالا يقصد فيه العمل بل المقصود فيه المال وهو المضاربة: فإن رب المال ليس له قصد في نفس عمل العامل كالمجاعل والمستأجر له قصد في عمل العامل ولهذا لو عمل ما عمل ولم يربح شيئا لم يكن له شيء وإن سمى هذه جعالة بجزء مما يحصل من العمل كان نزاعا لفظيا بل هذه مشاركة: هذا بنفع ماله وهذا بنفع بدنه وما قسم الله من ربح كان بينهما على الإشاعة ولهذا لا يجوز أن يختص أحدهما بربح مقدر لأن هذا يخرجهما عن العدل الواجب في الشركة وهذا هو الذي نهى عنه النبي ﷺ من المزارعة فإنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها وهو ما ثبت على الماذيانات وأقبال الجداول ونحو ذلك فنهى النبي ﷺ عنه ولهذا قال الليث بن سعد وغيره: "إن الذي نهى عنه النبي ﷺ أمر لو نظر فيه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز" فتبين أن النهي عن ذلك موجب القياس فإن هذا لو شرط في المضاربة لم يجز فإن مبنى المشاركات على العدل بين الشريكين فإذا خص أحدهما بربح دون الآخر لم يكن ذلك عدلا بخلاف ما إذا كان لكل منهما جزء شائع فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم فإن حصل ربح اشتركا فيه وإن لم يحصل شيء اشتركا في المغرم وذهب نفع بدن هذا كما ذهب نفع مال هذا ولهذا كانت الوضيعة على المال لأن ذلك في مقابلة ذهاب نفع المال ولهذا كان الصواب أنه يجب في المضاربة الفاسدة بربح المثل فيعطى العامل ما جرت العادة أن يعطاه مثله إما نصفه أو ثلثه فأما أن يعطى شيئا مقدرا مضمونا في ذمة المالك كما يعطى في الإجارة والجعالة فهذا غلط ممن قاله وسبب غلطه ظنه أن هذه إجارة فأعطاه في فاسدها عوض المثل كما يعطيه في الصحيح المسمى. ومما يبين غلط هذا القول أن العامل قد يعمل عشر سنين أو أكثر فلو أعطى أجرة المثل أعطى أضعاف رأس المال وهو في الصحيحة لا يستحق إلا جزءا من الربح إن كان هناك ربح فكيف يستحق في الفاسدة أضعاف ما يستحقه في الصحيحة وكذلك الذين أبطلوا المزارعة والمساقاة ظنوا أنهما إجارة بعوض مجهول فأبطلوها وبعضهم صحح منهما ما تدعو إليه الحاجة كالمساقاة على الشجر لعدم إمكان إجارتها بخلاف الأرض فإنه يمكن إجارتها وجوزوا من المزارعة ما يكون تبعا للمساقاة إما مطلقا وإما إذا كان البياض الثلث وهذا كله بناء على أن مقتضى الدليل بطلان المزارعة وإنما جوزت للحاجة ومن أعطى النظر حقه علم أن المزارعة أبعد عن الظلم والغرر من الإجارة بأجرة مسماة مضمونة في الذمة فإن المستأجر إنما يقصد الانتفاع بالزرع النابت في الأرض فإذا لزمته الأجرة ومقصوده من الزرع قد يحصل وقد لا يحصل كان في هذا حصول أحد المعاوضين على مقصوده دون الآخر فأحدهما غانم ولا بد والآخر متردد بين المغنم والمغرم وأما المزارعة فإن حصل الزرع اشتركا فيه وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان فلا يختص أحدهما بحصول مقصوده دون الآخر فهذا أقرب إلى العدل وأبعد عن الظلم والغرر من الإجارة. العدل هو الأصل في كل العقود والأصل في العقود كلها إنما هو العدل الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب قال تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم وعن الميسر لما فيه من الظلم والقرآن جاء بتحريم هذا وهذا وكلاهما أكل المال بالباطل وما نهى عنه النبي ﷺ من المعاملات كبيع الغرر وبيع الثمر قبل بدو صلاحه وبيع السنين وبيع حبل الحبلة وبيع المزابنة والمحاقلة وبيع الحصاة وبيع الملاقيح والمضامين ونحو ذلك هي داخلة إما في الربا وإما في الميسر فالإجارة بالأجرة المجهولة مثل أن يكريه الدار بما يكسبه المكتري في حانوته من المال هو من الميسر وأما المضاربة والمساقاة والمزارعة فليس فيها شيء من الميسر بل هي من أقوم العدل وهو مما يبين لك أن المزارعة التي يكون فيها البذر من العامل أولى بالجواز من المزارعة التي يكون فيها البذر من رب الأرض ولهذا كان أصحاب النبي ﷺ يزارعون على هذا الوجه وكذلك عامل النبي ﷺ أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعملوها من أموالهم والذين اشترطوا أن يكون البذر من رب الأرض قاسوا ذلك على المضاربة فقالوا المضاربة فيها المال من واحد والعمل من آخر فكذلك المزارعة ينبغي أن يكون البذر فيها من مالك الأرض وهذا القياس مع أنه مخالف للسنة الصحيحة ولأقوال الصحابة فهو من أفسد القياس فإن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه ويقتسمان الربح فهذا نظير الأرض في المزارعة وأما البذر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه بل يذهب كما يذهب نفع الأرض فإلحاقه بالنفع الذاهب أولى من إلحاقه بالأصل الباقي فالعامل إذا أخرج البذر ذهب عمله وبذره ورب الأرض يذهب نفع أرضه وبدن هذا كأرض هذا فمن جعل البذر كالمال في المضاربة كان ينبغي له أن يعيد مثل هذا البذر إلى صاحبه كما قال مثل ذلك في المضاربة فكيف ولو اشترط رب البذر عود نظيره لم يجوزوا ذلك؟ فصل الحوالة توافق القياس وأما الحوالة فالذين قالوا: "إنها على خلاف القياس" قالوا: هي بيع دين بدين والقياس يأباه وهذا غلط من وجهين. أحدهما: أن بيع الدين بالدين ليس فيه نص عام ولا إجماع وإنما ورد النهي عن بيع الكالىء بالكالىء والكالىء: هو المؤخر الذي لم يقبض كما لو أسلم شيئا في شيء في الذمة وكلاهما مؤخر فهذا لا يجوز بالاتفاق وهو بيع كالىء بكالىء وأما بيع الدين بالدين فينقسم إلى بيع واجب بواجب كما ذكرنا وهو ممتنع وينقسم إلى بيع ساقط بساقط وساقط بواجب وواجب بساقط وهذا فيه نزاع. قلت: الساقط بالساقط في صورة المقاصة والساقط بالواجب كما لو باعه دينا له في ذمته بدين آخر من غير جنسه فسقط الدين المبيع ووجب عوضه وهي بيع الدين ممن هو ذمته وأما بيع الواجب بالساقط فكما لو أسلم إليه في كر حنطة بعشرة دراهم في ذمته فقد وجب له عليه دين وسقط له عنه دين غيره وقد حكى الإجماع على امتناع هذا ولا إجماع فيه قاله شيخنا واختار جوازه وهو الصواب إذ لا محذور فيه وليس بيع كالىء بكالىء فيتناوله النهي بلفظه ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة فإنه لم يتعجل أحدهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله وينتفع صاحب المؤخر بربحه بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة وأما ما عداه من الصور الثلاث فلكل منهما غرض صحيح ومنفعة مطلوبة وذلك ظاهر في مسألة التقاص فإن ذمتهما تبرأ من أسرها وبراءة الذمة مطلوب لهما وللشارع فأما في الصورتين الأخيرتين فأحدهما يعجل براءة ذمته والآخر ينتفع بما يربحه وإذا جاز أن يشغل أحدهما ذمته والآخر يحصل على الربح وذلك في بيع العين بالدين جاز أن يفرغها من دين ويشغلها بغيره وكأنه شغلها به ابتداء إما بقرض أو بمعاوضة فكانت ذمته مشغولة بشيء فانتقلت من شاغل إلى شاغل وليس هناك بيع كالىء بكالىء وإن كان بيع دين بدين فلم ينه الشارع عن ذلك لا بلفظه ولا بمعنى لفظه بل قواعد الشارع تقتضي جوازه فإن الحوالة اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه فقد عاوض المحيل المحتال من دينه بدين آخر في ذمة ثالث فإذا عاوضه من دينه على دين آخر في ذمته كان أولى بالجواز وبالله التوفيق. رجعنا إلى كلام شيخ الإسلام قال: الوجه الثاني يعني مما يبين أن الحوالة على وفق القياس أن الحوالة من جنس إيفاء الحق لا من جنس البيع فإن صاحب الحق إذا استوفى من المدين ماله كان هذا استيفاء فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدين عن الدين الذي في ذمة المحيل ولهذا ذكر النبي ﷺ الحوالة في معرض الوفاء فقال في الحديث الصحيح: "مطل الغنى ظلم وإذا أتبع أحدكم على ملىء فليتبع" فأمر المدين بالوفاء ونهاه عن المطل وبين أنه ظالم إذا مطل وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أحيل على ملىء وهذا كقوله تعالى {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} أمر المستحق أن يطالب بالمعروف وأمر المدين أن يؤدي بإحسان ووفاء الدين ليس هو البيع الخاص وإن كان فيه شوب المعاوضة وقد ظن بعض الفقهاء أن الوفاء إنما يحصل باستيفاء الدين بسبب أن الغريم إذا قبض الوفاء صار في ذمة المدين مثله ثم إنه يقاص ما عليه بماله وهذا تكلف أنكره جمهور الفقهاء وقالوا: بل نفس المال الذي قبضه يحصل به الوفاء ولا حاجة أن يقدر في ذمة المستوفي دينا وأولئك قصدوا أن يكون وفاء دين بدين مطلق وهذا لا حاجة إليه فإن الدين من جنس المطلق الكلي والمعين من جنس المعين فمن ثبت في ذمته دين مطلق كلي فالمقصود منه هو الأعيان الموجودة وأي معين استوفاه حصل به المقصود من ذلك الدين المطلق. فصل القرض يوافق القياس وأما القرض فمن قال: "إنه على خلاف القياس" فشبهته أنه بيع ربوي بجنسه مع تأخر القبض وهذا غلط فإن القرض من جنس التبرع بالمنافع كالعارية ولهذا سماه النبي ﷺ منيحة فقال: "أو منيحة ذهب أو منيحة ورق" وهذا من باب الإرفاق لا من باب المعاوضات فإن باب المعاوضات يعطي كل منهما أصل المال على وجه لا يعود إليه وباب القرض من جنس باب العارية والمنيحة وإفقار الظهر مما يعطى فيه أصل المال لينتفع بما يستخلف منه ثم يعيده إليه بعينه إن أمكن وإلا فنظيره ومثله فتارة ينتفع بالمنافع كما في عارية العقار وتارة يمنحه ماشية ليشرب لبنها ثم يعيدها أو شجرة ليأكل ثمرها ثم يعيدها وتسمى العرية فإنهم يقولون: أعاره الشجرة وأعاره المتاع ومنحه الشاة وأفقره الظهر وأقرضه الدراهم واللبن والثمر لما كان يستخلف شيئا بعد شيء كان بمنزلة المنافع ولهذا كان في الوقف يجري مجرى المنافع وليس هذا من باب البيع في شيء بل هو من باب الإرفاق والتبرع والصدقة وإن كان المقرض قد ينتفع أيضا بالقرض كما في مسألة السفتجة ولهذا كرهها من كرهها والصحيح أنها لا تكره لأن المنفعة لا تخص المقرض بل ينتفعان بها جميعا. فصل إزالة النجاسة توافق القياس وأما إزالة النجاسة فمن قال: "إنها على خلاف القياس" فقوله من أبطل الأقوال وأفسدها وشبهته أن الماء إذا لاقى نجاسة تنجس بها ثم لاقى الثاني والثالث كذلك وهلم جرا والنجس لا يزيل نجاسة وهذا غلط فإنه يقال فلم قلتم: إن القياس يقتضي أن الماء إذ لاقى نجاسة نجس؟ فإن قلتم: الحكم في بعض الصور كذلك قيل هذا ممنوع عند من يقول إن الماء لا ينجس إلا بالتغير. فإن قيل: فيقاس ما لم يتغير على ما تغير. قيل: هذا من أبطل القياس حسا وشرعا وليس جعل الإزالة مخالفة للقياس بأولى من جعل تنجيس الماء مخالفا للقياس بل يقال إن القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى نجاسة لا ينجس كما أنه إذا لاقاها حال الإزالة لا ينجس فهذا القياس أصح من ذلك القياس لأن النجاسة تزول بالماء حسا وشرعا وذلك معلوم بالضرورة من الدين بالنص والإجماع وأما تنجيس الماء بالملاقاة فمورد نزاع فكيف يجعل مورد النزاع حجة على مواقع الإجماع والقياس يقتضي رد موارد النزاع إلى موارد الإجماع وأيضا فالذي تقتضيه العقول أن الماء إذا لم تغيره النجاسة لا ينجس فإنه باق على أصل خلقته وهو طيب فيدخل في قوله {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وهذا هو القياس في المائعات جميعها إذا وقع فيها نجاسة فاستحالت بحيث لم يظهر لها لون ولا طعم ولا ريح. وقد تنازع الفقهاء: هل القياس يقتضي نجاسة الماء بملاقاة النجاسة إلا ما استثناه الدليل أو القياس يقتضي أنه لا ينجس إذ لم يتغير على قولين الأول قول أهل العراق والثاني قول أهل الحجاز وفقهاء الحديث منهم من يختار هذا ومنهم من يختار هذا. وقول أهل الحجاز هو الصواب الذي تدل عليه الأصول والنصوص والمعقول فإن الله سبحانه أباح الطيبات وحرم الخبائث والطيب والخبيث يثبت للمحل باعتبار صفات قأئمة به فما دامت تلك الصفة فالحكم تابع لها فإذا زالت وخلفتها الصفة الأخرى زال الحكم وخلفه ضده فهذا هو محض القياس والمعقول فهذا الماء والطعام كان طيبا لقيام الصفة الموجبة لطيبه فإذا زالت تلك الصفة وخلفتها صفة الخبث عاد خبيثا فإذا زالت صفة الخبث عاد إلى ما كان عليه وهذا كالعصير الطيب إذا تخمر صار خبيثا فإذا عاد إلى ما كان عليه عاد طيبا والماء الكثير إذا تغير بالنجاسة صار خبيثا فإذا زال التغير عاد طيبا والرجل المسلم إذا ارتد صار خبيثا فإذا عاد إلى الإسلام عاد طيبا والدليل على أنه طيب الحس والشرع أما الحس فلأن الخبث لم يظهر له فيه أثر بوجه ما لا في لون ولا طعم ولا رائحة ومحال صدق المشتق بدون المشتق منه وأما الشرع فمن وجوه أحدها: أنه كان طيبا قبل ملاقاته لما يتأثر به والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت رفعه وهذا يتضمن أنواع الاستصحاب الثلاثة المتقدمة استصحاب براءة الذمة من الإثم بتناوله شربا أو طبخا أو عجنا وملابسة استصحاب الحكم الثابت وهو الطهارة واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع. الثاني: أنه لو شرب هذا الماء الذي قطرت فيه قطرة من خمر مثل رأس الذبابة لم يحد اتفاقا ولو شربه صبي وقد قطرت فيه قطرة من لبن لم تنشر الحرمة فلا وجه للحكم بنجاسته لا من كتاب ولا من سنة ولا قياس. والذين قالوا: "إن الأصل نجاسة الماء بالملاقاة" تناقضوا أعظم تناقض ولم يمكنهم طرد هذا الأصل فمنهم من استثنى مقدار القلتين على خلافهم فيها ومنهم من استثنى ما لا يمكن نزحه ومنهم من استثنى ما إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر ومنهم من استثنى الجاري خاصة وفرقوا بين ملاقاة الماء في الإزالة إذا ورد على النجاسة وملاقاتها له إذا وردت عليه بفروق منها أنه وارد على النجاسة فهو فاعل وإذا وردت عليه فهو مورود منفعل وهو أضعف ومنها أنه إذا كان واردا فهو جار والجاري له قوة ومنها أنه إذا كان واردا فهو في محل التطهير وما دام في محل التطهير فله عمل وقوة والصواب أن مقتضى القياس أن الماء لا ينجس إلا بالتغير وأنه إذا تغير في محل التطهير فهو نجس أيضا وهو في حال تغيره لم يزلها وإنما خففها ولا تحصل الإزالة المطلوبة إلا إذا كان غير متغير وهذا هو القياس في المائعات كلها أن يسير النجاسة إذا استحالت في الماء ولم يظهر لها فيه لون ولا طعم ولا رائحة فهي من الطيبات لا من الخبائث وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: "الماء لا ينجس" وصح عنه أنه قال: "إن الماء لا يجنب" وهما نصان صريحان في أن الماء لا ينجس بالملاقاة ولا يسلبه طهوريته استعماله في إزالة الحدث ومن نجسه بالملاقاة أو سلب طهوريته بالاستعمال فقد جعله ينجس ويجنب والنبي ﷺ ثبت عنه في صحيح البخاري أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال ألقوها وما حولها وكلوه ولم يفصل بين أن يكون جامدا أو مائعا قليلا أو كثيرا فالماء بطريق الأولى يكون هذا حكمه وحديث التفريق بين الجامد والمائع حديث معلول وهو غلط من معمر من عدة وجوه بينها البخاري في صحيحه والترمذي في جامعه وغيرهما ويكفي أن الزهري الذي روى عنه معمر حديث التفصيل قد روى عنه الناس كلهم خلاف ما روى عنه معمر. وسئل عن هذه المسألة فأفتى بأنها تلقى وما حولها ويؤكل الباقي في الجامد والمائع والقليل والكثير واستدل بالحديث فهذه فتياه وهذا استدلاله وهذه رواية الأئمة عنه فقد اتفق على ذلك النص والقياس ولا يصلح للناس سواه وما عداه من الأقوال فمتناقض لا يمكن صاحبه طرده كما تقدم فظهر أن مخالفة القياس فيما خالف النص لا فيما جاء به النص. فصل طهارة الخمر باستحالتها توافق القياس وعلى هذا الأصل فطهارة الخمر بالاستحالة على وفق القياس فإنها نجسة لوصف الخبث فإذا زال الموجب زال الموجب وهذا أصل الشريعة في مصادرها ومواردها بل وأصل الثواب والعقاب وعلى هذا فالقياس الصحيح تعدية ذلك إلى سائر النجاسات إذا استحالت وقد نبش النبي ﷺ قبور المشركين من موضع مسجده ولم ينقل التراب وقد أخبر الله سبحانه عن اللبن أنه يخرج من بين فرث ودم وقد أجمع المسلمون على أن الدابة إذا علفت بالنجاسة ثم حبست وعلفت بالطاهرات حل لبنها ولحمها وكذلك الزرع والثمار إذا سقيت بالماء النجس ثم سقيت بالطاهر حلت لاستحالة وصف الخبث وتبدله بالطيب وعكس هذا أن الطيب إذا استحال خبيثا صار نجسا كالماء والطعام إذا استحال بولا وعذرة فكيف أثرت الاستحالة في انقلاب الطيب خبيثا ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيبا والله تعالى يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب ولا عبرة بالأصل بل بوصف الشيء نفسه ومن الممتنع بقاء حكم الخبث وقد زال اسمه ووصفه والحكم تابع للاسم والوصف دائر معه وجودا وعدما فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر لا تتناول الزرع والثمار والرماد والملح والتراب والخل لا لفظا ولا معنى ولا نصا ولا قياسا والمفرقون بين استحالة الخمر وغيرها قالوا الخمر نجست بالاستحالة فطهرت بالاستحالة فيقال لهم وهكذا الدم والبول والعذرة وإنما نجست بالاستحالة فتطهر بالاستحالة فظهر أن القياس مع النصوص وأن مخالفة القياس في الأقوال التي تخالف النصوص. فصل الوضوء من لحوم الإبل يوافق القياس وأما قولهم: "إن الوضوء من لحوم الإبل على خلاف القياس لأنها لحم واللحم لا يتوضأ منه" فجوابه أن الشارع فرق بين اللحمين كما فرق بين المكانين وكما فرق بين الراعيين رعاة الإبل ورعاة الغنم فأمر بالصلاة في مرابض الغنم دون أعطان الإبل وأمر بالتوضؤ من لحوم الإبل دون الغنم كما فرق بين الربا والبيع والمذكي والميتة فالقياس الذي يتضمن التسوية بين ما فرق الله بينه من أبطل القياس وأفسده ونحن لا ننكر أن في الشريعة ما يخالف القياس الباطل هذا مع أن الفرق بينهما ثابت في نفس الأمر كما فرق بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم فقال: "الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل والسكينة في أصحاب الغنم" وقد جاء أن على ذروة كل بعير شيطان وجاء أنها جن خلقت من جن ففيها قوة شيطانية والغاذى شبيه بالمغتذى ولهذا حرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير لأنها دواب عادية فالاغتذاء بها يجعل في طبيعة المغتذى من العدوان ما يضره في دينه فإذا اغتذى من لحوم الإبل وفيها تلك القوة الشيطانية والشيطان خلق من نار والنار تطفأ بالماء هكذا جاء الحديث ونظيره الحديث الآخر: "إن الغضب من الشيطان فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" فإذا توضأ العبد من لحوم الإبل كان في وضوئه ما يطفىء تلك القوة الشيطانية فتزول تلك المفسدة ولهذا أمرنا بالوضوء مما مست النار إما إيجابا منسوخا وإما استحبابا غير منسوخ وهذا الثاني أظهر لوجوه منها أن النسخ لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع بين الحديثين ومنها أن رواة أحاديث الوضوء بعضهم متأخر الإسلام كأبي هريرة ومنها أن المعنى الذي أمرنا بالوضوء لأجله منها هو اكتسابها من القوة النارية وهي مادة الشيطان التي خلق منها والنار تطفأ بالماء وهذا المعنى موجود فيها وقد ظهر اعتبار نظيره في الأمر بالوضوء من الغضب ومنها أن أكثر ما مع من ادعى النسخ أنه ثبت في أحاديث صحيحة كثيرة أنه ﷺ: "أكل مما مست النار ولم يتوضأ" وهذا إنما يدل على عدم وجوب الوضوء لا على عدم استحبابه فلا تنافي بين أمره وفعله وبالجملة فالنسخ إنما يصار إليه عند التنافي وتحقق التاريخ وكلاهما منتف وقد يكون الوضوء من مس الذكر ومس النساء من هذا الباب لما في ذلك من تحريك الشهوة فالأمر بالوضوء منهما على وفق القياس ولما كانت القوة الشيطانية في لحوم الإبل لازمة كان الأمر بالوضوء منها لا معارض له من فعل ولا قول ولما كان في ممسوس النار عارضة صح فيها الأمر والترك ويدل على هذا أنه فرق بينها وبين لحوم الغنم في الوضوء وفرق بينها وبين الغنم في مواضع الصلاة فنهى عن الصلاة في أعطان الإبل وأذن في الصلاة في مرابض الغنم وهذا يدل على أنه ليس ذلك لأجل الطهارة والنجاسة كما أنه لما أمر بالوضوء من لحوم الإبل دون لحوم الغنم علم أنه ليس ذلك لكونها مما مسته النار ولما كانت أعطان الإبل مأوى الشيطان لم تكن مواضع للصلاة كالحشوش بخلاف مباركها في السفر فإن الصلاة فيها جائزة لأن الشيطان هناك عارض وطرد هذا المنع من الصلاة في الحمام لأنه بيت الشيطان وفي الوضوء من اللحوم الخبيثة كلحوم السباع إذا أبيحت للضرورة روايتان والوضوء منها أبلغ من الوضوء من لحوم الإبل فإذا عقل المعنى لم يكن بد من تعديته ما لم يمنع منه مانع والله أعلم. فصل الفطر بالحجامة يوافق القياس أما الفطر بالحجامة فإنما اعتقد من قال: "إنه على خلاف القياس" ذلك بناء على أن القياس الفطر بما دخل لا بما خرج وليس كما ظنوه بل الفطر بها محض القياس وهذا إنما يتبين بذكر قاعدة وهي: أن الشارع الحكيم شرع الصوم على أكمل الوجوه وأقومها بالعدل وأمر فيه بغاية الاعتدال حتى نهى عن الوصال وأمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور وجعل أعدل الصيام وأفضله صيام داود فكان من تمام الاعتدال في الصوم أن لا يدخل الإنسان ما به قوامه كالطعام والشراب ولا يخرج ما به قوامه كالقيء والاستمناء وفرق بين ما يمكن الاحتراز منه من ذلك وبين ما لا يمكن فلم يفطر بالاحتلام ولا بالقيء الذارع كما لا يفطر بغبار الطحين وما يسبق من الماء إلى الجوف عند الوضوء والغسل وجعل الحيض منافيا للصوم دون الجنابة لطول زمانه وكثرة خروج الدم وعدم التمكن من التطهير قبل وقته بخلاف الجنابة وفرق بين دم الحجامة ودم الجرح فجعل الحجامة من جنس القيء والاستمناء والحيض وخروج الدم من الجرح والرعاف من جنس الاستحاضة والاحتلام وذرع القيء فتناسبت الشريعة وتشابهت تأصيلا وتفصيلا وظهر أنها على وفق القياس الصحيح والميزان العادل ولله الحمد. فصل التيمم يوافق القياس ومما يظن أنه على خلاف القياس باب التيمم قالوا: إنه على خلاف القياس من وجهين أحدهما أن التراب ملوث لا يزيل درنا ولا وسخا ولا يطهر البدن كما لا يطهر الثوب والثاني أنه شرع في عضوين من أعضاء الوضوء دون بقيتها وهذا خروج عن القياس الصحيح. ولعمر الله أنه خروج عن القياس الباطل المضاد للدين وهو على وفق القياس الصحيح فإن الله سبحانه جعل من الماء كل شيء حي وخلقنا من التراب فلنا مادتان الماء والتراب فجعل منهما نشأتنا وأقواتنا وبهما تطهرنا وتعبدنا فالتراب أصل ما خلق منه الناس والماء حياة كل شيء وهما الأصل في الطبائع التي ركب الله عليهما هذا العالم وجعل قوامه بهما وكان أصل ما يقع به تطهير الأشياء من الأدناس والأقذار هو الماء في الأمر المعتاد فلم يجز العدول عنه إلا في حال العدم والعذر بمرض أو نحوه وكان النقل عنه إلى شقيقه وأخيه التراب أولى من غيره وإن لوث ظاهرا فإنه يطهر باطنا ثم يقوي طهارة الباطن فيزيل دنس الظاهر أو يخففه وهذا أمر يشهده من له بصر نافذ بحقيقة الأعمال وارتباط الظاهر بالباطن وتأثر كل منهما بالآخر وانفعاله عنه. فصل التيمم في عضوين بوافق القياس وأما كونه في عضوين ففي غاية الموافقة للقياس والحكمة فإن وضع التراب على الرءوس مكروه في العادات وإنما يفعل عند المصائب والنوائب والرجلان محل ملابسة التراب في أغلب الأحوال وفي تتريب الوجه من الخضوع والتعظيم لله والذل له والانكسار لله ما هو أحب العبادات إليه وأنفعها للعبد ولذلك يستحب للساجد أن يترب وجهه لله وأن لا يقصد وقاية وجهه من التراب كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد وجعل بينه وبين التراب وقاية فقال: "ترب وجهك" وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرجلين وأيضا فموافقة ذلك للقياس من وجه آخر وهو أن التيمم جعل في العضوين المغسولين وسقط عن العضوين الممسوحين فإن الرجلين تمسحان في الخف والرأس في العمامة فلما خفف عن المغسولين بالمسح خفف عن الممسوحين بالعفو إذ لو مسحا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما بل كان فيه انتقال من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب فظهر أن الذي جاءت به الشريعة هو أعدل الأمور وأكملها وهو الميزان الصحيح. أما كون تيمم الجنب كتيمم المحدث فلما سقط مسح الرأس والرجلين بالتراب عن المحدث سقط مسح البدن كله بالتراب عنه بطريق الأولى إذ في ذلك من المشقة والحرج والعسر مما يناقض رخصة التيمم ويدخل أكرم المخلوقات على الله في شبه البهائم إذا تمرغ في التراب فالذي جاءت به الشريعة لا مزيد في الحسن والحكمة والعدل عليه ولله الحمد. فصل السلم يوافق القياس وأما السلم فمن ظن أنه على خلاف القياس توهم دخوله تحت قول النبي ﷺ: "لا تبع ما ليس عندك" فإنه بيع معدوم والقياس يمنع منه والصواب أنه على وفق القياس فإنه بيع مضمون في الذمة موصوف مقدور على تسليمه غالبا وهو كالمعارضة على المنافع في الإجارة وقد تقدم أنه على وفق القياس وقياس السلم على بيع العين المعدومة التي لا يدري أيقدر على تحصيلها أم لا والبائع والمشتري منها على غرر من أفسد القياس صورة ومعنى وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان مالا يملكه ولا هو مقدور له وبين السلم إليه في مغل مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكى والربا والبيع. وأما قول النبي ﷺ لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" فيحمل على معنيين: أحدهما: أن يبيع عينا معينة وهي ليست عنده بل ملك للغير فيبيعها ثم يسعى في تحصيلها وتسليمها إلى المشتري والثاني: أن يريد بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة وهذا أشبه فليس عنده حسا ولا معنى فيكون قد باعه شيئا لا يدري هل يحصل له أم لا وهذا يتناول أمورا أحدها بيع عين معينة ليست عنده الثاني السلم الحال في الذمة إذا لم يكن عنده ما يوفيه الثالث: السلم المؤجل إذا لم يكن على ثقة من توفيته عادة فأما إذا كان على ثقة من توفيته عادة فهو دين من الديون وهو كالابتياع بثمن مؤجل فأي فرق بين كون أحد العوضين مؤجلا في الذمة وبين الآخر فهذا محض القياس والمصلحة وقد قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} وهذا يعم الثمن والمثمن وهذا هو الذي فهمه ترجمان القرآن من القرآن عبد الله بن عباس فقال: "أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلال في كتاب الله" وقرأ هذه الآية. فثبت أن إباحة السلم على وفق القياس والمصلحة وشرع على أكمل الوجوه وأعدلها فشرط فيه قبض الثمن في الحال إذ لو تأخر لحصل شغل الذمتين بغير فائدة ولهذا سمي سلما لتسليم الثمن فإذا أخر الثمن دخل في حكم الكالىء بالكالىء بل هو نفسه وكثرت المخاطرة ودخلت المعاملة في حد الغرر ولذلك منع الشارع أن يشترط فيه كونه من حائط معين لأنه قد يتخلف فيمتنع التسليم. والذين شرطوا أن يكون دائم الجنس غير منقطع قصدوا به إبعاده من الغرر بإمكان التسليم لكن ضيقوا ما وسع الله وشرطوا ما لم يشرطه وخرجوا عن موجب القياس والمصلحة أما القياس فإنه أحد العوضين فلم يشترط دوامه ووجوده كالثمن وأما المصلحة فإن في اشتراط ذلك تعطيل مصالح الناس إذ الحاجة التي لأجلها شرع الله ورسوله السلم الارتفاق من الجانبين هذا يرتفق بتعجيل الثمن وهذا يرتفق برخص المثمن وهذا قد يكون في منقطع الجنس كما قد يكون في متصله فالذي جاءت به الشريعة أكمل شيء وأقومه بمصالح العباد. فصل الكتابة توافق القياس وأما الكتابة فمن قال هي على خلاف القياس قال: هي بيع السيد ماله بماله وهذا غلط وإنما باع العبد نفسه بمال في ذمته والسيد لا حق له في ذمة العبد وإنما حقه في بدنه فإن السيد حقه في مالية العبد لا في إنسانيته وإنما يطالب العبد بما في ذمته بعد عتقه وحينئذ فلا ملك للسيد عليه وإذا عرف هذا فالكتابة بيعه نفسه بمال في ذمته ثم إذا اشترى نفسه كان كسبه له ونفعه له وهو حادث على ملكه الذي استحقه بعقد الكتابة ومن تمام حكمة الشارع أنه أخر فيها العتق إلى حين الأداء لأن السيد لم يرض بخروجه عن ملكه إلا بأن يسلم له العوض فمتى لم يسلم له العوض وعجز العبد عنه كان له الرجوع في البيع فلو وقع العتق لم يمكن رفعه بعد ذلك فيحصل السيد على الحرمان فراعى الشارع مصلحة السيد ومصلحة العبد وشرع الكتابة على أكمل الوجوه وأشدها مطابقة للقياس الصحيح وهذا هو القياس في سائر المعاوضات وبه جاءت السنة الصحيحة الصريحة الذي لا معارض لها أن المشتري إذا عجز عن الثمن كان للبائع الرجوع في عين ماله وسواء حكم الحاكم بفلسه أم لا والنبي ﷺ لم يشترط حكم الحاكم ولا أشار إليه ولا دل عليه بوجه ما فلا وجه لاشتراطه وإنما المعنى الموجب للرجوع هو الفلس الذي حال بين البائع وبين الثمن وهذا المعنى موجود بدون حكم الحاكم فيجب ترتيب أثره عليه وهو محض العدل وموجب القياس فإن المشتري لو اطلع على عيب في السلعة كان له الفسخ بدون حكم حاكم ومعلوم أن الأعسار عيب في الذمة لو علم به البائع لم يرض بكون ماله في ذمة مفلس فهذا محض القياس الموافق للنص ومصالح العباد وبالله التوفيق. وطرد هذا القياس عجز الزوج عن الصداق أو عجزه عن الوطء وعجزه عن النفقة والكسوة وطرده عجز المرأة عن العوض في الخلع أن للزوج الرجعة وهذا هو الصواب بلا ريب فإنه لم يخرج البضع عن ملكه إلا بشرط سلامة العوض وطرده الصلح عن القصاص إذا لم يحصل له ما يصالح عليه فله العود إلى طلب القصاص فهذا موجب العدل ومقتضى قواعد الشريعة وأصولها وبالله التوفيق. فصل الإجارة توافق القياس وأما الإجارة فالذين قالوا: "هي على خلاف القياس" قالوا: هي بيع معدوم لأن المنافع معدومة حين العقد ثم لما رأوا الكتاب قد دل على جواز إجارة الظئر للرضاع بقوله {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} قالوا إنها على خلاف القياس من وجهين أحدهما كونها إجارة والثاني أن الإجارة عقد على المنافع وهذه عقد على الأعيان ومن العجب أنه ليس في القرآن ذكر إجارة جائزة إلا هذه وقالوا هي على خلاف القياس والحكم إنما يكون على خلاف القياس إذا كان النص قد جاء في موضع يشابهه بنقيض ذلك الحكم فيقال هذا خلاف قياس ذلك النص وليس في القرآن ولا في السنة ذكر فساد إجارة شبه هذه الإجارة ومنشأ وهمهم ظنهم أن مورد عقد الإجارة لا يكون إلا منافع هي أعراض قأئمة بغيرها لا أعيان قأئمة بنفسها ثم افترق هؤلاء فرقتين فقالت فرقة إنما احتملناها على خلاف القياس لورود النص فلا نتعدى محله وقالت فرقة بل نخرجها على ما يوافق القياس وهو كون المعقود عليه أمرا غير اللبن بل هو إلقام الصبي الثدي ووضعه في حجر المرضعة ونحو ذلك من المنافع التي هي مقدمات الرضاع واللبن يدخل تبعا غير مقصود بالعقد ثم طردوا ذلك في مثل ماء البئر والعيون التي في الأرض المستأجرة وقالوا يدخل ضمنا وتبعا فإذا وقعت الإجارة على نفس العين والبئر لسقي الزرع والبستان قالوا إنما وردت الإجارة على مجرد إدلاء الدلو في البئر وإخراجه وعلى مجرد إجراء العين في أرضه مما هو قلب الحقائق وجعل المقصود وسيلة والوسيلة مقصودة إذ من المعلوم أن هذه الأعمال إنما هي وسيلة إلى المقصود بعقد الإجارة وإلا فهي بمجردها ليست مقصودة ولا معقودا عليها ولا قيمة لها أصلا وإنما هي كفتح الباب وكقود الدابة لمن اكترى دارا أو دابة. الرد على من جعل الإجارة على خلاف القياس ونحن نتكلم على هذين الأصلين الباطلين على أصل من جعل الإجارة على خلاف القياس وعلى أصل من جعل إجارة الظئر ونحوها على خلاف القياس فنقول وبالله التوفيق. أما الأصل الأول فقولهم: "إن الإجارة بيع معدوم وبيع المعدوم باطل" دليل مبني على مقدمتين مجملتين غير مفصلتين قد اختلط في كل منهما الخطأ بالصواب فأما المقدمة الأولى وهي كون الإجارة بيعا إن أردتم به البيع الخاص الذي يكون العقد فيه على الأعيان لا على المنافع فهو باطل وإن أردتم به البيع العام الذي هو معاوضة إما على عين وإما على منفعة فالمقدمة الثانية باطلة فإن بيع المعدوم ينقسم إلى بيع الأعيان وبيع المنافع ومن سلم بطلان بيع المعدوم فإما يسلمه في الأعيان ولما كان لفظ البيع يحتمل هذا وهذا تنازع الفقهاء في الإجارة هل تنعقد بلفظ البيع على وجهين والتحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود أنعقدت بأي لفظ من الألفاظ عرف به المتعاقدان مقصودهما وهذا حكم شامل لجميع العقود فإن الشارع لم يحد لألفاظ العقود حدا بل ذكرها مطلقة فكما تنعقد العقود بما يدل عليها من الألفاظ الفارسية والرومية والتركية فانعقادها بما يدل عليها من الألفاظ العربية أولى وأحرى ولا فرق بين النكاح وغيره وهذا قول جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وهو أحد القولين في مذهب أحمد قال شيخنا بل نصوص أحمد لا تدل إلا على هذا القول وأما كونه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج فإنما هو قول ابن حامد والقاضي وأتباعه وأما قدماء أصحاب أحمد فلم يشترط أحد منهم ذلك وقد نص أحمد على أنه إذا قال: "أعتقت أمتي وجعلت عتقها صداقها" أنه ينعقد النكاح قال ابن عقيل: "وهذا يدل على أنه لا يختص النكاح بلفظ" وأما ابن حامد فطرد أصله وقال: "لا ينعقد حتى يقول مع ذلك تزوجتها" وأما القاضي فجعل هذا موضع استحسان خارجا عن القياس فجوز النكاح في هذه الصورة خاصة بدون لفظ الإنكاح والتزويج وأصول الإمام أحمد ونصوصه تخالف هذا فإن من أصوله أن العقود تنعقد بما يدل على مقصودها من قول أو فعل ولا يرى اختصاصها بالصيغ ومن أصوله أن الكناية مع دلالة الحال كالصريح كما قاله في الطلاق والقذف وغيرهما والذين اشترطوا لفظ الإنكاح والتزويج قالوا ما عداهما كناية فلا يثبت حكمها إلا بالنية وهي أمر باطن لا اطلاع للشاهد عليه إذ الشهادة إنما تقع على المسموع لا على المقاصد والنيات وهذا إنما يستقيم إذا كانت ألفاظ الصريح والكناية ثابتة بعرف الشرع وفي عرف المتعاقدين والمقدمتان غير معلومتين. أما الأولى: فإن الشارع استعمل لفظ التمليك في النكاح فقال: "ملكتكها بما معك من القرآن" وأعتق صفية وجعل عتقها صداقها ولم يأت معه بلفظ إنكاح ولا تزويج وأباح الله ورسوله النكاح ورد فيه الأمة إلى ما تتعارفه نكاحا بأي لفظ كان ومعلوم أن تقسيم الألفاظ إلى صريح وكناية تقسيم شرعي فإن لم يقم عليه دليل شرعي كان باطلا فما هو الضابط لذلك؟ وأما المقدمة الثانية فكون اللفظ صريحا أو كناية أمر يختلف باختلاف عرف المتكلم والمخاطب والزمان والمكان فكم من لفظ صريح عند قوم وليس بصريح عند آخرين وفي مكان دون مكان وزمان دون زمان فلا يلزم من كونه صريحا في خطاب الشارع أن يكون صريحا عند كل متكلم وهذا ظاهر. اختلاف بيع المنافع عن بيع الأعيان والمقصود أن قوله: "إن الإجارة نوع من البيع" إن أراد به البيع الخاص فباطل وإن أراد به البيع العام فصحيح ولكن قوله: "إن هذا البيع لا يرد على معدوم" دعوى باطلة فإن الشارع جوز المعاوضة العامة على المعدوم فإن قستم بيع المنافع على بيع الأعيان فهذا قياس في غاية الفساد فإن المنافع لا يمكن أن يعقد عليها في حال وجودها البتة بخلاف الأعيان وقد فرق بينهما الحس والشرع فإن النبي ﷺ أمر أن يؤخر العقد على الأعيان التي لم تخلق إلى أن تخلق كما نهى عن بيع السنين وحبل الحبلة والثمر قبل أن يبدو صلاحه والحب حتى يشتد ونهى عن الملاقيح والمضامين ونحو ذلك وهذا يمتنع مثله في المنافع فإنه لا يمكن أن تباع إلا في حال عدمها فههنا أمران أحدهما يمكن إيراد العقد عليه في حال وجوده وحال عدمه فنهى الشارع عن بيعه حتى يوجد وجوز منه بيع ما لم يوجد تبعا لما وجد إذا دعت الحاجة إليه وبدون الحاجة لم يجوزه والثاني ما لا يمكن إيراد العقد عليه إلا في حال عدمه كالمنافع فهذا جوز العقد عليه ولم يمنع منه. فإن قلت: أنا أقيس أحد النوعين على الآخر وأجعل العلة مجرد كونه معدوما. قيل: هذا قياس فاسد لأنه يتضمن التسوية بين المختلفين وقولك: "إن العلة مجرد كونه معدوما" دعوى بغير دليل بل دعوى باطلة فلم لا يجوز أن تكون العلة في الأصل كونه معدوما يمكن تأخير بيعه إلى زمن وجوده وعلى هذا التقدير فالعلة مقيدة بعدم خاص وأنت لم تبين أن العلة في الأصل مجرد كونه معدوما فقياسك فاسد وهذا كاف في بيان فساده بالمطالبة ونحن نبين بطلانه في نفسه فنقول ما ذكرناه علة مطردة وما ذكرته علة منتقضة فإنك إذا عللت بمجرد العدم ورد عليك النقص بالمنافع كلها وبكثير من الأعيان وما عللنا به لا ينتقض وأيضا فالقياس المحض وقواعد الشريعة وأصولها ومناسباتها تشهد لهذه العلة فإنه إذا كان له حال وجود وعدم كان في بيعه حال العدم مخاطرة وقمار وبذلك علل النبي ﷺ المنع حيث قال: "أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟" وأما ما ليس له إلا حال واحد والغالب فيه السلامة فليس العقد عليه مخاطرة ولا قمارا وإن كان فيه مخاطرة يسيرة فالحاجة داعية إليه ومن أصول الشريعة أنه إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما والغرر إنما نهي عنه لما فيه من الضرر بهما أو بأحدهما وفي المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضرر أعظم من ضرر المخاطرة فلا يزيل أدنى الضررين بأعلاهما بل قاعدة الشريعة ضد ذلك وهو دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما ولهذا لما نهاهم عن المزابنة لما فيها من ربا أو مخاطرة أباحها لهم في العرايا للحاجة لأن ضرر المنع من ذلك أشد من ضرر المزابنة ولما حرم عليهم الميتة لما فيها من خبث التغذية أباحها لهم للضرورة ولما حرم عليهم النظر إلى الأجنبية أباح منه ما تدعو إليه الحاجة للخاطب والمعامل والشاهد والطبيب. فإن قلت: فهذا كله على خلاف القياس. قيل: إن أردت أن الفرع اختص بوصف يوجب الفرق بينه وبين الأصل فكل حكم استند إلى هذا الفرق الصحيح فهو على خلاف القياس الفاسد وإن أردت أن الأصل والفرع استويا في المقتضى والمانع واختلف حكمهما فهذا باطل قطعا ليس في الشريعة منه مسألة واحدة والشيء إذا شابه غيره في وصف وفارقه في وصف كان اختلافهما في الحكم باعتبار الفارق مخالفا لاستوائهما باعتبار الجامع وهذا هو القياس الصحيح طردا وعكسا وهو التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين. وأما التسوية بينهما في الحكم مع افتراقهما فيما يقتضي الحكم أو يمنعه فهذا هو القياس الفاسد الذي جاء الشرع دائما بإبطاله كما أبطل قياس الربا على البيع وقياس الميتة على المذكى وقياس المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام على الأصنام وبين الفارق بأنه عبد أنعم عليه بعبوديته ورسالته فكيف يعذبه بعبادة غيره له مع نهيه عن ذلك وعدم رضاه به بخلاف الأصنام فمن قال: "إن الشريعة تأتي بخلاف القياس الذي هو من هذا الجنس" فقد أصاب وهو من كمالها واشتمالها على العدل والمصلحة والحكمة ومن سوى بين الشيئين لاشتراكهما في أمر من الأمور يلزمه أن يسوي بين كل موجودين لاشتراكهما في مسمى الوجود وهذا من أعظم الغلط والقياس الفاسد الذي ذمه السلف وقالوا أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس وهو القياس الذي اعترف أهل النار في النار ببطلانه حيث قالوا {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وذم الله أهله بقوله {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي يقيسونه على غيره ويسوون بينه وبين غيره في الإلهية والعبودية وكل بدعة ومقالة فاسدة في أديان الرسل فأصلها من القياس الفاسد فما أنكرت الجهمية صفات الرب وأفعاله وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه وكلامه وتكليمه لعباده ورؤيته في الدار الآخرة إلا من القياس الفاسد وما أنكرت القدرية عموم قدرته ومشيئته وجعلت في ملكه ما لا يشاء وأنه يشاء ما لا يكون إلا بالقياس الفاسد وما ضلت الرافضة وعادوا خيار الخلق وكفروا أصحاب محمد ﷺ وسبوهم إلا بالقياس الفاسد وما أنكرت الزنادقة والدهرية معاد الأجسام وانشقاق السموات وطي الدنيا وقالت بقدم العالم إلا بالقياس الفاسد وما فسد ما فسد من أمر العالم وخرب ما خرب منه إلا بالقياس الفاسد وأول ذنب عصي الله به القياس الفاسد وهو الذي جر على آدم وذريته من صاحب هذا القياس ما جر فأصل شر الدنيا والآخرة جميعه من هذا القياس الفاسد وهذه حكمة لا يدريها إلا من له اطلاع على الواجب والواقع وله فقه في الشرع والقدر. فصل خطأ من أطلق أن بيع المعدوم لا يجوز وأما المقدمة الثانية وهي أن بيع المعدوم لا يجوز فالكلام عليها من وجهين: أحدهما: منع صحة هذه المقدمة إذ ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ﷺ ولا في كلام أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز لا بلفظ عام ولا بمعنى عام وإنما في السنة النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة كما فيها النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة فليست العلة في المنع لا العدم ولا الوجود بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر وهو ما لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودا أو معدوما كبيع العبد الآبق والبعير الشارد وإن كان موجودا إذ موجب البيع تسليم المبيع فإذا كان البائع عاجزا عن تسليمه فهو غرر ومخاطرة وقمار فإنه لا يباع إلا بوكس فإن أمكن المشتري تسلمه كان قد قمر البائع وإن لم يمكنه ذلك قمره البائع وهكذا المعدوم الذي هو غرر نهي عنه للغرر لا للعدم كما إذا باعه ما تحمل هذه الأمة أو هذه الشجرة فالمبيع لا يعرف وجوده ولا قدره ولا صفته وهذا من الميسر الذي حرمه الله ورسوله ونظير هذا في الإجارة أن يكريه دابة لا يقدر على تسليمها سواء كانت موجودة أو معدومه وكذلك في النكاح إذا زوجه أمة لا يملكها أو ابنة لم تولد له وكذلك سائر عقود المعاوضات بخلاف الوصية فإنها تبرع محض فلا غرر في تعلقها بالموجود والمعدوم وما يقدر على تسليمه إليه وما لا يقدر وطرده الهبة إذ لا محذور في ذلك فيها وقد صح عن النبي ﷺ هبة المشاع المجهول في قوله لصاحب كبة الشعر حين أخذها من المغنم وسأله أن يهبها له فقال: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك". الوجه الثاني: أن نقول: بل الشرع صحح بيع المعدوم في بعض المواضع فإنه أجاز بيع الثمر بعد بدو صلاحه والحب بعد اشتداده ومعلوم أن العقد إنما ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يخلق بعد والنبي ﷺ نهى عن بيعه قبل بدو صلاحه وأباحه بعد بدو الصلاح ومعلوم أنه إذا اشتراه قبل الصلاح بشرط القطع كالحصرم جاز فإنما نهى عن بيعه إذا كان قصده التبقية إلى الصلاح ومن جوز بيعه قبل الصلاح وبعده بشرط القطع أو مطلقا وجعل موجب العقد القطع وحرم بيعه بشرط التبقية أو مطلقا لم يكن عنده لظهور الصلاح فائدة ولم يكن فرق بين ما نهى عنه من ذلك وما أذن فيه فإنه يقول موجب العقد التسليم في الحال فلا يجوز شرط تأخيره سواء بدا صلاحه أو لم يبد والصواب قول الجمهور الذي دلت عليه سنة رسول الله ﷺ والقياس الصحيح وقوله: "إن موجب العقد التسليم في الحال" جوابه أن موجب العقد إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد أو ما أوجبه المتعاقدان مما يسوغ لهما أن يوجباه وكلاهما منتف في هذه الدعوى فلا الشارع أوجب أن يكون كل مبيع مستحق التسليم عقيب العقد ولا العاقدان التزاما ذلك بل تارة يعقدان العقد على هذا الوجه وتارة يشترطان التأخير إما في الثمن وإما في المثمن وقد يكون للبائع غرض صحيح ومصلحة في تأخير التسليم للمبيع كما كان لجابر رضي الله عنه غرض صحيح في تأخير تسليم بعيره إلى المدينة فكيف يمنعه الشارع ما فيه مصلحة له ولا ضرر على الآخر فيها إذ قد رضى بها كما رضى ﷺ على جابر بتأخير تسليم البعير ولو لم ترد السنة بهذا لكان محض القياس يقتضي جوازه ويجوز لكل بائع أن يستثني من منفعة المبيع ما له فيه غرض صحيح كما إذا باع عقارا واستثنى سكناه مدة أو دابة واستثنى ظهرها ولا يختص ذلك بالبيع بل لو وهبه واستثنى نفعه مدة أو أعتق عبده واستثنى خدمته مدة أو وقف عينا واستثنى غلتها لنفسه مدة حياته أو كاتب أمة واستثنى وطأها مدة الكتابة ونحوه وهذا كله منصوص أحمد وبعض أصحابه يقول إذا استثنى منفعة المبيع فلا بد أن يسلم العين إلى المشتري ثم يأخذها ليستوفي المنفعة بناء على هذا الأصل الذي قد تبين فساده وهو أنه لا بد من استحقاق القبض عقيب العقد وعن هذا الأصل قالوا لا تصح الإجارة إلا على مدة تلي العقد وعلى هذا بنوا ما إذا باع العين المؤجرة فمنهم من أبطل البيع لكون المنفعة لا تدخل في البيع فلا يحصل التسليم ومنهم من قال هذا مستثنى بالشرع بخلاف المستثنى بالشرط وقد اتفق الأئمة على صحة بيع الأمة المزوجة وإن كانت منفعة البضع للزوج ولم تدخل في البيع واتفقوا على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه كما إذا باع مخزنا له فيه متاع كثير لا ينقل في يوم ولا أيام فلا يجب عليه جمع دواب البلد ونقله في ساعة واحدة بل قالوا: هذا مستثنى بالعرف فيقال: وهذا من أقوى الحجج عليكم فإن المستثنى بالشرط أقوى من المستثنى بالعرف كما أنه أوسع من المستثنى بالشرع فإنه يثبت بالشرط مالا يثبت بالشرع كما أن الواجب بالنذر أوسع من الواجب بالشرع. الفرق بين المطلق ومطلق العقد وأيضا فقولكم: "إن موجب العقد استحقاق التسليم عقيبه" أتعنون أن هذا موجب العقد المطلق أو مطلق العقد فإن أردتم الأول فصحيح وإن أردتم الثاني فممنوع فإن مطلق العقد ينقسم إلى المطلق والمقيد وموجب العقد المقيد ما قيد به كما أن موجب العقد المقيد بتأجيل الثمن وثبوت خيار الشرط والرهن والضمين هو ما قيد به وإن كان موجبه عند إطلاقه خلاف ذلك فموجب العقد المطلق شيء وموجب العقد المقيد شيء والقبض في الأعيان والمنافع كالقبض في الدين والنبي ﷺ جوز بيع الثمرة بعد بدو الصلاح مستحقة الإبقاء إلى كمال الصلاح ولم يجعل موجب العقد القبض في الحال بل القبض المعتاد عند انتهاء صلاحها ودخل فيما أذن فيه بيع ما هو معدوم لم يخلق بعد وقبض ذلك بمنزلة قبض العين المؤجرة وهو قبض يبيح التصرف في أصح القولين وإن كان قبضا لا يوجب انتقال الضمان بل إذا تلف المبيع قبل قبضه المعتاد كان من ضمان البائع كما هو مذهب أهل المدينة وأهل الحديث أهل بلدته وأهل سنته وهو مذهب الشافعي قطعا فإنه علق القول به على صحة الحديث وقد صح صحة لا ريب فيها من غير الطريق التي توقف الشافعي فيها فلا يسوغ أن يقال: مذهبه عدم وضع الجوائح وقد قال: إن صح الحديث قلت به ورواه من طريق توقف في صحتها ولم تبلغه الطريق الأخرى التي لا علة لها ولا مطعن فيها وليس مع المنازع دليل شرعي يدل على أن كل قبض جوز التصرف ينقل الضمان وما لم يجوز التصرف لا ينقل الضمان فقبض العين المؤجرة يجوز التصرف ولا ينقل الضمان وقبض العين المستامة والمستعارة والمغصوبة يوجب الضمان ولا يجوز التصرف. فصل بيع مزارع القثاء والبطيخ وما شاكلها ومن هذا الباب بيع المقاثي والمباطخ والباذنجان فمن منع بيعه إلا لقطة لقطة قال: لأنه معدوم فهو كبيع الثمرة قبل ظهورها ومن جوزه كأهل المدينة وبعض أصحاب أحمد فقولهم أصح فإنه لا يمكن بيعها إلا على هذا الوجه ولا تتميز اللقطة المبيعة عن غيرها ولا تقوم المصلحة ببيعها كذلك ولو كلف الناس به لكان أشق شيء عليهم وأعظمه ضررا والشريعة لا تأتي به وقد تقدم أن ما لا يباع إلا على وجه واحد لا ينهى الشارع عن بيعه وإنما نهى الشارع عن بيع الثمار قبل بدو الصلاح لإمكان تأخير بيعها إلى وقت بدو الصلاح ونظير ما نهى عنه وأذن فيه سوى بيع المقاثي إذا بدا الصلاح فيها ودخول الأجزاء والأعيان التي لم تخلق بعد كدخول أجزاء الثمار وما يتلاحق في الشجر منها ولا فرق بينهما البتة. فصل صحة ضمان الحدائق والبساتين وبنوا على هذا الأصل الذي لم يدل عليه دليل شرعي بل دل على خلافه وهو بيع المعدوم ضمان الحدائق والبساتين وقالوا هو بيع للثمر قبل ظهوره أو قبل بدو صلاحه ثم منهم من حكى الإجماع على بطلانه وليس مع المانعين كما ظنوه فلا النص يتناوله ولا معناه ولم تجمع الأمة على بطلانه فلا نص مع المانعين ولا قياس ولا إجماع ونحن نبين انتفاء هذه الأمور الثلاثة: أما الإجماع فقد صح عن عمر بن الخطاب أنه ضمن حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين وتسلف الضمان فقضى به دينا كان على أسيد وهذا بمشهد من الصحابة ولم ينكره منهم رجل واحد ومن جعل مثل هذا إجماعا فقد أجمع الصحابة على جواز ذلك وأقل درجاته أن يكون قول صحابي بل قول الخليفة الراشد ولم ينكره منهم منكر وهذا حجة عند جمهور العلماء وقد جوز بعض أصحاب أحمد ضمان البساتين مع الأرض المؤجرة إذ لا يمكن إفراد إحداهما عن الأخرى واختاره ابن عقيل وجوز بعضهم ضمان الأشجار مطلقا مع الأرض وبدونها واختاره شيخنا وأفرد فيه مصنفا ففي مذهب أحمد ثلاثة أقوال وجوز مالك ذلك تبعا للأرض في قدر الثلث. قال شيخنا: والصواب ما فعله عمر رضي الله عنه فإن الفرق بين البيع والضمان هو الفرق بين البيع والإجارة والنبي ﷺ نهى عن بيع الحب حتى يشتد ولم ينه عن إجارة الأرض للزراعة مع أن المستأجر مقصوده الحب بعمله فيخدم الأرض ويحرثها ويسقيها ويقوم عليها وهو نظير مستأجر البستان ليخدم شجره ويسقيه ويقوم عليه والحب نظير الثمر والشجر نظير الأرض والعمل نظير العمل فما الذي حرم هذا وأحل هذا وهذا بخلاف المشتري فإنه يشتري ثمرا وعلى البائع مؤونة الخدمة والسقي والقيام على الشجر فهو بمنزلة الذي يشتري الحب وعلى البائع مؤونة الزرع والقيام عليه فقد ظهر أنتفاء القياس والنص كما ظهر أنتفاء الإجماع بل القياس الصحيح مع المجوزين كما معهم الإجماع القديم. فإن قيل: فالثمر أعيان وعقد الإجارة إنما يكون على المنافع. قيل: الأعيان هنا حصلت بعمله في الأصل المستأجر كما حصل الحب بعمله في الأرض المستأجرة. فإن قيل: الفرق أن الحب حصل من بذره والثمر حصل من شجر المؤجر. قيل: لا أثر لهذا الفرق في الشرع بل قد ألغاه الشارع في المساقاة والمزارعة فسوى بينهما والمساقي يستحق جزءا من الثمرة الناشئة من أصل الملك والمزارع يستحق جزءا من الزرع النابت في أرض المالك وإن كان البذر منه كما ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة وإجماع الصحابة فإذا لم يؤثر هذا الفرق في المساقاة والمزارعة التي يكون النماء فيها مشتركا لم يؤثر في الإجارة بطريق الأولى لأن إجارة الأرض لم يختلف فيها كالاختلاف في المزارعة فإذا كانت إجارتها عندكم أجوز من المزارعة فإجارة الشجر أولى بالجواز من المساقاة عليها فهذا محض القياس وعمل الصحابة ومصلحة الأمة وبالله التوفيق. والذين منعوا ذلك وحرموه توصلوا إلى جوازه بالحيلة الباطلة شرعا وعقلا فإنهم يؤجرونه الأرض وليست مقصودة له البتة ويساقونه على الشجر من ألف جزء على جزء مساقاة غير مقصودة وإجارة غير مقصودة فجعلوا ما لم يقصد مقصودا وما قصد غير مقصود وحابوا في المساقاة أعظم محاباة وذلك حرام باطل في الوقف وبستان المولى عليه من يتيم أو سفيه أو مجنون ومحاباتهم إياه في إجارة الأرض لا تسوغ لهم محاباة المستأجر في المساقاة ولا يسوغ اشتراط أحد العقدين في الآخر بل كل عقد مستقل بحكمه فأين هذا من فعل أمير المؤمنين وفقهه وأين القياس من القياس والفقه من الفقه فبينهما في الصحة بعد ما بين المشرقين. فصل إجارة الظئر توافق القياس فهذا الكلام على المقام الأول وهو كون الإجارة على خلاف القياس وقد تبين بطلانه. وأما المقام الثاني وهو أن الإجارة التي أذن الله فيها في كتابه وهي إجارة الظئر على خلاف القياس فبناء منهم على هذا الأصل الفاسد وهو أن المستحق بعقد الإجارة إنما هو المنافع لا الأعيان وهذا الأصل لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح بل الذي دلت عليه الأصول أن الأعيان التي تحدث شيئا فشيئا مع بقاء أصلها حكمها حكم المنافع كالثمر في الشجر واللبن في الحيوان والماء في البئر ولهذا سوى بين النوعين في الوقف فإن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل الفائدة فكما يجوز أن تكون فائدة الوقف منفعة كالسكنى وأن تكون ثمرة وأن تكون لبنا كوقف الماشية للانتفاع بلبنها وكذلك في باب التبرعات كالعارية لمن ينتفع بالمتاع ثم يرده والعرية لمن يأكل ثمر الشجرة ثم يردها والمنيحة لمن يشرب لبن الشاة ثم يردها والقرض لمن ينتفع بالدراهم ثم يرد بدلها القائم مقام عينها فكذلك في الإجارة تارة يكريه العين للمنفعة التي ليست أعيانا وتارة للعين التي تحدث شيئا من بعد شيء مع بقاء الأصل كلبن الظئر ونفع البئر فإن هذه الأعيان لما كانت تحدث شيئا بعد شيء مع بقاء الأصل كانت كالمنفعة والمسوغ هو ما بينهما من القدر المشترك وهو حدوث المقصود بالعقد شيئا فشيئا سواء كان الحادث عينا أو منفعة وكونه جسما أو معنى قائما بالجسم لا أثر له في الجواز والمنع مع اشتراكهما في المقتضى للجواز بل هذا النوع من الأعيان الحادثة شيئا فشيئا أحق بالجواز فإن الأجسام أكمل من صفاتها وطرد هذا القياس جواز إجازة الحيوان غير الآدمي لرضاعه فإن الحاجة تدعو إليه كما تدعو إليه في الظئر من الآدميين بطعامها وكسوتها ويجوز استئجار الظئر من البهائم بعلفها والماشية إذا عاوض على لبنها فهو نوعان أحدهما أن يشترى اللبن مدة ويكون العلف والخدمة على البائع فهذا بيع محض والثاني أن يسلمها ويكون علفها وخدمتها عليه ولبنها له مدة الإجارة فهذا إجارة وهو كضمان البستان سواء وكالظئر فإن اللبن يستوفي شيئا فشيئا مع بقاء الأصل فهو كاستئجار العين ليسقي بها أرضه وقد نص مالك على جواز إجارة الحيوان مدة للبنه ثم من أصحابه من جوز ذلك تبعا لنصه ومنهم من منعه ومنهم من شرط فيه شروطا ضيقوا بها مورد النص ولم يدل عليها نصه والصواب الجواز وهو موجب القياس المحض فالمجوزون أسعد بالنص من المانعين وبالله التوفيق. فصل حمل العاقلة الدية يوافق القياس ومن هذا الباب قول القائل: "حمل العاقلة الدية عن الجاني على خلاف القياس" ولهذا لا تحمل العمد ولا العبد ولا الصلح ولا الاعتراف ولا ما دون الثلث ولا تحمل جناية الأموال ولو كانت على وفق القياس لحملت ذلك كله. والجواب أن يقال: لا ريب أن من أتلف مضمونا كان ضمانه عليه ولا تزر وازرة وزر أخرى ولا تؤخذ نفس بجريرة غيرها وبهذا جاء شرع الله سبحانه وجزاؤه وحمل العاقلة الدية غير مناقض لشيء من هذا كما سنبينه والناس متنازعون في العقل هل تحمله العاقلة ابتداء أو تحملا على قولين كما تنازعوا في صدقة الفطر التي يجب أداؤها عن الغير كالزوجة والولد هل تجب ابتداء أو تحملا على قولين وعلى ذلك ينبني ما لو أخرجها من تحملت عنه عن نفسه بغير إذن المتحمل لها فمن قال هي واجبة على الغير تحملا قال تجزىء في هذه الصورة ومن قال هي واجبة عليه ابتداء قال لا تجزىء بل هي كأداء الزكاة عن الغير وكذلك القاتل إذا لم تكن له عاقلة هل تجب الدية في ذمة القاتل أو لا على قولين بناء على هذا الأصل والعقل فارق غيره من الحقوق في أسباب اقتضت اختصاصه بالحكم وذلك أن دية المقتول مال كثير والعاقلة إنما تحمل الخطأ ولا تحمل العمد بالاتفاق ولا شبهة على الصحيح والخطأ يعذر فيه الإنسان فإيجاب الدية في ماله ضرر عظيم عليه من غير ذنب تعمده وإهدار دم المقتول من غير ضمان بالكلية فيه إضرار بأولاده وورثته فلا بد من إيجاب بدله فكان من محاسن الشريعة وقيامها بمصالح العباد أن أوجب بدله على من عليه موالاة القاتل ونصرته فأوجب عليهم إعانته على ذلك وهذا كإيجاب النفقات على الأقارب وكسوتهم وكذا مسكنهم وإعفافهم إذا طلبوا النكاح وكإيجاب فكاك الأسير من بلد العدو فإن هذا أسيف بالدية التي لم يتعمد سبب وجوبها ولا وجبت باختيار مستحقها كالقرض والبيع وليست قليلة فالقاتل في الغالب لا يقدر على حملها وهذا بخلاف العمد فإن الجاني ظالم مستحق للعقوبة ليس أهلا أن يحمل عنه بدل القتل وبخلاف شبه العمد لأنه قاصد للجناية متعمد لها فهو آثم معتد وبخلاف بدل المتلف من الأموال فإنه قليل في الغالب لا يكاد المتلف يعجز عن حمله وشأن النفوس غير شأن الأموال ولهذا لا تحمل العاقلة ما دون الثلث عند الإمام أحمد ومالك لقتله واحتمال الجاني حمله وعند أبي حنيفة لا تحمل ما دون أقل المقدر كأرش الموضحة وتحمل ما فوقه وعند الشافعي تحمل القليل والكثير طردا للقياس وظهر بهذا كونها لا تحمل العبد فإنه سلعة من السلع ومال من الأموال فلو حملت بدله لحملت بدل الحيوان والمتاع وأما الصلح والاعتراف فعارض هذه الحكمة فيهما معنى آخر وهو أن المدعي والمدعى عليه قد يتواطآن على الإقرار بالجناية ويشتركان فيما تحمله العاقلة ويتصالحان على تغريم العاقلة فلا يسري إقراره ولا صلحه فلا يجوز إقراره في حق العاقلة ولا يقبل قوله فيما يجب عليها من الغرامة وهذا هو القياس الصحيح فإن الصلح والاعتراف يتضمن إقراره ودعواه على العاقلة بوجوب المال عليهم فلا يقبل ذلك في حقهم ويقبل بالنسبة إلى المعترف كنظائره فتبين أن إيجاب الدية على العاقلة من جنس ما أوجبه الشارع من الإحسان إلى المحتاجين كأبناء السبيل والفقراء والمساكين. وهذا من تمام الحكمة التي بها قيام مصلحة العالم فإن الله سبحانه قسم خلقه إلى غني وفقير ولا تتم مصالحهم إلا بسد خلة الفقير فأوجب سبحانه في فضول أموال الأغنياء ما يسد به خلة الفقراء وحرم الربا الذي يضر بالمحتاج فكان أمره بالصدقة ونهيه عن الربا أخوين شقيقين ولهذا جمع الله بينهما في قوله {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} وقوله {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} وذكر الله سبحانه أحكام الناس في الأموال في آخر سورة البقرة وهي ثلاثة عدل وظلم وفضل فالعدل البيع والظلم الربا والفضل الصدقة فمدح المتصدقين وذكر ثوابهم وذم المرابين وذكر عقابهم وأباح البيع والتداين إلى أجل مسمى. والمقصود أن حمل الدية من جنس ما أوجبه من الحقوق لبعض العباد على بعض كحق المملوك والزوجة والأقارب والضيف ليست من باب عقوبة الإنسان بجناية غيره فهذا لون وذاك لون والله الموفق. فصل حديث المصراة يوافق القياس ومما قيل فيه إنه على خلاف القياس حديث المصراة قالوا: وهو يخالف القياس من وجوه: منها أنه تضمن رد البيع بلا عيب ولا خلف في صفة ومنها أن الخراج بالضمان فاللبن الذي يحدث عند المشتري غير مضمون عليه وقد ضمنه إياه ومنها أن اللبن من ذوات الأمثال وقد ضمنه إياه بغير مثله ومنها أنه إذا انتقل من التضمين بالمثل فإنما ينتقل إلى القيمة والتمر لا قيمة ولا مثل ومنها أن المال المضمون إنما يضمن بقدره في القلة والكثرة وقد قدر ههنا الضمان بصاع. قال أنصار الحديث: كل ما ذكرتموه خطأ والحديث موافق لأصول الشريعة وقواعدها ولو خالفها لكان أصلا بنفسه كما أن غيره أصل بنفسه وأصول الشرع لا يضرب بعضها ببعض كما نهى رسول الله ﷺ عن أن يضرب كتاب الله بعضه ببعض بل يجب اتباعها كلها ويقر كل منها على أصله وموضعه فإنها كلها من عند الله الذي أتقن شرعه وخلقه وما عدا هذا فهو الخطأ الصريح. فاسمعوا الآن هدم الأصول الفاسدة التي يعترض بها على النصوص الصحيحة أما قولكم: "إنه تضمن الرد من غير عيب ولا فوات صفة" فأين في أصول الشريعة المتلقاة عن صاحب الشرع ما يدل على انحصار الرد بهذين الأمرين وتكفينا هذه المطالبة ولن تجدوا إلى إقامة الدليل على الحصر سبيلا ثم نقول بل أصول الشريعة توجب الرد بغير ما ذكرتم وهو الرد بالتدليس والغش فإنه هو والخلف في الصفة من باب واحد بل الرد بالتدليس أولى من الرد بالعيب فإن البائع يظهر صفة المبيع تارة بقوله وتارة بفعله فإذا أظهر للمشتري أنه على صفة فبان بخلافها كان قد غشه ودلس عليه فكان له الخيار بين الإمساك والفسخ ولو لم تأت الشريعة بذلك لكان هو محض القياس وموجب العدل فإن المشتري إنما بذل ماله في المبيع بناء على الصفة التي أظهرها له البائع ولو علم أنه على خلافها لم يبذل له فيها ما بذل فإلزامه للبيع مع التدليس والغش من أعظم الظلم الذي تتنزه الشريعة عنه وقد أثبت النبي ﷺ الخيار للركبان إذا تلقوا واشترى منهم قبل أن يهبطوا السوق ويعلموا السعر وليس ههنا عيب ولا خلف في صفة ولكن فيه نوع تدليس وغش. فصل الخراج بالضمان وأما قولكم: "الخراج بالضمان" فهذا الحديث وإن كان قد روي فحديث المصراة أصح منه باتفاق أهل الحديث قاطبة فكيف يعارض به مع أنه لا تعارض بينهما بحمد الله فإن الخراج اسم للغلة مثل كسب العبد وأجرة الدابة ونحو ذلك وأما الولد واللبن فلا يسمى خراجا وغاية ما في الباب قياسه عليه بجامع كونهما من الفوائد وهو من أفسد القياس فإن الكسب الحادث والغلة لم يكن موجودا حال البيع وإنما حدث بعد القبض وأما اللبن ههنا فإنه كان موجودا حال العقد فهو جزء من المعقود عليه والشارع لم يجعل الصاع عوضا عن اللبن الحادث وإنما هو عوض عن اللبن الموجود وقت العقد في الضرع فضمانه هو محض العدل والقياس. وأما تضمينه بغير جنسه ففي غاية العدل فإنه لا يمكن تضمينه بمثله البتة فإن اللبن في الضرع محفوظ غير معرض للفساد فإذا حلب صار عرضة لحمضه وفساده فلو ضمن اللبن الذي كان في الضرع بلبن محلوب في الإناء كان ظلما تتنزه الشريعة عنه. وأيضا فإن اللبن الحادث بعد العقد اختلط باللبن الموجود وقت العقد فلم يعرف مقداره حتى يوجب نظيره على المشتري وقد يكون أقل منه أو أكثر فيفضي إلى الربا لأن أقل الأقسام أن تجهل المساواة. وأيضا فلو وكلناه إلى تقديرهما أو تقدير أحدهما لكثر النزاع والخصام بينهما، ففصل الشارع الحكيم صلاة الله وسلامه عليه وعلى آله النزاع وقدره بحد لا يتعديانه قطعا للخصومة وفصلا للمنازعة وكان تقديره بالتمر أقرب الأشياء إلى اللبن فإنه قوت أهل المدينة كما كان اللبن قوتا لهم وهو مكيل كما أن اللبن مكيل فكلاهما مطعوم مقتات مكيل وأيضا فكلاهما يقتات به بلا صنعة ولا علاج بخلاف الحنطة والشعير والأرز فالتمر أقرب الأجناس التي كانوا يقتاتون بها إلى اللبن. فإن قيل: فأنتم توجبون صاع التمر في كل مكان سواء كان قوتا لهم أو لم يكن. قيل: هذا من مسائل النزاع وموارد الاجتهاد فمن الناس من يوجب ذلك ومنهم من يوجب في كل بلد صاعا من قوتهم ونظير هذا تعيينه ﷺ الأصناف الخمسة في زكاة الفطر وأن كل بلد يخرجون من قوتهم مقدار الصاع وهذا أرجح وأقرب إلى قواعد الشرع وإلا فكيف يكلف من قوتهم السمك مثلا أو الأرز أو الدخن إلى التمر وليس هذا بأول تخصيص قام الدليل عليه وبالله التوفيق. فصل إعادة الصلاة لمن صلى منفردا خلف الصف توافق القياس ومن ذلك ظن بعضهم أن أمره ﷺ لمن صلى فذا خلف الصف بالإعادة على خلاف القياس فإن الإمام والمرأة فذان وصلاتهما صحيحة. وهذا من أفسد القياس وأبطله فإن الإمام يسن في حقه التقدم وأن يكون وحده والمأمومون يسن في حقهم الاصطفاف فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس والفرق بينهما أن الإمام إنما جعل ليؤتم به وتشاهد أفعاله وانتقالاته فإذا كان قدامهم حصل مقصود الإمامة وإذا كان في الصف لم يشاهد إلا من يليه ولهذا جاءت السنة بالتقدم ولو كانوا ثلاثة محافظة على المقصود بالائتمام وأما المرأة فإن السنة وقوفها فذة إذا لم يكن هناك امرأة تقف معها لأنها منهية عن مصافة الرجال فموقفها المشروع أن تكون خلف الصف فذة وموقف الرجل المشروع أن يكون في الصف فقياس أحدهما على الآخر من أبطل القياس وأفسده وهو قياس المشروع على غير المشروع. فإن قيل: فلو كان معها نساء ووقفت وحدها صحت صلاتها. قيل: هذا غير مسلم بل إذا كان صف النساء فحكم المرأة بالنسبة إليه في كونها فذة كحكم الرجل بالنسبة إلى صف الرجال لكن موقف المرأة وحدها خلف صف الرجال يدل على شيئين أحدهما أن الرجل إذا لم يجد خلف الصف من يقوم معه وتعذر عليه الدخول في الصف ووقف معه فذا صحت صلاته للحاجة وهذا هو القياس المحض فإن واجبات الصلاة تسقط بالعجز عنها الثاني وهو طرد هذا القياس إذا لم يمكنه أن يصلي مع الجماعة إلا قدام الإمام فإنه يصلي قدامه وتصح صلاته وكلاهما وجه في مذهب أحمد وهو اختيار شيخنا رحمه الله. وبالجملة فليست المصافة أوجب من غيرها فإذا سقط ما هو أوجب منها للعذر فهي أولى بالسقوط ومن قواعد الشرع الكلية أنه "لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة". فصل ركوب وحلب الرهن مقابل النفقة على وفق القياس ومن ذلك قول بعضهم: إن الحديث الصحيح وهو قوله: "الرهن مركوب ومحلوب وعلى الذي يركب ويحلب النفقة" على خلاف القياس فإنه جوز لغير المالك أن يركب الدابة وأن يحلبها وضمنه ذلك بالنفقة لا بالقيمة فهو مخالف للقياس من وجهين. والصواب ما دل عليه الحديث وقواعد الشريعة وأصولها لا تقتضي سواه فإن الرهن إذا كان حيوانا فهو محترم في نفسه لحق الله سبحانه وللمالك فيه حق الملك وللمرتهن حق الوثيقة وقد شرع الله سبحانه الرهن مقبوضا بيد المرتهن فإذا كان بيده فلم يركبه ولم يحلبه ذهب نفعه باطلا وإن مكن صاحبه من ركوبه خرج عن يده وتوثيقه وإن كلف صاحبه كل وقت أن يأتي ليأخذ لبنه شق عليه غاية المشقة ولا سيما مع بعد المسافة وإن كلف المرتهن بيع اللبن وحفظ ثمنه للراهن شق عليه فكان مقتضى العدل والقياس ومصلحة الراهن والمرتهن والحيوان أن يستوفي المرتهن منفعة الركوب والحلب ويعوض عنهما بالنفقة ففي هذا جمع بين المصلحتين وتوفير الحقين فإن نفقة الحيوان واجبة على صاحبه والمرتهن إذا أنفق عليه أدى عنه واجبا وله فيه حق فله أن يرجع ببدله ومنفعة الركوب والحلب تصلح أن تكون بدلا فأخذها خير من أن تهدر على صاحبها باطلا ويلزم بعوض ما أنفق المرتهن وإن قيل للمرتهن لا رجوع لك كان في ذلك إضرار به ولم تسمح نفسه بالنفقة على الحيوان فكان ما جاءت به الشريعة هو الغاية التي ما فوقها في العدل والحكمة والمصلحة شيء يختار. فإن قيل: ففي هذا أن من أدى عن غيره واجبا فإنه يرجع ببدله وهذا خلاف القياس فإنه إلزام له بما لم يلتزمه ومعاوضة لم يرض بها. قيل: وهذا أيضا محض القياس والعدل والمصلحة وموجب الكتاب ومذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث أهل بلدته وأهل سنته فلو أدى عنه دينه أو أنفق على من تلزمه نفقته أو افتداه من الأسر ولم ينو التبرع فله الرجوع وبعض أصحاب أحمد فرق بين قضاء الدين ونفقة القريب فجوز الرجوع في الدين دون نفقة القريب قال لأنها لا تصير دينا. قال شيخنا: "والصواب التسوية بين الجميع والمحققون من أصحابه سووا بينهما ولو افتداه من الأسر كان له مطالبته بالفداء وليس ذلك دينا عليه والقرآن يدل على هذا القول" فإن الله تعالى قال {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع ولم يشترط عقدا ولا إذن الأب وكذلك قوله {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فأوجب ذلك عليه ولم يشترط عقدا ولا إذنا ونفقة الحيوان واجبة على مالكه والمستأجر والمرتهن له فيه حق فإذا أنفق عليه النفقة الواجبة على ربه كان أحق بالرجوع من الإنفاق على ولده فإن قال الراهن أنا لم آذن لك في النفقة قال هي واجبة عليك وأنا أستحق أن أطالبك بها لحفظ المرهون والمستأجر فإذا رضي المنفق بأن يعتاض بمنفعة الرهن وكانت نظير النفقة كان قد أحسن إلى صاحبه وذلك خير محض فلو لم يأت به النص لكان القياس يقتضيه وطرد هذا القياس أن المودع والشريك والوكيل إذا أنفق على الحيوان واعتاض عن النفقة بالركوب والحلب جاز ذلك كالمرتهن. فصل حكم الرسول على من وقع على جارية امرأته يوافق القياس ومما قيل: "إنه من أبعد الأحاديث عن القياس" حديث الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق أن رسول الله ﷺ: "قضى في رجل وقع على جارية امرأته إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها وإن كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها" وفي رواية أخرى: وإن كانت طاوعته فهي ومثلها من ماله لسيدتها" رواه أهل السنن وضعفه بعضهم من قبل إسناده وهو حديث حسن يحتجون بما هو دونه في القوة ولكن لإشكاله أقدموا على تضعيفه مع لين في سنده. قال شيخ الإسلام: "وهذا الحديث يستقيم على القياس مع ثلاثة أصول صحيحة كل منها قول طائفة من الفقهاء". الأصل الأول: من غير مال غيره أحدها: أن من غير مال غيره بحيث فوت مقصوده عليه فله أن يضمنه بمثله وهذا كما لو تصرف في المغصوب بما أزال اسمه ففيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره أحدها: أنه باق على ملك صاحبه وعلى الغاصب ضمان النقص ولا شيء عليه في الزيادة كقول الشافعي والثاني يملكه الغاصب بذلك ويضمنه لصاحبه كقول أبي حنيفة والثالث يخير المالك بين أخذه وتضمين النقص وبين المطالبة بالبدل وهذا أعدل الأقوال وأقواها فإن فوت صفاته المعنوية مثل أن ينسيه صناعته أو يضعف قوته أو يفسد عقله أو دينه فهذا أيضا يخير المالك فيه بين تضمين النقص وبين المطالبة بالبدل ولو قطع ذنب بغلة القاضي فعند مالك يضمنها بالبدل ويملكها لتعذر مقصودها على المالك في العادة أو يخير المالك. فصل الأصل الثاني: ضمان المتلفات بالجنس الأصل الثاني: أن جميع المتلفات تضمن بالجنس بحسب الإمكان مع مراعاة القيمة حتى الحيوان فإنه إذا اقترضه رد مثله كما اقترض النبي ﷺ بكرا ورد خير منه وكذلك المغرور يضمن ولده بمثلهم كما قضت به الصحابة وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره وقصة داود وسليمان عليهما السلام من هذا الباب فإن الماشية كانت قد أتلفت حرث القوم فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث كأنه ضمنهم ذلك بالقيمة ولم يكن لهم مال إلا الغنم فأعطاهم الغنم بالقيمة وأما سليمان فحكم بأن أصحاب الماشية يقومون على الحرث حتى يعود كما كان فضمنهم إياه بالمثل وأعطاهم الماشية يأخذون منفعتها عوضا عن المنفعة التي فاتت من غلة الحرث إلى أن يعود وبذلك أفتى الزهري لعمر بن عبد العزيز فيمن أتلف له شجر فقال الزهري: "يغرسه حتى يعود كما كان" وقال ربيعة وأبو الزناد: "عليه القيمة" فغلظ الزهري القول فيهما وقول الزهري: "وحكم سليمان هو موجب الأدلة" فإن الواجب ضمان المتلف بالمثل بحسب الإمكان كما قال تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقال {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقال {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} وقال {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وإن كان مثل الحيوان والآنية والثياب من كل وجه متعذرا فقد دار الأمر بين شيئين الضمان بالدراهم المخالفة للمثل في الجنس والصفة والمقصود والانتفاع وإن ساوت المضمون في المالية والضمان بالمثل بحسب الإمكان المساوي للمتلف في الجنس والصفة والمالية والمقصود والانتفاع ولا ريب أن هذا أقرب إلى النصوص والقياس والعدل ونظير هذا ما ثبت بالسنة واتفاق الصحابة من القصاص في اللطمة والضربة وهو منصوص أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد وقد تقدم تقرير ذلك وإذا كانت المماثلة من كل وجه متعذرة حتى في المكيل والموزون فما كان أقرب إلى المماثلة فهو أولى بالصواب ولا ريب أن الجنس إلى الجنس أقرب مماثلة من الجنس إلى القيمة فهذا هو القياس وموجب النصوص وبالله التوفيق. الأصل الثالث من مثل بعبده عتق عليه والأصل الثالث: أن من مثل بعبده عتق عليه وهذا مذهب فقهاء الحديث وقد جاءت بذلك آثار مرفوعة عن النبي ﷺ وأصحابه كعمر ابن الخطاب وغيره. فهذا الحديث موافق لهذه الأصول الثلاثة الثابتة بالأدلة الموافقة للقياس العادل فإذا طاوعته الجارية فقد أفسدها على سيدتها فإنها مع المطاوعة تنقص قيمتها إذ تصير زانية ولا تمكن سيدتها من استخدامها حق الخدمة لغيرتها منها وطمعها في السيد واستشراف السيد إليها وتتشامخ على سيدتها فلا تطيعها كما كانت تطيعها قبل ذلك والجاني إذا تصرف في المال بما ينقص قيمته كان لصاحبه المطالبة بالمثل فقضى الشارع لسيدتها بالمثل وملكه الجارية إذ لا يجمع لها بين العوض والمعوض وأيضا فلو رضيت سيدتها أن تبقى الجارية على ملكها وتغرمه ما نقص من قيمتها كان لها ذلك فإذا لم ترض وعلمت أن الأمة قد فسدت عليها ولم تنتفع بخدمتها كما كانت قبل ذلك كان من أحسن القضاء أن يغرم السيد مثلها ويملكها. فإن قيل: فاطردوا هذا القياس وقولوا: إن الأجنبي إذا زنى بجارية قوم حتى أفسدها عليهم أن لهم القيمة أو يطالبوه ببدلها. قيل: نعم هذا موجب القياس إن لم يكن بين الصورتين فرق مؤثر وإن كان بينهما فرق انقطع الإلحاق فإن الإفساد الذي في وطء الزوج بجارية امرأته بالنسبة إليها أعظم من الإفساد الذي في وطء الأجنبي وبالجملة فجواب هذا السؤال جواب مركب إذ لا نص فيه ولا إجماع. فصل استكراه الأمة والعبد على الفاحشة وأما إذا استكرهها فإن هذا من باب المثلة فإن الإكراه على الوطء مثلة فإن الوطء يجري مجرى الجناية ولهذا لا يخلو عن عقر أو عقوبة ولا يجري مجرى منفعة الخدمة فهي لما صارت له بإفسادها على سيدتها أوجب عليه مثلها كما في المطاوعة وأعتقها عليه لكونه مثل بها. قال شيخنا: "ولو استكره عبده على الفاحشة عتق عليه ولو استكره أمة الغير على الفاحشة عتقت عليه وضمنها بمثلها إلا أن يفرق بين أمة امرأته وبين غيرها فإن كان بينهما فرق شرعي وإلا فموجب القياس التسوية". وأما قوله تعالى {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فهذا نهي عن إكراههن على كسب المال بالبغاء كما قيل: إن عبد الله بن أبي رأس المنافقين كان له إماء يكرههن على البغاء وليس هذا استكراها للأمة على أن يزني بها هو فإن هذا بمنزلة التمثيل بها وذاك إلزام لها بأن تذهب هي فتزني مع أنه يمكن أن يقال: العتق بالمثلة لم يكن مشروعا عند نزول الآية ثم شرع بعد ذلك. قال شيخنا: "والكلام على هذا الحديث من أدق الأمور فإن كان ثابتا فهذا الذي ظهر في توجيهه وإن لم يكن ثابتا فلا يحتاج إلى الكلام عليه". نصوص الشرع معقولة قال: وما عرفت حديثا صحيحا إلا ويمكن تخريجه على الأصول الثابتة. قال: وقد تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع فما رأيت قياسا صحيحا يخالف حديثا صحيحا كما أن المعقول الصحيح لا يخالف المنقول الصحيح بل متى رأيت قياسا يخالف أثرا فلا بد من ضعف أحدهما لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفي كثير منه على أفاضل العلماء فضلا عمن هو دونهم فإن إدراك الصفة المؤثرة في الأحكام على وجهها ومعرفة المعاني التي علقت بها الأحكام من أشرف العلوم فمنه الجلي الذي يعرفه أكثر الناس ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم فلهذا صارت أقيسة كثير من العلماء تجيء مخالفة للنصوص لخفاء القياس الصحيح كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام انتهى. فإن قيل: فهب أنكم خرجتم ذلك على القياس فما تصنعون بسقوط الحد عنه وقد وطئ فرجا لا ملك له فيه ولا شبهة ملك؟ قيل: الحديث لم يتعرض بنفي ولا إثبات وإنما دل على الضمان وكيفيته. فإن قيل: فكيف تخرجون حديث النعمان بن بشير في ذلك أنها إن كانت أحلتها له جلد مائة جلدة وإن لم تكن أحلتها له رجم بالحجارة على القياس. قيل: هو بحمد الله موافق للقياس مطابق لأصول الشريعة وقواعدها فإن إحلالها له شبهة كافية في سقوط الحد عنه ولكن لما لم يملكها بالإحلال كان الفرج محرما عليه وكانت المائة تعزيرا له وعقوبة على ارتكاب فرج حرام عليه وكان إحلال الزوجة له وطأها شبهة دارئة للحد عنه. فإن قيل: تكيف تخرجون التعزير بالمائة على القياس. قيل: هذا من أسهل الأمور فإن التعزير لا يتقدر بقدر معلوم بل هو بحسب الجريمة في جنسها وصفتها وكبرها وصغرها وعمر بن الخطاب قد تنوع تعزيره في الخمر فتارة بحلق الرأس وتارة بالنفي وتارة بزيادة أربعين سوطا على الحد الذي ضربه رسول الله ﷺ وأبو بكر وتارة بتحريق حانوت الخمار وكذلك تعزير الغال وقد جاءت السنة بتحريق متاعه وتعزير مانع الصدقة بأخذها وأخذ شطر ماله معها وتعزير كاتم الضالة الملتقطة بإضعاف الغرم عليه وكذلك عقوبة سارق ما لا قطع فيه يضعف عليه الغرم وكذلك قاتل الذمي عمدا أضعف عليه عمر وعثمان ديته وذهب إليه أحمد وغيره. فإن قيل: فما تصنعون بقول النبي ﷺ: "لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله". قيل: نتلقاه بالقبول والسمع والطاعة ولا منافاة بينه وبين شيء مما ذكرناه فإن الحد في لسان الشارع أعم منه في اصطلاح الفقهاء فإنهم يريدون بالحدود عقوبات الجنايات المقدرة بالشرع خاصة والحد في لسان الشارع أعم من ذلك فإن يراد به هذه العقوبة تارة ويراد به نفس الجناية تارة كقوله تعالى {تلكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} وقوله {تلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} فالأول حدود الحرام والثاني حدود الحلال وقال النبي ﷺ: "إن الله حد حدودا فلا تعتدوها" وفي حديث النواس بن سمعان الذي تقدم في أول الكتاب والسور أن حدود الله ويراد به تارة جنس العقوبة وإن لم تكن مقدرة فقوله ﷺ: "لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله" يريد به الجناية التي هي حق الله. فإن قيل: فأين تكون العشرة فما دونها إذا كان المراد بالحد الجناية. قيل: في ضرب الرجل امرأته وعبده وولده وأجيره للتأديب ونحوه فإنه لا يجوز أن يزيد على عشرة أسواط فهذا أحسن ما خرج عليه الحديث وبالله التوفيق. فصل المضي في الحج الفاسد يوافق القياس وأما المضي في الحج الفاسد فليس مخالفا للقياس فإن الله سبحانه أمر بإتمام الحج والعمرة فعلى من شرع فيهما أن يمضي فيهما وإن كان متطوعا بالدخول باتفاق الأئمة وإن تنازعوا فيما سواه من التطوعات هل تلزم بالشروع أم لا فقد وجب عليه بالإحرام أن يمضي فيه إلى حين يتحلل ووجب عليه الإمساك عن الوطء فإذا وطىء فيه لم يسقط وطؤه ما وجب عليه من إتمام النسك فيكون ارتكابه ما حرمه الله عليه سببا لإسقاط الواجب عليه ونظير هذا الصائم إذا أفطر عمدا لم يسقط عنه فطره ما وجب عليه من إتمام الإمساك ولا يقال له قد بطل صومك فإن شئت أن تأكل فكل بل يجب عليه المضي فيه وقضاؤه لأن الصائم له حد محدود وهو غروب الشمس. فإن قيل: فهلا طردتم ذلك في الصلاة إذا أفسدها وقلتم يمضي فيها ثم يعيدها. قيل: من ههنا ظن من ظن أن المضي في الحج الفاسد على خلاف القياس والفرق بينهما أن الحج له وقت محدود وهو يوم عرفة كما للصيام وقت محدود وهو الغروب وللحج مكان مخصوص لا يمكن إحلال المحرم قبل وصوله إليه كما لا يمكن فطر الصائم قبل وصوله إلى وقت الفطر فلا يمكنه فعله ولا فعل الحج ثانيا في وقته بخلاف الصلاة فإنه يمكنه فعلها ثانيا في وقتها وسر الفرق أن وقت الصيام والحج بقدر فعله لا يسع غيره ووقت الصلاة أوسع منها فيسع غيرها فيمكنه تدارك فعلها إذا فسدت في أثناء الوقت ولا يمكن تدارك الصيام والحج إذا فسدا إلا في وقت آخر نظير الوقت الذي أفسدهما فيه والله أعلم. فصل عدم فطر من أكل ناسيا يوافق القياس وأما من أكل في صومه ناسيا فمن قال: "عدم فطره ومضيه في صومه على خلاف القياس" ظن أنه من باب ترك المأمور ناسيا والقياس أنه يلزمه الإتيان بما تركه كما لو حدث ونسي حتى صلى والذين قالوا: "بل هو على وفق القياس" حجتهم أقوى لأن قاعدة الشريعة أن من فعل محظورا ناسيا فلا إثم عليه كما دل عليه قوله تعالى {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وثبت عن النبي ﷺ أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء وقال: "قد فعلت" وإذا ثبت أنه غير آثم فلم يفعل في صومه محرما فلم يبطل صومه وهذا محض القياس فإن العبادة إنما تبطل بفعل محظور أو ترك مأمور وطرد هذا القياس أن من تكلم في صلاته ناسيا لم تبطل صلاته وطرده أيضا أن من جامع في إحرامه أو صيامه ناسيا لم يبطل صيامه ولا إحرامه وكذلك من تطيب أو لبس أو غطى رأسه أو حلق رأسه أو قلم ظفره ناسيا فلا فدية عليه بخلاف قتل الصيد فإنه من باب ضمان المتلفات فهو كدية القتيل وأما اللباس والطيب فمن باب الترفه وكذلك الحلق والتقليم ليس من باب الإتلاف فإنه لا قيمة له في الشرع ولا في العرف وطرد هذا القياس أن من فعل المحلوف عليه ناسيا لم يحنث سواء حلف بالله أو بالطلاق أو بالعتاق أو غير ذلك لأن القاعدة أن من فعل المنهي عنه ناسيا لم يعد عاصيا والحنث في الأيمان كالمعصية في الإيمان فلا يعد حانثا من فعل المحلوف عليه ناسيا وطرد هذا أيضا أن من باشر النجاسة في الصلاة ناسيا لم تبطل صلاته بخلاف من ترك شيئا من فروض الصلاة ناسيا أو ترك الغسل من الجنابة أو الوضوء أو الزكاة أو شيئا من فروض الحج ناسيا فإنه يلزمه الإتيان به لأنه لم يؤد ما أمر به فهو في وقت عهدة الأمر وسر الفرق أن من فعل المحظور ناسيا يجعل وجوده كعدمه ونسيان ترك المأمور لا يكون عذرا في سقوطه كما كان فعل المحظور ناسيا عذرا في سقوط الإثم عن فاعله. فإن قيل: فهذا الفرق حجة عليكم لأن ترك المفطرات في الصوم من باب المأمورات ولهذا تشترط فيه النية ولو كان فعل المفطرات من باب المحظور لم يحتج إلى نية كفعل سائر المحظورات. قيل: لا ريب أن النية في الصوم شرط ولولاها لما كان عبادة ولا أثيب عليه لأن الثواب لا يكون إلا بالنية فكانت النية شرطا في كون هذا الترك عبادة ولا يختص ذلك بالصوم بل كل ترك لا يكون عبادة ولا يثاب عليه إلا بالنية ومع ذلك فلو فعله ناسيا لم يأثم به فإذا نوى تركها لله ثم فعلها ناسيا لم يقدح نسيانه في أجره بل يثاب على قصد تركها لله ولا يأثم بفعلها ناسيا وكذلك الصوم. وأيضا فإن فعل الناسي غير مضاف إليه كما قال النبي ﷺ: "من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" فأضاف فعله ناسيا إلى الله لكونه لم يرده ولم يتعمده وما يكون مضافا إلى الله لم يدخل تحت قدرة العبد فلم يكلف به فإنه إنما يكلف بفعله لا بما يفعل فيه ففعل الناسي كفعل النائم والمجنون والصغير وكذلك لو احتلم الصائم في منامه أو ذرعه القيء في اليقظة لم يفطر ولو استدعى ذلك أفطر به فلو كان ما يوجد بغير قصده كما يوجد بقصده لأفطر بهذا وهذا. التسوية بين الخطأ والنسيان في الصوم فإن قيل: فأنتم تفطرون المخطىء كمن أكل يظنه ليلا فبان نهارا أفطر. قيل: هذا فيه نزاع معروف بين السلف والخلف والذي فرقوا بينهما قالوا فعل المخطىء يمكن الاحتراز منه بخلاف الناسي. ونقل عن بعض السلف أنه يفطر في مسألة الغروب دون مسألة الطلوع كما لو استمر الشك. قال شيخنا: "وحجة من قال لا يفطر في الجميع أقوى ودلالة الكتاب والسنة على قولهم أظهر فإن الله سبحانه سوى بين الخطأ والنسيان في عدم المؤاخذة ولأن فعل محظورات الحج يستوي فيه المخطىء والناسي ولأن كل واحد منهما غير قاصد للمخالفة وقد ثبت في الصحيح أنهم أفطروا على عهد رسول الله ﷺ ثم طلعت الشمس ولم يثبت في الحديث أنهم أمروا بالقضاء ولكن هشام بن عروة سئل عن ذلك فقال: "لا بد من قضاء" وأبوه عروة أعلم منه وكان يقول: "لا قضاء عليهم" وثبت في الصحيحين أن بعض الصحابة أكلوا حتى ظهر لهم الخيط الأسود من الأبيض ولم يأمر أحدا منهم بقضاء وكانوا مخطئين وثبت عن عمر بن الخطاب أنه أفطر ثم تبين النهار فقال: "لا نقضي لأنا لم نتجانف لإثم" وروي عنه أنه قال: "نقضي" وإسناد الأول أثبت وصح عنه أنه قال: "الخطب يسير" فتأول ذلك من تأوله على أنه أراد خفة أمر القضاء واللفظ لا يدل على ذلك". قال شيخنا: "وبالجملة فهذا القول أقوى أثرا ونظرا وأشبه بدلالة الكتاب والسنة والقياس". قلت له: فالنبي ﷺ مر على رجل يحتجم فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم" ولم يكونا عالمين بأن الحجامة تفطر ولم يبلغهما قبل ذلك قوله: "أفطر الحاجم والمحجوم" ولعل الحكم إنما شرع ذلك اليوم. فأجابني بما مضمونه أن الحديث اقتضى أن ذلك الفعل مفطر وهذا كما لو رأى إنسانا يأكل أو يشرب فقال: أفطر الآكل والشارب فهذا فيه بيان السبب المقتضي للفطر ولا تعرض فيه للمانع. وقد علم أن النسيان مانع من الفطر بدليل خارج فكذلك الخطأ والجهل والله أعلم. فصل حكم عمر في امرأة المفقود يوافق القياس ومما ظن أنه على خلاف القياس ما حكم به الخلفاء الراشدون في امرأة المفقود فإنه قد ثبت عن عمر بن الخطاب أن أجل امرأته أربع سنين وأمرها أن تتزوج فقدم المفقود بعد ذلك فخيره عمر بين امرأته وبين مهرها فذهب الإمام أحمد إلى ذلك وقال: "ما أدري من ذهب إلى غير ذلك إلى أي شيء يذهب" وقال أبو داود في مسائله سمعت أحمد وقيل له في نفسك شيء من المفقود فقال: "ما في نفسي منه شيء" هذا خمسة من أصحاب رسول الله ﷺ أمروها أن تتربص قال أحمد: "من ضيق علم الرجل أن لا يتكلم في امرأة المفقود". وقد قال بعض المتأخرين من أصحاب أحمد: إن مذهب عمر في المفقود يخالف القياس والقياس أنها زوجة القادم بكل حال إلى أن نقول: الفرقة تنفذ ظاهرا وباطنا فتكون زوجة الثاني بكل حال وغلا بعض ا لمخالفين لعمر في ذلك فقالوا: "لو حكم حاكم بقول عمر في ذلك لنقض حكمه لبعده عن القياس". وطائفة ثالثة أخذت ببعض قول عمر وتركوا بعضه فقالوا: "إذا تزوجت ودخل بها الثاني فهي زوجته" ولا ترد إلى الأول وإن لم يدخل بها ردت إلى الأول. تصرف الغريب بين الرد والوقف قال شيخنا: من خالف عمر لم يهتد إلى ما اهتدى إليه عمر ولم يكن له من الخبرة بالقياس الصحيح مثل خبرة عمر وهذا إنما يتبين بأصل وهو وقف العقود إذا تصرف الرجل في حق الغير بغير إذنه هل يقع تصرفه مردودا أو موقوفا على إجازته على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد إحداهما أنها تقف على الإجازة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والثانية أنها لا تقف وهو أشهر قولي الشافعي وهذا في النكاح والبيع والإجارة وظاهر مذهب أحمد التفصيل وهو أن المتصرف إذا كان معذورا لعدم تمكنه من الاستئذان وكان به حاجة إلى التصرف وقف العقد على الإجارة بلا نزاع عنده وإن أمكنه الاستئذان أو لم تكن به حاجة إلى التصرف ففيه النزاع فالأول مثل من عنده أموال لا يعرف أصحابها كالغصوب والعواري ونحوها فإذا تعذر عليه معرفة أرباب الأموال ويئس منها فإن مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد أنه يتصدق بها عنهم فإن ظهروا بعد ذلك كانوا مخيرين بين الإمضاء وبين التضمين وهذا مما جاءت به السنة في اللقطة فإن الملتقط يأخذها بعد التعريف ويتصرف فيها ثم إن جاء صاحبها كان مخيرا بين إمضاء تصرفه وبين المطالبة بها فهو تصرف موقوف لما تعذر الاستئذان ودعت الحاجة إلى التصرف وكذلك الموصي بما زاد على الثلث وصيته موقوفة على الإجازة عند الأكثرين وإنما يخيرون بعد الموت فالمفقود المنقطع خبره إن قيل: "إن امرأته تبقى إلى أن يعلم خبره" بقيت لا أيما ولا ذات زوج إلى أن تبقى من القواعد أو تموت والشريعة لا تأتي بمثل هذا فما أجلت أربع سنين ولم يكشف خبره حكم بموته ظاهرا. فإن قيل: يسوغ للإمام أن يفرق بينهما للحاجة فإنما ذلك بعد اعتقاد موته وإلا فلو علمت حياته لم يكن مفقودا وهذا كما ساغ التصرف في الأموال التي تعذر معرفة أصحابها فإذا قدم الرجل تبينا أنه كان حيا كما إذا ظهر صاحب المال والإمام قد تصرف في زوجته بالتفريق فيبقى هذا التفريق موقوفا على إجازته فإن شاء أجاز ما فعل الإمام وإن شاء رده وإذا أجازه صار كالتفريق المأذون فيه ولو أذن للإمام أن يفرق بينهما ففرق وقعت الفرقة بلا ريب وحينئذ فيكون النكاح الثاني صحيحا وإن لم يجز ما فعله الإمام كان التفريق باطلا فكانت باقية على نكاحه فتكون زوجته فكان القادم مخيرا بين إجازة ما فعله الإمام ورده وإذا أجاز فقد أخرج البضع من ملكه وخروج البضع عن ملك الزوج متقوم عند الأكثرين كمالك والشافعي وأحمد في نص الروايتين والشافعي يقول: "هو مضمون بمهر المثل والنزاع بينهم فيما إذا شهد شاهدان أنه طلق امرأته ثم رجعا عن الشهادة فقيل لاشى عليهما بناء على أن خروج البضع من ملك الزوج ليس بمتقوم" وهذا قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين اختارها متأخرو أصحابه كالقاضي أبى يعلى وأتباعه وقيل: "عليهما مهر المثل" وهو قول الشافعى وهو وجه في مذهب أحمد وقيل: "عليهما المسمى" وهو مذهب مالك وهو أشهر في نص أحمد وقد نص على ذلك فيما إذا أفسد نكاح امرأته برضاع أنه يرجع بالمسمى والكتاب والسنة يدلان على هذا القول فإن الله تعالى قال {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} {وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} وهذا هو المسمى دون مهر المثل ولذلك أمر النبي ﷺ زوج المختلعة أن يأخذ ما أعطاها دون مهر المثل وهو سبحانه إنما يأمر في المعاوضات المطلقة بالعدل. فحكم أمير المؤمنين في المفقود ينبني على هذا الأصل والقول بوقف العقود عند الحاجة متفق عليه بين الصحابة ثبت ذلك عنهم في قضايا متعددة ولم يعلم أن أحدا منهم أنكر ذلك مثل قضية ابن مسعود في تصدقه عن سيد الجارية التي ابتاعها بالثمن الذي كان له عليه في الذمة لما تعذرت عليه معرفته وكتصدق الغال بالمال المغلول من الغنيمة لما تعذر قسمه بين الجيش وإقرار معاوية له على ذلك وتصويبه له وغير ذلك من القضايا مع أن القول بوقف العقود مطلقا هو الأظهر في الحجة وهو قول الجمهور وليس في ذلك ضرر أصلا بل هو إصلاح بلا إفساد فإن الرجل قد يرى أن يشتري لغيره أو يبيع له أو يؤجر له أو يستأجر له ثم يشاوره فإن رضي وإلا لم يحصل له ما يضره وكذلك في تزويج وليته ونحو ذلك وأما مع الحاجة فالقول به لا بد منه فمسألة المفقود هي مما يوقف فيها تفريق الإمام على إذن الزوج إذا جاء كما يقف تصرف الملتقط على إذن المالك إذا جاء والقول برد المهر إلى الزوج بخروج بضع امرأته عن ملكه ولكن تنازعوا في المهر الذي يرجع به هل هو ما أعطاها هو أو ما أعطاها الثاني وفيه روايتان عن أحمد إحداهما يرجع بما مهرها الثاني لأنها هي التي أخذته والصواب أنه إنما يرجع بما مهرها هو فإنه الذي يستحقه وأما المهر الذي أصدقها الثاني فلا حق له فيه وإذا ضمن الثاني للأول المهر فهل يرجع به عليها فيه روايتان عن أحمد إحداهما يرجع لأنها هي التي أخذته والثاني قد أعطاها المهر الذي عليه فلا يضمن مهرين بخلاف المرأة فإنها لما اختارت فراق الزوج الأول ونكاح الثاني فعليها أن ترد المهر لأن الفرق جاءت من جهتها والثانية لا يرجع لأن المرأة تستحق المهر بما استحل من فرجها والأول يستحق المهر بخروج البضع عن ملكه فكان على الثاني وهذا المأثور عن عمر في مسألة المفقود وهو عند طائفة من الفقهاء من أبعد الأقوال عن القياس حتى قال بعض الأئمة: "لو حكم به حاكم نقض حكمه" وهو مع هذا أصح الأقوال وأحراها في القياس وكل قول قيل سواه فهو خطأ فمن قال: "إنها تعاد إلى الأول بكل حال أو تكون مع الثاني بكل حال" فكلا القولين خطأ إذ كيف تعاد إلى الأول وهو لا يختارها ولا يريدها وقد فرق بينه وبينها تفريقا سائغا في الشرع وأجاز هو ذلك التفريق فإنه وإن تبين للأمام أن الأمر بخلاف ما اعتقده فالحق في ذلك للزوج فإذا أجاز ما فعله الإمام زال المحذور وأما كونها زوجة الثاني بكل حال مع ظهور زوجها وتبين أن الأمر بخلاف ما فعل الإمام فهو خطأ أيضا فإنه مسلم لم يفارق امرأته وإنما فرق بينهما بسبب ظهر أنه لم يكن كذلك وهو يطلب امرأته فكيف يحال بينه وبينها وهو لو طلب ماله أو بدله رد إليه فكيف لا ترد إليه امرأته وأهله أعز عليه من ماله وإن قيل: "حق الثاني تعلق بها" قيل: حقه سابق على حق الثاني وقد ظهر أنتقاض السبب الذي به استحق الثاني أن تكون زوجة له وما الموجب لمراعاة حق الثاني دون الأول فالصواب ما قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولهذا تعجب أحمد ممن خالفه فإذا ظهر صحة ما قاله الصحابة رضي الله عنهم وصوابه في مثل هذه المشكلات التي خالفهم فيها مثل أبي حنيفة ومالك الشافعي فلأن يكون الصواب معهم فيما وافقهم هؤلاء بطريق الأولى. قال شيخنا: وقد تأملت من هذا الباب ما شاء الله فرأيت الصحابة أفقه الأمة وأعلمها واعتبر هذا بمسائل الأيمان والنذور والعتق وغير ذلك ومسائل تعليق الطلاق بالشروط فالمنقول فيها عن الصحابة هو أصح الأقوال وعليه يدل الكتاب والسنة والقياس الجلي وكل قول سوى ذلك فمخالف للنصوص مناقض للقياس وكذلك في مسائل غير هذه مثل مسألة ابن الملاعنة ومسألة ميراث المرتد وما شاء الله من المسائل لم أجد أجود الأقوال فيها إلا أقوال الصحابة وإلى ساعتي هذه ما علمت قولا قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه إلا كان القياس معه لكن العلم بصحيح القياس وفاسده من أجل العلوم وإنما يعرف ذلك من كان خبيرا بأسرار الشرع ومقاصده وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد وما فيها من الحكمة البالغة والنعمة السابغة والعدل العام والله أعلم انتهى. فصل حكم علي في الزبية يوافق القياس ومما أشكل على كثير من الفقهاء من قضايا الصحابة وجعلوه من أبعد الأشياء عن القياس مسألة التزاحم وسقوط المتزاحمين في البئر وتسمى مسألة الزبية. وأصلها أن قوما من أهل اليمن حفروا زبية للأسد فاجتمع الناس على رأسها فهوى فيها واحد فجذب ثانيا فجذب الثاني ثالثا فجذب الثالث رابعا فقتلهم الأسد فرفع ذلك إلى أمير المؤمنين كرم الله وجهه وهو على اليمن فقضى للأول بربع الدية وللثاني بثلثها وللثالث بنصفها وللرابع بكمالها وقال أجعل الدية على من حضر رأس البئر فرفع ذلك إلى النبي ﷺ فقال: "هو كما قال" رواه سعيد بن منصور في سننه ثنا أبو عوانة وأبو الأحوص عن سماك بن حرب عن حنش الصنعاني عن على فقال أبو الخطاب وغيره: "ذهب أحمد إلى هذا توقيفا على خلاف القياس". والصواب أنه مقتضى القياس والعدل وهذا يتبين بأصل وهو أن الجناية إذا حصلت من فعل مضمون ومهدر سقط ما يقابل المهدر واعتبر ما يقابل المضمون كما لو قتل عبدا بينه وبين غيره أو أتلف مالا مشتركا أو حيوانا سقط ما يقابل حقه ووجب عليه ما يقابل حق شريكه وكذلك لو اشترك اثنان في إتلاف مال أحدهما أو قتل عبده أو حيوانه سقط عن المشارك ما يقابل فعله ووجب على الآخر من الضمان بسقطه وكذلك لو اشترك هو وأجنبي في قتل نفسه كان على الأجنبي نصف الضمان وكذلك لو رمى ثلاثة بالمنجنيق فأصاب الحجر أحدهم فقتله فالصحيح أن ما قابل فعل المقتول ساقط ويجب ثلثا ديته على عاقلة الآخرين هذا مذهب الشافعي واختيار صاحب المغني والقاضي أبو يعلى في المجرد وهو الذي قضى به علي عليه السلام في مسألة القارصة والواقصة قال الشعبي: "وذلك أن ثلاث جوار اجتمعن فركبت إحداهن على عنق الأخرى فقرصت الثالثة المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة فوقصت أي كسرت عنقها فماتت فرفع ذلك إلى علي عليه السلام فقضى بالدية أثلاثا على عواقلهن وألغى الثلث الذي قابل فعل الواقصة لأنها أعانت على قتل نفسها. وإذا ثبت هذا فلو ماتوا بسقوط بعضهم فوق بعض كان الأول قد هلك بسبب مركب من أربعة أشياء سقوطه وسقوط الثاني والثالث والرابع وسقوط الثلاثة فوقه من فعله وجنايته على نفسه فسقط ما يقابله وهو ثلاثة أرباع الدية وبقي الربع الآخر لم يتولد من فعله وإنما تولد من التزاحم فلم يهدر وأما الثاني فلأن هلاكه كان من ثلاثة أشياء جذب من قبله له وجذبه هو لثالث ورابع فسقط ما يقابل جذبه وهو ثلثا الدية واعتبر ما لا صنع له فيه وهو الثلث الباقي وأما الثالث فحصل تلفه بشيئين جذب من قبله له وجذبه هو للرابع فسقط فعله دون السبب الآخر فكان لورثته النصف وأما الرابع فليس منه فعل البتة وإنما هو مجذوب محض فكان لورثته كمال الدية وقضى بها على عواقل الذين حضروا البئر لتدافعهم وتزاحمهم. فإن قيل: على هذا سؤالان أحدهما: أنكم لم توجبوا على عاقلة الجاذب شيئا مع أنه مباشر وأوجبتم على عاقلة من حضر البئر ولم يباشر وهذا خلاف القياس الثاني: أن هذا هب أنه يتأتى لكم فيما إذا ماتوا بسقوط بعضهم على بعض فكيف يتأتى لكم في مسألة الزبية وإنما ماتوا بقتل الأسد فهو كما لو تجاذبوا فغرقوا في البئر. قيل: هذان سؤالان قويان وجواب الأول أن الجاذب لم يباشر الإهلاك وإنما تسبب إليه والحاضرون تسببوا بالتزاحم وكان تسببهم أقوى من تسبب الجاذب لأنه ألجىء إلى الجذب فهو كما لو ألقى إنسان إنسانا على آخر فنفضه عنه لئلا يقتله فمات فالقاتل هو الملقى وأما السؤال الثاني فجوابه أن المباشر للتلف كالأسد والماء والنار لما لم يمكن الإحالة عليه ألغى فعله وصار الحكم للسبب ففي مسألة الزبية ليس للرابع فعل البتة وإنما هو مفعول به محض فله كمال الدية والثالث فاعل ومفعول به فألغى ما يقابل فعله واعتبر فعل الغير به فكان قسطه نصف الدية والثاني كذلك إلا أنه جاذب لواحد والمجذوب جاذب لآخر فكان الذي حصل عليه من تأثير الغير فيه ثلث السبب وهو جذب الأول له فله ثلث الدية وأما الأول فثلاثة أرباع السبب من فعله وهو سقوط الثلاثة الذين سقطوا بجذبه مباشرة وتسببا وربعه من وقوعه بتزاحم الحاضرين فكان حظه ربع الدية وهذا أولى من تحميل عاقلة القتيل ما يقابل فعله ويكون لورثته وهذا هو خلاف القياس لأن الدية شرعت مواساة وجبرا فإذا كان الرجل هو القاتل لنفسه أو مشاركا في قتله لم يكن فعله بنفسه مضمونا كما لو قطع طرف نفسه أو أتلف مال نفسه فقضاء علي عليه السلام أقرب إلى القياس من هذا بكثير وهو أولى أيضا من أن يحمل فعل المقتول على عواقل الآخرين كما قاله أبو الخطاب في مسألة المنجنيق أنه يلغى فعل المقتول في نفسه وتجب ديته بكمالها على عاقلة الآخرين نصفين وهذا أبعد عن القياس مما قبله إذ كيف تتحمل العاقلة والأجانب جناية الإنسان على نفسه ولو تحملتها العاقلة لكانت عاقلته أولى بتحملها وكلا القولين يخالف القياس فالصواب ما قضى به أمير المؤمنين رضي الله عنه. وهو أيضا أحسن من تحميل دية الرابع لعاقلة الثالث وتحميل دية الثالث لعاقلة الثاني وتحميل دية الثاني لعاقلة الأول وإهدار دية الأول بالكلية فإن هذا القول وإن كان له حظ من القياس فإن الأول لم يجن عليه أحد وهو الجاني على الثاني فديته على عاقلته والثاني على الثالث والثالث على الرابع والرابع لم يجن على أحد فلا شيء عليه فهذا قد توهم أنه في ظاهر القياس أصح من قضاء أمير المؤمنين ولهذا ذهب إليه كثير من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم إلا أن ما قضى به على أفقه فإن الحاضرين ألجئوا الواقعين بمزاحمتهم لهم فعواقلهم أولى بحمل الدية من عواقل. الهالكين وأقرب إلى العدل من أن يجمع عليهم بين هلاك أوليائهم وحمل دياتهم فتتضاعف عليهم المصيبة ويكسروا من حيث ينبغي جبرهم ومحاسن الشريعة تأبى ذلك وقد جعل الله سبحانه لكل مصاب حظا من الجبر وهذا أصل شرع حمل العاقلة الدية جبرا للمصاب وإعانة له. وأيضا فالثاني والثالث كما هما مجني عليهما جانيان على أنفسهما وعلى من جذباه فحصل هلاكهم بفعل بعضهم ببعض فألغى ما قابل فعل كل واحد بنفسه واعتبر جناية الغير عليه. وهو أيضا أحسن من تحميل دية الرابع لعواقل الثلاثة ودية الثالث لعاقلة الثاني والأول ودية الثاني لعاقلة الأول خاصة وإن كان له أيضا حظ من قياس تنزيلا لسبب السبب منزلة السبب وقد اشترك في هلاك الرابع الثلاثة الذين قبله وفي هلاك الثالث الاثنان وانفرد بهلاك الثاني الأول ولكن قول علي رضي الله عنه أدق وأفقه. فصل حكم عمر في مسألة البصير والأعمى يوافق القياس ومما يظن أنه يخالف القياس ما رواه علي بن رباح اللخمي أن رجلا كان يقود أعمى فوقعا في بئر فخر البصير ووقع الأعمى فوقه فقتله فقضى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بعقل البصير على الأعمى فكان الأعمى يدور في الموسم وينشد: يا أيها الناس لقيت منكرا ** هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا. خرا معا كلاهما تكسرا. وقد اختلف الناس في هذه المسألة فذهب إلى قضاء عمر هذا عبد الله بن الزبير وشريح وإبراهيم النخعي والشافعي وإسحاق وأحمد وقال بعض الفقهاء: "القياس أنه ليس على الأعمى ضمان البصير لأنه الذي قاده إلى المكان الذي وقعا فيه وكان سبب وقوعه عليه وكذلك لو فعله قصدا منه لم يضمنه بغير خلاف وكان عليه ضمان الأعمى ولو لم يكن سببا لم يلزمه ضمان بقصده" قال أبو محمد المقدسي في المغنى: "لو قيل هذا لكان له وجه إلا أن يكون مجمعا عليه فلا يجوز مخالفة الإجماع. والقياس حكم عمر لوجوه: أحدها: أن قوده له مأذون فيه من جهة الأعمى وما تولد من مأذون فيه لم يضمن كنظائره. الثاني: قد يكون قوده له مستحبا أو واجبا ومن فعل ما وجب عليه أو ندب إليه لم يلزمه ضمان ما تولد منه. الثالث: أنه قد اجتمع على ذلك الإذنان إذن الشارع وإذن الأعمى فهو محسن بامتثال أمر الشارع محسن إلى الأعمى بقوده له وما على المحسنين من سبيل وأما الأعمى فإنه سقط على البصير فقتله فوجب عليه ضمانه كما لو سقط إنسان من سطح على آخر فقتله فهذا هو القياس. وقولهم: "هو الذي قاده إلى المكان الذي وقعا فيه" فهذا لا يوجب الضمان لأن قوده مأذون فيه من جهته ومن جهة الشارع وقولهم: "وكذلك لو فعله قصدا لم يضمنه" فصحيح لأنه مسيء وغير مأذون له في ذلك لا من جهة الأعمى ولا من جهة الشارع فالقياس المحض قول عمر وبالله التوفيق. فصل حكم علي في التنازع على الولد يوافق القياس ومما أشكل على جمهور الفقهاء وظنوه في غاية البعد عن القياس الحكم الذي حكم به علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة في الجماعة الذين وقعوا على امرأة في طهر واحد ثم تنازعوا الولد فأقرع بينهم فيه. ونحن نذكر هذه الحكومة ونبين مطابقتها للقياس فذكر أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن الخليل عن زيد بن أرقم قال: "كنت جالسا عند النبي ﷺ فجاء رجل من أهل اليمن فقال: إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا عليا يختصمون إليه في ولد قد وقعوا على امرأة في طهر واحد فقال: لاثنين طيبا بالولد لهذا فقالا: لا ثم قال: لاثنين طيبا بالولد لهذا فقالا: لا ثم قال: لاثنين طيبا بالولد لهذا فقالا: لا فقال: أنتم شركاء متشاكسون إني مقرع بينكم فمن قرع فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الدية فأقرع بينهم فجعله لمن قرع له فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت أضراسه أو نواجذه" وفي إسناده يحيى بن عبد الله الكندري الأجلح ولا يحتج بحديثه لكن رواه أبو داود والنسائي بإسناد كلهم ثقات إلى عبد خير عن زيد بن أرقم قال أتى علي بثلاثة وهو باليمن وقعوا على امرأة في طهر واحد فقال لاثنين أتقران لهذا قالا لا حتى سألهم جميعا فجعل كلما سأل اثنين قالا لا فأقرع بينهم فألحق الولد بالذي صارت له القرعة وجعل لصاحبيه عليه ثلثي الدية فذكر ذلك للنبي ﷺ فضحك حتى بدت نواجذه وقد أعل هذا الحديث بأنه روى عن عبد خير بإسقاط زيد بن أرقم فيكون مرسلا قال النسائي وهذا أصوب قلت وهذا ليس بعلة ولا يوجب إرسالا للحديث فإن عبد خير سمع من علي وهو صاحب القصة فهب أن زيد بن أرقم لا ذكر له في المتن فمن أين يجيء الإرسال. وبعد فقد اختلف الفقهاء في حكم هذا الحديث فذهب إلى القول به إسحاق بن راهويه وقال هو السنة في دعوى الولد وكان الشافعي يقول به في القديم وأما الإمام أحمد فسئل عنه فرجح عليه حديث القافه وقال: "حديث القافة أحب إلى". وههنا أمران: أحدهما دخول القرعة في النسب. والثاني: تغريم من خرجت له القرعة ثلثي دية ولده لصاحبيه وكل منهما بعيد عن القياس فلذلك قالوا: هذا من أبعد شيء عن القياس. فيقال: القرعة قد تستعمل عند فقدان مرجح سواها من بينة أو إقرار أو قافة وليس ببعيد تعيين المستحق بالقرعة في هذه الحال إذ هي غاية المقدور عليه من أسباب ترجيح الدعوى ولها دخول في دعوى الأملاك المرسلة التي لا تثبت بقرينة ولا أمارة فدخولها في النسب الذي يثبت بمجرد الشبه الخفي المستند إلى قول القائف أولى وأحرى. وأما أمر الدية فمشكل جدا فإن هذا ليس بقتل يوجب الدية وإنما هو تفويت نسبة بخروج القرعة له فيمكن أن يقال وطء كل واحد صالح لجعل الولد له فقد فوته كل واحد منهم على صاحبه بوطئه ولكن لم يتحقق من كان له الولد منهم فلما أخرجته القرعة لأحدهم صار مفوتا لنسبه على صاحبيه فأجرى ذلك مجرى إتلاف الولد ونزل الثلاثة منزلة أب واحد فحصة المتلف منه ثلث الدية إذ قد عاد الولد له فيغرم لكل من صاحبيه ما يخصه وهو ثلث الدية. ووجه آخر أحسن من هذا: أنه لما أتلفه عليهما بوطئه ولحوق الولد به وجب عليه ضمان قيمته وقيمة الولد شرعا هي ديته فلزمه لهما ثلثا قيمته وهي ثلثا الدية وصار هذا كمن أتلف عبدا بينه وبين شركين له فإنه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه فإتلاف الولد الحر عليهما بحكم القرعة كإتلاف الرقيق الذي بينهم ونظير هذا تضمين الصحابة المغرور بحرية الأمة لما فات رقهم على السيد بحريتهم وكانوا بصدد أن يكونوا أرقاء له وهذا من ألطف ما يكون من القياس وأدقه ولا تهتدي إليه إلا أفهام الراسخين في العلم وقد ظن طائفة أن هذا أيضا على خلاف القياس وليس كما ظنوا بل هو محض الفقه فإن الولد تابع للأم في الحرية والرق ولهذا ولد الحر من أمة الغير رقيق وولد العبد من الحرة حر. قال الإمام أحمد: "إذا تزوج الحر بالأمة رق نصفه وإذا تزوج العبد بالحرة عتق نصفه" فولد الأمة المزوجة بهذا المغرور كانوا بصدد أن يكونوا أرقاء لسيدها ولكن لما دخل الزوج على حرية المرأة دخل على أن يكون أولاده أحرارا والولد يتبع اعتقاد الواطيء فانعقد ولده أحرارا وقد فوتهم على السيد وليس مراعاة أحدهما بأولى من مراعاة الآخر ولا تفويت حق أحدهما بأولى من حق صاحبه فحفظ الصحابة الحقين وراعوا الجانبين فحكموا بحرية الأولاد وإن كانت أمهم رقيقة لأن الزوج إنما دخل على حرية أولاده ولو توهم رقهم لم يدخل على ذلك ولم يضيعوا حق السيد بل حكموا على الواطيء بفداء أولاده وأعطوا العدل حقه فأوجبوا فداءهم بمثلهم تقريبا لا بالقيمة ثم وفوا العدل بأن مكنوا المغرور من الرجوع بما غرمه على من غره لأن غرمه كان بسبب غروره والقياس والعدل يقتضي أن من تسبب إلى إتلاف مال شخص أو تغريمه أنه يضمن ما غرمه كما يضمن ما أتلفه إذ غايته أنه إتلاف بسبب وإتلاف المتسبب كإتلاف المباشر في أصل الضمان. فإن قيل: وبعد ذلك كله فهذا خلاف القياس أيضا فإن الولد كما هو بعض الأم وجزء منها فهو بعض الأب وبعضيته للأب أعظم من بعضيته للأم ولهذا إنما يذكر الله سبحانه في كتابه تخليقه من ماء الرجل كقوله {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} وقوله {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} ونظائرها من الآيات التي إن لم تختص بماء الرجل فهي فيه أظهر وإذا كان جزءا من الواطىء وجزءا من الأم فكيف كان ملكا لسيد الأم دون سيد الأب ويخالف القياس من وجه آخر وهو أن الماء بمنزلة البذر ولو أن رجلا أخذ بذر غيره فزرعه في أرضه كان الزرع لصاحب البذر وإن كان عليه أجرة الأرض. قيل: لا ريب أن الولد منعقد من ماء الأب كما هو منعقد من ماء الأم ولكن إنما تكون وصار مالا متقوما في بطن الأم فالأجزاء التي صار بها كذلك من الأم أضعاف أضعاف الجزء الذي من الأب مع مساواتها له في ذلك الجزء فهو أنما تكون في أحشائها من لحمها ودمها ولما وضعه الأب لم يكن له قيمة أصلا بل كان كما سماه الله ماء مهينا لا قيمة له ولهذا لو نزل فحل رجل على مكة آخر كان الولد لمالك الأم باتفاق المسلمين وهذا بخلاف البذر فإنه مال متقوم له قيمة قبل وضعه في الأرض يعاوض عليه بالأثمان وعسب الفحل لا يعاوض عليه فقياس أحدهما على الآخر من أبطل القياس. فإن قيل: فهلا طردتم ذلك في النسب وجعلتموه للأم كما جعلتموه للأب. قيل: قد اتفق المسلمون على أن النسب للأب كما اتفقوا على أنه يتبع الأم في الحرية والرق وهذا هو الذي تقتضيه حكمة الله شرعا وقدرا فإن الأب هو المولود له والأم وعاء وإن تكون فيها والله سبحانه جعل الولد خليفة أبيه وشجنته والقائم مقامه ووضع الأنساب بين عباده فيقال فلان ابن فلان ولا تتم مصالحهم وتعارفهم ومعاملاتهم إلا بذلك كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} فلولا ثبوت الأنساب من قبل الآباء لما حصل التعارف ولفسد نظام العباد فإن النساء محتجبات مستورات عن العيون فلا يمكن في الغالب أن تعرف عين الأم فيشهد على نسب الولد منها فلو جعلت الأنساب للأمهات لضاعت وفسدت وكان ذلك مناقضا للحكمة والرحمة والمصلحة ولهذا إنما يدعى الناس يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم. قال البخاري في صحيحه: "باب يدعى الناس بآبائهم يوم القيامة" ثم ذكر حديث: "لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان ابن فلان". فكان الأب من تمام الحكمة أن جعل الحرية والرق تبعا للأم والنسب تبعا للأب والقياس الفاسد إنما يجمع بين ما فرق الله بينه أو يفرق بين ما جمع الله بينه. فإن قيل: فهلا طردتم ذلك في الولاء بل جعلتموه لموالي الأم والولاء لحمة كلحمة النسب. قيل: لما كان الولاء من آثار الرق وموجباته كان تابعا له في حكمه فكان لموالي الأم ولما كان فيه شائبة النسب وهو لحمة كلحمته رجع إلى موالي الأب عند انقطاعه عن موالي الأم فروعي فيه الأمران ورتب عليه الأثران. فإن قيل: فهلا جعلتم الولد في الدين تابعا لمن له النسب بل ألحقتموه بأبيه تارة وبأمه تارة. قيل: الطفل لا يستقل بنفسه بل لا يكون إلا تابعا لغيره فجعله الشارع تابعا لخير أبويه في الدين تغليبا لخير الدينين فإنه إذا لم يكن له بد من التبعية لم يجز أن يتبع من هو على دين الشيطان وتنقطع تبعيته عمن هو على دين الرحمن فهذا محال في حكمة الله تعالى وشرعه. فإن قيل: فاجعلوه تابعا لسابيه في الإسلام وإن كان معه أبواه أو أحدهما فإن تبعيته لأبويه قد انقطعت وصار السابي هو أحق به. قيل: نعم وهكذا نقول سواء وهو قول إمام أهل الشام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ونص عليه أحمد واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وقد أجمع الناس على أنه يحكم بإسلامه تبعا لسابيه إذا سبي وحده قالوا: لأن تبعيته قد انقطعت عن أبويه وصار تابعا لسابيه واختلفوا فيما إذا سبي مع أحدهما على ثلاثة مذاهب أحدها: يحكم بإسلامه نص عليه أحمد في إحدى الروايتين وهي المشهورة من مذهبه وهو قول الأوزاعي والثاني: لا يحكم بإسلامه لأنه لم ينفرد عن أبويه والثالث: أنه إن سبي مع الأب تبعه في دينه وإن سبي مع الأم وحدها فهو مسلم وهو قول مالك وقول الأوزاعي وفقهاء أهل الثغر أصح وأسلم من التناقض فإن السابي قد صار أحق به وقد انقطعت تبعيته لأبويه ولم يبق لهما عليه حكم فلا فرق بين كونهما في دار الحرب وبين كونهما أسيرين في أيدي المسلمين بل انقطاع تبعيته لهما في حال أسرهما وقهرهما وإذلالهما واستحقاق قتلهما أولى من انقطاعها حال قوة شوكتهما وخوف معرتهما فما الذي يسوغ له الكفر بالله والشرك به وأبواه أسيران في أيدي المسلمين ومنعه من ذلك وأبواه في دار الحرب وهل هذا إلا تناقض محض وأيضا فيقال لهم إذا سبي الأبوان ثم قتلا فهل يستمر الطفل على كفره عندكم أو تحكمون بإسلامه فمن قولكم أنه يستمر على كفره كما لو ماتا فيقال وأي كتاب أو سنة أو قياس صحيح أو معنى معتبر أو فرق مؤثر بين أن يقتلا في حال الحرب أو بعد الأسر والسبي وهل يكون المعنى الذي حكم بإسلامه لأجله إذا سبي وحده زائلا بسبائهما ثم قتلهما بعد ذلك وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلين وأيضا فهل تعتبرون وجود الطفل والأبوين في ملك ساب واحد أو يكون معهما في جملة العسكر فإن اعتبرتم الأول طولبتم بالدليل على ذلك وإن اعتبرتم الثاني فمن المعلوم انقطاع تبعيته لهما واستيلائهما عليه واختصاصه بسابيه ووجودهما بحيث لا يمكنان منه ومن تربيته وحضانته واختصاصهما به لا أثر له وهو كوجودهما في دار الحرب سواء وأيضا فإن الطفل لما لم يستقل بنفسه لم يكن بد من جعله تابعا لغيره وقد دار الأمر بين أن يجعل تابعا لمالكه وسابيه ومن هو أحق الناس به وبين أن يجعل تابعا لأبويه ولا حق لهما فيه بوجه ولا ريب أن الأول أولى وأيضا فإن ولاية الأبوين قد زالت بالكلية وقد انقطع الميراث وولاية النكاح وسائر الولايات فما بال ولاية الدين الباطل باقية وحدها وقد نص الإمام أحمد على منع أهل الذمة أن يشتروا رقيقا من سبي المسلمين وكتب بذلك عمر بن الخطاب إلى الأمصار واشتهر ولم ينكره منكر فهو إجماع من الصحابة وإن نازع فيه بعض الأئمة وما ذاك إلا أن في تمليكه للكافر ونقله عن يد المسلم قطعا لما كان بصدده من مشاهدة معالم الإسلام وسماعه القرآن فربما دعاه ذلك إلى اختياره فلو كان تابعا لأبويه على دينهما لم يمنعا من شراه وبالله التوفيق. فإن قيل: فيلزمكم على هذا أنه لو مات الأبوان أن تحكموا بإسلام الطفل لانقطاع تبعيته للأبوين ولا سيما وهو مسلم بأصل الفطرة وقد زال معارض الإسلام وهو تهويد الأبوين وتنصيرهما. قيل: قد نص على ذلك الإمام أحمد في رواية جماعة من أصحابه واحتج بقوله ﷺ: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" فإذا لم يكن له أبوان فهو على أصل الفطرة فيكون مسلما. فإن قيل: فهل تطردون هذا فيما انقطع نسبة عن الأب مثل كونه ولد زنا أو منفيا بلعان؟ قيل: نعم لوجود المقتضى لإسلامه بالفطرة وعدم المانع وهو وجود الأبوين ولكن الراجح في الدليل قول الجمهور وأنه لا يحكم بإسلامه بذلك وهو الرواية الثانية عنه اختارها شيخ الإسلام وعلى هذا فالفرق بين هذه المسألة ومسألة المسبي أن المسبي قد انقطعت تبعيته لمن هو على دينه وصار تابعا لسابيه المسلم بخلاف من مات أبواه أو أحدهما فإنه تابع لأقاربه أو وصى أبيه فإن انقطعت تبعيته لأبويه فلم تنقطع لمن يقوم مقامهما من أقاربه أو أوصيائه والنبي ﷺ أخبر عن تهويد الأبوين وتنصيرهما بناء على الغالب وهذا لا مفهوم له لوجهين أحدهما أنه مفهوم لقب والثاني أنه خرج مخرج الغالب ومما يدل على ذلك العمل المستمر من عهد الصحابة وإلى اليوم بموت أهل الذمة وتركهم الأطفال ولم يتعرض أحد من الأئمة ولا ولاة الأمور لأطفالهم ولم يقولوا هؤلاء مسلمون ومثل هذا لا يهمله الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين. فإن قيل: فهل تطردون هذا الأصل في جعله تبعا للمالك قتقولون: إذا اشترى المسلم طفلا كافرا يكون مسلما تبعا له أو تتناقضون فتفرقون بينه وبين السابي وصورة المسألة فيما إذا زوج الذمي عبده الكافر من أمته فجاءت بولد أو تزوج الحر منهم بأمة فأولدها ثم باع السيد هذا الولد لمسلم. قيل: نعم نطرده ونحكم بإسلامه قاله شيخنا قدس الله روحه ولكن جادة المذهب أنه باق على كفره كما لو سبي مع أبويه وأولى والصحيح قول شيخنا لأن تبعيته للأبوين قد زالت وانقطعت الموالاة والميراث والحضانة بين الطفل والأبوين وصار المالك أحق به وهو تابع له فلا يفرد عنه بحكم فكيف يفرد عنه في دينه وهذا طرد الحكم بإسلامه في مسألة السباء وبالله التوفيق. كل ما في الشريعة يوافق العقل فهذه نبذه يسيرة تطلعك على ما وراءها من أنه ليس في الشريعة شيء يخالف القياس ولا في المنقول عن الصحابة الذي لا يعلم لهم فيه مخالف وأن القياس الصحيح دائر مع أوامرها ونواهيها وجودا وعدما كما أن المعقول الصحيح دائر مع أخبارها وجودا وعدما فلم يخبر الله رسوله بما يناقض صريح العقل ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل. أمثلة من شبه نفاة القياس ولنفاة الحكم والتعليل والقياس ههنا سؤال مشهور وهو أن الشريعة قد فرقت بين المتماثلين وجمعت بين المختلفين فإن الشارع فرض الغسل من المنى وأبطل الصوم بإنزاله عمدا وهو طاهر دون البول والمذي وهو نجس وأوجب غسل الثوب من بول الصبية والنضح من بول الصبي مع تساويهما ونقص الشطر من صلاة المسافر الرباعية وأبقى الثلاثية والثنائية على حالهما وأوجب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة مع أن الصلاة أولى بالمحافظة عليها وحرم النظر إلى العجوز الشوهاء القبيحة المنظر إذا كانت حرة وجوزه إلى الأمة الشابة البارعة الجمال وقطع سارق ثلاثة دراهم دون مختلس ألف دينار أو منتهبها أو غاصبها ثم جعل ديتها خمسمائة دينار فقطعها في ربع دينار وجعل ديتها هذا القدر الكبير وأوجب حد الفرية على من قذف غيره بالزنا دون من قذفه بالكفر وهو شر منه واكتفى في القتل بشاهدين دون الزنا والقتل أكبر من الزنا وجلد قاذف الحر الفاسق دون العبد العفيف الصالح وفرق في العدة بين الموت والطلاق مع استواء حال الرحم فيهما وجعل عدة الحرة ثلاث حيض واستبراء الأمة بحيضة والمقصود العلم ببراءة الرحم وحرم المطلقة ثلاثا على الزوج الملق ثم أباحها له إذا تزوجت بغيره وحالها في الموضعين واحدة وأوجب غسل غير الموضع الذي خرجت منه الريح ولم يوجب غسله ولم يعتبر توبة القاتل وندمه قبل القدرة عليه واعتبر توبة المحارب قبل القدرة عليه وقبل شهادة العبد والمملوك عليه بأنه ﷺ قال كذا وكذا ولم يقبل شهادته على آخاد الناس أنه قال كذا وكذا وأوجب الصدقة في السوائم وأسقطها عن العوامل وجعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن الرجل والأمة البارعة الجمال لا تحصنه ونقض الوضوء بمس الذكر دون مس سائر الأعضاء ودون مس العذرة والدم وأوجب الحد في القطرة الواحدة من الخمر ولم يوجبه بالأرطال الكثيرة من الدم والبول وقصر عدد المنكوحات على أربع وأطلق ملك اليمين من غير حصر وأباح للرجل أن يتزوج أربعا ولم يبح للمرأة إلا رجلا واحدا مع وجود الشهوة وقوة الداعي من الجانبين وجوز للرجل أن يستمتع من أمته بالوطء وغيره ولم يجوز للمرأة أن تستمتع من عبدها لا بوطء ولا غيره وفرق بين الطلقة الثالثة والثانية في تحريمها على المطلق بالثالثة دون الثانية وفرق بين لحم الإبل ولحم البقر والغنم والجواميس وغيرها فأوجب الوضوء من لحم الإبل وحده وفرق بين الكلب الأسود والأبيض في قطع الصلاة بمرور الأسود وحده وفرق بين الريح الخارجة من الدبر فأوجب بها الوضوء وبين الجشوة الخارجة من الحلق فلم يوجب بها الوضوء وأوجب الزكاة في خمس من الإبل وأسقطها عن عدة آلاف من الخيل وأوجب في الذهب والفضة والتجارة ربع العشر وفي الزروع والثمار العشر أو نصفه وفي المعدن الخمس وأوجب في أول نصاب من الإبل من غير جنسها وفي أول نصاب من البقر والغنم من جنسه وقطع يد السارق لكونها آلة المعصية فأذهب العضو الذي تعدى به على الناس ولم يقطع اللسان الذي يقذف به المحصنات الغافلات ولا الفرج الذي يرتكب به المحرم وأوجب على الرقيق نصف حد الحر مع أن حاجته إلى الزجر عن المحارم كحاجة الحر وجعل للقاذف إسقاط الحد باللعان في الزوجة دون الأجنبية وكلاهما قد ألحق به العار وجوز للمسافر المترفه في سفره رخصة القصر والفطر دون المقيم المجهود الذي هو في غاية المشقة في سببه وأوجب على كل من نذر لله طاعة الوفاء بها وجوز لمن حلف على فعلها أن يتركها ويكفر يمينه وكلاهما قد التزم فعلها لله وحرم الذئب والقرد وما له ناب من السباع وأباح الضبع على قول ولها ناب تكسر به وجعل شهادة خزيمة بن ثابت وحده بشهادتين وغيره من الصحابة أفضل منه وشهادته بشهادة ورخص لأبي بردة بن نيار في التضحية بالعناق وقال: "لن تجزىء عن أحد بعدك" وفرق بين صلاة الليل والنهار في السر والجهر ثم شرع الجهر في بعض صلاة النهار كالجمعة والعيدين وورث ابن ابن العم وإن بعدت درجته دون الخالة التي هي شقيقة الأم وحرم أخذ مال الغير إلا بطيبة من نفسه وسلطه على أخذ عقاره وأرضه بالشفعة ثم شرع الشفعة فيما يمكن التخلص من ضرر الشركة بقسمته دون ما لا يمكن قسمته كالجوهرة والحيوان وهو أولى بالشفعة وحرم الصوم أول يوم من شوال وفرض صوم آخر يوم من رمضان مع تساوي اليومين وحرم على الإنسان نكاح بنت أخيه وأخته وأباح له نكاح بنت أخي أبيه وأخت أمه وحمل العاقلة ضمان جناية الخطأ على النفوس دون الجناية على الأموال وحرم وطء الحائض لأذى الدم وأباح وطء المستحاضة مع وجود الأذى ومنع بيع مد حنطة بمد وحفنة وجوز بيع مد حنطة بصاع فأكثر من الشعير فحرم ربا الفضل في الجنس الواحد دون الجنسين الجنسين ومنع المرأة من الإحداد على أبيها وابنها فوق ثلاثة أيام وأوجب عليها أن تحد على الزوج وهو أجنبي أربعة أشهر وعشرا وسوى بين الرجل والمرأة في العبادات البدنية والمالية كالوضوء والغسل والصلاة والصوم والزكاة والحج وفي العقوبات كالحدود ثم جعلها على النصف من الرجل في الدية والشهادة والميراث والعقيقة وخص بعض الأزمنة على بعض وبعض الأمكنة على بعض بخصائص مع تساويها فجعل ليلة القدر خيرا من ألف شهر وجعل شهر رمضان سيد الشهور ويوم الجمعة سيد الأيام ويوم عرفة ويوم النحر وأيام منى أفضل الأيام وجعل البيت أفضل بقاع الأرض. كيف يمكن القياس مع الفرق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات قالوا: وإذا كانت الشريعة قد جاءت بالتفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات كما جمعت بين الخطأ والعمد في ضمان الأموال وقد قتل الصيد وجمعت بين العاقل والمجنون والطفل والبالغ في وجوب الزكاة وجمعت بين الهرة والفأرة في طهارة كل منهما وجمعت بين الميتة وذبيحة المجوسي في التحريم وبين ما مات من الصيد أو ذبحه المحرم في ذلك وبين الماء والتراب في التطهير بطل القياس فإن مبدأه على هذين الحرفين وهما أصل قياس الطرد وقياس العكس. والجواب أن يقال: الآن حمي الوطيس وحميت أنوف أنصار الله ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله وآن لحزب الله أن لا تأخذهم في الله لومة لائم وأن لا يتحيزوا إلى فئة معينة وأن ينصروا الله ورسوله بكل قول حق قاله من قاله ولا يكونوا من الذين يقبلون ما قاله طائفتهم وفريقهم كائنا من كان ويردون ما قاله منازعوهم وغير طائفتهم كائنا ما كان فهذه طريقة أهل العصبية وحمية أهل الجاهلية ولعمر الله إن صاحب هذه الطريقة لمضمون له الذم وغير ممدوح إن أصاب وهذا حال لا يرضى بها من نصح نفسا وهدى لرشده والله الموفق. وجواب هذا السؤال من طريقين مجمل ومفصل: الجواب المجمل عن هذه الشبه أما المجمل فهو أن ما ذكرتم من الصور وأضعافها وأضعاف أضعافها فهو من أبين الأدلة على عظم هذه الشريعة وجلالتها ومجيئها على وفق العقول السليمة والفطر المستقيمة حيث فرقت بين أحكام هذه الصور المذكورة لافتراقها في الصفات التي اقتضت افتراقها في الأحكام ولو ساوت بينها في الأحكام لتوجه السؤال وصعب الانفصال وقال القائل: قد ساوت بين المختلفات وقرنت الشيء إلى غير شبيهه في الحكم وما امتازت صورة من تلك الصور بحكمها دون الصورة الأخرى إلا لمعنى قام بها أوجب اختصاصها بذلك الحكم ولا اشتركت صورتان في حكم لاشتراكهما في المعنى المقتضى لذلك الحكم ولا يضر افتراقهما في غيره كما لا ينفع اشتراك المختلفين في معنى لا يوجب الحكم فالاعتبار في الجمع والفرق إنما هو بالمعانى التي لأجلها شرعت تلك الأحكام وجودا وعدما. جواب ابن الخطيب وأبي الحسن البصري وقد اختلفت أجوبة الأصوليين عن هذا السؤال بحسب أفهامهم ومعرفتهم بأسرار الشريعة فأجاب ابن الخطيب عنه بأن قال: "غالب أحكام الشريعة معللة برعاية المصالح المعلومة والخصم إنما بين خلاف ذلك في صور قليلة جدا وورود الصورة النادرة على خلاف الغالب ولا يقدح في حصول الظن كما أن الغيم الرطب إذا لم يمطر نادرا لا يقدح في نزول المطر منه". وهذا الجواب لا يسمن ولا يغني من جوع وهو جواب أبي الحسين البصري بعينه. جواب أبي الحسن الآمدي وأجاب عنه أبو الحسن الآمدي بأن التفريق بين الصور المذكورة في الأحكام إما لعدم صلاحية ما وقع جامعا أو لمعارض له في الأصل أو الفرع وأما الجمع بين المختلفات فإنما كان لاشتراكهما في معنى جامع صالح للتعليل أو لاختصاص كل صورة بعلة صالحة للتعليل فإنه لا مانع عند اختلاف الصور وإن اتحد نوع الحكم أن يعلل بعلل مختلفة. جواب أبي بكر الرازي وأجاب عنه أبو بكر الرازي الحنفي بأن قال لا معنى لهذا السؤال فإنا لم نقل بموجب القياس من حيث اشتبهت المسائل في صورها وأعيانها وأسمائها ولا أوجبنا المخالفة بينها من حيث اختلفت في الصور والأعيان والأسماء وإنما يجب القياس بالمعنى التي جعلت أمارات للحكم وبالأسباب الموجبة له فنعتبرها في مواضعها ثم لا نبالي باختلافها ولا اتفاقها من وجوه أخرى غيرها مثال ذلك أن النبي ﷺ لما حرم التفاضل في البر بالبر من جهة الكيل وفي الذهب بالذهب من جهة الوزن استدللنا به على أن الزيادة المحظورة معتبرة من جهة الكيل والوزن مع الجنس فحيث وجدا أوجبنا تحريم التفاضل إن اختلفت المبيعات من وجوه أخر كالحمص وهو مكيل فحكمه حكم البر من حيث كونه مكيلا وإن خالفه من وجوه أخر وكالرصاص وهو موزون فحكمه كحكم الذهب في تحريم التفاضل وإن خالفه في أوصاف أخر فمتى عقل المعنى الذي به تعلق الحكم وجعل علامة له وجب اعتباره حيث وجد كما رجم ماعزا لزناه وحكم بإلقاء الفأرة وما حولها لما ماتت في السمن فعقلنا عموم المعنى لكل زان وعموم المعنى لكل مائع جاور النجاسة إلا أن المعنى تارة يكون جليا ظاهرا وتارة يكون خفيا غامضا فيستدل عليه بالدلائل التي نصبها الله عليه. جواب القاضي أبي يعلي وأجاب عنه القاضي أبو يعلي بأن قال: "العقل إنما يمنع أن يجمع بين الشيئين المختلفين من حيث اختلفا في الصفات النفسية كالسواد والبياض وأن يفرق بين المثلين فيما تماثلا فيه من صفات النفس كالسوادين والبياضين وما يجرى ذلك وأما ما عدا ذلك فإنه لا يمتنع أن يجمع بين المختلفين في الحكم الواحد" ألا ترى أن السواد والبياض قد اجتمعا في منافاة الحمرة وما يجري مجراها من الألوان فإن القعود في الموضع الواحد قد يكون حسنا إذا كان فيه نفع لا ضرر فيه وقد يكون قبيحا إذا كان فيه ضرر من غير نفع يوفي عليه وإن كان القعود المقصود في ذلك الموضع متيقنا وقد يكون القعود في مكانين مجتمعين في الحسن بأن يكون في كل منهما نفع لا ضرر فيه وإن كانا مختلفين على أن ذلك يكون يؤكد صحة القياس وذلك أن المثلين في العقليات إنما وجب تساوي حكمهما لأن كل واحد منهما قد ساوى الآخر فيما لأجله قد وجب له الحكم إما لذاته كالسوادين أو لعلة أوجبت ذلك كالأسودين وهكذا القول في المختلفين وعلى هذه الطريقة بعينها يجري القياس لأنا إنما نحكم للفرع بحكم الأصل إذا شاركه في علة الحكم كما أن الله تعالى إنما نص على حكم واحد في الشيئين إذا اشتركا فيما أوجب الحكم فيهما فقد بان بذلك صحة ما ذكرناه. جواب القاضي عبد الوهاب المالكي وأجاب عنه القاضي عبد الوهاب المالكي بأن قال: "دعواكم بأن هذه الصور التي اختلفت أحكامها متماثلة في نفسها دعوى والأمثلة لا تشهد لها ألا ترى أنه لا يمتنع أن يتفق الصوم والصلاة في امتناع أدائهما من الحائض ويفترقان في وجوب القضاء والتماثل في العقليات لا يوجب التساوي في الأحكام الشرعيات". وأيضا فهذا يوجب منع القياس في العقليات. وأيضا فإن القياس جائز على العلة المنصوص عليها مع وجود المعنى الذي ذكره. فهذه أجوبة النظار ونحن بعون الله وتوفيقه نفرد كل مسألة منها بجواب مفصل وهو المسلك الثاني الذي وعدنا به. الأجوبة بالتفصيل الغسل من المني دون البول أما المسألة الأولى وهي إيجاب الشارع ﷺ الغسل من المني دون البول فهذا من أعظم محاسن الشريعة وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة فإن المنى يخرج من جميع البدن ولهذا سماه الله سبحانه وتعالى {سُلالَةٍ} لأنه يسيل من جميع البدن وأما البول فإنما هو فضلة الطعام والشراب المستحيلة في المعدة والمثانة فتأثر البدن بخروج المنى أعظم من تأثره بخروج البول وأيضا فإن الاغتسال من خروج المنى من أنفع شيء للبدن والقلب والروح بل جميع الأرواح القأئمة بالبدن فإنها تقوى بالاغتسال والغسل يخلف عليه ما تحلل منه بخروج المنى وهذا أمر يعرف بالحس وأيضا فإن الجنابة توجب ثقلا وكسلا والغسل يحدث له نشاطا وخفة ولهذا قال أبو ذر لما اغتسل من الجنابة كأنما ألقيت عني حملا وبالجملة فهذا أمر يدركه كل ذي حس سليم وفطرة صحيحة ويعلم أن الاغتسال من الجنابة يجري مجرى المصالح التي تلحق بالضروريات للبدن والقلب مع ما تحدثه الجنابة من بعد القلب والروح عن الأرواح الطيبة فإذا اغتسل زال ذلك البعد ولهذا قال غير واحد من الصحابة إن العبد إذا نام عرجت روحه فإن كان طاهرا أذن لها بالسجود وإن كان جنبا لم يؤذن لها ولهذا أمر النبي ﷺ الجنب إذا نام أن يتوضأ وقد صرح أفاضل الأطباء بأن الاغتسال بعد الجماع يعيد إلى البدن قوته ويخلف عليه ما تحلل منه وإنه من أنفع شيء للبدن والروح وتركه مضر ويكفي شهادة العقل والفطرة بحسنه وبالله التوفيق. على أن الشارع لو شرع الاغتسال من البول لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة تمنعه حكمة الله ورحمته وإحسانه إلى خلقه. فصل الفرق بين بول الصبي والصبية وأما غسل الثوب من بول الصبية ونضحه من بول الصبي إذا لم يطعما فهذا للفقهاء فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يغسلان جميعا. والثاني: ينضحان. والثالث: التفرقة وهو الذي جاءت به السنة وهذا من محاسن الشريعة وتمام حكمتها ومصلحتها. والفرق بين الصبي والصبية من ثلاثة أوجه: أحدها: كثرة حمل الرجال والنساء للذكر فتعم البلوى ببوله فيشق عليه غسله. والثاني: أن بوله لا ينزل في مكان واحد بل ينزل متفرقا ههنا وههنا فيشق غسل ما أصابه كله بخلاف بول الأنثى. الثالث: أن بول الأنثى أخبث وأنتن من بول الذكر وسببه حرارة الذكر ورطوبة الأنثى فالحرارة تخفف من نتن البول وتذيب منها ما لا يحصل مع الرطوبة وهذه معان مؤثرة يحسن اعتبارها في الفرق. فصل الفرق بين الصلاة الرباعية وغيرها في القصر وأما نقصه الشطر من صلاة المسافر الرباعية دون الثلاثية والثنائية ففي غاية المناسبة فإن الرباعية تحتمل الحذف لطولها بخلاف الثنائية فلو حذف شطرها لأجحف بها ولزالت حكمة الوتر الذي شرع خاتمة العمل وأما الثلاثية فلا يمكن شطرها وحذف ثلثيها مخل بها وحذف ثلثها يخرجها عن حكمة شرعها وترا فإنها شرعت ثلاثا لتكون وتر النهار كما قال النبي ﷺ: "المغرب وتر النهار فأوتروا صلاة الليل". فصل الفرق بين قضاء الصوم دون الصلاة بالنسبة للحائض وأما إيجاب الصوم على الحائض دون الصلاة فمن تمام محاسن الشريعة وحكمتها ورعايتها لمصالح المكلفين فإن الحيض لما كان منافيا للعبادة لم يشرع فيه فعلها وكان في صلاتها أيام الطهر ما يغنيها عن صلاة أيام الحيض فيحصل لها مصلحة الصلاة في زمن الطهر لتكررها كل يوم بخلاف الصوم فإنه لا يتكرر وهو شهر واحد في العام فلو سقط عنها فعله بالحيض لم يكن لها سبيل إلى تدارك نظيره وفاتت عليها مصلحته فوجب عليها أن تصوم شهرا في طهرها لتحصل مصلحة الصوم التي هي من تمام رحمة الله بعبده وإحسانه إليه بشرعه وبالله التوفيق. فصل الفرق بين النظر إلى الحرة والأمة وأما تحريم النظر إلى العجوز الحرة الشوهاء القبيحة وإباحته إلى الأمة البارعة الجمال فكذب على الشارع فأين حرم الله هذا وأباح هذا والله سبحانه إنما قال {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ولم يطلق الله ورسوله للأعين النظر إلى الإماء البارعات الجمال وإذا خشي الفتنة بالنظر إلى الأمة حرم عليه بلا ريب وإنما نشأت الشبهة أن الشارع شرع للحرائر أن يسترن وجوههن عن الأجانب وأما الإماء فلم يوجب عليهن ذلك لكن هذا في إماء الاستخدام والابتذال وأما إماء التسري اللأتي جرت العادة بصونهن وحجبهن فأين الله ورسوله لهن أن يكشفن وجوهن في الأسواق والطرقات ومجامع الناس وأذن للرجال في التمتع بالنظر إليهن فهذا غلط محض على الشريعة وأكد هذا الغلط أن بعض الفقهاء سمع قولهم إن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها وعورة الأمة ما لا يظهر غالبا كالبطن والظهر والساق فظن أن ما يظهر غالبا حكمه حكم وجه الرجل وهذا إنما هو في الصلاة لا في النظر فإن العورة عورتان: عورة في النظر وعورة في الصلاة فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك والله أعلم. فصل الفرق بين السارق وبين المختلس والمنتهب والغاصب وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم وترك قطع المختلس والمنتهب والغاصب فمن تمام حكمة الشارع أيضا فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضا وعظم الضرر واشتدت المحنة بالسراق بخلاف المنتهب والمختلس فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس فيمكنهم أن يأخذوا على يديه ويخلصوا حق المظلوم أو يشهدوا له عند الحاكم وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره فلا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس فليس كالسارق بل هو بالخائن أشبه وأيضا فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالبا فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك في حال تخليك عنه وغفلتك عن حفظه وهذا يمكن الاحتراز منه غالبا فهو كالمنتهب وأما الغاصب فالأمر فيه ظاهر وهو أولى بعدم القطع من المنتهب ولكن يسوغ كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال والسجن الطويل والعقوبة بأخذ المال كما سيأتي. فإن قيل: فقد وردت السنة بقطع جاحد العارية وغايته أنه خائن والمعير سلطه على قبض ماله والاحتراز منه ممكن بأن لا يدفع إليه المال فبطل ما ذكرتم من الفرق. قيل: لعمر الله لقد صح الحديث بأن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر بها النبي ﷺ فقطعت يدها فاختلف الفقهاء في سبب القطع هل كان سرقتها وعرفها الراوي بصفتها لأن المذكور سبب القطع كما يقوله الشافعي وأبو حنيفة ومالك أو كان السبب المذكور هو سبب القطع كما يقوله أحمد ومن وافقه ونحن في هذا المقام لا ننتصر لمذهب معين البتة فإن كان الصحيح قول الجمهور اندفع السؤال وإن كان الصحيح هو القول الآخر فموافقته للقياس والحكمة والمصلحة ظاهرة جدا فإن العارية من مصالح بني آدم التي لا بد لهم منها ولا غنى لهم عنها وهي واجبة عند حاجة المستعير وضرورته إليها إما بأجرة أو مجانا ولا يمكن المعير كل وقت أن يشهد على العارية ولا يمكن الاحتراز بمنع العارية شرعا وعادة وعرفا ولا فرق في المعنى بين من توصل إلى أخذ متاع غيره بالسرقة وبين من توصل إليه بالعارية وجحدها وهذا بخلاف جاحد الوديعة فإن صاحب المتاع فرط حيث ائتمنه. فصل الفرق بين دية اليد وقطعها في السرقة وأما قطع اليد في ربع دينار وجعل ديتها خمسمائة دينار فمن أعظم المصالح والحكمة فإنه احتاط في الموضعين للأموال والأطراف فقطعها في ربع دينار حفظا للأموال وجعل ديتها خمسمائة دينار حفظا لها وصيانة وقد أورد بعض الزنادقة هذا السؤال وضمنه بيتين فقال: يد بخمس مىء من عسجد وديت ** ما يالها قطعت في ربع دينار. تناقض ما لنا الا السكوت له ** ونستجير بمولانا من العار. فأجابه بعض الفقهاء بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة فلما خانت هانت وضمنه الناظم قوله: يد بخمس مىء من عسجد وديت ** كنها قطعت في ربع دينار. حماية الدم أغلاها وأرخصها ** يانة المال فانظر حكمة الباري. وروي أن الشافعي رحمه الله أجاب بقوله: هناك مظلومة غالت بقيمتها ** وههنا ظلمت هانت على الباري. وأجاب شمس الدين الكردي بقوله: قل لمعري عار أيما عار ** جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عار. لا تقدحن زناد الشعر عن حكم ** شعائر الشرع لم تقدح بأشعار. فقيمة اليد نصف الألف من ذهب ** فإن تعدت فلا تسوى بدينار. فصل تخصيص القطع في ربع دينار وأما تخصيص القطع بهذا القدر فلأنه لا بد من مقدار يجعل ضابطا لوجوب القطع إذ لا يمكن أن يقال: يقطع بسرقة فلس أو حبة حنطة أو تمرة ولا تأتي الشريعة بهذا وتنزه حكمة الله ورحمته وإحسانه عن ذلك فلا بد من ضابط وكانت الثلاثة دراهم أول مراتب الجمع وهي مقدار ربع دينار وقال إبراهيم النخعي وغيره من التابعين: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه فإن عادة الناس التسامح في الشيء الحقير من أموالهم إذ لا يلحقهم ضرر بفقده وفي التقدير بثلاثة دراهم حكمة ظاهرة فإنها كفاية المقتصد في يومه له ولمن يمونه غالبا وقوت اليوم للرجل وأهله له خطر عند غالب الناس وفي الأثر المعروف "من أصبح آمنا في سر به معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها". فصل القذف بالزنا يخالف القذف بالكفر وأما إيجاب حد الفرية على من قذف غيره بالزنا دون الكفر ففي غاية المناسبة فإن القاذف غيره بالزنا لا سبيل للناس إلى العلم بكذبه فجعل حد الفرية تكذيبا له وتبرئة لعرض المقذوف وتعظيما لشأن هذه الفاحشة التي يجلد من رمى بها مسلما وأما من رمى غيره بالكفر فإن شاهد حال المسلم واطلاع المسلمين عليها كاف في تكذيبه ولا يلحقه من العار بكذبه عليه في ذلك ما يلحقه بكذبه عليه في الرمي بالفاحشة ولا سيما إن كان المقذوف امرأة فإن العار والمعرة التي تلحقها بقذفه بين أهلها وتشعب ظنون الناس وكونهم بين مصدق ومكذب لا يلحق مثله بالرمي بالكفر. فصل الاكتفاء في القتل بشاهدين دون الزنا يوافق القياس وأما اكتفاؤه في القتل بشاهدين دون الزنا ففي غاية الحكمة والمصلحة فإن الشارع احتاط للقصاص والدماء واحتاط لحد الزنا فلو لم يقبل في القتل إلا أربعة لضاعت الدماء وتواثب العادون وتجرءوا على القتل وأما الزنا فإنه بالغ في ستره كما قدر الله ستره فاجتمع على ستره شرع الله وقدره فلم يقبل فيه إلا أربعة يصفون الفعل وصف مشاهدة ينتفي معها الاحتمال وكذلك في الإقرار لم يكتف بأقل من بأربع مرات حرصا على ستر ما قدر الله ستره وكره إظهاره والتكلم به وتوعد من يحب إشاعته في المؤمنين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة. فصل جلد قاذف الحر دون قاذف العبد يوافق القياس وأما جلد قاذف الحر دون العبد فتفريق لشرعه بين ما فرق الله بينهما بقدره فما جعل الله سبحانه العبد كالحر من كل وجه لا قدرا ولا شرعا وقد ضرب الله سبحانه لعباده الأمثال التي أخبر فيها بالتفاوت بين الحر والعبد وأنهم لا يرضون أن تساويهم عبيدهم في أرزاقهم فالله سبحانه وتعالى فضل بعض خلقه على بعض وفضل الأحرار على العبيد في الملك وأسبابه والقدرة على التصرف وجعل العبد مملوكا والحر مالكا ولا يستوي المالك والمملوك وأما التسوية بينهما في أحكام الثواب والعقاب فذلك موجب العدل والإحسان فإنه يوم الجزاء لا يبقى هناك عبد وحر ولا مالك ولا مملوك. فصل التفريق في العدة يوافق القياس وأما تفريقه في العدة بين الموت والطلاق وعدة الحرة وعدة الأمة وبين الاستبراء والعدة مع أن المقصود العلم ببراءة الرحم في ذلك كله فهذا إنما يتبين وجهه إذا عرفت الحكمة التي لأجلها شرعت العدة وعرف أجناس العدد وأنواعها. الحكمة في تشريع العدة فأما المقام الأول ففي شرع العدة عدة حكم منها العلم ببراءة الرحم وأن لا يجتمع ماء الواطئين فأكثر في رحم واحد فتختلط الأنساب وتفسد وفي ذلك من الفساد ما تمنعه الشريعة والحكمة ومنها تعظيم خطر هذا العقد ورفع قدره وإظهار شرفه ومنها تطويل زمان الرجعة للمطلق إذ لعله أن يندم ويفيء فيصادف زمنا يتمكن فيه من الرجعة ومنها قضاء حق الزوج وإظهار تأثير فقده في المنع من التزين والتجمل ولذلك شرع الإحداد عليه أكثر من الإحداد على الوالد والولد ومنها الاحتياط لحق الزوج ومصلحة الزوجة وحق والولد والقيام بحق الله الذي أوجبه ففي العدة أربعة حقوق وقد أقام الشارع الموت مقام الدخول في استيفاء المعقود عليه فإن النكاح مدته العمر ولهذا أقيم مقام الدخول في تكميل الصداق وفي تحريم الربيبة عند جماعة من الصحابة ومن بعدهم كما هو مذهب زيد بن ثابت وأحمد في إحدى الروايتين عنه فليس المقصود من العدة مجرد براءة الرحم بل ذلك من بعض مقاصدها وحكمها. أجناس العدد المقام الثاني في أجناسها: وهي أربعة في كتاب الله وخامس بسنة رسول الله ﷺ الجنس الأول أم باب العدة {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} الثاني {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} والثالث {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} الرابع: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} الخامس: قول النبي ﷺ: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرىء بحيضة" ومقدم هذه الأجناس كلها الحاكم عليها كلها وضع الحمل فإذا وجد فالحكم له ولا التفات إلى غيره وقد كان بين السلف نزاع في المتوفي عنها أنها تتربص أبعد الأجلين ثم حصل الاتفاق على انقضائها بوضع الحمل وأما عدة الوفاة فتجب بالموت سواء دخل بها أو لم يدخل كما دل عليه عموم القرآن والسنة الصحيحة واتفاق الناس فإن الموت لما كان انتهاء العقد وانقضاءه استقرت به الأحكام من التوارث واستحقاق المهر وليس المقصود بالعدة ههناء مجرد استبراء الرحم كما ظنه بعض الفقهاء لوجوبها قبل الدخول ولحصول الاستبراء بحيضة واحدة ولاستواء الصغيرة الآيسة وذوات القروء في مدتها فلما كان الأمر كذلك قالت طائفة: "هي تعبد محض لا يعقل معناه" وهذا باطل لوجوه منها أنه ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يعقله من عقله ويخفى على من خفي عليه ومنها أن العدد ليست من باب العبادات المحضة فإنها تجب في حق الصغيرة والكبيرة والعاقلة والمجنونة والمسلمة والذمية ولا تفتقر إلى نية ومنها أن رعاية حق الزوجين والولد والزوج الثاني ظاهر فيها فالصواب أن يقال هي حريم لانقضاء النكاح لما كمل ولهذا تجد فيها رعاية لحق الزوج وحرمة له ألا ترى أن النبي ﷺ كان من احترامه ورعاية حقوقه تحريم نسائه بعده ولما كانت نساؤه في الدنيا هن نساؤه في الآخرة قطعا لم يحل لأحد أن يتزوج بهن بعده بخلاف غيره فإن هذا ليس معلوما في حقه لو حرمت المرأة على غيره لتضررت ضررا محققا بغير نفع معلوم ولكن لو تأيمت على أولادها كانت محمودة على ذلك وقد كانوا في الجاهلية يبالغون في احترام حق الزوج وتعظيم حريم هذا العقد غاية المبالغة من تربص سنة في شر ثيابها وحفش بيتها فخفف الله عنهم ذلك بشريعته التي جعلها رحمة وحكم ومصلحة ونعمة بل هي من أجل نعمه عليهم على الإطلاق فله الحمد كما هو أهله وكانت أربعة أشهر وعشرا على وفق الحكمة والمصلحة إذ لا بد من مدة مضروبة لها وأولى المدد بذلك المدة التي يعلم فيها بوجود الولد وعدمه فإنه يكون أربعين يوما نطفة ثم أربعين علقة ثم أربعين مضغة فهذه أربعة أشهر ثم ينفخ فيه الروح في الطور الرابع فقدر بعشرة أيام لتظهر حياته بالحركة إن كان ثم حمل. فصل الحكمة في عدة الطلاق وأما عدة الطلاق فلا يمكن تعليلها بذلك لأنها إنما تجب بعد المسيس بالاتفاق ولا ببراءة الرحم لأنه يحصل بحيضة كالاستبراء وإن كان براءة الرحم بعض مقاصدها ولا يقال: "هي تعبد" لما تقدم وإنما يتبين حكمها إذا عرف ما فيها من الحقوق ففيها حق الله وهو امتثال أمره وطلب مرضاته وحق للزوج المطلق وهو اتساع زمن الرجعة له وحق للزوجة وهو استحقاقها للنفقة والسكنى ما دامت في العدة وحق للولد وهو الاحتياط في ثبوت نسبه وأن لا يختلط بغيره وحق للزوج الثاني وهو أن لا يسقي ماءه زرع غيره ورتب الشارع على كل واحد من هذه الحقوق ما يناسبه من الأحكام فرتب على رعاية حقه هو لزوم المنزل وأنما لا تخرج ولا تخرج هذا موجب القرآن ومنصوص إمام أهل الحديث وإمام أهل الرأي ورتب على حق المطلق تمكينه من الرجعة ما دامت في العدة وعلى حقها استحقاق النفقة والسكنى وعلى حق الولد ثبوت نسبه وإلحاقه بأبيه دون غيره وعلى حق الزوج الثاني دخوله على بصيرة ورحم بريء غير مشغول بولد لغيره فكان في جعلها ثلاثة قروء رعاية لهذه الحقوق وتكميلا لها وقد دل القرآن على أن العدة حق للزوج عليها بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} فهذا دليل على أن العدة للرجل على المرأة بعد المسيس وقال تعالى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} فجعل الزوج أحق بردها في العدة فإذا كانت العدة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر طالت مدة التربص لينظر في أمرها هل يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان كما جعل الله سبحانه للمولي تربص أربعة أشهر لينظر في أمره هل يفيء أو يطلق وكما جعل مدة تسيير الكفار أربعة أشهر لينظروا في أمرهم ويختاروا لأنفسهم. فإن قيل: هذه العلة باطلة فإن المختلعة والمفسوخ نكاحها بسبب من الأسباب والمطلقة ثلاثا والموطوءة بشبهة والمزني بها تعتد بثلاثة أقراء ولا رجعة هناك فقد وجد الحكم بدون علته وهذا يبطل كونها علة. عدة المختلعة قيل: شرط النقض أن يكون الحكم في صورة ثابتا بنص أو إجماع وأما كونه قولا لبعض العلماء فلا يكفي في النقض به وقد اختلف الناس في عدة المختلعة فذهب إسحاق وأحمد في أصح الروايتين عنه دليلا أنها تعتد بحيضة واحدة وهو مذهب عثمان بن عفان وعبد الله بن عباس وقد حكى إجماع الصحابة ولا يعلم لهما مخالف وقد دلت عليه سنة رسول الله ﷺ الصحيحة دلالة صريحة وعذر من خالفها أنها لم تبلغه أو لم تصح عنده أو ظن الإجماع على خلاف موجبها وهذا القول هو الراجح في الأثر والنظر أما رجحانه أثرا فإن النبي ﷺ لم يأمر المختلعة قط أن تعتد بثلاث حيض بل قد روى أهل السنن عنه من حديث الربيع بنت معوذ أن ثابت بن قيس ضرب امرأته فكسر يدها وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي فأتى أخوها يشتكي إلى رسول الله ﷺ فأرسل رسول الله ﷺ إلى ثابت فقال: "خذ الذي لها عليك وخل سبيلها" قال: نعم فأمرها رسول الله ﷺ أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها وذكر أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها فأمرها النبي ﷺ أو أمرت أن تعتد بحيضة قال الترمذي: الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة وهذه الأحاديث لها طرق يصدق بعضها بعضا وأعل الحديث بعلتين إحداهما إرساله والثانية أن الصحيح فيه: "أمرت" بحذف الفاعل والعلتان غير مؤثرتين فإنه قد روي من وجوه متصلة ولا تعارض بين أمرت وأمرها رسول الله ﷺ إذ من المحال أن يكون الآمر لها بذلك غير رسول الله ﷺ في حياته وإذا كان الحديث قد روي بلفظ محتمل ولفظ صريح يفسر المحتمل ويبينه فكيف يجعل المحتمل معارضا للمفسر بل مقدما عليه ثم يكفي في ذلك فتاوى أصحاب رسول الله ﷺ قال أبو جعفر النحاس في كتاب الناسخ والمنسوخ هو إجماع من الصحابة وأما اقتضاء النظر له فإن المختلعة لم تبق لزوجها عليها عدة وقد ملكت نفسها وصارت أحق ببضعها فلها أن تتزوج بعد براءة رحمها فصارت العدة في حقها بمجرد براءة الرحم وقد رأينا الشريعة جاءت في هذا النوع بحيضة واحدة كما جاءت بذلك في المسبية والمملوكة بعقد معاوضة أو تبرع والمهاجرة من دار الحرب ولا ريب أنها جاءت بثلاثة أقراء في الرجعية والمختلعة فرع متردد بين هذين الأصلين فينبغي إلحاقها بأشبههما بها فنظرنا فإذا هي بذوات الحيضة أشبه. تقسيم النساء بالنسبة إلى العدة ومما يبين حكمة الشريعة في ذلك أن الشارع قسم النساء إلى ثلاثة أقسام: أحدها: المفارقة قبل الدخول فلا عدة عليها ولا رجعة لزوجها فيها الثاني: المفارقة بعد الدخول إذا كان لزوجها عليها رجعة فجعل عدتها ثلاثة قروء ولم يذكر سبحانه العدة بثلاثة قروء إلا في هذا القسم كما هو مصرح به في القرآن في قوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} وكذلك في سورة الطلاق لما ذكر الاعتداد بالأشهر الثلاثة في حق من إذا بلغت أجلها خير زوجها بين إمساك بمعروف أو مفارقتها بإحسان وهي الرجعية قطعا فلم يذكر الأقراء أو بدلها في حق بائن البتة القسم الثالث من بانت عن زوجها وانقطع حقه عنها بسبي أو هجرة أو خلع فجعل عدتها حيضة للاستبراء ولم يجعلها ثلاثا إذ لا رجعة للزوج وهذا في غاية الظهور والمناسبة وأما الزانية والموطوءة بشبهة فموجب الدليل أنها تستبرأ بحيضة فقط ونص عليه أحمد في الزانية واختاره شيخنا في الموطوءة بشبهة وهو الراجح وقياسهما على المطلقة الرجعية من أبعد القياس وأفسده. الحكمة في عدة المطلقة ثلاثا فإن قيل: فهب أن هذا قد سلم لكم فيما ذكرتم من الصور فإنه لا يسلم معكم في المطلقة ثلاثا فإن الإجماع منعقد على اعتدادها بثلاثة قروء مع انقطاع حق زوجها من الرجعة والقصد مجرد استبراء رحمها. قيل: نعم هذا السؤال وأرد وجوابه من وجهين: أحدهما: أنه قد اختلف في عدتها: هل هي بثلاثة قروء أو بقرء واحد فالجمهور بل الذي لا يعرف الناس سواه أنها ثلاثة قروء وعلى هذا فيكون وجهه أن الطلقة الثالثة لما كانت من جنس الأوليين أعطيت حكمهما ليكون باب الطلاق كله بابا واحدا فلا يختلف حكمه والشارع إذا علق الحكم بوصف لمصلحة عامة لم يكن تخلف تلك المصلحة والحكمة في بعض الصور مانعا من ترتب الحكم بل هذه قاعدة الشريعة وتصرفها في مصادرها ومواردها الوجه الثاني أن الشارع حرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره عقوبة له ولعن المحلل والمحلل له لمناقضتهما ما قصده الله سبحانه من عقوبته وكان من تمام هذه العقوبة أن طول مدة تحريمها عليه فكان ذلك أبلغ فيما قصده الشارع من العقوبة فإنه إذا علم أنها لا تحل له حتى تعتد بثلاثة قروء ثم يتزوجها آخر بنكاح رغبة مقصود لا تحليل موجب للعنة ويفارقها وتعتد من فراقه ثلاثة قروء أخر طال عليه الانتظار وعيل صبره فأمسك عن الطلاق الثلاث وهذا واقع على وفق الحكمة والمصلحة والزجر فكان التربص بثلاثة قروء في الرجعية نظرا للزوج ومراعاة لمصلحته لما لم يوقع الثالثة المحرمة لها وههنا كان تربصها عقوبة له وزجرا لما اوقع الطلاق المحرم لما أحل الله له وأكدت هذه العقوبة بتحريمها عليه إلا بعد زوج وإصابة وتربص ثان. وقيل: بل عدتها حيضة واحدة وهي اختيار أبي الحسين بن اللبان فإن كان مسبوقا بالإجماع فالصواب اتباع الإجماع وأن لا يلتفت إلى قوله وإن لم يكن في المسألة إجماع فقوله قوي ظاهر والله أعلم. عدة المخيرة وحكمتها فإن قيل: لقد جاءت السنة بأن المخيرة تعتد ثلاث حيض كما رواه ابن ماجه من حديث عائشة قالت: "أمرت بريرة أن تعتد ثلاث حيض". قيل: ما أصرحه من حديث لو ثبت ولكنه حديث منكر بإسناد مشهور وكيف يكون عند أم المؤمنين هذا الحديث وهي تقول الأقراء الأطهار فإن صح الحديث وجب القول به ولم تسع مخالفته ويكون حكمه حكم المطلقة ثلاثا في اعتدادها بثلاثة قروء ولا رجعة لزوجها عليها فإن الشارع يخصص بعض الأعيان والأفعال والأزمان والأماكن ببعض الأحكام وأن لم يظهر لنا موجب التخصيص فكيف وهو ظاهر في مسألة المخيرة فإنها لو جعلت عدتها حيضة واحدة لبادرت إلى التزوج بعدها وأيس منها زوجها فإذا جعلت ثلاث حيض طال زمن انتظارها وحبسها عن الأزواج ولعلها تتذكر زوجها فيها وترغب في رجعته ويزول ما عندها من الوحشة ولو قيل: "إن اعتداد المختلعة بثلاث حيض لهذا المعنى بعينه" لكان حسنا على وفق حكمة الشارع ولكن هذا مفقود في المسببة والمهاجرة والزانية والموطوءة بشبهة. عدة الآيسة والصغيرة وحكمتها فإن قيل: فهب أن هذا كله قد سلم لكم فكيف يسلم لكم في الآيسة والصغيرة التي لا يوطأ مثلها؟ قيل: هذا إنما يرد على من جعل علة العدة مجرد براءة الرحم فقط ولهذا أجابوا عن هذا السؤال بأن العدة ههنا شرعت تعبدا محضا غير معقول المعنى وأما من جعل هذا بعض مقاصد العدة وأن لها مقاصد أخر من تكميل شأن هذا العقد واحترامه وإظهار خطره وشرفه فجعل لهم تحريم بعد انقطاعه بموت أو فرقة فلا فرق في ذلك بين الآيسة وغيرها ولا بين الصغيرة والكبيرة مع أن المعنى الذي طولت له العدة في الحائض في الرجعية والمطلقة ثلاثا موجود في حق الآيسة والصغيرة وكان مقتضى الحكمة التي تضمنت النظر في مصلحة الزوج في الطلاق الرجعي وعقوبته وزجره في الطلاق المحرم التسوية بين النساء في ذلك وهذا ظاهر جدا وبالله التوفيق. فصل الحكمة في تحريم المرأة بعد الطلاق الثالث وأما تحريم المرأة على الزوج بعد الطلاق الثلاث وإباحتها له بعد نكاحها للثاني فلا يعرف حكمته ألا من له معرفة بأسرار الشريعة وما اشتملت عليه من الحكم والمصالح الكلية فنقول وبالله التوفيق. لما كان إباحة فرج المرأة للرجل بعد تحريمه عليه ومنعه منه من أعظم نعم الله عليه وإحسانه إليه كان جديرا بشكر هذه النعمة ومراعاتها والقيام بحقوقها وعدم تعريضها للزوال وتنوعت الشرائع في ذلك بحسب المصالح التي علمها الله في كل زمان ولكل أمة فجاءت شريعة التوراة بإباحتها له بعد الطلاق ما لم تتزوج فإذا تزوجت حرمت عليه ولم يبق له سبيل إليها وفي ذلك من الحكمة والمصلحة ما لا يخفى فإن الزوج إذا علم أنه إذا طلق المرأة وصار أمرها بيدها وأن لها أن تنكح غيره وأنها إذا نكحت غيره حرمت عليه أبدا كان تمسكه بها أشد وحذره من مفارقتها أعظم وشريعة التوراة جاءت بحسب الأمة الموسوية فيها من الشدة والإصر ما يناسب حالها ثم جاءت شريعة الإنجيل بالمنع من الطلاق بعد التزوج البتة فإذا تزوج بامرأة فليس له أن يطلقها ثم جاءت الشريعة الكاملة الفاضلة المحمدية التي هي أكمل شريعة نزلت من السماء على الإطلاق وأجلها وأفضلها وأعلاما وأقومها بمصالح العباد في المعاش والمعاد بأحسن من ذلك كله وأكمله وأوفقه للعقل والمصلحة فإن الله سبحانه أكمل لهذه الأمة دينها وأتم عليها نعمته وأباح لها من الطيبات ما لم يبحه لأمة غيرها فأباح للرجل أن ينكح من أطايب النساء أربعا وأن يتسرى من الإماء بما شاء وليس التسرى في شريعة أخرى غيرها ثم أكمل لعبده شرعه وأتم عليه نعمته بأن ملكه أن يفارق امرأته ويأخذ غيرها إذ لعل الأولى لا تصلح له ولا توافقه فلم يجعلها غلا في عنقه قيدا في رجله وإصرا على ظهره وشرع له فراقها على أكمل الوجوه لها وله بأن يفارقها واحدة ثم تتربص ثلاثة قروء والغالب أنها في ثلاثة أشهر فأن تاقت نفسه إليها وكان له فيها رغبة وصرف مقلب القلوب قلبه إلى محبتها وجد السبيل إلى ردها ممكنا والباب مفتوحا فراجع حبيبته واستقبل أمره وعاد إلى يده ما أخرجته يد الغضب ونزعات الشيطان منها ثم لا يؤمن غلبات الطباع نزاعات الشيطان من المعاودة فمكن من ذلك أيضا مرة ثانية ولعلها أن تذوق من مرارة الطلاق وخراب البيت ما يمنعها من معاودة ما يغضبه ويذوق هو من ألم فراقها ما يمنعه من التسرع إلى الطلاق فإذا جاءت الثالثة جاء مالا مرد له من أمر الله وقيل له قد اندفعت حاجتك بالمرة الأولى والثانية ولم يبق لك عليها بعد الثالثة سبيل فإذا علم أن الثالثة فراق بينه وبينها وأنها القاضية أمسك عن إيقاعها فإنه إذا علم أنها بعد الثالثة لا تحل له إلا بعد تربص ثلاثة قروء وتزوج بزوج راغب في نكاحها وإمساكها وأن الأول لا سبيل له إليها حتى يدخل بها الثاني دخولا كاملا يذوق فيه كل واحد منهما عسيلة صاحبه بحيث يمنعهما ذلك من تعجيل الفراق ثم يفارقها بموت أو طلاق أو خلع ثم تعتد من ذلك عدة كاملة تبين له حينئذ يأسه بهذا الطلاق الذي هو من أبغض الحلال إلى الله وعلم كل واحد منهما أنه لا سبيل له إلى العود بعد الثالثة لا باختياره ولا باختيارها وأكد هذا المقصود بأن لعن الزوج الثاني إذا لم ينكح نكاح رغبة يقصد فيه الإمساك بل نكح نكاح تحليل ولعن الزوج الأول إذا ردها بهذا النكاح بل ينكحها الثاني كما نكحها الأول ويطلقها كما طلقها الأول وحينئذ فتباح للأول كما تباح لغيره من الأزواج. وأنت إذا وازنت بين هذا وبين الشريعتين المنسوختين ووازنت بينه وبين الشريعة المبدلة المبيحة ما لعن الله ورسوله فاعله تبين لك عظمة هذه الشريعة وجلالتها وهيمنتها على سائر الشرائع وأنها جاءت على أكمل الوجوه وأتمها وأحسنها وأنفعها للخلق وأن الشريعتين المنسوختين خير من الشريعة المبدلة فإن الله سبحانه شرعهما في وقت ولم يشرع المبدلة أصلا. وهذه الدقائق ونحوها مما يختص الله سبحانه بفهمه من يشاء فمن وصل إليها فليحمد الله ومن لم يصل إليها فليسلم لأحكم الحاكمين وأعلم العالمين وليعلم أن شريعته فوق عقول العقلاء ووفق فطر الألباء. وقل للعيون الرمد لا تتقدمي ** إلى الشمس واستغشي ظلام اللياليا. وسامح ولا تنكر عليها وخلها ** وإن أنكرت حقا فقل خل ذا ليا. غيره: عاب التفقه قوم لا عقول لهم ** وما عليه إذا عابوه من ضرر. ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة ** أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر. فصل غسل أعضاء الوضوء دون الموضع الذي خرجت منه الريح يوافق القياس وأما إيجابه لغسل المواضع التي لم تخرج منها الريح وإسقاطه غسل الموضع الذي خرجت منه فما أو فقه للحكمة وما أشده مطابقة للفطرة فإن حاصل السؤال: لم كان الوضوء في هذه الأعضاء الظاهرة دون باطن المقعدة مع أن باطن المقعدة أولى بالوضوء من الوجه واليدين والرجلين؟ وهذا سؤال معكوس من قلب منكوس فإن من محاسن الشريعة أن كان الوضوء في الأعضاء الظاهرة المكشوفة وكان أحقها به إمامها ومقدمها في الذكر والفعل وهو الوجه الذي نظافته ووضاءته عنوان على نظافة القلب وبعده اليدان وهما آلة البطش والتناول والأخذ فهما أحق الأعضاء بالنظافة والنزاهة بعد الوجه ولما كان الرأس مجمع الحواس وأعلى البدن وأشرفه كان أحق بالنظافة لكن لو شرع غسله في الوضوء لعظمت المشقة واشتدت البلية فشرع مسح جميعه وأقامه مقام غسله تخفيفا ورحمة كما أقام المسح على الخفين مقام غسل الرجلين. ولعل قائلا يقول: وما يجزىء مسح الرأس والرجلين من الغسل والنظافة ولم يعلم هذا القائل أن إمساس العضو بالماء إمتثالا لأمر الله وطاعة له وتعبدا يؤثر في نظافته وطهارته مالا يؤثر غسله بالماء والسدر بدون هذه النية والتحاكم في هذا إلى الذوق السليم والطبع المستقيم كما أن معك الوجه بالتراب امتثالا للأمر وطاعة وعبودية تكسبه وضاءة ونظافة وبهجة تبدو على صفحاته للناظرين ولما كانت الرجلان تمس الأرض غالبا وتباشر من الأدناس ما لا تباشره بقية الأعضاء كانت أحق بالغسل ولم يوفق للفهم عن الله ورسوله من اجتزأ بمسحهما من غير حائل. فهذا وجه اختصاص هذه الأعضاء بالوضوء من بين سائرها من حيث المحسوس وأما من حيث المعنى فهذه الأعضاء هي آلات الأفعال التي يباشر بها العبد ما يريد فعله وبها يعصي الله سبحانه ويطاع فاليد تبطش والرجل تمشي والعين تنظر والأذن تسمع واللسان يتكلم فكان في غسل هذه خطيئته من سمعه وبصره مع أول قطرة فإذا غسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلم من كل ذنب هو له ومن كل خطيئة كهيئته يوم ولدته أمه فإذا قام إلى الصلاة رفع الله بها درجته وإن قعد قعد سالما" وفيه أن مقصود المضمضة كمقصود غسل الوجه واليدين سواء وأن حاجة اللسان والشفتين إلى الغسل كحاجة بقية الأعضاء فمن أنكس قلبا وأفسد فطرة وأبطل قياسا ممن يقول إن غسل باطن المقعدة أولى من غسل هذه الأعضاء وإن الشارع فرق بين التماثلين هذا إلى ما في غسل هذه الأعضاء المقارن لنية التعبد لله من انشراح القلب وقوته واتساع الصدر وفرح النفس ونشاط الأعضاء فتميزت من سائر الأعضاء بما أوجب غسلها دون غيرها وبالله التوفيق. فصل قياس توبة التائب على توبة المحارب وأما اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه دون غيره فيقال: أين في نصوص الشارع هذا التفريق؟ بل نصه على اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه إما من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره بطريق الأولى فإنه إذا دفعت توبته عنه حد حرابه مع شدة ضررها وتعديه فلأن تدفع التوبة ما دون حد احراب بطريق الأولى والأحرى وقد قال الله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وقال النبي ﷺ: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" والله تعالى جعل الحدود عقوبة لأرباب الجرائم ورفع العقوبة عن التائب شرعا وقدرا فليس في شرع الله ولا قدره عقوبة تائب البتة. وفي الصحيحين من حديث أنس قال: "كنت مع النبي ﷺ فجاء رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي قال ولم يسأله عنه فحضرت الصلاة فصلى مع النبي ﷺ فلما قضى النبي ﷺ الصلاة قام إليه الرجل فأعاد قوله قال: أليس قد صليت معنا قال: نعم قال: فإن الله عز وجل قد غفر لك ذنبك" فهذا لما جاء تائبا بنفسه من غير أن يطلب غفر الله له ولم يقم عليه الحد الذي اعترف به وهو أحد القولين في المسألة وهو إحدى الروايتين عن أحمد وهو الصواب. فإن قيل: فماعز جاء تائبا والغامدية جاءت تائبة وأقام عليهما الحد. قيل: لا ريب أنهما جاءا تائبين ولا ريب أن الحد أقيم عليهما وبهما احتج أصحاب القول الآخر وسألت شيخنا عن ذلك فأجاب بما مضمونه بأن الحد مطهر وأن التوبة مطهرة وهما اختارا التطهير بالحد على التطهير بمجرد التوبة وأبيا إلا أن يطهرا بالحد فأجابهما النبي ﷺ إلى ذلك وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة على التطهير بالحد فقال في حق ما عز: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه" ولو تعين الحد بعد التوبة لما جاز تركه بل الإمام مخير بين أن يتركه كما قال لصاحب الحد الذي اعترف به: "اذهب فقد غفر الله لك" وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية لما اختارا إقامته وأبيا إلا التطهير به ولذلك رددهما النبي ﷺ مرارا وهما يأبيان إلا إقامته عليهما وهذا المسلك وسط بين مسلك من يقول لا تجوز إقامته بعد التوبة البتة وبين مسلك من يقول لا أثر للتوبة في إسقاطه البتة وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط والله أعلم. فصل قبول رواية العبد وشهادته وأما قوله: "وقبل شهادة العبد ﷺ بأنه قال كذا وكذا ولم يقبل شهادته على واحد من الناس بأنه قال كذا وكذا" فمضمون السؤال أن رواية العبد مقبولة دون شهادته. والجواب أنه لا يلزم الشارع قول فقيه معين ولا مذهب معين وهذا المقام لا ينتصر فيه إلا الله ورسوله فقط وهذا السؤال كذب على الشارع فإنه لم يأت عنه حرف واحد أنه قال: لا تقبلوا شهادة العبد بل ردوها ولو كان عالما مفتيا فقيها من أولياء الله ومن أصدق الناس لهجة بل الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والميزان العادل قبول شهادة العبد فيما تقبل فيه شهادة الحر فإنه من رجال المؤمنين فيدخل في قوله تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} كما دخل في قوله تعالى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} وهو عدل بالنص والإجماع فيدخل في قوله تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} كما دخل في قوله ﷺ: "يحمل هذا العلم من كل حلف عدوله" ويدخل في قوله {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّه} وفي قوله {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} وفي قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} الآية كما دخل في جميع ما فها من الأوامر ويدخل في قوله ﷺ: "فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا" وقال أنس بن مالك: "ما علمت أحدا رد شهادة العبد" رواه الإمام أحمد عنه وهذا أصح من غالب الإجماعات التي يدعيها المتأخرون فالشهادة على الشارع بأنه أبطل شهادة العبد وردها شهادة بلا علم ولم يأمر الله برد شهادة صادق أبدا وإنما أمر بالتثبت في شهادة الفاسق. فصل صدقة السأئمة وإسقاطها عن العوامل وأما إيجاب الشارع الصدقة في السأئمة وإسقاطها عن العوامل فقد اختلف في هذه المسألة للاختلاف في الحديث الوارد فيها وفي الباب حديثان أحدهما: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يرفعه: "ليس في الإبل العوامل صدقة" رواه الدارقطني من حديث غالب بن عبيد الله عن عمرو والثاني: حديث علي بن أبي طالب مرفوعا: "ليس في البقر العوامل شيء" رواه أبو داود ثنا النفيلي ثنا زهير ثنا أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة وعن الحارث عن علي قال زهير: أحسبه عن النبي ﷺ: "ليس على العوامل شيء" قال أبو داود: وروى حديث النفيلي شعبه وسفيان وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن على لم يرفعوه ورواه نعيم بن حماد: ثنا أبو بكر ابن عياش عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن على موقوفا: "ليس في الإبل العوامل ولا في البقر العوامل صدقة" ورواه الدارقطنى من حديث صقر بن حبيب: سمعت أبا رجاء عن ابن عباس عن على موقوفا قال ابن حبان: "ليس هو من كلام رسول الله ﷺ وإنما يعرف بإسناد منقطع نقله الصقر عن أبي رجاء وهو يأتي بالمقلوبات" وروى من حديث جابر وابن عباس مرفوعا وموقوفا والموقوف أشبه. وبعد فللعلماء في المسألة قولان: فقال مالك في الموطأ: النواضج والبقر السواني وبقر الحرث إني أرى أن يؤخذ من ذلك كله الزكاة إذا وجبت فيه الصدقة قال ابن عبد البر: "وهذا قول الليث بن سعد ولا أعلم أحدا قال به من فقهاء لأمصار وغيرهما". وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه والأوزاعي وأبو ثور وأحمد وأبو عبيد وإسحاق وداود لا زكاة في البقر العوامل ولا الإبل العوامل وإنما الزكاة في السأئمة منها وروى قولهم ذلك عن طائفة من الصحابة منهم علي وجابر ومعاذ بن جبل. وكتب عمر بن عبد العزيز أنه ليس في البقر العوامل صدقة وحجة هؤلاء مع الأثر النظر فإن ما كان من المال معدا لنفع صاحبه به كثياب بذلته وعبيد خدمته وداره التي يسكنها ودابته التي يركبها وكتبه التي ينتفع بها وينفع بها وينفع غيره فليس فيها زكاة ولهذا لم يكن في حلى المرأة التي تلبسه وتعيره زكاة فطرد هذا أنه لا زكاة في بقر حرثه وإبله التي يعمل فيها بالدولاب وغيره فهذا محض القياس كما أنه موجب النصوص والفرق بينها وبين السأئمة ظاهر فإن هذه مصروفة عن جهة النماء إلى العمل فهي كالثياب والعبيد والدار والله تعالى أعلم. فصل تحصين الحرة للرجل دون الأمة يوافق القياس وأما قوله: "وجعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن الرجل والأمة البارعة الجمال لا تحصنه" فتعبير سيء عن معنى صحيح فإن حكمة الشارع اقتضت وجوب حد الزنا على من كملت عليه نعمة الله بالحلال فيتخطاه إلى الحرام ولهذا لم يوجب كمال الحد على من لم يحصن واعتبر للإحصان أكمل أحواله وهو أن يتزوج بالحرة التي يرغب الناس في مثلها دون الأمة التي لم يبح الله نكاحها إلا عند الضرورة فالنعمة بها ليست كاملة ودون التسري الذي هو في الرتبة دون النكاح فإن الأمة ولو كانت ما عسى أن تكون لا تبلغ رتبة الزوجة لا شرعا ولا عرفا ولا عادة بل قد جعل الله لكل منهما رتبة والأمة لا تراد لما تراد له الزوجة ولهذا كان له أن يملك من لا يجوز له نكاحها ولا قسم عليه في ملك يمينه فأمته تجري في الابتذال والامتهان والاستخدام مجرى دابته وغلامه بخلاف الحرائر وكان من محاسن الشريعة أن اعتبرت في كمال النعمة على من يجب عليه الحد أن يكون قد عقد على حرة ودخل بها إذ بذلك يقضي كمال وطره ويعطي شهوته حقها ويضعها مواضعها هذا هو الأصل ومنشأ الحكمة ولا يعتبر ذلك في كل فرد فرد من أفراد المحصنين ولا يضر تخلفه في كثير من المواضع إذ شأن الشرائع الكلية أن تراعي الأمور العامة المنضبطة ولا ينقضها تخلف الحكمة في أفراد الصور كما هذا شأن الخلق فهو موجب حكمة الله في خلقه وأمره في قضائه وشرعه وبالله التوفيق. فصل نقض الوضوء بمس ذكره دون غيره يوافق القياس وأما قوله: "نقض الوضوء بمس الذكر دون سائر الأعضاء ودون مس العذرة والبول" فلا ريب أنه قد صح عن النبي ﷺ الأمر بالوضوء من مس الذكر وروى عنه خلافه وأنه سئل عنه فقال للسائل: "هل هو إلا بضعة منك" وقد قيل: إن هذا الخبر لم يصح وقيل: بل هو منسوخ وقيل: بل هو محكم دال على عدم الوجوب وحديث الأمر دال على الاستحباب فهذه ثلاثة مسالك للناس في ذلك. وسؤال السائل ينبني على صحة حديث الأمر بالوضوء وأنه للوجوب ونحن نجيبه على هذا التقدير فنقول: هذا من كمال الشريعة وتمام محاسنها فإن مس الذكر مذكر بالوطء وهو في مظنة الانتشار غالبا والانتشار الصادر عن المس في مظنة خروج المذى ولا يشعر به فأقيمت هذه المظنة مقام الحقيقة لخفائها وكثرة وجودها كما أقيم النوم مقام الحدث وكما أقيم لمس المرأة بشهوة مقام الحدث وأيضا فإن مس الذكر يوجب انتشار حرارة الشهوة وثورانها في البدن والوضوء يطفىء تلك الحرارة وهذا مشاهد بالحس ولم يكن الوضوء من مسه لكونه نجسا ولا لكونه مجرى النجاسة حتى يورد السائل مس العذرة والبول ودعواه بمساواة مس الذكر للأنف من أكذب الدعاوي وأبطل القياس وبالله التوفيق. فصل إيجاب الحد بشرب قطرة من الخمر دون غيرها يوافق القياس وأما قوله: "أوجب الحد في القطرة الواحدة من الخمر دون الأرطال الكثيرة من البول" فهذا أيضا من كمال الشريعة ومطابقتها للعقول والفطر وقيامها بالمصالح فإن ما جعل الله سبحانه في طباع الخلق النفرة عنه ومجانبته اكتفى بذلك عن الوازع عنه بالحد لأن الوازع الطبيعي كاف في المنع منه وأما ما يشتد تقاضي الطباع له فإنه غلظ العقوبة عليه بحسب شدة تقاضي الطبع له وسد الذريعة إليه من قرب وبعد وجعل ما حوله حمى ومنع من قربانه ولهذا عاقب في الزنا بأشنع القتلات وفي السرقة بإبانة اليد وفي الخمر بتوسيع الجلد ضربا بالسوط ومنع قليل الخمر وإن كان لا يسكر إذ قليله داع إلى كثيره ولهذا كان من أباح من نبيذ التمر المسكر القدر الذي لا يسكر خارجا عن محض القياس والحكمة وموجب النصوص وأيضا فالمفسدة التي في شرب الخمر والضرر المختص والمتعدى أضعاف الضرر والمفسدة التي في شرب البول وأكل القاذورات فإن ضررها مختص بمتناولها. فصل قصر عدد الزوجات على أربع دون ملك اليمين يوافق القياس وأما قوله: "وقصر عدد المنكوحات على أربع وأباح ملك اليمين بغير حصر" فهذا من تمام نعمته وكمال شريعته وموافقتها للحكمة والرحمة والمصلحة فإن النكاح يراد لوطء وقضاء الوطر ثم من الناس من يغلب عليه سلطان هذه الشهوة فلا تندفع حاجته بواحدة فأطلق له ثانية وثالثة ورابعة وكان هذا العدد موافقا لعدد طباعه وأركانه وعدد فصول سنته ولرجوعه إلى الواحدة بعد صبر ثلاث عنها والثلاث أول مراتب الجمع وقد علق الشارع بها عدة أحكام ورخص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثا وأباح للمسافر أن يمسح على خفيه ثلاثا وجعل حد الضيافة المستحبة أو الموجبة ثلاثا وأباح للمرأة أن تحد على غير زوجها ثلاثا فرحم الضرة بأن جعل غاية انقطاع زوجها عنها ثلاثا ثم يعود فهذا محض الرحمة والحكمة والمصلحة وأما الإماء فلما كن بمنزلة سائر الأموال من الخيل والعبيد وغيرها لم يكن لقصر المالك على أربعة منهن أو غيرها من العدد معنى فكما ليس في حكمة الله ورحمته أن يقصر السيد على أربعة عبيد أو أربع دواب وثياب ونحوها فليس في حكمته أن يقصره على أربع إماء وأيضا فللزوجة حق على الزوج اقتضاه عقد النكاح يجب على الزوج القيام به فإن شاركها غيرها وجب عليه العدل بينهما فقصر الأزواج على عدد يكون العدل فيه أقرب مما زاد عليه ومع هذا فلا يستطيعون العدل لو حرصوا عليه ولا حق لإمائه عليه في ذلك ولهذا لا يجب لهن قسم ولهذا قال تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} والله أعلم. فصل إباحة التعدد للرجل دون المرأة توافق القياس وأما قوله: "وأنه أباح للرجل أن يتزوج بأربع زوجات ولم يبح للمرأة أن تتزوج بأكثر من زوج واحد" فذلك من كمال حكمة الرب تعالى وإحسانه ورحمته بخلقه ورعايه مصالحهم ويتعالى سبحانه عن خلاف ذلك وينزه شرعه أن يأتي بغير هذا ولو أبيح للمرأة أن تكون عند زوجين فأكثر لفسد العالم وضاعت الأنساب وقتل الأزواج بعضهم بعضا وعظمت البلية واشتدت الفتنة وقامت سوق الحرب على ساق وكيف يستقيم حال امرأة فيها شركاء متشاكسون وكيف يستقيم حال الشركاء فيها فمجيء الشريعة بما جاءت به من خلاف هذا من أعظم الأدلة على حكمة الشارع ورحمته وعنايته بخلقه. فإن قيل: فكيف روعي جانب الرجل وأطلق له أن يسيم طرفه ويقضي وطره وينتقل من واحدة إلى واحدة بحسب شهوته وحاجته وداعي المرأة داعيه وشهوتها شهوته. قيل: لما كانت المرأة من عادتها أن تكون مخبأة من وراء الخدور ومحجوبة في كن بيتها وكان مزاجها أبرد من مزاج الرجل وحركتها الظاهرة والباطنة أقل من حركته وكان الرجل قد أعطي من القوة والحرارة التي هي سلطان الشهوة أكثر مما أعطيته المرأة وبلي بما لم تبل به أطلق له من عدد المنكوحات ما لم يطلق للمرأة وهذا مما خص الله به الرجال وفضلهم به على النساء كما فضلهم عليهن بالرسالة والنبوة والخلافة والملك والإمارة وولاية الحكم والجهاد وغير ذلك وجعل الرجال قوامين على النساء ساعين في مصالحهن يدأبون في أسباب معيشتهن ويركبون الأخطار ويجوبون القفار ويعرضون أنفسهم لكل بلية ومحنة في مصالح الزوجات والرب تعالى شكور حليم فشكر لهم ذلك وجبرهم بأن مكنهم مما لم يمكن منه الزوجات وأنت إذا قايست بين تعب الرجال وشقائهم وكدهم ونصبهم في مصالح النساء وبين ما ابتلي به النساء من الغيرة وجدت حظ الرجال أن تحمل ذلك التعب والنصب والدأب أكثر من حظ النساء من تحمل الغيرة فهذا من كمال عدل الله وحكمته ورحمته فله الحمد كما هو أهله. وأما قول القائل: "إن شهوة المرأة تزيد على شهوة الرجل" فليس كما قال والشهوة منبعها الحرارة وأين حرارة الأنثى من حرارة الذكر ولكن المرأة لفراغها وبطالتها وعدم معاناتها لما يشغلها عن أمر شهوتها وقضاء وطرها يغمرها سلطان الشهوة ويستولي عليها ولا يجد عندها ما يعارضه بل يصادف قلبا فارغا ونفسا خالية فيتمكن منها كل التمكن فيظن الظان أن شهوتها أضعاف شهوة الرجل. وليس كذلك ومما يدل على هذا أن الرجل إذا جامع امرأته أمكنه أن يجامع غيرها في الحال وكان النبي ﷺ يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وطاف سليمان على تسعين امرأة في ليلة ومعلوم أن له عند كل امرأة شهوة وحرارة باعثة على الوطء والمرأة إذا قضى الرجل وطره فترت شهوتها وانكسرت نفسها ولم تطلب قضاءها من غيره في ذلك الحين فتطابقت حكمة القدر والشرع والخلق والأمر ولله الحمد. فصل جواز استمتاع السيد بأمته دون السيدة بعبدها يوافق القياس وأما قوله: "أباح للرجل أن يستمتع من أمته بملك اليمين بالوطء وغيره ولم يبح للمرأة أن تستمتع من عبدها لا بوطء ولا غيره" فهذا أيضا من كمال هذه الشريعة وحكمتها فإن السيد قاهر لمملوكه حاكم عليه مالك له والزوج قاهر لزوجته حاكم عليها وهي تحت سلطانه وحكمه شبه الأسير ولهذا منع العبد من نكاح سيدته للتنافي بين كونه مملوكها وبعلها وبين كونها سيدته وموطوءته وهذا أمر مشهور بالفطرة والعقول قبحه وشريعة أحكم الحاكمين منزهة عن أن تأتي به. فصل الفرق بين الطلقات في تحريم الزوجة يوافق القياس وأما قوله: "وفرق بين الطلقات فجعل بعضها محرما للزوجة وبعضها غير محرم" فقد تقدم من بيان حكمة ذلك ومصلحته ما فيه كفاية. فصل الوضوء من أكل لحوم الإبل دون غيره يوافق القياس وأما قوله: "وفرق بين لحم الإبل وغيره من اللحوم في الوضوء" فقد تقدم في الفصل الذي قبل هذا جواب هذا السؤال وأنه على وفق الحكمة ورعاية المصلحة. فصل الفرق بين الكلب الأسود وغيره في قطع الصلاة يوافق القياس وأما قوله: "وفرق بين الكلب الأسود وغيره في قطع الصلاة" فهذا سؤال أورده عبد الله بن الصامت على أبي ذر وأورده أبو ذر على النبي ﷺ وأجاب عنه بالفرق البين فقال: "الكلب الأسود شيطان" وهذا إن أريد به أن الشيطان يظهر في صورة الكلب الأسود كثيرا كما هو الواقع فظاهر وليس بمستنكر أن يكون مرور عدو الله بين يدي المصلى قاطعا لصلاته ويكون مرورة قد جعل تلك الصلاة بغيضة إلى الله مكروهة له فيأمر المصلي بأن يستأنفها وإن كان المراد به أن الكلب الأسود شيطان الكلاب فإن كل جنس من أجناس الحيوانات فيها شياطين وهي ما عتا منها وتمرد كما أن شياطين الإنس عتاتهم ومتمردوهم والإبل شياطين الأنعام وعلى ذروة كل بعير شيطان فيكون مرور هذا النوع من الكلاب وهو من أخبثها وشرها مبغضا لتلك الصلاة إلى الله تعالى فيجب على المصلي أن يستأنفها وكيف يستبعد أن يقطع مرور العدو بين الإنسان وبين وليه حكم مناجاته له كما قطعها كلمة من كلام الآدميين أو قهقهة أو ريح أو ألقى عليه الغير نجاسة أو نومه الشيطان فيها؟ وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "إن شيطانا تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي". وبالجملة فللشارع في أحكام العبادات أسرار لا تهتدي العقول إلى إدراكها على وجه التفصيل وإن أدركتها جملة. فصل الفرق بين الريح والجشوة يوافق القياس وأما قوله: "وفرق بين الريح الخارجة من الدبر وبين الجشوة فأوجب الوضوء من هذه دون هذه" فهذا أيضا من محاسن هذه الشريعة وكمالها كما فرق بين البلغم الخارج من الفم وبين العذرة في ذلك ومن سوى بين الريح والجشاء فهو كمن سوى بين البلغم والعذرة والجشاء من جنس العطاس الذي هو ريح تحتبس في الدماغ ثم تطلب لها منفذا فتخرج من الخياشيم فيحدث العطاس وكذلك الجشاء ريح تحتبس فوق المعدة فتطلب الصعود بخلاف الريح التي تحتبس تحت المعدة ومن سوى بين الجشوة والضرطة في الوصف والحكم فهو فاسد العقل والحس. فصل الفرق بين الخيل والإبل في وجوب الزكاة يوافق القياس وأما قوله: "أوجب الزكاة في خمس من الإبل وأسقطها عن آلاف من الخيل" فلعمر الله أنه أوجب الزكاة في هذا الجنس دون هذا كما في سنن أبي داود من حديث عاصم بن ضمرة عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله ﷺ: "قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهم وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيهما خمسة دراهم" ورواه سفيان عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي وقال بقية: حدثني أبو معاذ الأنصاري عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: "يرفعه عفوت لكم عن صدقة الجبهة والكسعة والنخة" قال بقية: الجبهة الخيل والكسعة: البغال والحمير والنخة: المربيات في البيوت وفي كتاب عمرو بن حزم: "لا صدقة في الجبهة والكسعة والكسعة: الحمير والجبهة: الخيل". وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة". والفرق بين الخيل والإبل أن الخيل تراد لغير ما تراد له الإبل فإن الإبل تراد للدر والنسل والأكل وحمل الأثقال والمتاجر والانتقال عليها من بلد إلى بلد وأما الخيل فإنما خلقت للكر والفر والطلب والهرب وإقامة الدين وجهاد أعدائه وللشارع قصد أكيد في اقتنائها وحفظها والقيام عليها وترغيب النفوس في ذلك بكل طريق ولذلك عفا عن أخذ الصدقة منها ليكون ذلك أرغب للنفوس فيما يحبه الله ورسوله من اقتنائها ورباطها وقد قال الله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} فرباط الخيل من جنس آلات السلاح والحرب فلو كان عند الرجل منها ما عساه أن يكون ولم يكن للتجارة لم يكن عليه فيه زكاة بخلاف ما أعد للنفقة فإن الرجل إذا ملك منه نصابا ففيه الزكاة وقد أشار النبي ﷺ إلى هذا بعينه في قوله: "قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة" أفلا تراه كيف فرق بين ما أعد للإنفاق وبين ما أعد لإعلاء كلمة الله ونصر دينه وجهاد أعدائه فهو من جنس السيوف والرماح والسهام وإسقاط الزكاة في هذا الجنس من محاسن الشريعة وكمالها. فصل الفرق بين مقادير الزكاة في الأنواع المختلفة يوافق القياس وأما قوله: "أوجب في الذهب والفضة والتجارة ربع العشر وفي الزروع والثمار نصف العشر أو العشر وفي المعدن الخمس" فهذا أيضا من كمال الشريعة ومراعاتها للمصالح فإن الشارع أوجب الزكاة مواساة للفقراء وطهرة للمال وعبودية للرب وتقربا إليه بإخراج محبوب العبد له وإيثار مرضاته ثم فرضها على أكمل الوجوه وأنفعها للمساكين وأرفقها بأرباب الأموال ولم يفرضها في كل مال بل فرضها في الأموال التي تحتمل المواساة ويكثر فيها الربح والدر والنسل ولم يفرضها فيما يحتاج العبد إليه من ماله ولا غنى له عنه كعبيده وإمائه ومركوبه وداره وثيابه وسلاحه بل فرضها في أربعة أجناس من المال المواشي والزروع والثمار والذهب والفضة وعروض التجارة فإن هذه أكثر أموال الناس الدائرة بينهم وعامة تصرفهم فيها وهي التي تحتمل المواساة دون ما أسقط الزكاة فيه ثم قسم كل جنس من هذه الأجناس بحسب حاله وإعداده للنماء إلى ما فيه الزكاة إلى مالا زكاة فيه فقسم المواشي إلى قسمين: سأئمة ترعى بغير كلفة ولا مشقة ولا خسارة فالنعمة فيها كاملة والمنة بها وافرة والكلفة فيها يسيرة والنماء فيها كثير فخص هذا النوع بالزكاة وإلى معلوفة بالثمن أو عاملة في مصالح أربابها في دواليبهم وحروثهم وحمل أمتعتهم فلم يجعل في ذلك زكاة لكلفة المعلوفة وحاجة المالكين إلى العوامل فهي كثيابهم وعبيدهم وإمائهم وأمتعتهم. ثم قسم الزروع والثمار إلى قسمين: قسم يجري مجرى السأئمة من بهيمة الأنعام في سقيه من ماء السماء بغير كلفة ولا مشقة فأوجب فيه العشر وقسم يسقى بكلفة ومشقة ولكن كلفته دون كلفة المعلوفة بكثير إذ تلك تحتاج إلى العلف كل يوم فكان مرتبة بين مرتبه السأئمة والمعلوفة فلم يوجب فيه زكاة ما شرب بنفسه ولم يسقط زكاته جملة واحدة فأوجب فيه نصف العشر. ثم قسم الذهب والفضة إلى قسمين: أحدهما ما هو معد للثمنية والتجارة به والتكسب ففيه الزكاة كالنقدين والسبائك ونحوها وإلى ما هو معد للانتفاع دون الربح والتجارة كحلية المرأة وآلات السلاح التي يجوز استعمال مثلها فلا زكاة فيه. ثم قسم العروض إلى قسمين: قسم أعد للتجارة ففيه الزكاة وقسم أعد للقنية والاستعمال فهو مصروف عن جهة النماء فلا زكاة فيه. ثم لما كان حصول النماء والربح بالتجارة من أشق الأشياء وأكثرها معاناة وعملا خففها بأن جعل فيها ربع العشر ولما كان الربح والنماء بالزروع والثمار التي تسقى بالكلفة أقل كلفة والعمل أيسر ولا يكون في كل السنة جعله ضعفه وهو نصف العشر ولما كان التعب والعمل فيما يشرب بنفسه أقل والمؤنة أيسر جعله ضعف ذلك وهو العشر واكتفى فيه بزكاة عامة خاصة فلو أقام عنده بعد ذلك عدة أحوال لغير التجارة لم يكن فيه زكاة لأنه قد انقطع نماؤه وزيادته بخلاف الماشية وبخلاف ما لو أعد للتجارة فإنه عرضة للنماء ثم لما كان الركاز مالا مجموعا محصلا وكلفة تحصيله أقل من غيره ولم يحتج إلى أكثر من استخراجه كان الواجب فيه ضعف ذلك وهو الخمس. فانظر إلى تناسب هذه الشريعة الكاملة التي بهر العقول حسنها وكمالها وشهدت الفطر بحكمتها وأنه لم يطرق العالم شريعة أفضل منها ولو اجتمعت عقول العقلاء وفطر الألباء واقترحت شيئا يكون أحسن مقترح لم يصل اقتراحها إلى ما جاءت به. ولما لم يكن كل مال يحتمل المواساة قدر الشارع لما يحتمل المواساة نصبا مقدرة لا تجب الزكاة في أقل منها ثم لما كانت تلك النصب تنقسم إلى مالا يجحف المواساة ببعضه أوجب الزكاة منها وإلى ما يجحف المواساة ببعضه فجعل الواجب من غيره كما دون الخمس والعشرين من الإبل ثم لما كانت المواساة لا تحتمل كل يوم ولا كل شهر إذ فيه إجحاف بأرباب الأموال جعلها كل عام مرة كما جعل الصيام كذلك ولما كانت الصلاة لا يشق فعلها كل يوم وظفها كل يوم وليلة ولما كان الحج يشق تكرر وجوبه كل عام جعله وظيفة العمر. وإذا تأمل العاقل مقدار ما أوجبه الشارع في الزكاة وجده مما لا يضر المخرج فقده وينفع الفقير أخذه ورآه قد راعى فيه حال صاحب المال وجانبه حق الرعاية ونفع الآخذ به وقصد إلى كل جنس من أجناس الأموال فأوجب الزكاة في أعلاه وأشرفه فأوجب زكاة العين في الذهب والورق دون الحديد والرصاص والنحاس ونحوها وأوجب زكاة السأئمة في الإبل والبقر والغنم دون الخيل والبغال والحمير ودون ما يقل اقتناؤه كالصيود على اختلاف أنواعها ودون الطير كله وأوجب زكاة الخارج من الأرض في أشرفه وهو الحبوب والثمار دون البقول والفواكه والمقاثي والمباطخ والأنوار. وغير خاف تميز ما أوجب فيه الزكاة عما لم يوجبها في جنسه ووصفه ونفعه وشدة الحاجة إليه وكثرة وجوده وأنه جار مجرى الأموال لما عداه من أجناس الأموال بحيث لو فقد لأضر فقد بالناس وتعطل عليهم كثير من مصالحهم بخلاف ما لم يوجب فيه الزكاة فإنه جار مجرى الفضلات والتتمات التي لو فقدت لم يعظم الضرر بفقدها وكذلك راعى في المستحقين لها أمرين مهمين أحدهما حاجة الآخذ والثاني نفعه فجعل المستحقين لها نوعين نوعا يأخذ لحاجته ونوعا يأخذ لنفعه وحرمها على من عداهما. فصل قطع آلة السرقة دون غيرها يوافق القياس وأما قوله: "وقطع يد السارق التي باشر بها الجناية ولم يقطع فرج الزاني وقد باشر به الجناية ولا لسان القاذف وقد باشر به القذف" فجوابه أن هذا من أدل الدلائل على أن هذه الشريعة منزلة من عند أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين. ونحن نذكر فصلا نافعا في الحدود ومقاديرها وكمال ترتبها على أسبابها واقتضاء كل جناية لما رتب عليها دون غيرها وأنه ليس وراء ذلك للعقول اقتراح ورد أسئلة لم يوردها هذا السائل وننفصل عنها بحول الله وقوته أحسن انفصال والله المستعان وعليه التكلان. إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لما خلق العباد وخلق الموت والحياة وجعل ما على الأرض زينة لها ليبلو عباده ويختبرهم أيهم أحسن عملا لم يكن في حكمته بد من تهيئة أسباب الابتلاء في أنفسهم وخارجا عنها فجعل في أنفسهم العقول الصحيحة والأسماع والأبصار والإرادات والشهوات والقوى والطبائع والحب والبغض والميل والنفور والأخلاق المتضادة المقتضية لآثارها اقتضاء السبب لمسببه والتي في الخارج الأسباب التي تطلب النفوس حصولها فتنافس فيه وتكره حصوله فتدفعه عنها ثم أكد أسباب هذا الابتلاء بأن وكل بها قرناء من الأرواح الشريرة الظالمة الخبيثة وقرناء من الأرواح الخيرة العأدلة الطيبة وجعل دواعي القلب وميوله مترددة بينهما فهو إلى داعي الخير مرة وإلى داعي الشر مرة ليتم الابتلاء في دار الامتحان وتظهر حكمة الثواب والعقاب في دار الجزاء وكلاهما من الحق الذي خلق الله السماوات والأرض به ومن أجله وهما مقتضى ملك الرب وحمده فلا بد أن يظهر ملكه وحمده فيهما كما ظهر في خلق السموات والأرض وما بينهما وأوجب ذلك في حكمته ورحمته وعدله بحكم إيجابه على نفسه أن أرسل رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه ليتم ما اقتضته حكمته في خلقه وأمره وأقام سوق الجهاد لما حصل من المعاداة والمنافرة بين هذه الأخلاق والأعمال والإرادات كما حصل بين من قامت به فلم يكن بد من حصول مقتضى الطباع البشرية وما قارنها من الأسباب من التنافس والتحاسد والانقياد لدواعي الشهوة والغضب وتعدي ما حد له والتقصير عن كثير مما تعبد به وسهل ذلك عليها اغترارها بموارد المعصية مع الإعراض من مصادرها وإيثارها ما تتعجله من يسير اللذة في دنياها على ما تتأجله من عظيم اللذة في أخراها ونزولها على الحاضر المشاهد وتجافيها عن الغائب الموعود وذلك موجب ما جبلت عليه من جهلها وظلمها فاقتضت أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وحكمته البالغة ونعمته السابغة ورحمته الشاملة وجوده الواسع أن لا يضرب عن عباده الذكر صفحا وأن لا يتركهم سدى ولا يخليهم ودواعي أنفسهم وطبائعهم بل ركب في فطرهم وعقولهم معرفة الخير والشر والنافع والضار والألم واللذة ومعرفة أسبابها ولم يكتف بمجرد ذلك حتى عرفهم به مفصلا على ألسنة رسله وقطع معاذيرهم بأن أقام على صدقهم من الأدلة والبراهين مالا يبقي معه لهم عليه حجة ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة وأن الله لسميع عليم وصرف لهم طرق الوعد والوعيد والترغيب والترهيب وضرب لهم الأمثال وأزال عنهم كل إشكال ومكنهم من القيام بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه غاية التمكين وأعانهم عليه بكل سبب وسلطهم على قهر طباعهم بما يجرهم إلى إيثار العواقب على المبادى ورفض اليسير الفاني من اللذة إلى العظيم الباقي منها وأرشدهم إلى التفكر والتدبر وإيثار ما تقضي به عقولهم وأخلاقهم من هذين الأمرين وأكمل لهم دينهم وأتم عليهم نعمته بما أوصله إليهم على ألسنة رسله من أسباب العقوبة والمثوبة والبشارة والنذارة والرغبة والرهبة وتحقيق ذلك بالتعجيل لبعضه في دار المحنة ليكون علما وأمارة لتحقيق ما أخره عنهم في دار الجزاء والمثوبة ويكون العاجل مذكرا بالآجل والقليل المنقطع بالكثير المتصل والحاضر الفائت مؤذنا بالغائب الدائم فتبارك رب العالمين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وسبحانه وتعالى عما يظنه به من لم يقدره حق قدره ممن أنكر أسماءه وصفاته وأمره ونهيه ووعده ووعيده وظن به ظن السوء فأرداه ظنه فأصبح من الخاسرين. الحكمة في شرع الحدود فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان الأعراض والأموال كالقتل والجراح والقذف والسرقة فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل ولا في الزنا الخصاء ولا في السرقة إعدام النفس وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان ويقتنع كل إنسان بما أتاه مالكه وخالقه فلا يطمع في استلاب غير حقه. تفاوت العقوبات بتفاوت الجنايات ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك. ومن المعلوم أن النظرة المحرمة لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسا ووصفا وقدرا لذهبت بهم الآراء كل مذهب وتشعبت بهم الطرق كل مشعب ولعظم الاختلاف واشتد الخطب فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك وأزال عنهم كلفته وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعا وقدرا ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النكال ثم بلغ من سعة رحمته وجوده أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة فرحمهم بهذه العقوبات أنواعا من الرحمة في الدنيا والآخرة وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أصول قتل وقطع وجلد ونفي تغريم مال وتعزير. موجب القتل فأما القتل فجعله عقوبة أعظم الجنايات كالجناية على الأنفس فكانت عقوبته من جنسه وكالجناية على الدين بالطعن فيه والارتداد عنه وهذه الجناية أولى بالقتل وكف عدوان الجاني عليه من كل عقوبة إذ بقاؤه بين أظهر عباده مفسدة لهم ولا خير يرجى في بقائه ولا مصلحة فإذا حبس شره وأمسك لسانه وكف أذاه والتزم الذل والصغار وجريان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن في بقائه بين أظهر المسلمين ضرر عليهم والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين وجعله أيضا عقوبة الجناية على الفرج المحرمة لما فيها من المفاسد العظيمة واختلاط الأنساب والفساد العام. موجب القطع وأما القطع فجعله عقوبة مثله عدلا وعقوبة السارق فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل فكان أليق العقوبات به إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ أموالهم ولما كان ضرر المحارب أشد من ضرر السارق وعدوانه أعظم ضم إلى قطع يده قطع رجله ليكف عدوانه وشر يده التي بطش بها ورجله التي سعى بها وشرع أن يكون ذلك من خلاف لئلا يفوت عليه منفعة الشق بكماله فكف ضرره وعدوانه ورحمه بأن أبقى له يدا من شق ورجلا من شق. موجب الجلد وأما الجلد فجعله عقوبة الجناية على الأعراض وعلى العقول وعلى الأبضاع ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغا يوجب القتل ولا إبانة الطرف إلا الجناية على الأبضاع فإن مفسدتها قد انتهضت سببا لأشنع القتلات ولكن عارضها في البكر شدة الداعي وعدم المعوض فانتهض ذلك المعارض سببا لإسقاط القتل ولم يكن الجلد وحده كافيا في الزجر فغلظ بالنفي والتغريب ليذوق من ألم الغربة ومفارقة الوطن ومجانبة الأهل والخلطاء ما يزجره عن المعاودة وأما الجناية على العقول بالسكر فكانت مفسدتها لا تتعدى السكران غالبا ولهذا لم يحرم السكر في أول الإسلام كما حرمت الفواحش والظلم والعدوان في كل ملة وعلى لسان كل نبي وكانت عقوبة هذه الجناية غير مقدرة من الشارع بل ضرب فيها بالأيدي والنعال وأطراف الثياب والجريد وضرب فيها أربعين فلما استخف الناس بأمرها وتتابعوا في ارتكابها غلظها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أمرنا باتباع سنته وسنة من سنة رسول الله ﷺ فجعلها ثمانين بالسوط ونفي فيها وحلق الرأس وهذا كله من فقه السنة فإن النبي ﷺ أمر بقتل الشارب في المرة الرابعة ولم ينسخ ذلك ولم يجعله حدا لا بد منه فهو عقوبة ترجع إلى اجتهاد الإمام في المصلحة فزيادة أربعين والنفي والحلق أسهل من القتل. فصل موجب تغريم المال وأما تغريم المال وهو العقوبة المالية فشرعها في مواضع منها تحريق متاع الغال من الغنيمة ومنها حرمان سهمه ومنها إضعاف الغرم على سارق الثمار المعلقة ومنها إضعافه على كاتم الضالة الملتقطة ومنها أخذ شطر مال مانع الزكاة ومنها عزمه ﷺ على تحريق دور من لا يصلي في الجماعة لولا ما منعه من إنفاذه ما عزم عليه من كون الذرية والنساء فيها فتتعدى العقوبة إلى غير الجاني وذلك لا يجوز كما لا يجوز عقوبة الحامل ومنها عقوبة من أساء على الأمير في الغزو بحرمان سلب القتيل لمن قتله حيث شفع فيه هذا المسىء وأمر الأمير بإعطائه فحرم المشفوع له عقوبة للشافع الآمر. التغريم نوعان مقدر وغير مقدر وهذا الجنس من العقوبات نوعان: نوع مضبوط ونوع غير مضبوط. التغريم المقدر فالمضبوط ما قابل المتلف إما لحق الله سبحانه كإتلاف الصيد في الإحرام أو لحق الآدمي كإتلاف ماله وقد نبه الله سبحانه على أن تضمين الصيد متضمن للعقوبة بقوله {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} ومنه مقابلة الجاني بنقيض قصده من الحرمان كعقوبة القاتل لمورثه بحرمان ميراثه وعقوبة المدبر إذا قتل سيده ببطلان تدبيره وعقوبة الموصي له ببطلان وصيته ومن هذا الباب عقوبة الزوجة الناشزة بسقوط نفقتها وكسوتها. التغريم غير المقدر وأما النوع الثاني غير المقدر فهذا الذي يدخله اجتهاد الأئمة بحسب المصالح ولذلك لم تأت فيه الشريعة بأمر عام وقدر لا يزاد فيه ولا ينقص كالحدود ولهذا اختلف الفقهاء فيه هل حكمه منسوخ أو ثابت والصواب أنه يختلف باختلاف المصالح ويرجع فيه إلى اجتهاد الأئمة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة إذ لا دليل على النسخ وقد فعله الخلفاء الراشدون من بعدهم من الأئمة. موجب التعزير ومواضعه وأما التعزير ففي كل معصية لا حد فيها ولا كفارة فإن المعاصي ثلاثة أنواع: نوع فيه الحدود لا كفارة فيه ونوع فيه الكفارة ولا حد فيه ونوع لا حد فيه ولا كفارة فالأول كالسرقة والشرب والزنا والقذف والثاني كالوطء في نهار رمضان والوطء في الإحرام والثاني كوطء الأمة المشتركة بينه وبين غيره وقبلة الأجنبية والخلوة بها ودخول الحمام بغير مئزر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير ونحو ذلك فأما النوع الأول فالحد فيه مغن عن التعزير وأما النوع الثاني فهل يجب مع الكفارة فيه تعزير أم لا على قولين وهما في مذهب أحمد وأما النوع الثالث ففيه التعزير قولا واحدا لكن هل هو كالحد فلا يجوز للإمام تركه أو هو راجع إلى اجتهاد الإمام في إقامته وتركه كما يرجع إلى اجتهاده في قدره على قولين للعلماء الثاني قول الشافعي والأول قول الجمهور. وما كان من المعاصي محرم الجنس كالظلم والفواحش فإن الشارع لم يشرع له كفارة ولهذا لا كفارة في الزنا وشرب الخمر وقذف المحصنات والسرقة وطرد هذا أنه لا كفارة في قتل العمد ولا في اليمين الغموس كما يقوله أحمد وأبو حنيفة ومن وافقهما وليس ذلك تخفيفا عن مرتكبهما بل لأن الكفارة لا تعمل في هذا الجنس من المعاصي وإنما عملها فيما كان مباحا في الأصل وحرم لعارض كالوطء في الصيام والإحرام وطرد هذا وهو الصحيح وجوب الكفارة في وطء الحائض وهو موجب القياس لو لم تأت الشريعة به فكيف وقد جاءت به مرفوعة وموقوفة وعكس هذا الوطء في الدبر ولا كفارة فيه ولا يصح قياسه على الوطء في الحيض لأن هذا الجنس لم يبح قط ولا تعمل فيه الكفارة ولو وجبت فيه الكفارة لوجبت في الزنا واللواط بطريق الأولى فهذه قاعدة الشارع في الكفارات وهي في غاية المطابقة للحكمة والمصلحة. فصل إيقاع العقوبة بقيام الحجة وكان من تمام حكمته ورحمته أنه لم يأخذ الجناة بغير حجة كما لم يعذبهم في الآخرة إلا بعد إقامة الحجة عليهم وجعل الحجة التي يأخذهم بها إما منهم وهي الإقرار أو ما يقوم مقامه من إقرار الحال وهو أبلغ وأصدق من إقرار اللسان فإن من قامت عليه شواهد الحال بالجناية كرائحة الخمر وقبئها وحبل من لا زوج لها ولا سيد ووجود المسروق في دار السارق وتحت ثيابه أولى بالعقوبة ممن قامت عليه شهادة إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب وهذا متفق عليه بين الصحابة وإن نازع فيه بعض الفقهاء وإما أن تكون الحجة من خارج عنهم وهي البينة واشترط فيها العدالة وعدم التهمة فلا أحسن في العقول والفطر من ذلك ولو طلب منها الاقتراح لم تقترح أحسن من ذلك ولا أوفق منه للمصلحة. الحكمة في عدم جعل العقوبة من جنس الذنب فإن قيل: كيف تدعون أن هذه العقوبات لاصقة بالعقول وموافقة للمصالح وأنتم تعلمون أنه لا شيء بعد الكفر بالله أفظع ولا أقبح من سفك الدماء فكيف تردعون عن سفك الدم بسفكه وهل مثال ذلك إلا إزالة نجاسة بنجاسة ثم لو كان ذلك مستحسنا لكان أولى أن يحرق ثوب من حرق ثوب غيره وأن يذبح حيوان من ذبح حيوان غيره وأن تخرب دار من خرب دار غيره وأن يجوز لمن شتم أن يشتم شاتمه وماالفرق في صريح العقل بين هذا وبين قتل من قتل غيره أو قطع من قطعه وإذا كان إراقة الدم الأول مفسدة وقطع الطرف كذلك فكيف زالت تلك المفسدة بإراقة الدم الثاني وقطع الطرف الثاني وهل هذا إلا مضاعفة للمفسدة وتكثير لها ولو كانت المفسدة الأولى تزول بهذه المفسدة الثانية لكان فيه ما فيه إذ كيف تزال مفسدة بمفسدة نظيرها من كل وجه فكيف والأولى لا سبيل إلى وزالتها وتقرير ذلك بما ذكرناه من عدم إزالة مفسدة تحريق الثياب وذبح المواشي وخراب الدور وقطع الأشجار بمثلها ثم كيف حسن أن يعاقب السارق بقطع يده التي اكتسب بها السرقة ولم تحسن عقوبة الزاني بقطع فرجه الذي اكتسب به الزنا ولا القاذف بقطع لسانه الذي اكتسب به القذف ولا المزور على الإمام والمسلمين يقطع أنامله التي اكتسب بها التزوير ولا الناظر إلى ما لا يحل له بقلع عينه التي اكتسب بها الحرام فعلم أن الأمر في هذه العقوبات جنسا وقدرا وسببا ليس بقياس إنما هو محض المشيئة ولله التصرف في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فالجواب وبالله التوفيق والتأييد من طريقين: مجمل ومفصل. أما المجمل فهو أن من مشرع هذه العقوبات ورتبها على أسبابها جنسا وقدرا فهو عالم الغيب والشهادة وأحكم الحاكمين وأعلم العالمين ومن أحاط بكل شيء علما وعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون وأحاط علمه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها وخفيها وظاهرها ما يمكن اطلاع البشر عليه وما لا يمكنهم وليست هذه التخصيصات والتقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة كما أن التخصيصات والتقديرات الواقعة في خلقه كذلك فهذا في خلقه وذاك في أمره ومصدرهما جميعا عن كمال علمه وحكمته ووضعه كل شى في موضعه الذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلا إياه كما وضع قوة البصر والنور للباصر في العين وقوة السمع في الأذن وقوة الشم في الأنف وقوة النطق في اللسان والشفتين وقوة البطش في اليد وقوة المشي في الرجل وخص كل حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن يعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره فشمل إتقانه وإحكامه لكل ما شمله خلقه كما قال تعالى {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان وأحكمه غاية الإحكام فلأن يكون أمره في غاية الإتقان والإحكام أولى وأحرى ومن لم يعرف ذلك مفصلا لم يسعه أن ينكره مجملا ولا يكون جهله بحكمة الله في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدوره عن محض العلم والحكمة مسوغا له إنكاره في نفس الأمر وسبحان الله ما أعظم ظلم الإنسان وجهله فإنه لو اعترض على أي صاحب صناعة كانت ممن تقصر عنها معرفته وإدراكه على ذلك وسأله عما اختصت به صناعته من الأسباب والآلات والأفعال والمقادير وكيف كان كل شيء من ذلك الوجه الذي هو عليه لا أكبر ولا أصغر ولا على شكل غير ذلك يسخر منه ويهزأ به وعجب من سخف عقله وقلة معرفته هذا ما تهيئه بمشاركته له في صناعته ووصوله فيها إلى ما وصل إليه والزيادة عليه والاستدراك عليه فيها هذا مع أن صاحب تلك الصناعة غير مدفوع عن العجز والقصور وعدم الإحاطة والجهل بل ذلك عنده عتيد حاضر ثم لا يسعه إلا التسليم له والاعتراف بحكمته وإقراره بجهله وعجزه عما وصل إليه من ذلك فهلا وسعه ذلك مع أحكم الحاكمين وأعلم العالمين ومن أتقن كل شيء فأحكمه وأوقعه على وفق الحكمة والمصلحة؟ وقد كان هذا الوجه وحده كافيا في دفع كل شبهة وجواب كل سؤال وهذا غير الطريق التي سلكها نفاة الحكم والتعليل ولكن مع هذا فنتصدى للجواب المفصل بحسب الاستعداد وما يناسب علومنا الناقصة وأفهامنا الجامدة وعقولنا الضعيفة وعباراتنا القاصرة فنقول وبالله التوفيق: ولكم في القصاص حياة أما قوله: "كيف تردعون عن سفك الدم بسفكه وإن ذلك كإزالة النجاسة بالنجاسة" سؤال في غاية الوهن والفساد وأول ما يقال لسائله: هل ترى ردع المفسدين والجناة عن فسادهم وجناياتهم وكف عدوانهم مستحسنا في العقول موافقا لمصالح العباد أو لا تراه كذلك فإن قال: "لا أراه كذلك" كفانا مؤنة جوابه بإقراره على نفسه بمخالفة جميع طوائف بني آدم على اختلاف مللهم ونحلهم ودياناتهم وآرائهم ولولا عقوبة الجناة والمفسدين لأهلك الناس بعضهم بعضا وفسد نظام العالم وصارت حال الدواب والأنعام والوحوش أحسن من حال بني آدم وإن قال: "بل لا تتم المصلحة إلا بذلك". قيل له: من المعلوم أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتم إلا بمؤلم يردعهم ويجعل الجاني نكالا وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته في الكبر والصغر والقلة والكثرة ومن المعلوم ببدائه العقول أن التسوية في العقوبات مع تفاوت الجرائم غير مستحسن بل مناف للحكمة والمصلحة فإنه إن ساوى بينهم في أدنى العقوبات لم تحصل مصلحة الزجر وإن ساوى بينها في أعظمها كان خلاف الرحمة والحكمة إذ لا يليق أن يقتل بالنظرة والقبلة ويقطع بسرقة الحبة والدينار وكذلك التفاوت بين العقوبات مع استواء الجرائم قبيح في الفطر والعقول وكلاهما تأباه حكمة الرب تعالى وعدله وإحسانه إلى خلقه فأوقع العقوبة تارة بإتلاف النفس إذا انتهت الجناية في عظمها إلى غاية القبح كالجناية على النفس أو الدين أو الجناية التي ضررها عام فالمفسدة التي في هذه العقوبة خاصة والمصلحة الحاصلة بها أضعاف أضعاف تلك المفسدة كما قال تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فلولا القصاص لفسد العالم وأهلك الناس بعضهم بعضا ابتداء واستيفاء فكأن في القصاص دفعا لمفسدة التجري على الدماء بالجناية وبالاستيفاء وقد قالت العرب في جاهليتها: "القتل أنفى للقتل" وبسفك الدماء تحقن الدماء فلم تغسل النجاسة بالنجاسة بل الجناية نجاسة والقصاص طهرة وإذا لم يكن بد من موت القاتل ومن استحق القتل فموته بالسيف أنفع له في عاجلته وآجلته والموت به أسرع الموكات وأوحاها وأقلها ألما فموته به مصلحة له ولأولياء القتيل ولعموم الناس وجرى ذلك مجرى إتلاف الحيوان بذبحه لمصلحة الآدمي فإنه حسن وإن كان في ذبحه إضرار بالحيوان فالمصالح المرتبة على ذبحه أضعاف أضعاف مفسدة إتلافه ثم هذا السؤال الفاسد يظهر فساده وبطلانه بالموت الذي حتمه الله على عباده وساوى فيه بين جميعهم ولولاه لما هنأ العيش ولا وسعتهم الأرزاق ولضاقت عليهم المساكن والمدن والأسواق والطرقات وفي مفارقة البغيض من اللذة والراحة ما في مواصلة الحبيب والموت مخلص للحي والموت مريح لكل منهما من صاحبه ومخرج من دار الابتلاء والامتحان وباب للدخول في دار الحيوان. جزى الله عنا الموت خيرا فإنه ** أبر بنا من كل بر وأعطف. يعجل تخليص النفوس من الأذى ** ويدني إلى الدار التي هي أشرف. فكم لله سبحانه على عباده الأحياء والأموات في الموت من نعمة لا تحصى فكيف إذا كان في طهرة للمقتول وحياة للنوع الإنساني وتشف للمظلوم وعدل بين القاتل والمقتول فسبحان من تنزهت شريعته عن خلاف ما شرعها عليه من اقتراح العقول الفاسدة والآراء الضالة الجائرة. مقابلة الإتلاف بمثله في كل الأحوال مفسدة وأما قوله: "لو كان ذلك مستحسنا في العقول لاستحسن في تحريق ثوبه وتخريب داره وذبح حيوانه مقابلته بمثله". فالجواب عن هذا أن مفسدة تلك الجنايات تندفع بتغريمه نظير ما أتلفه عليه فإن المثل يسد مسد المثل من كل وجه فتصير المقابلة مفسدة محضة كما ليس له أن يقتل ابنه أو غلامه مقابلة لقتله هو ابنه أو غلامه فإن هذا شرع الظالمين المعتدين الذي تنزه عنه شريعة أحكم الحاكمين على أن للمقابلة في إتلاف المال بمثل فعله مساغا في الاجتهاد وقد ذهب إليه بعض أهل العلم كما تقدم الإشارة إليه في عقوبة الكفار بإفساد أموالهم إذا كانوا يفعلون ذلك بنا أو كان يغيظهم وهذا بخلاف قتل عبده إذا قتل عبده أو قتل فرسه أو عقر فرسه فإن ذلك ظلم لغير مستحق ولكن السنة اقتضت التضمين بالمثل لا إتلاف النظير كما غرم النبي ﷺ إحدى زوجتيه التي كسرت إناء صاحبتها إناء بدله وقال: "إناء بإناء" ولا ريب أن هذا أقل فسادا وأصلح للجهتين لأن المتلف ماله إذا أخذ نظيره صار كمن لم يفت عليه شيء وانتفع بما أخذه عوض ماله فإذا مكناه من إتلافه كان زيادة في إضاعة المال وما يراد من التشفي وإذاقة الجاني ألم الإتلاف فحاصل بالغرم غالبا ولا التفات إلى الصور النادرة التي لا يتضرر الجاني فيها بالغرم ولاشك أن هذا أليق بالعقل وأبلغ في الصلاح وأوفق للحكمة وأيضا فإنه لو شرع القصاص في الأموال ردعا للجاني لبقي جانب المجني عليه غير مراعي بل يبقى متألما موتورا غير مجبور والشريعة إنما جاءت بجبر هذا وردع هذا. المصلحة في تخيير المجني عليه في بعض الأحوال دون بعض فإن قيل: فخيروا المجني عليه بين أن يغرم الجاني أو يتلف عليه نظير ما أتلفه هو كما خيرتموه في الجناية على طرفه وخيرتم أولياء القتيل بين إتلاف الجاني النظير وبين أخذ الدية. قيل: لا مصلحة في ذلك للجاني ولا للمجني عليه ولا لسائر الناس وإنما هو زيادة فساد لا مصلحة فيه بمجرد التشفي ويكفي تغريبه وتعزيره في التشفي والفرق بين الأموال والدماء في ذلك ظاهر فإن الجناية على النفوس والأعضاء تدخل من الغيظ والحنق والعداوة على المجني عليه وأوليائه مالا تدخله جناية المال ويدخل عليهم من الغضاضة والعار واحتمال الصنم والحمية والتحرق لأخذ الثأر مالا يجبره المال أبدا حتى إن أولادهم وأعقابهم ليعيرون بذلك ولأولياء القتيل من القصد في القصاص وإذاقة الجاني وأوليائه ما أذاقه للمجني عليه ما ليس لمن حرق ثوبه أو عقرت فرسه والمجني عليه موتور هو وأولياؤه فإن لم يوتر الجاني وأولياؤه ويجرعوا من الألم والغيظ ما يجرعه الأول لم يكن عدلا وقد كانت العرب في جاهليتها تعيب على من يأخذ الدية ويرضى بها من درك ثأره وشفاء غيظه كقول قائلهم يهجو من أخذ الدية من الإبل: وإن الذي أصبحتم تحلبونه…دم غير أن اللون ليس بأشقرا. وقال جرير يعير من أخذ الدية فاشترى بها نخلا: ألا أبلغ بني حجر بن وهب…بأن التمر حلو في الشتاء. وقال آخر: إذا صب ما في الوطب فاعلم بأنه ** دم الشيخ فاشرب من دم الشيخ أو دع. وقال آخر: خليلان مختلف شكلنا ** أريد العلاء ويبغي السمن. أريد دماء بني مالك ** ورأى المعلى بياض اللبن. وهذا وإن كانت الشريعة قد أبطلته وجاءت بما هو خير منه وأصلح في المعاش والمعاد من تخيير الأولياء بين إدراك الثأر ونيل التشفي وبين أخذ الدية فإن القصد به أن العرب لم تكن تعير من أخذ بدل ماله ولم تعده ضعفا ولا عجزا البتة بخلاف من أخذ بدل دم وليه فما سوى الله بين الأمرين في طبع ولا عقل ولا شرع والإنسان قد يخرق ثوبه عند الغيظ ويذبح ماشيته ويتلف ماله فلا يلحقه في ذلك من المشقة والغيظ ولازدراء به ما يلحق من قتل نفسه أو جدع انفه أو قلع عينه. فصل الحكمة في إتلاف بعض الأعضاء التي وقعت بها المعصية دون بعض وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة وليس في حكمة الله ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كل جان كل عضو عصاه به فيشرع قلع عين من نظر إلى المحرم وقطع أذن من استمع إليه ولسان من تكلم به ويد من لطم غيره عدوانا ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة وقلب مراتبها وأسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأتي ذلك وليس مقصود الشارع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة وأن يكون إلى كف عدوانه أقرب وأن يعتبر به غيره وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحا وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة إلى غير ذلك من الحكم والمصالح. الحكمة في قطع السارق ثم إن في حد السرقة معنى آخر وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سرا كما يقتضيه اسمها ولهذا يقولون: "فلان ينظر إلى فلان مسارقة" إذا كان ينظر إليه نظرا خفيا لا يريد أن يفطن له والعازم على السرقة مختف كاتم خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران ولهذا يقال: "وصلت جناح فلان" إذا رأيته يسير منفردا فانضممت إليه لتصحبه فعوقب السارق بقطع اليد قصا لجناحه وتسهيلا لأخذه إن عاود السرقة فإذا فعل به هذا في أول مرة بقي مقصوص أحد الجناحين ضعيفا في العدو ثم يقطع في الثانية رجله فيزداد ضعفا في عدوه فلا يكاد يفوت الطالب ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة ورجله الأخرى في الرابعة فيبقى لحما على وضم فيستريح ويريح. الحكمة في حد الزنا وأما الزاني فإنه يزني بجميع بدنه والتلذذ بقضاء شهوته يعم البدن والغالب من فعله وقوعه برضا المزني بها فهو غير خائف ما يخافه السارق من الطلب فعوقب بما يعم بدنه من الجلد مرة والقتل بالحجارة مرة ولما كان الزنا من أمهات الجرائم وكبار المعاصي لما فيه من اختلاط الأنساب الذي يبطل معه التعارف والتناصر على إحياء الدين وفي هذا هلاك الحرث والنسل فشاكل في معانيه أو في أكثرها القتل الذي فيه هلاك ذلك فزجر عنه بالقصاص ليرتدع عن مثل فعله من يهم به فيعود ذلك بعمارة الدنيا وصلاح العالم الموصل إلى إقامة العبادات الموصلة إلى نعيم الآخرة. ثم إن للزاني حالتين إحداهما: أن يكون محصنا قد تزوج فعلم ما يقع به من العفاف عن الفروج المحرمة واستغنى به عنها وأحرز نفسه عن التعرض لحد الزنا فزال عذره من جميع الوجوه في تخطي ذلك إلى مواقعة الحرام والثانية: أن يكون بكرا لم يعلم ما علمه المحصن ولا عمل ما عمله فحصل له من العذر بعض ما أوجب له التخفيف فحقن دمه وزجر بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجلد ردعا على المعاودة للاستمتاع بالحرام وبعثا له على القنع بما رزقه الله من الحلال وهذا في غاية الحكمة والمصلحة جامع للتخفيف في موضعه والتغليظ في موضعه وأين هذا من قطع لسان الشاتم والقاذف وما فيه من الإسراف والعدوان؟ ثم إن قطع فرج الزاني فيه من تعطيل النسل وقطعه عكس مقصود الرب تعالى من تكثير الذرية وذريتهم فيما جعل لهم من أزواجهم وفيه من المفاسد أضعاف ما يتوهم فيه من مصلحة الزجر وفيه إخلاء جميع البدن من العقوبة وقد حصلت جريمة الزنا بجميع أجزائه فكان من العدل أن تعمه العقوبة ثم إنه غير متصور في حق المرأة وكلاهما زان فلا بد أن يستويا في العقوبة فكان شرع الله سبحانه أكمل من اقتراح المقترحين. الجزاء من جنس العمل وتأمل كيف جاء إتلاف النفوس في مقابلة أكبر الكبائر وأعظمها ضررا وأشدها فسادا للعالم وهي الكفر الأصلي والطاريء والقتل وزني المحصن وإذا تأمل العاقل فساد الوجود رآه من هذه الجهات الثلاث وهذه هي الثلاث التي أجاب عنها النبي ﷺ لعبد الله بن مسعود بها حيث قال له: "يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل الله ندا وهو خلقك قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بجليلة جارك" فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُون} الآية. اختلاف الحد لاختلاف الجريمة ثم لما كان سرقة الأموال تلي ذلك في الضرر وهو دونه جعل عقوبته قطع الطرف ثم لما كان القذف دون سرقة المال في المفسدة جعل عقوبته دون ذلك وهو الجلد ثم لما كان شرب المسكر أقل مفسدة من ذلك جعل حده دون حد هذه الجنايات كلها ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتة غير منضبطة في الشدة والضعف والقلة والكثرة وهي ما بين النظرة والخلوة والمعانقة جعلت عقوبتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور بحسب المصلحة في كل زمان ومكان وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم فمن سوى بين الناس في ذلك وبين الأزمنة والأمكنة والأحوال لم يفقه حكمة الشرع واختلفت عليه أقوال الصحابة وسيرة الخلفاء الراشدين وكثير من النصوص ورأى عمر قد زاد في حد الخمر على أربعين والنبي ﷺ إنما جلد أربعين وعزر بأمور لم يعزر بها النبي ﷺ وأنفذ على الناس أشياء عفا عنها النبي ﷺ فيظن ذلك تعارضا وتناقضا وإنما أتى من قصور علمه وفهمه وبالله التوفيق. فصل جعل حد الرقيق على النصف من حد الحر يوافق القياس وأما قوله: "وجعل حد الرقيق على النصف من حد الحر وحاجتهما إلى الزجر واحدة" فلا ريب أن الشارع فرق بين الحر والعبد في أحكام وسوى بينهما في أحكام فسوى بينهما في الإيمان والإسلام ووجوب العبادات البدنية كالطهارة والصلاة والصوم لاستوائهما في سببهما وفرق بينهما في العبادات المالية كالحج والزكاة والتكفير بالمال لافتراقهما في سببهما وأما الحدود فلما كان وقوع المعصية من الحر أقبح من وقوعها من العبد من جهة كمال نعمة الله تعالى عليه بالحرية وأن جعله مالكا لا مملوكا ولم يجعله تحت قهر غيره وتصرفه فيه ومن جهة تمكنه بأسباب القدرة من الاستغناء عن المعصية بما عوض الله عنها من المباحات فقابل النعمة التامة بضدها واستعمل القدرة في المعصية فاستحق من العقوبة أكثر مما يستحقه من هو أخفض منه رتبة وأنقص منزلة فإن الرجل كلما كانت نعمة الله عليه أتم كانت عقوبته إذا ارتكب الجرائم أتم ولهذا قال تعالى في حق من أتم نعمته عليهن من النساء {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} وهذا على وفق قضايا العقول ومستحسناتها فإن العبد كلما كملت نعمة الله عليه ينبغي له أن تكون طاعته له أكمل وشكره له أتم ومعصيته له أقبح وشدة العقوبة تابعة لقبح المعصية ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة عالما لم ينفعه الله بعلمه فإن نعمة الله عليه بالعلم أعظم من نعمته على الجاهل وصدور المعصية منه أقبح من صدورها من الجاهل ولا يستوي عند الملوك والرؤساء من عصاهم من خواصهم وحشمهم ومن هو قريب منهم ومن عصاهم من الأطراف والبعداء فجعل حد العبد أخف من حد الحر جمعا بين حكمة الزجر وحكمة نقصه ولهذا كان على النصف منه في النكاح والطلاق والعدة إظهارا لشرف الحرية وخطرها وإعطاء لكل مرتبة حقها من الأمر كما أعطاها حقها من القدر ولا تنتقض هذه الحكمة بإعطاء العبد في الآخرة أجرين بل هذا محض الحكمة فإن العبد كان عليه في الدنيا حقان حق لله وحق لسيده فأعطي بإزاء قيامه بكل حق أجرا فاتفقت حكمة الشرع والقدر والجزاء والحمد لله رب العالمين. فصل شرع اللعان في حق الزوجة دون غيرها يوافق القياس وأما قوله: "وجعل للقاذف إسقاط الحد باللعان في الزوجة دون الأجنبية وكلاهما قد ألحق بهما العار" فهذا من اعظم محاسن الشريعة فإن قاذف الأجنبية مستغن عن قذفها لا حاجة إليه البتة فإن زناها لا يضره شيئا ولا يفسد عليه فراشه ولا يعلق عليه أولادا من غيره وقذفها عدوان محض وأذى لمحصنة غافلة مؤمنة فترتب عليه الحد زجرا له وعقوبة وأما الزوجة فإنه يلحقه بزناها من العار والمسبة وإفساد الفراش وإلحاق ولد غيره به وانصراف قلبها عنه إلى غيره فهو محتاج إلى قذفها ونفي النسب الفاسد عنه وتخلصه من المسبة والعار لكونه زوج بغي فاجرة ولا يمكن إقامة البينة على زناها في الغالب وهي لا تقر به وقول الزوج عليها غير مقبول فلم يبق سوى تحالفهما بأغلظ الأيمان وتأكيدها بدعائه على نفسه باللعنة ودعائها على نفسها بالغضب إن كانا كاذبين ثم يفسخ النكاح بينهما إذ لا يمكن أحدهما أن يصفو للآخر أبدا فهذا أحسن حكم يفصل به بينهما في الدنيا وليس بعده أعدل منه ولا أحكم ولا أصلح ولو جمعت عقول العالمين لم يهتدوا إليه فتبارك من أبان ربوبيته ووحدانيته وحكمته وعلمه في شرعه وخلقه. فصل تخصيص المسافر بالرخص دون غيره يوافق القياس وأما قوله: "وجوز للمسافر المترفه في سفره رخصة الفطر والقصر دون المقيم المجهود الذي هو في غاية المشقة" فلا ريب أن الفطر والقصر يختص بالمسافر ولا يفطر المقيم إلا لمرض وهذا من كمال حكمة الشارع فإن السفر في نفسه قطعة من العذاب وهو في نفسه مشقة وجهد ولو كان المسافر من أرفه الناس فإنه في مشقة وجهد بحسبه فكان من رحمة الله بعباده وبره بهم أن خفف عنهم شطر الصلاة واكتفى منهم بالشطر وخفف عنهم أداء فرض الصوم في السفر واكتفى منهم بأدائه في الحضر كما شرع مثل ذلك في حق المريض والحائض فلم يفوت عليهم مصلحة العبادة بإسقاطها في السفر جملة ولم يلزمهم بها في السفر كإلزامهم في الحضر وأما الإقامة فلا موجب لإسقاط بعض الواجب فيها ولا تأخيره وما يعرض فيها من المشقة والشعل فأمر لا ينضبط ولا ينحصر فلو جاز لكل مشغول وكل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب واضمحل بالكلية وإن جوز للبعض دون البعض لم ينضبط فإنه لا وصف يضبط ما تجوز معه الرخصة وما لا تجوز بخلاف السفر على أن المشقة قد علق بها من التخفيف ما يناسبها فإن كانت مشقة مرض وألم يضر به جاز معها الفطر والصلاة قاعدا أو على جنب وذلك نظير قصر العدد وإن كانت مشقة تعب فمصالح الدنيا والآخرة منوطة بالتعب ولا راحة لمن لا تعب له بل على قدر التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها ومصالحها بحمد الله ومنه. فصل الفرق بين نذر الطاعة والحلف عليها يوافق القياس وأما قوله: "وأوجب على من نذر لله طاعة الوفاء بها وجوز لمن حلف عليها أن يتركها ويكفر يمينه وكلاهما قد التزم فعلها لله" فهذا السؤال يورد على وجهين: أحدهما: أن يحلف ليفعلنها نحو أن يقول: والله لأصومن الاثنين والخميس ولأتصدقن كما يقول: لله على أن أفعل ذلك. والثاني: أن يحلف بها كما يقول: إن كلمت فلانا فلله علي صوم سنة وصدقة ألف. فإن أورد على الوجه الأول فجوابه أن الملتزم الطاعة لله لا يخرج التزامه لله عن أربعة أقسام أحدها: التزام بيمين مجردة الثاني: التزام بنذر مجرد الثالث: التزام بيمين مؤكدة بنذر الرابع: التزام بنذر مؤكد بيمين فالأول نحو قوله: "والله لأتصدقن" والثاني نحو: "لله علي أن أتصدق" والثالث نحو: "والله إن شفى الله مريضي فعلي صدقة كذا" والرابع نحو: "إن شفى الله مريضي فوالله لأتصدقن" وهذا كقوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} فهذا نذر مؤكد بيمين وإن لم يقل فيه فعلي إذ ليس ذلك من شرط النذر بل إذا قال: إن سلمني الله تصدقت أو لأتصدقن فهو وعد وعده الله فعليه أن يفي به وإلا دخل في قوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} فوعد العبد ربه نور يجب عليه أن يفي له به فإنه جعله جزاء وشكرا له على نعمته عليه فجرى مجرى عقود المعاوضات لا عقود التبرعات وهو أولى باللزوم من أن يقول ابتداء: "لله علي كذا" فإن هذا التزام منه لنفسه أن يفعل ذلك والأول تعليق بشرط وقد وجد فيجب فعل المشروط عنده لالتزامه له بوعده فإن الالتزام تارة يكون بصريح الإيجاب وتارة يكون بالوعد وتارة يكون بالشروع كشروعه في الجهاد والحج والعمرة والالتزام بالوعد آكد من الالتزام بالشروع وآكد من الالتزام بصريح الإيجاب فإن الله سبحانه ذم من خالف ما التزمه له بالوعد وعاقبه بالنفاق في قلبه ومدح من وفى بما نذره له وأمر بإتمام ما شرع فيه له من الحج والعمرة فجاء الالتزام بالوعد آكد الأقسام الثلاثة وإخلافة يعقب النفاق في القلب وأما إذا حلف يمينا مجردة ليفعلن كذا فهذا حض منه لنفسه وحث على فعله باليمين وليس إيجابا عليها فإن اليمين لا توجب شيئا ولا تحرمه ولكن الحالف عقد اليمين بالله ليفعلنه فأباح الله سبحانه له حل ما عقده بالكفارة ولهذا سماها الله تحلة فإنها تحل عقد اليمين وليست رافعة لإثم الحنث كما يتوهمه بعض الفقهاء فإن الحنث قد يكون واجبا وقد يكون مستحبا فيؤمر به أمر إيجاب أو استحباب وإن كان مباحا فالشارع لم يبح سبب الإثم وإنما شرعها الله حلا لعقد اليمين كما شرع الله الاستثناء مانعا من عقدها فظهر الفرق بين ما التزم لله وبين ما التزم بالله فالأول ليس فيه إلا الوفاء والثاني يخير فيه بين الوفاء وبين الكفارة حيث يسوغ ذلك وسر هذا أن ما التزم له آكد مما التزم به فإن الأول متعلق بإلهيته والثاني بربوبيته فالأول من أحكام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} والثاني من أحكام {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} و{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} قسم الله من هاتين الكلمتين {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قسم العبد كما في الحديث الصحيح الإلهي: "هذه بيني وبين عبدي نصفين" وبهذا يخرج الجواب عن إيراد هذا السؤال على الوجه الثاني وأن ما نذره لله من هذه الطاعات يجب الوفاء به وما أخرجه مخرج اليمين يخير بين الوفاء به وبين التفكير لأن الأول متعلق بإلهيته والثاني بربوبيته فوجب الوفاء بالقسم الأول ويخير الحالف في القسم الثاني وهذا من أسرار الشريعة وكمالها وعظمها. ويزيد ذلك وضوحا أن الحالف بالتزام هذه الواجبات قصده ألا تكون ولكراهته للزومها له حلف بها فقصده ألا يكون الشرط فيها ولا الجزاء ولذلك يسمى نذر اللجاج والغضب فلم يلزمه الشارع به إذا كان غير مريد له ولا متقرب به إلى الله فلم يعقده لله وإنما عقده به فهو يمين محضة فإلحاقه بنذر القربة إلحاق له بغير شبهه وقطع له عن الإلحاق بنظيره وعذر من ألحقه بنذر القربة شبهه به في اللفظ والصورة ولكن الملحقون له باليمين أفقه وأرعى لجانب المعاني وقد اتفق الناس على أنه لو قال: "إن فعلت كذا فإنا يهودي أو نصراني" فحنث أنه لا يكفر بذلك إن قصد اليمين لأن قصد اليمين منع من الكفر وبهذا وغيره احتج شيخ الإسلام ابن تيمية على أن الحلف بالطلاق والعتاق كنذر اللجاج والغضب وكالحلف بقوله: "إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني" وحكاه إجماع الصحابة في العتق وحكاه غيره إجماعا لهم في الحلف بالطلاق على أنه لا يلزم. قال: لأنه قد صح عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة ولا يعرف له في الصحابة مخالف ذكره ابن بزيزة في شرح أحكام عبد الحق الإشبيلي فاجتهد خصومه في الرد عليه بكل ممكن وكان حاصل ما ردوا به قوله أربعة أشياء أحدها وهو عمدة القوم أنه خلاف مرسوم السلطان والثاني أنه خلاف الأئمة الأربعة والثالث أنه خلاف القياس على الشرط والجزاء المقصودين كقوله: "إن أبرأتني فأنت طالق" ففعلت والرابع أن العمل قد استمر على خلاف هذا القول فلا يلتفت إليه فنقض حججهم وأقام نحوا من ثلاثين دليلا على صحة هذا القول وصنف في المسألة قريبا من ألف ورقة ثم مضى لسبيله راجيا من الله أجرا أو أجرين وهو ومنازعوه يوم القيامة عند ربهم يختصمون. فصل الفرق بين الضبع وغيره من كل ذي ناب يوافق القياس وأما قولهم: "وحرم كل ذي ناب من السباع وأباح الضبع ولها ناب فلا ريب أنه حرم كل ذي ناب من السباع وإن كان بعض العلماء خفي عليه تحريمه فقال بمبلغ علمه وأما الضبع فروي عنه فيها حديث صححه كثير من أهل العلم بالحديث فذهبوا إليه وجعلوه مخصصا لعموم أحاديث التحريم كما خصت العرايا لأحاديث المزابنة وطائفة لم تصححه وحرموا الضبع لأنها من جملة ذات الأنياب وقالوا وقد تواترت الآثار عن النبي ﷺ بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع وصحت صحة لا مطعن فيها من حديث علي وابن عباس وأبي هريرة وأبي ثعلبة الخشني قالوا: "وأما حديث الضبع فتفرد به عبد الرحمن بن أبي عمارة وأحاديث تحريم ذوات الأنياب كلها تخالفه" قالوا: "ولفظ الحديث يحتمل معنيين أحدهما أن يكون جابر رفع الأكل إلى النبي ﷺ وأن يكون إنما رفع إليه كونها صيدا فقط ولا يلزم من كونها صيدا جواز أكلها فظن جابر أن كونها صيدا يدل على أكلها فأفتى به من قوله" ورفع إلى النبي ﷺ ما سمعه من كونها صيدا. ونحن نذكر لفظ الحديث ليتبين ما ذكرناه فروى الترمذي في جامعه من حديث عبيد بن عمير الليثي عن عبد الرحمن بن أبي عمارة قال: قلت لجابر ابن عبد الله: آكل الضبع؟ قال: نعم قلت: أصيد هي؟ قال: نعم. قلت: أسمعت ذلك من رسول الله ﷺ؟ قال: نعم قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هو صحيح وهذا يحتمل أن المرفوع منه هو كونها صيدا ويدل على ذلك أن جرير بن حازم قال: عن عبيد بن عمير عن ابن أبي عمارة عن جابر عن رسول الله ﷺ أنه سئل عن الضبع فقال: "هي صيد وفيها كبش" قالوا: وكذلك حديث إبراهيم الصائغ عن عطاء عن جابر يرفعه: "الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مسن ويؤكل" قال الحاكم: حديث صحيح وقوله: "ويؤكل" يحتمل الوقف والرفع وإذا احتمل ذلك لم تعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تبلغ مبلغ التواتر في التحريم قالوا: ولو كان حديث جابر صريحا في الإباحة لكان فردا وأحاديث تحريم ذوات الأنياب مستفيضة متعددة ادعى الطحاوي وغيره تواترها فلا يقدم حديث جابر عليها قالوا: والضبع من أخبث الحيوان وأشرهه وهو مغرى بأكل لحوم الناس ونبش قبور الأموات وإخراجهم وأكلهم ويأكل الجيف ويكسر بنابه قالوا: والله سبحانه قد حرم علينا الخبائث وحرم رسول الله ﷺ ذوات الأنياب والضبع لا يخرج عن هذا وهذا وقالوا وغاية حديث جابر يدل على أنها صيد يفدي في الإحرام ولا يلزم من ذلك أكلها وقد قال بكر بن محمد سئل أبو عبد الله يعني الإمام أحمد عن محرم قتل ثعلبا فقال عليه الجزاء هي صيد ولكن لا يؤكل وقال جعفر بن محمد سمعت أبا عبد الله سئل عن ثعلب فقال الثعلب سبع فقد نص على أنه سبع وأنه يفدي في الإحرام ولما جعل النبي ﷺ في الضبع كبشا ظن جابر أنه يؤكل فأفتى به. والذين صححوا الحديث جعلوه مخصصا لعموم تحريم ذي الناب من غير فرق بينهما حتى قالوا: ويحرم أكل كل ذي ناب من السباع إلا الضبع وهذا لا يقع مثله في الشريعة أن يخصص مثلا على مثل من كل وجه من غير فرقان بينهما وبحمد الله إلى ساعتي هذه ما رأيت في الشريعة مسألة واحدة كذلك أعنى شريعة التنزيل لا شريعة التأويل ومن تأمل ألفاظه ﷺ الكريمة تبين له اندفاع هذا السؤال فإنه إنما حرم ما اشتمل على الوصفين أن يكون له ناب وأن يكون من السباع العادية بطبعها كالأسد والذئب والنمر والفهد وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين وهو كونها ذات ناب وليست من السباع العادية ولا ريب أن السباع أخص من ذوات الأنياب والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المغتذي بها شبهها فإن الغاذي شبيه بالمغتذي ولا ريب أن القوة السبعية التي في الذئب والأسد والنمر والفهد ليست في الضبع حتى تجب التسوية بينهما في التحريم ولا تعد الضبع من السباع لغة ولا عرفا والله أعلم. فصل الحكمة في جعل شهادة خزيمة بشهادتين وأما قوله: "وجعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادتين دون غيره ممن هو أفضل منه" فلا ريب أن هذا من خصائصه ولو شهد عنده ﷺ أو عند غيره لكان بمنزلة شاهدين اثنين وهذا التخصيص إنما كان لمخصص اقتضاه وهو مبادرته دون من حضر من الصحابة إلى الشهادة لرسول ﷺ أنه قد بايع الأعرابي وكان فرض على كل من سمع هذه القصة أن يشهد أن رسول الله ﷺ قد بايع الأعرابي وذلك من لوازم الإيمان والشهادة بتصديقه ﷺ وهذا مستقر عند كل مسلم ولكن خزيمة تفطن لدخول هذه القضية المعينة تحت عموم الشهادة لصدقه في كل ما يخبر به فلا فرق بين ما يخبر به عن الله وبين ما يخبر به عن غيره في صدقه في هذا وهذا ولا يتم الإيمان إلا بتصديقه في هذا وهذا فلما تفطن خزيمة دون من حضر لذلك استحق أن تجعل شهادته بشهادتين. فصل الحكمة في تخصيص أبي بردة بإجزاء تضحيته بعناق وأما تخصيصه أبا بردة بن نيار بإجزاء التضحية بالعناق دون من بعده فلموجب أيضا وهو أنه يذبح قبل الصلاة متأولا غير عالم بعدم الإجزاء فلما أخبره النبي ﷺ أن تلك ليست بأضحية وإنما هي شاه لحم أراد إعادة الأضحية فلم يكن عنده إلا عناق هي أحب إليه من شايي لحم فرخص له في التضحية بها لكونه معذورا وقد تقدم منه ذبح تأول فيه وكان معذورا بتأويله وذلك كله قبل استقرار الحكم فلما استقر الحكم لم يكن بعد ذلك يجزيء إلا ما وافق الشرع المستقر وبالله التوفيق. فصل الحكمة في التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار وأما التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار في الجهر والإسرار ففي غاية المناسبة والحكمة فإن الليل مظنة هدو الأصوات وسكون الحركات وفراغ القلوب واجتماع الهمم المشتتة بالنهار فالنهار محل السبح الطويل بالقلب والبدن والليل محل مواطأة القلب للسان ومواطأة اللسان للأذن ولهذا كانت السنة تطويل قراءة الفجر على سائر الصلوات وكان رسول الله ﷺ يقرأ فيها بالستين إلى المائة وكان الصديق يقرأ فيها بالبقرة وعمر بالنحل وهود وبني إسرائيل ويونس ونحوها من السور لأن القلب أفرغ ما يكون من الشواغل حين انتباهه من النوم فإذا كان أول ما يقرع سمعه كلام الله الذي فيه الخير كله بحذافيره صادفه خاليا من الشواغل فتمكن فيه من غير مزاحم وأما النهار فلما كان بضد ذلك كانت قراءة صلاته سرية إلا إذا عارض في ذلك معارض أرجح منه كالمجامع العظام في العيدين والجمعة والاستسقاء والكسوف فإن الجهر حينئذ أحسن وأبلغ في التحصيل المقصود وأنفع للجمع وفيه من قراءة كلام الله عليهم وتبليغه في المجامع العظام ما هو من أعظم مقاصد الرسالة والله أعلم. فصل الحكمة في تقديم العصبة البعداء على ذوي الأرحام الأقربين وأما قوله: "وورث ابن ابن العم وإن بعدت درجته دون الخالة التي هي شقيقة للأم" فنعم وهذا من كمال الشريعة وجلالتها فإن ابن العم من عصبته القائمين بنصرته وموالاته والذب عنه وحمل العقل عنه فبنوا أبيه هم أولياؤه وعصبته والمحامون دونه وأما قرابة الأم فإنهم بمنزلة الأجانب وإنما ينتسبون إلى آبائهم فهم بمنزلة أقارب البنات كما قال القائل: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ** بنوهن أبناء الرجال الأباعد. فمن كمال حكمة الشارع أن جعل الميراث لأقارب الأب وقدمهم على أقارب الأم وإنما ورث معهم أقارب الأم من ركض الميت معهم في بطن الأم وهم أخواته أو من قربت قرابته جدا وهن جداته لقوة إيلادهن وقرب أولادهن منه فإذا عدمت قرابة الأب انتقل الميراث إلى قرابة الأم وكانوا أولى من الأجانب فهذا الذي جاءت به الشريعة أكمل شيء وأعدله وأحسنه. فصل الحكمة في الفرق بين الشفعة وأخذ مال الغير وأما قوله: "وحرم أخذ مال الغير إلا بطيب نفس منه ثم سلطه على أخذ عقاره وأرضه بالشفعة ثم شرع الشفعة فيما يمكن التخلص من ضرر الشركة فيه بالقسمة دون مالا يمكن قسمته كالجوهرة والحيوان" فهذا السؤال قد أورده على وجهين: أحدهما: على أصل الشفعة وأن الاستحقاق بها مناف لتحريم أخذ مال الغير إلا بطيب نفس منه والثاني: أنه خص بعض المبيع بالشفعة دون بعض مع قيام السبب الموجب للشفعة وهو ضرر الشركة. ونحن بحمد الله وعونه نجيب عن الأمرين فنقول: الحكمة في تشريع الشفعة من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد ورودها بالشفعة ولا يليق بها غير ذلك فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقاه على حاله وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن الخلطاء يكثر فيهم بغى بعضهم على بعض شرع الله سبحانه رفع هذا الضرر بالقسمة تارة وانفراد كل من الشريكين بنصيبه وبالشفعة تارة وانفراد أحد الشريكين بالجملة إذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبي وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان فكان الشريك أحق بدفع العوض من الأجنبي ويزول عنه ضرر الشركة ولا يتضرر البائع لأنه يصل إلى حقه من الثمن وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد ومن هنا يعلم أن التحيل لإسقاط الشفعة مناقض لهذا المعنى الذي قصده الشارع ومضاد له". ثم اختلفت أفهام العلماء في الضرر الذي قصد الشارع رفعه بالشفعة. فقالت طائفة: هو الضرر اللاحق بالقسمة لأن كل واحد من الشريكين إذا طالب شريكه بالقسمة كان عليه في ذلك من المؤنة والكلفة والغرامة والضيق في مرافق المنزل ماهو معلوم فإنه قبل القسمة ربما ارتفق بالدار والأرض كلها وبأي موضع شاء منها فإذا وقعت الحدود ضاقت به الدار وقصر على موضع منها وفي ذلك من الضرر عليه مالا خفاء به فمكنه الشارع بحكمته ورحمته من رفع هذه المضرة عن نفسه بأن يكون أحق بالمبيع من الأجنبي الذي يريد الدخول عليه وحرم الشارع على الشريك أن يبيع نصيبه حتى يؤذن شريكه فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به وإن أذن في البيع وقال لا غرض لي فيه لم يكن له الطلب بعد البيع هذا مقتضى حكم رسول الله ﷺ ولا معارض له بوجه وهو الصواب المقطوع به وهذه طريقة من يرى أنه لا شفعة إلا فيما يقبل القسمة. وقالت طائفة أخرى: إنما شرعت الشفعة لرفع الضرر اللاحق بالشركة فإذا كانا شركين في عين من الأعيان بإرث أو هبة أو وصية أو ابتياع أو نحو ذلك لم يكن رفع ضرر أحدهما بأولى من رفع ضرر الآخر فإذا باع نصبيه كان شريكه أحق به من الأجنبي إذ في ذلك إزالة ضرره مع عدم تضرر صاحبه فإنه يصل إلى حقه من الثمن ويصل هذا إلى استبداده بالمبيع فيزول الضرر عنهما جميعا وهذا مذهب من يرى الشفعة في الحيوان والثياب والشجر والجواهر والدور الصغار التي لا يمكن قسمتها وهذا قول أهل مكة وأهل الظاهر ونص عليه الإمام أحمد في رواية حنبل قال قيل لأحمد فالحيوان دابة تكون بين رجلين أو حمار أو ما كان من نحو ذلك قال هذا كله أو كد لأن خليطه الشريك أحق به بالثمن وهذا لا يمكن قسمته فإذا عرضه على شريكه وإلا باعه بعد ذلك وقال إسماعيل بن سعيد: "سألت أحمد عن الرجل يعرض على شريكه عقارا بينه وبينه أو نخلا فقال: الشريك لا أريد فباعه ثم طلب الشفعة بعد قال: له الشفعة في ذلك" واحتج لهذا القول بحديث جابر الصحيح: "قضى رسول الله ﷺ بالشفعة في كل ما لم يقسم" وهذا يتناول المنقول والعقار وفي كتاب الخراج عن يحي بن آدم عن زهير عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: "من كان له شرك في نخل أو ربعه فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن رضي أخذ وإن كره ترك" وهذا الإسناد على شرط مسلم وفي الترمذي من حديث عبد العزيز بن رفع عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: "الشريك شفيع والشفعة في كل شيء" تفرد به أبو حمزة السكري عن عبد العزيز بهذا الإسناد ورواه أبو الأحوص سلام بن سليم عن عبد العزيز ولم يذكر ابن عباس ولفظه: "قضى رسول الله ﷺ بالشفعة في كل شيء الأرض والدار والجارية والخادم" وكذلك رواه أبو بكر بن عياش وإسرائيل بن يونس عن عبد العزيز مرسلا فهذا علة هذا الحديث على أن أبا حمزة السكري ثقة احتج به صاحبا الصحيح وإن قلنا: "الزيادة من الثقة مقبولة" فرفع الحديث إذا صحيح وإلا فغايته أن يكون مرسلا عضدته الآثار المرفوعة والقياس الجلي وقد روى أبو جعفر الطحاوي عن محمد بن خزيمة عن يوسف بن عدي عن عبيد الله بن إدريس عن ابن جريح عن عطاء عن جابر قال: "قضى رسول الله ﷺ بالشفعة في كل شيء" ورواة هذا الحديث ثقات وهو غريب بهذا الإسناد قالوا: ولأن الضرر بالشركة فيما لا ينقسم أبلغ من الضرر بالعقار الذي يقبل القسمة فإذا كان الشارع مريدا لرفع الضرر الأدنى فالأعلى أولى بالرفع قالوا: ولو كانت الأحاديث مختصة بالعقار والعروض المنقسمة فإثبات الشفعة فيها تنبيه على ثبوتها فيما لا يقبل القسمة. وقال الآخرون: الأصل عدم انتزاع الإنسان مال غيره إلا برضاه ولكن تركنا ذلك في الأرض والعقار لثبوت هذا النص فيه وأما الآثار المتضمنة لثبوتها في المنقول فضعيفة معلولة وقوله في الحديث الصحيح: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" يدل على اختصاصها بذلك وقول جابر عن النبي ﷺ: "الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط" يقتضي انحصارها في ذلك قالوا: وقد قال عثمان بن عفان: "لا شفعة في بئر ولا فحل والأرف يقطع كل شفعة". والفحل: النخل والأرف بوزن الغرف المعالم والحدود وقال أحمد: "ما أصحه من حديث" قالوا: والفرق بين المنقول وغيره أن الضرر في غير المنقول يتأبد بتأبده وفي المنقول لا يتأبد فهو ضرر عارض فهو كالمكيل والموزون قالوا: والضرر في العقار يكثر جدا فإنه يحتاج الشريك إلى إحداث المرافق وتغيير الأبنية وتضييق الواسع وتخريب العامر وسوء الجوار وغير ذلك مما يختص بالعقار فأين ضرر الشركة في العبد والجوهرة والسيف من هذا الضرر؟ قال المثبتون للشفعة: إنما كان الأصل عدم انتزاع ملك الإنسان منه إلا برضاه لما فيه من الظلم له والإضرار به فأما ما لا يتضمن ظلما ولا إضرارا بل مصلحة له بإعطائه الثمن فلشريكه دفع ضرر الشركة عنه فليس الأصل عدمه بل هو مقتضى أصول الشريعة فإن أصول الشريعة توجب المعاوضة للحاجة والمصلحة الراجحة وإن لم يرض صاحب المال وترك معاوضته ههنا لشريكه مع كونه قاصدا للبيع ظلم منه وإضرار بشريكه فلا يمكنه الشارع منه بل من تأمل مصادر الشريعة ومواردها تبين له أن الشارع لا يمكن هذا الشريك من نقل نصيبه إلى غير شريكه وأن يلحق به من الضرر مثل ما كان عليه أو أزيد منه مع أنه لا مصلحة له في ذلك. وأما الآثار فقد جاءت بهذا وهذا ولو قدر عدم صحتها بالشفعة في المنقول فهي لم تنف ذلك بل نبهت عليه كما ذكرنا وأما تأبد الضرر وعدمه ففرق فاسد فإن من المنقول ما يكون تأبده كتأبد العقار كالجوهرة والسيف والكتاب والبئر وإن لم يتأبد ضرره مدى الدهر فقد يطول ضرره كالعبد والجارية ولو بقي ضرره مدة فإن الشارع مريد لدفع الضرر بكل طريق ولو قصرت مدته وأما تفريقكم بكثرة الضرر في العقار وقلته في المنقول فلعمر الله إن الضرر في العقار يكثر من تلك الجهات ولكن لا يمكن رفعه بالقسمة وأما الضرر في المنقول فإنه لا يمكن رفعه بقسمته على أن هذا منتقض بالأرض الواسعة التي ليس فيها شيء مما ذكرتم. فصل رأي من يقصر الشفعة على الجوار وقالت طائفة ثالثة: بل الضرر الذي قصد الشارع رفعه هو ضرر سوء الجوار والشركة في العقار والأرض فإن الجار قد يسيء الجوار غالبا أو كثيرا فيعلى الجدار ويتبع العثار ويمنع الضوء ويشرف على العورة ويطلع على العثرة ويؤذي جاره بأنواع الأذى ولا يأمن جاره بوائقه وهذا مما يشهد به الواقع وأيضا فالجار له من الحرمة والحق والذمام ما جعله الله له في كتابه ووصى به جبريل رسول الله ﷺ غاية الوصية وعلق النبي ﷺ الإيمان بالله واليوم الآخر بإكرامه وقال الإمام أحمد: "الجيران ثلاثة جار له حق وهو الذمي الأجنبي له حق الجوار وجار له حقان وهو المسلم الأجنبي له حق الجوار وحق الإسلام وجار له ثلاثة حقوق وهو المسلم القريب له حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة" ومثل هذا ولو لم يرد في الشريك فأدنى المراتب مساواته به فيما يندفع به الضرر لا سيما والحكم بالشفعة ثبت في الشركة لإفضائها إلى ضرر المجاورة فإنهما إذا اقتسما تجاورا. قالوا: ولهذا السبب اختصت بالعقار دون المنقولات إذ المنقولات لا تتأتى فيها المجاورة فإذا ثبتت في الشركة في العقار لإفضائها إلى المجاورة فحقيقة المجاورة أولى بالثبوت فيها. قالوا: وهذا معقول النصوص لو لم يرد الثبوت فيها فكيف قد صرحت بالثبوت فيها أعظم من تصريحها بالثبوت للشريك ففي صحيح البخاري من حديث عمر بن الشريد قال: "جاء المسور بن مخرمة فوضع يده على منكبي فانطلقت معه إلى سعد بن أبي وقاص فقال أبو رافع: ألا تأمر هذا أن يشتري مني بيتي الذي في داره فقال: لا أزيده على أربعمائة منجمة فقال: قد أعطيت خمسمائة نقدا فمنعته ولولا أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "الجار أحق بصقبه" ما بعتك" وروى عمرو بن الشريد أيضا عن أبيه الشريد بن سويد الثقفي قال: قلت: يا رسول الله أرض ليس لأحد فيها قسم ولا شريك إلا الجوار قال: "الجار أحق بسقبه" أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وإسناده صحيح وقال البخاري: "هو أصح من رواية عمرو عن أبي رافع" يعني المتقدم وقال أيضا: "كلا الحديثين عندي صحيح" وعن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ: "جار الدار أولى بالدار" رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح انتهى وقد صح سماع الحسن من سمرة وغاية هذا أنه كتاب ولم تزل الأمة تعمل بالكتب قديما وحديثا وأجمع الصحابة على العمل بالكتب وكذلك الخلفاء بعدهم وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب فإن لم يعمل بما فيها تعطلت الشريعة وقد كان رسول الله ﷺ يكتب كتبه إلى الآفاق والنواحي فيعمل بها من تصل إليه ولا يقول هذا كتاب وكذلك خلفاؤه بعده والناس إلى اليوم فرد السنن بهذا الخيال البارد الفاسد من أبطل الباطل والحفظ يخون والكتاب لا يخون وروى قتادة عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: "جار الدار أحق بالدار" رواه ابن ماجه من طريق عيسى بن يونس عن سعيد عن قتادة وكلهم أئمة ثقات وروى أهل السنن الأربعة من حديث ميزان الكوفة عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: "الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا" وهذا حديث صحيح فلا يرد. فإن قيل: قد قال الترمذي: تكلم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث وقال وكيع عنه: "لو أن عبد الملك روى حديثا آخر مثل حديث الشفعة لطرحت حديثه" وكذلك قال يحيى القطان: وقال أحمد: هو حديث منكر وقال يحيى ابن معين: هو حديث لم يحدث به إلا عبد الملك فأنكر الناس عليه ولكنه ثقة صدوق. فالجواب أن عبد الملك هذا حافظ ثقة صدوق ولم يتعرض له أحد بجرح البتة وأثنى عليه أئمة زمانه ومن بعدهم وإنما أنكر عليه من أنكر هذا الحديث ظنا منهم أنه مخالف لرواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي ﷺ: "الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" ولا يحتمل مخالفة العرزمي لمثل الزهري وقد صح هذا عن جابر من رواية الزهري عن أبي سلمة عنه ومن رواية ابن جريج عن أبي الزبير عنه وعن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه فخالفهم العرزمي ولهذا شهد الأئمة بإنكار حديثه ولم يقدموه على حديث هؤلاء قال مهنا بن يحيى الشامي سألت أحمد بن حنبل عن حديث عبد الملك هذا فقال قد أنكره شعبة فقلت لأي شيء أنكره فقال حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي ﷺ خلاف ما قال عبد الملك عن عطاء عن جابر عن النبي ﷺ وسنبين إن شاء الله أن حديث عبد الملك عن جابر لا يناقض حديث أبي سلمة عنه بل مفهومه يوافق منطوقه وسائر أحاديث جابر يصدق بعضها بعضا.وروى جرير بن عبد الحميد عن منصور عن الحكم عن علي وعبد الله قالا قضى رسول الله ﷺ بالشفعة للجوار وهذا وإن كان منقطعا فإن الثوري رواه عن منصور عن الحكم عمن سمع عليا وعبد الله فهو يصلح للاستشهاد وإن لم يكن عليه وحده الاعتماد وفي سنن ابن ماجه من حديث شريك القاضي عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: "من كان له أرض وأراد بيعها فليعرضها على جاره" ورجال هذا الإسناد محتج بهم في الصحيح وفي سنن النسائي من حديث أبي الزبير عن جابر قال: "قضى رسول الله ﷺ بالشفعة للجوار" رواه عن الفضلي بن موسى الشيباني عن الحسين بن واقد عن أبي الزبير وهو على شرط مسلم وقال شعيب بن أيوب الصريفيني ثنا أبو أمامة عن سعيد بن أبي عروبة ثنا قتادة عن سليمان اليشكري عن جابر ابن عبد الله أن النبي ﷺ قال: "من كان له جار في حائط أو شريك فلا يبعه حتى يعرضه عليه" وهؤلاء ثقات كلهم وعلة هذا الحديث ما ذكره الترمذي قال سمعت محمدا يعني البخاري يقول سليمان اليشكري يقال إنه مات في حياة جابر بن عبد الله قال: ولم يسمع منه قتادة ولا أبو بشر قال: ويقال إنما يحدث قتادة عن صحيفة سليمان اليشكري وكان له كتاب عن جابر بن عبد الله قلت: وغاية هذا أن يكون كتابا والأخذ عن الكتب حجة وقال محمد بن عمران بن أبي ليلى: عن أبيه حدثني ابن أبي ليلى يعني محمد بن عبد الرحمن عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: "الجار أحق بسقبه ما كان" وقال ابن أبي شيبة: ثنا وكيع عن هشام بن المغيرة الثقفي قال سمعت الشعبي يقول قال رسول الله ﷺ: "الشفيع أولى من الجار والجار أولى من الجنب" وإسناده إلى الشعبي صحيح قالوا: ولأن حق الأصيل وهو الجار أسبق من حق الدخيل وكل معنى اقتضى ثبوت الشفعة للشريك فمثله في حق الجار فإن الناس يتفاوتون في الجوار تفاوتا فاحشا ويتأذى بعضهم ببعض ويقع بينهم العداوة ما هو معهود والضرر بذلك دائم متأبد ولا يندفع ذلك إلا برضاء الجار إن شاء أقر الدخيل على جواره له وإن شاء انتزع الملك بثمنه واستراح من مؤنة المجاورة ومفسدتها. وإن كان الجار يخاف التأذي بالمجاورة على وجه اللزوم كان كالشريك يخاف التأذي بشريكه على وجه اللزوم قالوا: ولا يرد علينا المستأجر مع المالك فإن منفعة الإجارة لا تتأبد عادة وأيضا فالملك بالإجارة ملك منفعة ولا لزوم بين ملك الجار وبين منفعة دار جاره بخلاف مسألتنا فإن الضرر بسبب اتصال الملك بالملك كما أنه في الشركة حاصل بسبب اتصال الملك بالملك فوجب بحكم عناية الشارع ورعايته لمصالح العباد إزالة الضررين جميعا على وجه لا يضر البائع وقد أمكن ههنا فيبعد القول به فهذا تقرير قول هؤلاء نصا وقياسا. رد المبطلين لشفعة الجوار قال المبطلون لشفعة الجوار: لا تضرب سنة رسول الله ﷺ بعضها ببعض فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال: "إنما جعل رسول الله ﷺ الشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" وفي صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر قال: "قضى رسول الله ﷺ بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق" قال الشافعي: ثنا سعيد بن سالم ثنا ابن جريح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي ﷺ أنه قال: "الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها" وفي الوطأ من حديث ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: "قضى رسول الله ﷺ بالشفعة فيما لم يقسم فإذا صرفت الطرق ووقعت الحدود فلا شفعة" وقال سعيد بن منصور: ثنا إسماعيل بن زكريا عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عوف بن عبد الله عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: "إذا صرفت الحدود وعرف الناس حدودهم فلا شفعة بينهم" وقال أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عثمان بن عفان: "إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها" وهذا قول ابن العباس. قالوا: لا ريب أن الضرر اللاحق بالشركة هو ما توجبه من التزاحم في المرافق والحقوق والإحداث والتغيير والإفضاء إلى التقاسم الموجب لنقض قيمة ملكه عليه. قالوا: وقد فرق الله بين الشريك والجار شرعا وقدرا ففي الشركة حقوق لا توجد في الجوار فإن الملك في الشركة مختلط وفي الجوار متميز ولكل من الشريكين على صاحبه مطالبة شرعية ومنع شرعي أما المطالبة ففي القسمة وأما المنع فمن التصرف فلما كانت الشركة محلا للطلب ومحلا للمنع كانت محلا للاستحقاق بخلاف الجوار فلم يجز إلحاق الجار بالشريك وبينهما هذا الاختلاف. والمعنى الذي وجبت به الشفعة رفع مؤنة المقاسمة وهي مؤنة كثيرة والشريك لما باع حصته من غير شريكه فهذا الدخيل قد عرضه لمؤنة عظيمة فمكنه الشارع من التخلص منها بانتزاع الشقص على وجه لا يضر بالبائع ولا بالمشتري ولم يمكنه الشارع من الانتزاع قبل البيع لأن شريكه مثله ومساو له في الدرجة فلا يستحق عليه شيئا إلا ولصاحبه مثل ذلك الحق عليه فإذا باع صار المشتري دخيلا والشريك أصيل فرجح جنابه وثبت له الاستحقاق. قالوا: وكما أن الشارع يقصد رفع الضرر عن الجار فهو أيضا يقصد رفع الضرر عن المشتري ولا يزيل ضرر الجار بإدخال الضرر على المشتري فإنه محتاج إلى دار يسكنها هو وعياله فإذا سلط الجار على إخراجه وانتزاع داره منه أضر به إضرارا بينا وأي دار اشتراها وله جار فحاله معه هكذا وتطلبه دارا لا جار لها كالمتعذر عليه أو كالمتعسر فكان من تمام حكمة الشارع أن أسقط الشفعة بوقوع الحدود وتصريف الطرق لئلا يضر الناس بعضهم بعضا ويتعذر على من أراد شراء دار لها جار أن يتم له مقصوده وهذا بخلاف الشريك وإن المشتري لا يمكنه الانتفاع بالحصة التي اشتراها والشريك يمكنه ذلك بانضمامها إلى ملكه فليس على المشتري ضرر في انتزاعها منه وإعطائه ما اشتراها به. قالوا: وحينئذ فتعين حمل أحاديث شفعة الجوار على مثل ما دلت عليه أحاديث شفعة الشركة فيكون لفظ الجار فيها مرادا به الشريك ووجه هذا الإطلاق المعنى والاستعمال أما المعنى فإن كل جزء من ملك الشريك مجاور لملك صاحبه فهما جاران حقيقة وأما الاستعمال فإنهما خليطان متجاوران ولذا سميت الزوجة جارة كما قال الأعشى: أجارتنا بيني فإنك طالقة. فتسمية الشريك جارا أولى وأحرى وقال حمل بن مالك: كنت بين جارتين لي هذا إن لم يحتمل إلا إثبات الشفعة فأما إن كان المراد بالحق فيها حق الجار على جاره فلا حجة فيها على إثبات الشفعة وأيضا فإنه إنما أثبت له على البائع حق العرض عليه إذا أراد البيع فأين ثبوت حق الانتزاع من المشتري ولا يلزم من ثبوت هذا الحق ثبوت حق الانتزاع فهذا منتهى إقدام الطائفتين في هذه المسألة. خير الأقوال في شفعة الجوار والصواب القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث أنه إن كان بين الجارين حق مشترك من حقوق الأملاك من طريق أو ماء أو نحو ذلك ثبتت الشفعة وإن لم يكن بينهما حق مشترك البتة بل كان كل واحد منهما متميز ملكه وحقوق ملكه فلا شفعة وهذا الذي نص عليه أحمد في رواية أبي طالب فإنه سأله عن الشفعة لمن هي فقال إذا كان طريقهما واحدا فإذا صرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة وهو قول عمر بن عبد العزيز وقول القاضيين: سوار بن عبيد الله وعبيد الله بن الحسن العنبري وقال أحمد في رواية ابن مشيش: أهل البصرة يقولون: إذا كان الطريق واحدا كان بينهم الشفعة مثل دارنا هذه على معنى حديث جابر الذي يحدثه عبد الملك انتهى. فأهل الكوفة يثبتون شفعة الجوار مع تميز الطرق والحقوق وأهل المدينة يسقطونها مع الاشتراك في الطريق والحقوق وأهل البصرة يوافقون أهل المدينة إذا صرفت الطرق ولم يكن هناك اشتراك في حق من حقوق الأملاك ويوافقون أهل الكوفة إذا اشترك الجاران في حق من حقوق الأملاك كالطريق وغيرها وهذا هو الصواب وهو أعدل الأقوال وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. وحديث جابر الذي أنكره من أنكره علي عبد الملك صريح فيه فإنه قال: "الجار أحق بسقبه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا" فأثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق ونفاها به مع اختلاف الطريق بقوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" فمفهوم حديث عبد الملك هو بعينه منطوق حديث أبي سلمة فأحدهما يصدق الآخر ويوافقه لا يعارضه ويناقضه وجابر روى اللفظين فالذي دل عليه حديث أبي سلمة عنه من إسقاط الشفعة عند تصريف الطرق وتمييز الحدود هو بعينه الذي دل عليه حديث عبد الملك عن عطاء عنه بمفهومه والذي دل عليه حديث عبد الملك بمنطوقه هو الذي دلت عليه سائر أحاديث جابر بمفهومها فتوافقت السنن بحمد الله وائتلفت وزال عنها ما يظن بها من التعارض وحديث أبي رافع الذي رواه البخاري يدل على مثل ما دل عليه حديث عبد الملك فإنه دل على الأخذ بالجوار حالة الشركة في الطريق فإن البيتين كانا في نفس دار سعد والطريق واحد بلا ريب. والقياس الصحيح يقتضي هذا القول فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشتري فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك موجود في الخلطة في حقوقه فهذا المذهب أوسط المذاهب وأجمعها للأدلة وأقربها إلى العدل وعليه يحمل الاختلاف عن عمر رضي الله عنه فحيث قال لا شفعة ففيما إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق وحيث أثبتها ففيما إذا لم تصرف الطرق فإنه قد روي عنه هذا وهذا وكذلك ما روي عن علي كرم الله وجهه فإنه قال إذا حدت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ومن تأمل أحاديث شفعة الجوار رآها صريحة في ذلك وتبين له بطلان حملها على الشريك وعلى حق الجوار غير الشفعة وبالله التوفيق. فإن قيل: بقي عليكم أن في حديث جابر وأبي هريرة: "فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" فأسقط الشفعة بمجرد وقوع الحدود وعند أرباب هذا القول إذا حصل الاشتراك في الطريق فالشفعة ثابتة وإن وقعت الحدود وهذا خلاف الحديث. فالجواب من وجهين أحدهما: أن من الرواة من اختصر أحد اللفظين ومنهم من جود الحديث فذكرهما ولا يكون إسقاط من أسقط أحد اللفظين مبطلا لحكم اللفظ الآخر الثاني: أن تصريف الطرق داخل في وقوع الحدود فإن الطريق إذا كانت مشتركة لم تكن الحدود كلها واقعة بل بعضها حاصل وبعضها منتف فوقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق والله أعلم. فصل السر في الفرق بين بعض الأيام وبعضها الآخر وأما قوله: "وحرم صوم أول يوم من شوال وفرض صوم آخر يوم من رمضان مع تساويهما" فالمقدمة الأولى صحيحة والثانية كاذبة فليس اليومان متساويين وإن اشتركا في طلوع الشمس وغروبها فهذا يوم من شهر الصيام الذي فرضه الله على عباده وهذا يوم عيدهم وسرورهم الذي جعله الله تعالى شكران صومهم وإتمامه فهم فيه أضيافه سبحانه والجواد الكريم يحب من ضيفه أن يقبل قراه ويكره أن يمتنع من قبول ضيافته بصوم أو غيره ويكره للضيف أن يصوم إلا بإذن صاحب المنزل فمن أعظم محاسن الشريعة فرض صوم آخر يوم من رمضان فإنه إتمام لما أمر الله به وخاتمة العمل وتحريم صوم أول يوم من شوال فإنه يوم يكون فيه المسلمون أضياف ربهم تبارك وتعالى وهم في شكران نعمته عليهم فأي شيء أبلغ وأحسن من هذا الإيجاب والتحريم؟ فصل السر في تحريم بعض القريبات وتحليل البعض الآخر وأما قوله: "وحرم عليه نكاح بنت أخيه وأخته وأباح له نكاح بنت أخي أبيه وبنت أخت أمه وهما سواء" فالمقدمة الأولى صادقة والثانية كاذبة فليستا سواء في نفس الأمر ولا في العرف ولا في العقول ولا في الشريعة وقد فرق الله سبحانه بين القريب والبعيد شرعا وقدرا وفطرة ولو تساوت القرابة لم يكن فرق بين البنت وبنت الخالة وبنت العمة وهذا من أفسد الأمور والقرابة البعيدة بمنزلة الأجانب فليس من الحكمة والمصلحة أن تعطى حكم القرابة القريبة وهذا مما فطر الله عليه العقلاء وما خالف شرعه في ذلك فهو إما مجوسية تتضمن التسوية بين البنت والأم وبنات الأعمام والخالات في نكاح الجميع وإما حرج عظيم على العباد في تحريم نكاح بنات أعمامهم وعماتهم وأخوالهم وخالاتهم فإن الناس ولاسيما العرب أكثرهم بنو عم بعضهم لبعض إما بنوة عم دانية أو قاصية فلو منعوا من ذلك لكان عليهم فيه حرج عظيم وضيق فكان ما جاءت به الشريعة أحسن الأمور وألصقها بالعقول السليمة والفطر المستقيمة والحمد لله رب العالمين. فصل السر في الفرق بين تحميل العاقلة دية الخطأ في النفوس دون الأموال وأما قوله: "وحمل العاقلة جناية الخطأ على النفوس دون الأموال" قد تقدم أن هذا من محاسن الشريعة وذكرنا من الفرق بين الأموال والنفوس ماأغنى عن إعادته. فصل السر في الفرق بين الحائض والمستحاضة وأما قوله: "وحرم وطء الحائض لأجل الأذى وأباح وطء المستحاضة مع وجود الأذى وهما متساويان" فالمقدمة الأولى صادقة والثانية فيها إجمال فإن أريد أن أذى الاستحاضة مساو لأذى الحيض كذبت المقدمة وإن أريد أنه نوع آخر من الأذى لم يكن التفريق بينهما تفريقا بين المتساويين فبطل سؤاله على كلا التقديرين. ومن حكمة الشارع تفريقه بينهما فإن أذى الحيض أعظم وأدوم وأضر من أذى الاستحاضة ودم الاستحاضة عرق وهو في الفرج بمنزلة الرعاف في الأنف وخروجه مضر وانقطاعه دليل على الصحة ودم الحيض عكس ذلك ولا يستوي الدمان حقيقة ولاعرفا ولاحكما ولاسببا فمن كمال الشريعة تفريقها بين الدمين في الحكم كما افترقا في الحقيقة وبالله التوفيق. فصل السرفى الفرق بين اتحاد الجنس واختلافه في تحريم الربا وأما قوله: "وحرم بيع مد حنطة بمد وحفنة وجوز بيعه بقفيز شعير" فهذا من محاسن الشريعة التي لايهتدي إليها إلا أولو العقول الوافرة ونحن نشير إلى حكمة ذلك إشارة بحسب عقولنا الضعيفة وعباراتنا القاصرة وشرع الرب تعالى وحكمته فوق عقولنا وعباراتنا فنقول: الربا نوعان والحكمة في تحريم النوعين الربا نوعان: جلي وخفي فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلى فتحريم الأول قصدا وتحريم الثاني وسيلة. ربا النسيئة فأما الجلى فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة عنده آلافا مؤلفة وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج فإذا رأى أن المستحق يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس ويدافع من وقت إلى وقت فيشتد ضرره وتعظم مصيبته ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه فيأكل مال أخيه بالباطل ويحصل أخوه على غاية الضرر فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله ولم يجيء مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره ولهذا كان من أكبر الكبائر. وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شك فيه فقال: "هو أن يكون له دين فيقول له أتقضي أم تربي فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل وقد جعل الله سبحانه الربا ضد الصدقة فالمرابي ضد المتصدق" قال الله تعالى {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} وقال {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ثم ذكر الجنة التي اعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وهؤلاء ضد المرابين، فنهى سبحانه عن الربا الذي هو ظلم للناس وأمر بالصدقة التي هي إحسان لهم. وفي الصحيحين من حديث ابن عباس عن أسامة بن زيد أن النبي ﷺ قال: إنما الربا في النسيئة. ومثل هذا يراد به حصر الكمال وأن الربا الكامل إنما هو في النسيئة كما قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } إلى قوله { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وكقول ابن مسعود: إنما العالم الذي يخشى الله. فصل ربا الفضل والحكمة في تحريمه وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع كما صرح به حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرما" والرما هو الربا فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة وذلك أنهم إذا باعوا درهما بدرهمين ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعين إما في الجودة وإما في السكة وإما في الثقل والخفة وغير ذلك تدرجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر وهو عين ربا النسيئة وهذه ذريعة قريبة جدا فمن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذريعة ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدا ونسيئة فهذه حكمة معقولة مطابقة للعقول وهي تسد عليهم باب المفسدة. آراء العلماء في الأنواع التي يحرم فيها ربا الفضل فإذا تبين هذا فنقول: الشارع نص على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان وهي: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس وتنازعوا فيما عداها فطائفة قصرت التحريم عليها وأقدم من يروي هذا عنه قتادة وهو مذهب أهل الظاهر واختيار ابن عقيل في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس قال: لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة وإذا لم تظهر فيه علة امنتع القياس وطائفة حرمته في كل مكيل وموزون بجنسه وهذا مذهب عمار وأحمد في ظاهر مذهبه وأبي حنيفة وطائفة خصته بالطعام وإن لم يكن مكيلا ولا موزونا وهو قول الشافعي ورواية عن الإمام أحمد وطائفة خصته بالطعام إذا كان مكيلا أو موزونا وهو قول سعيد بن المسيب ورواية عن أحمد وقول للشافعي وطائفة خصته بالقوت وما يصلحه وهو قول مالك وهو أرجح هذه الأقوال كما ستراه وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة: "العلة فيهما كونهما موزونين" وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة وطائفة قالت: "العلة فيهما الثمنية" وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى وهذا هو الصحيح بل الصواب فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال فيجب أن يكون محدودا مضبوطا لا يرتفع ولا ينخفض إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات بل الجميع سلع وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ولا يقوم هو بغيره إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض فتفسد معاملات الناس ويقع الخلف ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم ولو جعلت ثمنا واحدا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به مددت الأشيام ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير مثل أن يعطي صحاحا ويأخذ مكسرة أو خفافا ويأخذ ثقالا أكثر منها لصارت متجرا أو جر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد التوصل بها إلى السلع فإذا صارت في أنفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات. فصل السر في تحريم ربا النساء في المطعوم وما يصلح المطعوم وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها لأنها أقوات العالم وما يصلحها فمن رعاية مصالح العباد أن منعوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل سواء اتحد الجنس أو اختلف ومنعوا من بيع بعضها ببعض حالا متفاضلا وإن اختلفت صفاتها وجوز لهم التفاضل فيها مع اختلاف أجناسها. وسر ذلك والله أعلم أنه لو جوز بيع بعضها ببعض نساء لم يفعل ذلك أحد إلا إذا ربح وحينئذ تسمح نفسه ببيعها حالة لطمعه في الربح فيعز الطعام على المحتاج ويشتد ضرره وعامة أهل الأرض ليس عندهم دراهم ولا دنانير لا سيما أهل العمود والبوادي وإنما يتناقلون الطعام بالطعام فكان من رحمة الشارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النساء فيها كما منعهم من ربا النساء في الأثمان إذ لو جوز لهم النساء فيها لدخلها إما أن تقضي وإما أن تربي فيصير الصاع الواحد لو أخذ قفزانا كثيرة ففطموا عن النساء ثم فطموا عن بيعها متفاضلا يدا بيد إذ تجرهم حلاوة الربح وظفر الكسب إلى التجارة فيها نساء وهو عين المفسدة وهذا بخلاف الجنسين والمتباينين فإن حقائقهما وصفاتهما ومقاصدها مختلفة ففي إلزامهم المساواة في بيعها إضرار بهم ولا يفعلونه وفي تجويز النساء بينها ذريعة إلى إما أن تقضي وإما أن تربي فكان من تمام رعاية مصالحهم أن قصرهم على بيعها يدا بيد كيف شاءوا فحصلت لهم مصلحة المبأدلة واندفعت عنهم مفسدة إما أن تقضي وإما أن تربي وهذا بخلاف ما إذا بيعت بالدراهم أو غيرها من الموزونات نساء فإن الحاجة داعية إلى ذلك فلو منعوا منه لأضر بهم ولامتنع السلم الذي هو من مصالحهم فيما هم محتاجون إليه أكثر من غيرهم والشريعة لا تأتي بهذا وليس بهم حاجة في بيع هذه الأصناف بعضها ببعض نساء وهو ذريعة قريبة إلى مفسدة الربا فأبيح لهم في جميع ذلك ما تدعو إليه حاجتهم وليس بذريعة إلى مفسدة راجحة ومنعوا مما لا تدعو الحاجة إليه ويتذرع به غالبا إلى مفسدة راجحة. يوضح ذلك أن من عنده صنف من هذه الأصناف وهو محتاج إلى الصنف الآخر فإنه يحتاج إلى بيعه بالدراهم ليشتري الصنف الآخر كما قال النبي ﷺ: "بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا" أو تبيعه بذلك الصنف نفسه بما يساوي وعلى كلا التقديرين يحتاج إلى بيعه حالا بخلاف ما إذا أمكن من النساء فإنه حينئذ يبيعه بفضل ويحتاج أن يشتري الصنف الآخر بفضل لأن صاحب ذلك الصنف يربى عليه كما أربي هو على غيره فينشأ من النساء تضرر بكل واحد منهما والنساء ههنا في صنفين وفي النوع الأول في صنف واحد وكلاهما منشأ الضرر والفساد. وإذا تأملت ما حرم فيه النساء رأيته إما صنفا واحدا أو صنفين مقصودهما واحد أو متقارب كالدراهم والدنانير والبر والشعير والتمر والزبيب فإذا تباعدت المقاصد لم يحرم النساء كالبر والثياب والحديد والزيت. يوضح ذلك أنه لو مكن من بيع مد حنطة بمدين كان ذلك تجارة حاضرة فتطلب النفوس التجارة المؤخرة للذة الكسب وحلاوته فمنعوا من ذلك حتى منعوا من التفرق قبل القبض إتماما لهذه الحكمة ورعاية لهذه المصلحة فإن المتعاقدين قد يتعاقدان على الحلول والعادة جارية بصبر أحدهما على الآخر وكما يفعل أرباب الحيل يطلقون العقد وقد تواطئوا على أمر آخر كما يطلقون عقد النكاح وقد اتفقوا على التحليل ويطلقون بيع السلعة إلى أجل وقد اتفقوا على أنه يعيدها إليه بدون ذلك الثمن فلو جوز لهم التفرق قبل القبض لأطلقوا البيع حالا وأخروا الطلب لأجل الربح فيقعوا في نفس المحذور. وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان بجنسها لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان ومنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين لأن التبر ليس فيه صنعة يقصد لأجلها فهو بمنزلة الدراهم التي يقصد الشارع ألا يفاضل بينها ولهذا قال: "تبرها وعينها سواء" فظهرت حكمة تحريم ربا النساء في الجنس والجنسين وربا الفضل في الجنس الواحد وأن تحريم هذا تحريم المقاصد وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع ولهذا لم يبح شيء من ربا النسيئة. فصل السر في إباحة العرايا ونحوها من ربا الفضل وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا فإن ما حرم سدا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغته محرمة كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه وبيع هذا هو الذي أنكره عبادة على معاوية فانه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان وهذا لا يجوز كآلات الملاهي وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء وما أبيح من حلية السلاح وغيرها فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها فإنه سفه وإضاعة للصنعة والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك فالشريعة لا تأتي به ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه فلم يبق إلا أن يقال لا يجوز بيعها بجنسها البتة بل يبيعها بجنس آخر وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تتقيه الشريعة فإن أكثر الناس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر والحيل باطلة في الشرع وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس والنصوص الواردة عن النبي ﷺ ليس فيها ما هو صريح في المنع وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة ولا ينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحلية ولا سيما فإن لفظ النصوص في الموضعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير كقوله: "الدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير" وفي الزكاة قوله: "في الرقة ربع العشر" والرقة: هي الورق وهي الدراهم المضروبة وتارة بلفظ الذهب والفضة فإن حمل المطلق على المقيد كان نهيا عن الربا في النقدين وإيجابا للزكاة فيهما ولا يقتضي ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداهما بل فيه تفصيل فتجب الزكاة ويجري الربا في بعض صوره لا في كلها وفي هذا توفية الأدلة حقها وليس فيه مخالفة بشيء لدليل منها. يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع لا من جنس الأثمان ولهذا لم تجب فيها الزكاة فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع وإن كانت من غير جنسها فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان وأعدت للتجارة فلا محذور في بيعها بجنسها ولا يدخلها إما أن تقضي وإما أن تربي إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل ولا ريب أن هذا قد يقع فيها لكن لو سد على الناس ذلك لسد عليهم باب الدين وتضرروا بذلك غاية الضرر. يوضحه أن الناس على عهد نبيهم ﷺ كانوا يتخذون الحلية وكان النساء يلبسنها وكن يتصدقن بها في الأعياد وغيرها والمعلوم بالضرورة أنه كان يعطيها للمحاويج ويعلم أنهم يبيعونها ومعلوم قطعا أنها لا تباع بوزنها فإنه سفه ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا تساوي دينارا ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها وهم كانوا أتقى لله وأفقه في دينه وأعلم بمقاصد رسوله من أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس. يوضحه أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلي إلا بغير جنسه أو بوزنه والمنقول عنهم إنما هو في الصرف. يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدا للذريعة كما تقدم بيانه وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة كما أبيحت العرايا من ربا الفضل وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرم وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال حرم لسد ذريعة التشبيه بالنساء الملعون فاعله وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها لأن الحاجة تدعو إلى ذلك وتحريم التفاضل إنما كان سدا للذريعة فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع ولاتتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل والحيل باطلة في الشرع وغاية ما في ذلك جعل الزيادة في مقابلة الصياغة المباحة المتقومة بالأثمان في الغصوب وغيرها وإذا كان أرباب الحيل يجوزون بيع عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوي فلسا ويقولون: الخمسة في مقابلة الخرقة فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة وكيف تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمة وعدلا ورحمة وجلالة بإباحة هذا وتحريم ذلك وهل هذا إلا عكس للعقول والفطر والمصلحة. والذي يقضي منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة حتى منعوا بيع رطل زيت برطل زيت وحرموا بيع الكسب بالسمسم وبيع النشا بالحنطة وبيع الخل بالزبيب ونحو ذلك وحرموا بيع مد حنطة ودرهم بمد ودرهم وجاءوا إلى ربا الفضل النسيئة ففتحوا للتحيل عليه كل باب فتارة بالعينة وتارة بالمحلل وتارة بالشرط المتقدم المتواطأ عليه ثم يطلقون العقد من غير اشتراط وقد علم الله والكرام الكاتبون والمتعاقدان ومن حضر أنه عقد ربا مقصوده وروحه بيع خمسة عشر مؤجلة بعشرة نقدا ليس إلا ودخول السلعة كخروجها حرف جاء لمعنى في غيره فهلا فعلوا ههنا كما فعلوا في مسألة مد عجوة ودرهم بمد ودرهم وقالوا قد يجعل وسيلة إلى ربا الفضل بأن يكون المد في أحد الجانبين يساوي بعض مد في الجانب الآخر فيقع التفاضل فيالله العجب كيف حرمت هذه الذريعة إلى ربا الفضل وأبيحت تلك الذرائع القريبة الموصلة إلى ربا النسيئة بحتا خالصا وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها ومقابلة الصياغة بحظها من الثمن إلى مفسدة الحيل الروية التي هي أساس كل مفسدة وأصل كل بلية وإذا حصحص الحق فليقل المتعصب الجاهل ما شاء وبالله التوفيق. فإن قيل: الصفات لا تقابل بالزيادة ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة الجيدة بأكثر منها من الرديئة وبيع التمر الجيد بأزيد منه من الرديء ولما أبطل الشارع ذلك علم أنه منع من مقابلة الصفات بالزيادة. قيل: الفرق بين الصنعة التي هي أثر فعل الآدمي وتقابل بالأثمان ويستحق عليها الأجرة وبين الصفة التي هي مخلوقة لله لا أثر للعبد فيها ولا هي من صنعته فالشارع بحكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة إذ ذلك يفضي إلى نقض ما شرعه من المنع من التفاضل فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهر والعاقل لا يبيع جنسا بجنسه إلا لما هو بينهما من التفاوت فإن كانا متساويين من كل وجه لم يفعل ذلك فلو جوز لهم مقابلة الصفات بالزيادة لم يحرم عليهم ربا الفضل وهذا بخلاف الصياغة التي جوز لهم المعاوضة عليها معه. يوضحه أن المعاوضة إذا جازت على هذه الصياغة مفردة جازت عليها مضمونة إلى غير أصلها وجوهرها ولا فرق بينهما في ذلك. يوضحه أن الشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة: بع هذا المصوغ بوزنه واخسر صياغتك ولا يقول له لا تعمل هذه الصياغة واتركها ولا يقول له: تحيل على بيع المصوغ بأكثر من وزنه بأنواع الحيل ولم يقل قط لا تبعه إلا بغير جنسه ولم يحرم على أحد أن يبيع شيئا من الأشياء بجنسه. فإن قيل: فهب أن هذا قد سلم لكم في المصوغ فكيف يسلم لكم في الدراهم والدنانير المضروبة إذا بيعت بالسبائك مفاضلا وتكون الزيادة في مقابلة صناعة الضرب؟ قيل: هذا سؤال قوي وارد وجوابه ان السكة لا تتقوم فيه الصناعة للمصلحة العامة المقصودة منها فإن السلطان يضربها لمصلحة الناس العامة وإن كان الضارب يضربها بأجرة فإن القصد بها أن تكون معيارا للناس لا يتجرون فيها كما تقدم والسكة فيها غير مقابلة بالزيادة في العرف ولو قوبلت بالزيادة فسدت المعاملة وانتقضت المصلحة التي ضربت لأجلها واتخذها الناس سلعة واحتاجت إلى التقويم بغيرها ولهذا قام الدرهم مقام الدرهم من كل وجه وإذا أخذ الرجل الدراهم رد نظيرها وليس المصوغ كذلك ألا ترى أن الرجل يأخذ مائة خفافا ويرد خمسين ثقالا بوزنها ولا يأبي ذلك الآخذ ولا القابض ولا يرى أحدهما أنه قد خسر شيئا وهذا بخلاف المصوغ والنبي ﷺ وخلفاؤه لم يضربوا درهما واحدا وأول من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار. فإن قيل: فيلزمكم على هذا أن تجوزوا بيع فروع الأجناس بأصولها متفاضلا فجوزوا بيع الحنطة بالخبز متفاضلا والزيت بالزيتون والسمسم بالشيرج. قيل: هذا سؤال وارد أيضا وجوابه أن التحريم إنما يثبت بنص أو إجماع أو تكون الصورة المحرمة بالقياس مساوية من كل وجه للمنصوص على تحريمها والثلاثة منتفية في فروع الأجناس مع أصولها وقد تقدم أن غير الأصناف الأربعة لا يقوم مقامها ولا يساويها في إلحاقها بها وأما الأصناف الأربعة ففرعها إن خرج عن كونه قوتا لم يكن من الربويات وإن كانت قوتا كان جنسا قائما بنفسه وحرم بيعه بجنسه الذي هو مثله متفاضلا كالدقيق بالدقيق والخبز بالخبز ولم يحرم بيعه بجنس آخر وإن كان جنسهما واحدا فلا يحرم السمسم بالشيرج ولا الهريسة بالخبز فإن هذه الصناعة لها قيمة فلا تضيع على صاحبها ولم يحرم بيعها بأصولها في كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا حرام إلا ما حرمه الله كما أنه لا عبادة إلا ما شرعها الله وتحريم الحلال كتحليل الحرام. الكلام في بيع اللحم بالحيوان فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم ببيع اللحم بالحيوان فإنكم إن منعتموه نقضتم قولكم وإن جوزتموه خالفتم النص وإذا كان النص قد منع من بيع اللحم بالحيوان فهو دليل على المنع من بيع الخبز بالبر والزيت بالزيتون وكل ربوي بأصله: قيل: الكلام في هذا الحديث في مقامين: أحدهما في صحته والثاني في معناه أما الأول فهو حديث لا يصح موصولا وإنما هو صحيح مرسلا فمن لم يحتج بالمرسل لم يرد عليه ومن رأى قبول المرسل مطلقا أو مراسيل سعيد بن المسيب فهو حجة عنده قال أبو عمر: "لا أعلم حديث النهي عن بيع اللحم بالحيوان متصلا عن النبي ﷺ من وجه ثابت" وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب كما ذكره مالك في موطئه وقد اختلف الفقهاء في القول بهذا الحديث والعمل به والمراد منه فكان مالك يقول: "معنى الحديث تحريم التفاضل في الجنس الواحد حيوانه بلحمه" وهو عنده من باب المزابنة والغرر والقمار لأنه لا يدري هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطى أو أقل أو أكثر وبيع اللحم باللحم لا يجوز متفاضلا فكان بيع الحيوان باللحم كبيع اللحم المغيب في جلده بلحم إذا كانا من جنس واحد قال وإذا اختلف الجنسان فلا خلاف عن مالك وأصحابه أنه جائز حينئذ بيع اللحم بالحيوان وأما أهل الكوفة كأبي حنيفة وأصحابه فلا يأخذون بهذا الحديث ويجوزون بيع اللحم بالحيوان مطلقا وأما أحمد فيمنع بيعه بحيوان من جنسه ولا يمنع بيعه بغير جنسه وإن منعه بعض أصحابه وأما الشافعي فيمنع بيعه بجنسه وبغير جنسه وروى الشافعي عن ابن عباس: "أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر الصديق فقسمت على عشرة أجزاء فقال رجل: أعطوني جزءا منها بشاة فقال أبو بكر: لا يصلح هذا" قال الشافعي: "ولست أعلم لأبي بكر في ذلك مخالفا من الصحابة" والصواب في هذا الحديث إن ثبت أن المراد به إذا كان الحيوان مقصودا للحم كشاة يقصد لحمها فتباع بلحم فيكون قد باع لحما بلحم أكثر منه من جنس واحد واللحم قوت موزون فيدخله ربا الفضل وأما إذا كان الحيوان غير مقصود به اللحم كما إذا كان غير مأكول أو مأكولا لا يقصد لحمه كالفرس تباع بلحم إبل فهذا لا يحرم بيعه به بقي إذا كان الحيوان مأكولا لا يقصد لحمه وهو من غير جنس اللحم فهذا يشبه المزابنة بين الجنسين كبيع صبرة تمر بصبرة زبيب وأكثر الفقهاء لا يمنعون من ذلك إذ غايته التفاضل بين الجنسين والتفاضل المتحقق جائز بينهما فكيف بالمظنون وأحمد في إحدى الروايتين عنه يمنع ذلك لا لأجل التفاضل ولكن لأجل المزابنة وشبه القمار وعلى هذا فيمتنع بيع اللحم بحيوان من غير جنسه والله أعلم. فصل الفرق بين مدة الإحداد على الزوج وغيره وأما قوله: "ومنع المرأة من الإحداد على أمها وأبيها فوق ثلاث وأوجبه على زوجها أربعة أشهر وعشرا وهو أجنبي" فيقال: هذا من تمام محاسن هذه الشريعة وحكمتها ورعايتها لمصالح العباد على أكمل الوجوه فإن الإحداد على الميت من تعظيم مصيبة الموت التي كان أهل الجاهلية يبالغون فيها أعظم مبالغة ويضيفون إلى ذلك شق الجيوب ولطم الخدود وحلق الشعور والدعاء بالويل والثبور وتمكث المرأة سنة في أضيق بيت وأوحشه لا تمس طيبا ولا تدهن ولا تغتسل إلى غير ذلك مما هو تسخط على الرب تعالى وأقداره فأبطل الله سبحانه برحمته ورأفته سنة الجاهلية وأبدلنا بها الصبر ومحمد والاسترجاع الذي هو أنفع للمصاب في عاجلته وآجلته ولما كانت مصيبة الموت لا بد أن تحدث للمصاب من الجزع والألم والحزن مما تتقاضاه الطباع سمح لها الحكيم الخبير في اليسير من ذلك وهو ثلاثة أيام تجدبها نوع راحة وتقضي بها وطرا من الحزن كما رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا وما زاد على الثلاث فمسدته راجحة فمنع منه بخلاف مفسدة الثلاث فإنها مرجوحة مغمورة بمصلحتها فإن فطام النفوس على مألوفاتها بالكلية من أشق الأمور عليها فأعطيت بعض الشيء ليسهل عليها ترك الباقي فإن النفس إذا أخذت بعض مرادها قنعت به فإن سئلت ترك الباقي كانت إجابتها إليه أقرب من إجابتها لو حرمت بالكلية. ومن تأمل أسرار الشريعة وتدبر حكمها رأى ذلك ظاهرا على صفحات أوامرها ونواهيها باديا لمن نظره نافذ فإذا حرم عليهم شيئا عوضهم عنه بما هو خير لهم وأنفع وأباح لهم منه ما تدعو حاجتهم إليه ليسهل عليهم تركه كما حرم عليهم بيع الرطب بالتمر وأباح لهم منه العرايا وحرم عليهم النظر إلى الأجنبية وأباح لهم منه نظر الخاطب والمعامل والطبيب وحرم عليهم أكل المال بالمغالبات الباطلة كالنرد والشطرنج وغيرهما وأباح لهم أكله بالمغالبات النافعة كالمسابقة والنضال وحرم عليهم لباس الحرير وأباح لهم منه اليسير الذي تدعو الحاجة إليه وحرم عليهم كسب المال بربا النسيئة وأباح لهم كسبه بالسلم وحرم عليهم في الصيام وطء نسائهم وعوضهم عن ذلك بأن أباحه لهم ليلا فسهل عليهم تركه بالنهار وحرم عليهم الزنا وعوضهم بأخذ ثانية وثالثة ورابعة ومن الإماء ما شاءوا فسهل عليهم تركه غاية التسهيل وحرم عليهم الاستقسام بالأزلام وعوضهم عنه بالاستخارة ودعائها ويا بعد ما بينهما وحرم عليهم نكاح أقاربهم وأباح لهم منه بنات العم والعمة والخال والخالة وحرم عليهم وطء الحائض وسمح لهم في مباشرتها وأن يصنعوا بها كل شيء إلا الوطء فسهل عليهم تركه غاية السهولة وحرم عليهم الكذب وأباح لهم المعاريض التي لا يحتاج من عرفها إلى الكذب معها البتة وأشار إلى هذا ﷺ بقوله: "إن في المعاريض مندوحة عن الكذب" وحرم عليهم الخيلاء بالقول والفعل وأباحها لهم في الحرب لما فيها من المصلحة الراجحة الموافقة لمقصود الجهاد وحرم عليهم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وعوضهم عن ذلك بسائر أنواع الوحوش والطير على اختلاف أجناسها وأنواعها وبالجملة فما حرم عليهم خبيثا ولا ضارا إلا أباح لهم طيبا بإزائه أنفع لهم منه ولا أمرهم بأمر إلا وأعانهم عليه فوسعتهم رحمته ووسعهم تكليفه. والمقصود أنه أباح للنساء لضعف عقولهن وقلة صبرهن الإحداد على موتاهن ثلاثة أيام وأما الإحداد على الزوج فإنه تابع للعدة وهو من مقتضياتها ومكملاتها فإن المرأة إنما تحتاج إلى التزين والتجمل والتعطر لتتحبب إلى زوجها وترد لها نفسه ويحسن ما بينهما من العشرة فإذا مات الزوج واعتدت منه وهي لم تصل إلى زوج آخر فاقتضى تمام حق الأول وتأكيد المنع من الثاني قبل بلوغ الكتاب أجله أن تمنع مما تصنعه النساء لأزواجهن مع ما في ذلك من سد الذريعة إلى طمعها في الرجال وطمعهم فيها بالزينة والخضاب والتطيب فإذا بلغ الكتاب أجله صارت محتاجة إلى ما يرغب في نكاحها فأبيح لها من ذلك ما يباح لذات الزوج فلا شيء أبلغ في الحسن من هذا المنع والإباحة ولو اقترحت عقول العالمين لم تقترح شيئا أحسن منه. فصل الحكمة في مساواة المرأة للرجل في بعض الأحكام دون بعض وأما قوله: "وسوى بين الرجل والمرأة في العبادات البدنية والحدود وجعلها على النصف منه في الدية والشهادة والميراث والعقيقة" فهذا أيضا من كمال شريعته وحكمتها ولطفها فإن مصلحة العبادات البدنية ومصلحة العقوبات الرجال والنساء مشتركون فيها وحاجة أحد الصنفين إليها كحاجة النصف الآخر فلا يليق التفريق بينهما نعم فرقت بينهما في أليق المواضع بالتفريق وهو الجمعة والجماعة فخص وجوبهما بالرجال دون النساء لأنهن لسن من أهل البروز ومخالطة الرجال وكذلك فرقت بينهما في عبادة الجهاد التي ليس الإناث من أهلها وسوت بينهما في وجوب الحج لاحتياج النوعين إلى مصلحته وفي وجوب الزكاة والصيام والطهارة وأما الشهادة فإنما جعلت المرأة فيها على النصف من الرجل لحكمة أشار إليها العزيز الحكيم في كتابه وهي أن المرأة ضعيفة العقل قليلة الضبط لما تحفظه وقد فضل الله الرجال على النساء في العقول والفهم والحفظ والتمييز فلا تقوم المرأة في ذلك مقام الرجل وفي منع قبول شهادتها بالكلية إضاعة لكثير من الحقوق وتعطيل لها فكان من أحسن الأمور وألصقها بالعقول أن ضم إليها في قبول الشهادة نظيرها لتذكرها إذا نسيت فتقوم شهادة المرأتين مقام شهادة الرجل ويقع من العلم أو الظن الغالب بشهادتهما ما يقع بشهادة الرجل الواحد وأما الدية فلما كانت المرأة أنقص من الرجل والرجل أنفع منها ويسد ما لا تسده المرأة من المناصب الدينية والولايات وحفظ الثغور والجهاد وعمارة الأرض وعمل الصنائع التي لا تتم مصالح العالم إلا بها والذب عن الدنيا والدين لم تكن قيمتهما مع ذلك متساوية وهي الدية فإن دية الحر جارية مجرى قيمة العبد وغيره من الأموال فاقتضت حكمة الشارع أن جعل قيمتها على النصف من قيمته لتفاوت ما بينهما. فإن قيل: لكنكم نقضتم هذا فجعلتم ديتهما متساوية سواء فيما دون الثلث. قيل: لا ريب أن السنة وردت بذلك كما رواه النسائي من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ﷺ: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها" وقال سعيد بن المسيب: إن ذلك من السنة وإن خالف فيه أبو حنيفة والشافعي والليث والثوري وجماعة وقالوا: هي على النصف في القليل والكثير ولكن السنة أولى والفرق فيما دون الثلث وما زاد عليه أن ما دونه قليل فجبرت مصيبة المرأة فيه بمساواتها للرجل ولهذا استوى الجنين الذكر والأنثى في الدية لقلة ديته وهي الغرة فنزل ما دون الثلث منزلة الجنين. وأما الميراث فحكمة التفضيل فيه ظاهرة فإن الذكر أحوج إلى المال من الأنثى لأن الرجال قوامون على النساء والذكر أنفع للميت في حياته من الأنثى وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله بعد أن فرض الفرائض وفاوت بين مقاديرها {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} وإذا كان الذكر أنفع من الأنثى وأحوج كان أحق بالتفضيل. فإن قيل: فهذا ينتقض بولد الأم. قيل: بل طرد هذه التسوية بين ولد الأم ذكرهم وأنثاهم فإنهم إنما يرثون بالرحم المجرد فالقرابة التي يرثون بها قرابة أنثى فقط وهم فيها سواء فلا معنى لتفضيل ذكرهم على أنثاهم بخلاف قرابة الأب. وأما العقيقة فأمر التفضيل فيها تابع لشرف الذكر وما ميزه الله به على الأنثى ولما كانت النعمة به على الوالد أتم والسرور والفرحة به أكمل كان الشكران عليه أكثر فإنه كلما كثرت النعمة كان شكرها أكثر والله أعلم. فصل الحكمة في تفضيل بعض الأزمنة والأمكنة على بعض وأما قوله: "وخص بعض الأزمنة والأمكنة وفضل بعضها على بعض مع تساويها إلخ" فالمقدمة الأولى صادقة والثانية كاذبة وما فضل بعضها على بعض إلا لخصائص قامت بها اقتضت التخصيص وما خص سبحانه شيئا إلا بمخصص ولكنه قد يكون ظاهرا وقد يكون خفيا واشتراك الأزمنة والأمكنة في مسمى الزمان والمكان كاشتراك الحيوان في مسمى الحيوانية والإنسان في مسمى الإنسانية بل وسائر الأجناس في المعنى الذي يعمها وذلك لا يوجب استواءها في أنفسها والمختلفات تشترك في أمور كثيرة والمتفقات تتباين في أمور كثيرة والله سبحانه أحكم وأعلم من أن يفضل مثلا على مثل من كل وجه بلا صفة تقتضي ترجيحه وهذا مستحيل في خلقه وأمره كما أنه سبحانه لا يفرق بين المتماثلين من كل وجه فحكمته وعدله تأبى هذا وهذا وقد نزه سبحانه نفسه عمن يظن به ذلك وأنكر عليه زعمه الباطل وجعله حكما منكرا ولو جاز عليه ما يقول هؤلاء لبطلت حججه وأدلته فإن مبناها على أن حكم الشيء حكم مثله وعلى ألا يسوي بين المختلفين فلا يجعل الأبرار كالفجار ولا المؤمنين كالكفار ولا من أطاعه كمن عصاه ولا العالم كالجاهل وعلى هذا مبنى الجزاء فهو حكمه الكوني والديني وجزاؤه الذي هو ثوابه وعقابه وبذلك حصل الاعتبار ولأجله ضربت الأمثال وقصت علينا أخبار الأنبياء وأممهم ويكفي في بطلان هذا المذهب المتروك الذي هو من أفسد مذاهب العالم أنه يتضمن لمساواة ذات جبريل لذات إبليس وذات الأنبياء لذات أعدائهم ومكان البيت العتيق بمكان الحشوش وبيوت الشياطين وأنه لا فرق بين هذه الذوات في الحقيقة وإنما خصت هذه الذات عن هذه الذات بما خصت به لمحض المشيئة المرجحة مثلا على مثل بلا موجب بل قالوا ذلك في جميع الأجسام وأنها متماثلة فجسم المسك عندهم مساو لجسم البول والعذرة وإنما امتاز عنه بصفة عرضية وجسم الثلج عندهم مساو لجسم النار في الحقيقة وهذا مما خرجوا به عن صريح المعقول وكابروا فيه الحس وخالفهم فيه جمهور العقلاء من أهل الملل والنحل وما سوى الله بين جسم السماء وجسم الأرض ولا بين جسم النار وجسم الماء ولا بين جسم الهواء وجسم الحجر وليس مع المنازعين في ذلك إلا الاشتراك في أمر عام وهو قبول الانقسام وقيام الأبعاد الثلاثة والإشارة الحسية ونحو ذلك مما لا يوجب التشابه فضلا عن التماثل وبالله التوفيق. فصل الجمع بين المختلفات في الحكم لاشتراكها في سببه وأما قوله: "إن الشريعة جمعت بين المختلفات كما جمعت بين الخطأ والعمد في ضمان الأموال" فغير منكر في العقول والفطر والشرائع والعادات اشتراك المختلفات في حكم واحد باعتبار اشتراكها في سبب ذلك الحكم فإنه لا مانع من اشتراكها في أمر يكون علة لحكم من الأحكام بل هذا هو الواقع وعلى هذا فالخطأ والعمد اشتركا في الإتلاف الذي هو علة للضمان وإن افترقا في علة الإثم وربط الضمان بالإتلاف من باب ربط الأحكام بأسبابها وهو مقتضى العدل الذي لا تتم المصلحة إلا به كما أوجب على القاتل خطأ دية القتيل ولذلك لا يعتمد التكليف فيضمن الصبي والمجنون والنائم ما أتلفوه من الأموال وهذا من الشرائع العامة التي لا تتم مصالح الأمة إلا بها فلو لم يضمنوا جنايات أيديهم لأتلف بعضهم أموال بعض وادعى الخطأ وعدم القصد وهذا بخلاف أحكام الإثم والعقوبات فإنها تابعة للمخالفة وكسب العبد ومعصيته ففرقت الشريعة فيها بين العامد والمخطيء وكذلك البر والحنث في الأيمان فإنه نظير الطاعة والعصيان في الأمر والنهي فيفترق الحال فيه بين العامد والمخطىء. وأما جمعها بين المكلف وغيره في الزكاة فهذه مسألة نزاع واجتهاد وليس عن صاحب الشرع نص بالتسوية ولا بعدمها والذين سووا بينهما رأوا ذلك من حقوق الأموال التي جعل الله سبحانه الأموال سببا في ثبوتها وهي حق للفقراء في نفس هذا المال سواء كان مالكه مكلفا أو غير مكلف كما جعل في ماله حق الإنفاق على بهائمه ورقيقه وأقاربه فكذلك جعل في ماله حقا للفقراء والمساكين. فصل الفارة كالهرة قي الطهارة وأما جمعها بين الهرة والفأرة في الطهارة فهذا حق وأي تفاوت في ذلك وكان السائل رأى أن العداوة التي بينهما توجب اختلافهما في الحكم كالعدواوة التي بين الشاة والذئب وهذا جهل منه فإن هذا أمر لا تعلق له بطهارة ولا نجاسة ولا حل ولا حرمة والذي جاءت به الشريعة من ذلك في غاية الحكمة والمصلحة فإنها لو جاءت بنجاستهما لكان فيه أعظم حرج ومشقة على الأمة لكثرة طوفانهما على الناس ليلا ونهارا وعلى فرشهم وثيابهم وأطعمتهم كما أشار إليه ﷺ بقوله في الهرة: "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات". فصل ذبيحة غير الكتابي مثل الميتة وأما جمعها بين الميتة وذبيحة غير الكتابي في التحريم وبين ميتة الصيد وذبيحة المحرم له فأي تفاوت في ذلك وكأن السائل رأي أن الدم لما احتقن في الميتة كان سببا لتحريمها وما ذبحه المحرم أو الكافر غير الكتابي لم يحتقن دمه فلا وجه لتحريمه وهذا غلط وجهل فإن علة التحريم لو انحصرت في احتقان الدم لكان للسؤال وجه فأما إذا تعددت علل التحريم لم يلزم من انتفاء بعضها انتفاء الحكم إذا خلفه علة أخرى وهذا أمر مطرد في الأسباب والعلل العقلية فما الذي ينكر منه في الشرع؟ تصرف الشارع في الأسماء اللغوية فإن قيل: أليس قد سوت الشريعة بينهما في كونهما ميتة وقد اختلفا في سبب الموت فتضمنت جمعها بين مختلفين وتفريقها بين متماثلين فإن الذبح واحد صورة وحسا وحقيقة فجعلت بعض صوره مخرجا للحيوان عن كونه ميتة وبعض صوره موجبا لكونه ميتة من غير فرق. قيل: الشريعة لم تسو بينهما في اسم الميتة لغة وإنما سوت بينهما في الاسم الشرعي فصار اسم الميتة في الشرع أعم منه في اللغة والشارع يتصرف في الأسماء اللغوية بالنقل تارة وبالتعميم تارة وبالتخصيص تارة وهكذا يفعل أهل العر ف فهذا ليس بمنكر شرعا ولا عرفا وأما الجمع بينهما في التحريم فلأن الله سبحانه حرم علينا الخبائث والخبث الموجب للتحريم قد يظهر لنا وقد يخفى فما كان ظاهرا لم ينصب عليه الشارع علامة غير وصفه وما كان خفيا نصب عليه علامة تدل على خبثه فاحتقان الدم في الميتة سبب ظاهر وأما ذبيحة المجوسي والمرتد وتارك التسمية ومن أهل بذبيحته لغير الله فنفس ذبيحة هؤلاء أكسبت المذبوح خبثا أوجب تحريمه ولا ينكر أن يكون اسم الأوثان والكواكب والجن على الذبيحة يكسبها خبثا وذكر اسم الله وحده يكسبها طيبا إلا من قل نصيبه من حقائق العلم والإيمان وذوق الشريعة وقد جعل الله سبحانه ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح فسقا وهو الخبيث ولا ريب أن ذكر اسم الله على الذبيحة يطيبها ويطرد الشيطان عن الذابح والمذبوح فإذا أخل بذكر اسمه لابس الشيطان الذابح والمذبوح فأثر ذلك خبثا في الحيوان والشيطان يجري في مجاري الدم من الحيوان والدم مركبه وحامله وهو أخبث الخبائث فإذا ذكر الذابح اسم الله خرج الشيطان مع الدم فطابت الذبيحة فإذا لم يذكر اسم الله لم يخرج الخبث وأما إذا ذكر اسم عدوه من الشياطين والأوثان فإن ذلك يكسب الذبيحة خبثا آخر. يوضحه أن الذبيحة تجري مجرى العبادة ولهذا يقرن الله سبحانه بينهما كقوله {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وقوله {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقال تعالى {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} فأخبر أنه إنما سخرها لمن يذكر اسمه عليها وأنه إنما يناله التقوى وهو التقرب إليه بها وذكر اسمه عليها فإذا لم يذكر اسمه عليها كان ممنوعا من أكلها وكانت مكروهة لله فأكسبتها كراهيته لها حيث لم يذكر عليها اسمه أو ذكر عليها اسم غيره وصف الخبث فكانت بمنزلة الميتة وإذا كان هذا في متروك التسمية وما ذكر عليه اسم غير الله فما ذبحه عدوه المشرك به الذي هو من أخبث البرية أولى بالتحريم فإن فعل الذابح وقصده وخبثه لا ينكر أن يؤثر في المذبوح كما أن خبث الناكح ووصفه وقصده يؤثر في المرأة المنكوحة وهذه أمور إنما يصدق بها من أشرق فيه نور الشريعة وضياؤها وباشر قلبه بشاشة حكمها وما اشتملت عليه من المصالح في القلوب والأبدان وتلقاها صافية من مشكاة النبوة وأحكم العقد بينها وبين الأسماء والصفات التي لم يطمس نور حقائقها ظلمة التأويل والتحريف. فصل الجمع بين الماء والتراب في التطهير وأما جمعها بين الماء والتراب في التطهير فلله ما أحسنه من جمع وألطفه وألصقه بالعقول السليمة والفطر المستقيمة وقد عقد الله سبحانه الإخاء بين الماء والتراب قدرا وشرعا فجمعهما الله عن عز وجل وخلق منهما آدم وذريته فكانا أبوين اثنين لأبوينا وأولادهما وجعل منهما حياة كل حيوان وأخرج منهما أقوات الدواب والناس والأنعام وكانا أعم الأشياء وجودا وأسهلها تناولا وكان تعفير الوجه في التراب لله من أحب الأشياء إليه ولما كان عقد هذه الأخوة بينهما قدرا أحكم عقد وأقواه كان عقد الأخوة بينهما شرعا أحسن عقد وأصحه {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. فصل شرح الباقي من كتاب أمير لمؤمنين عمر فهذا ما يتعلق بقول أمير المؤمنين رضي الله عنه: "واعرف الأشباه والنظائر" وفي لفظ: "واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق". فلنرجع إلى شرح باقي كتابه. ثم قال: "وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عن الخصومة أو الخصوم شك أبو عبيد فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذخر". هذا الكلام يتضمن أمرين: التحذير من الغضب أحدهما: التحذير مما يحول بين الحاكم وبين كمال معرفته بالحق وتجريد قصده له فإنه لايكون خير الأقسام الثلاثة إلا باجتماع هذين الأمرين فيه والغضب والقلق والضجر مضاد لهما فإن الغضب غول العقل يغتاله كما تغتاله الخمر ولهذا: "نهى النبي ﷺ أن يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" والغضب نوع من الغلق والإغلاق الذي يغلق على صاحبه باب حسن التصور والقصد وقد نص أحمد على ذلك في رواية حنبل وترجم عليه أبو بكر في كتابه الشافي وزاد المسافر وعقد له بابا فقال في كتاب الزاد باب النية في الطلاق والإغلاق قال أبو عبد الله في رواية حنبل عن عائشة سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" فهذا الغضب. وأوصى بعض العلماء لولى أمر فقال: إياك والغلق والضجر فإن صاحب الغلق لا يقدم عليه صاحب حق وصاحب الضجر لا يصبر على حق. التحريض على تنفيذ الحق والصبر عليه والأمر الثاني: التحريض على تنفيذ الحق والصبر عليه وجعل الرضا بتنفيذه في موضع الغضب والصبر في موضع القلق والضجر والتحلى به واحتساب ثوابه في موضع التأذي فإن هذا دواء ذلك الداء الذي هو من لوازم الطبيعة البشرية وضعفها فما لم يصادفه هذا الدواء فلا سبيل إلى زواله هذا مع ما في التنكر للخصوم من إضعاف نفوسهم وكسر قلوبهم وإخراس ألسنتهم عن التكلم بحججهم خشية معرة التنكر ولا سيما أن يتنكر لإحد الخصمين دون الآخر فإن ذلك الداء العضال. العبودية نوعان عامة وخاصة وقوله: "فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذخر" هذا عبودية الحكام وولاة الأمر التي تراد منهم ولله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته سوى العبودية العامة التي سوى بين عباده فيها فعلى العالم من عبوديته نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره وعلى الحاكم من عبوديه إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي وعلى الغني من عبوديه أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما. وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يوما في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقالت له امرأة: هذا واجب قد وضع عنا فقال: هبي أنه قد وضع عنكن سلاح اليد واللسان فلم يوضع عنكن سلاح القلب فقالت: صدقت جزاك الله خيرا. وقد غر إبليس أكثر الخلق بأن حسن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع وعطلوا هذه العبوديات فلم يحدثوا قلوبهم بالقيام بها وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس دينا فإن الدين هو القيام لله بما أمر به فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالا عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي فإن ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجها ذكرها شيخنا رحمه الله في بعض تصانيفه ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله ﷺ وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا والله المستعان وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسول الله ﷺ يرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين وخيارهم المتحزن المتلمظ ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون وهو موت القلوب فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل. وقد ذكر الإمام أحمد وغيره أثرا أن الله سبحانه أوحى إلى ملك من الملائكة أن اخسف بقرية كذا وكذا فقال يا رب كيف وفيهم فلان العابد فقال: "به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه في يوما قط". وذكر أبو عمر في كتاب التمهيد أن الله سبحانه أوحى إلى نبي من أنبيائه أن قل لفلان الزاهد أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت به الراحة وأما انقطاعك إلي فقد اكتسبت به العز ولكن ماذا عملت فيما لي عليك فقال يا رب وأي شيء لك علي قال هلى واليت في وليا أو عاديت في عدوا؟ فصل عاقبة الإخلاص لله قوله: "فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين بما ليس فيه شانه الله" هذا شقيق كلام النبوة وهو جدير بأن يخرج من مشكاة المحدث الملهم وهاتان الكلمتان من كنوز العلم ومن أحسن الإنفاق منهما نفع غيره وانتفع غاية الانتفاع فأما الكلمة الأولى فهي منبع الخير وأصله والثانية أصل الشر وفصله فإن العبد إذا خلصت نيته لله تعالى وكان قصده وهمه علمه لوجهه سبحانه كان الله معه فإنه سبحانه مع {الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ورأس التقوى والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق والله سبحانه لا غالب له فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء فإن كان الله مع العبد فمن يخاف وإن لم يكن معه فمن يرجو وبمن يثق ومن ينصره من بعده فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولا وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها وجعل له فرجا مخرجا وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة أو في اثنين منها أو في واحد فمن كان قيامه في باطل لم ينصر وإن نصر نصرا عارضا فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولا والقيام في الحق وسيلة إليه فهذا لم تضمن له النصرة فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين وإن نصر فبحسب ما معه من الحق فإن الله لا ينصر إلا الحق وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر والصبر منصور أبدا فإن كان صاحبه محقا كان منصورا له العاقبة وإن كان مبطلا لم يكن له عاقبة وإذا قام العبد في الحق لله ولكن قام بنفسه وقوته ولم يقم بالله مستعينا به متوكلا عليه مفوضا إليه بريا من الحول والقوة إلا به فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك ونكتة المسألة أن تجريد التوحيدين في أمر الله لا يقوم له شيء البتة وصاحبه مؤيد منصور ولو توالت عليه زمر الأعداء. قال الإمام أحمد: حدثنا داود أنبأنا شعبة عن واقد بن محمد بن زيد عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: "من أسخط الناس برضاء الله عز وجل كفاه الله الناس ومن أرضى الناس بسخط الله وكله إلى الناس". والعبد إذا عزم على فعل أمر فعليه أن يعلم أولا هل هو طاعة لله أم لا فإن لم يكن طاعة فلا يفعله إلا أن يكون مباحا يستعين به على الطاعة وحينئذ يصير طاعة فإذا بان له أنه طاعة فلا يقدم عليه حتى ينظر هل هو معان عليه أم لا فإن لم يكن معانا عليه فلا يقدم عليه فيذل نفسه وإن كان معانا عليه بقي عليه نظر آخر وهو أن يأتيه من بابه فإن أتاه من غير بابه أضاعه أو فرط فيه أو أفسد منه شيئا فهذه الأمور الثلاثة أصل سعادة العبد وفلاحه وهي معنى قول العبد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فأسعد الخلق أهل العبادة والاستعانة والهداية إلى المطلوب وأشقاهم من عدم الأمور الثلاثة ومنهم من يكون له نصيب من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ونصيبه من {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} معدوم أو ضعيف فهذا مخذول مهين محزون ومنهم من يكون نصيبه من {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قويا ونصيبه من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ضعيفا أو مفقودا فهذا له نفوذ وتسلط وقوة ولكن لا عاقبة له بل عاقبته أسوأ عاقبة ومنهم من يكون له نصيب من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ولكن نصيبه من الهداية إلى المقصود ضعيف جدا كحال كثير من العباد والزهاد الذين قل علمهم بحقائق ما بعث الله به رسوله ﷺ من الهدى ودين الحق. وقول عمر رضي الله عنه: "فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه" إشارة إلى أنه لا يكفي قيامه في الحق لله إذا كان على غيره حتى يكون أول قائم به على نفسه فحينئذ يقبل قيامه به على غيره وإلا فكيف يقبل الحق ممن أهمل القيام به على نفسه؟ وخطب عمر بن الخطاب يوما وعليه ثوبان فقال: "أيها الناس ألا تسمعون فقال سلمان: لا نسمع فقال عمر: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: إنك قسمت علينا ثوبا ثوبا وعليك ثوبان فقال: لا تعجل يا عبد الله يا عبد الله فلم يجبه أحد فقال: يا عبد الله بن عمر فقال: لبيك يا أمير المؤمنين فقال: نشدتك الله الثوب الذي ائتزرت به أهو ثوبك؟ قال: نعم اللهم نعم فقال سلمان: أما الآن فقل نسمع". فصل عقوبة المتزين بما ليس فيه وأما قوله: "ومن تزين بما ليس فيه شانه الله" لما كان المتزين بما ليس فيه ضد المخلص فإنه يظهر للناس أمرا وهو في الباطن بخلافه عامله الله بنقيض قصده فإن المعاقبة بنقيض القصد ثابتة شرعا وقدرا ولما كان المخلص يعجل له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمحبة والمهابة في قلوب الناس عجل للمتزين بما ليس فيه من عقوبته أن شانه الله بين الناس لأنه شان باطنه عند الله وهذا موجب أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وحكمته في قضائه وشرعه. هذا ولما كان من تزين للناس بما ليس فيه من الخشوع والدين والنسك والعلم وغير ذلك قد نصب نفسه للوازم هذه الأشياء ومقتضايتها فلا بد أن تطلب منه فإن لم توجد عنده افتضح فيشينه ذلك من حيث ظن أنه يزينه وأيضا فإنه أخفى عن الناس ما أظهر لله خلافه فأظهر الله من عيوبه للناس ما أخفاه عنهم جزءا له من جنس عمله وكان بعض الصحابة يقول: "أعوذ بالله من خشوع النفاق" قالوا: وما خشوع النفاق قال: "أن ترى الجسد خاشعا والقلب غير خاشع" وأساس النفاق وأصله هو التزين للناس بما ليس في الباطن من الإيمان فعلم أن هاتين الكلمتين من كلام أمير المؤمنين مشتقة من كلام النبوة وهما من أنفع الكلام وأشفاه للسقام. فصل المقبول من أعمال العباد وغير المقبول وقوله: "فإن الله لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصا" والأعمال أربعة: واحد مقبول وثلاثة مردودة فالمقبول ما كان لله خالصا وللسنة موافقا والمردود ما فقد منه الوصفان أو أحدهما وذلك أن العمل المقبول هو ما أحبه الله ورضيه وهو سبحانه إنما يحب ما أمر به وما عمل لوجهه وما عدا ذلك من الأعمال فإنه لا يحبها بل يمقتها ويمقت أهلها قال تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}. قال الفضيل بن عياض: "هو اخلص العمل وأصوبه" فسئل عن معنى ذلك فقال: "إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا فالخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ثم قرأ قوله {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}". فإن قيل: فقد بان بهذا أن العمل لغير الله مردود غير مقبول والعمل لله وحده مقبول فبقي قسم آخر وهو أن يعمل العمل لله ولغيره فلا يكون لله محضا ولا للناس محضا فما حكم هذا القسم هل يبطل العمل كله أم يبطل ما كان لغير الله ويصح ما كان لله؟ قيل: هذا القسم تحته أنواع ثلاثة: أحدها: أن يكون الباعث الأول على العمل هو الإخلاص ثم يعرض له الرياء وإرادة غير الله في إثنائه فهذا المعول فيه على الباعث الأول ما لم يفسخه بإرادة جازمة لغير الله فيكون حكمه حكم قطع النية في أثناء العبادة وفسخها أعنى قطع ترك استصحاب حكمها. الثاني: عكس هذا وهو أن يكون الباعث الأول لغير الله ثم يعرض له قلب النية لله فهذا لا يحتسب له بما مضى من العمل ويحتسب له من حين قلب نيته ثم إن كانت العبادة لا يصح آخرها إلا بصحة أولها وجبت الإعادة كالصلاة وإلا لم تجب كمن أحرم لغير الله ثم قلب نيته لله عند الوقوف والطواف. الثالث: أن يبتدئها مريدا بها الله والناس فيريد أداء فرضه والجزاء والشكور من الناس وهذا كمن يصلي بالأجرة فهو لو لم يأخذ الأجرة صلى ولكنه يصلي لله وللأجرة وكمن يحج ليسقط الفرض عنه ويقال فلان حج أو يعطي الزكاة كذلك فهذا لا يقبل منه العمل وإن كانت النية شرطا في سقوط الفرض وجبت عليه الإعادة فإن حقيقة الإخلاص التي هي شرط في صحة العمل والثواب عليه لم توجد والحكم المعلق بالشرط عدم عند عدمه فإن الإخلاص هو تجريد القصد طاعة للمعبود ولم يؤمر إلا بهذا وإذا كان هذا هو المأمور به فلم يأت به بقي في عهدة الأمر وقد دلت السنة الصريحة على ذلك كما في قوله ﷺ يقول الله عز وجل يوم القيامه أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فهو كله للذي أشرك به وهذا هو معنى قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}. فصل جزاء المخلص في دنياه وآخرته وقوله: "فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته" يريد به تعظيم جزاء المخلص وأنه رزق عاجل إما للقلب أو للبدن أو لهما ورحمته مدخرة في خزائنه فإن الله سبحانه يجزي العبد على ما عمل من خير في الدنيا ولا بد ثم في الآخرة يوفيه أجره كما قال تعالى {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فما يحصل في الدنيا من الجزاء على الأعمال الصالحة ليس جزاء توفية وإن كان نوعا آخر كما قال تعالى عن إبراهيم {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} وهذا نظير قوله تعالى {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} فأخبر سبحانه أنه أتى خليله أجره في الدنيا من النعم التي أنعم بها عليه في نفسه وقلبه وولده وماله وحياته الطيبة ولكن ليس ذلك أجر توفية وقد دل القرآن في غير موضع على أن لكل من عمل خيرا أجرين عمله في الدنيا ويكمل له أجره في الآخرة كقوله تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} وفي الآية الأخرى {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وقال في هذه السورة {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال فيها عن خليله {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} فقد تكرر هذا المعنى في هذه السورة دون غيرها في أربعة مواضع لسر بديع فإنها سورة النعم التي عدد الله سبحانه فيها أصول النعم وفروعها فعرف عبادة أن لهم عنده في الآخرة من النعم أضعاف هذه بما لا يدرك تفاوته وأن هذه من بعض نعمه العاجلة عليهم وأنهم إن أطاعوه زادهم إلى هذه النعم نعما أخرى ثم في الآخرة يوفيهم أجور أعمالهم تمام التوفية وقال تعالى {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} فلهذا قال أمير المؤمنين: "فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام". فهذا بعض ما يتعلق بكتاب أمير المؤمنين رضي الله عنه من الحكم والفوائد والحمد لله رب العالمين. ذكر تحريم الإفتاء في دين الله بغير علم وذكر الإجماع على ذلك قد تقدم قوله تعالى {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وأن ذلك يتناول القول على الله بغير علم في أسمائه وصفاته وشرعه ودينه. وتقدم حديث أبي هريرة المرفوع: "من أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه". لا ضير على من لا يعلم أن يقول الله أعلم وروى الزهري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمع النبي ﷺ قوما يتمارون في القرآن فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا ولا يكذب بعضه بعضا فما علمتم منه فقولوا وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه" فأمر من جهل شيئا من كتاب الله أن يكله إلى عالمه ولا يتكلف القول بما لا يعلمه. وروى مالك بن مغول عن أبي حصين عن مجاهد عن عائشة "أنه لما نزل عذرها قبل أبو بكر رأسها قالت: فقلت ألا عذرتني عند النبي ﷺ فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت ما لا أعلم". وروى أيوب عن ابن أبي مليكة قال: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن آية فقال: "أي أرض تقلني وأي وسماء تظلني وأين أذهب وكيف أصنع إذا أنا قلت في كتاب الله بغير ما أريد الله بها". وذكر البيهقي من حديث مسلم البطين عن عزرة التميمي قال: قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة: "وابردها على كبدي ثلاث مرات قالوا: يا أمير المؤنين وما ذاك قال: أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: الله أعلم". وذكر أيضا عن علي رضي الله عنه قال: خمس إذا سافر فيهن رجل إلى اليمن كن فيه عوضا من سفره: لا يخشى عبد إلا ربه ولا يخاف إلا ذنبه ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم ولا يستحي من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم والصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد. وقال الزهري عن خالد بن أسلم وهو أخو زيد بن أسلم: "خرجنا مع ابن عمر نمشي فلحقنا أعرابي فقال: أنت عبد الله بن عمر؟ قال: نعم قال: سألت عنك فدللت عليك فأخبرني أترث العمة؟ قال: لا أدري قال: أنت لا تدري قال: نعم اذهب إلى العلماء بالمدينة فاسألهم فلما أدبر قبل يديه وقال: نعما قال أبو عبد الرحمن سئل عما لا يدري فقال لا أدري". وقال ابن مسعود: "من كان عنده علم فليقل به ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم فإن الله قال لنبيه {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}". وصح عن ابن مسعود وابن عباس: "من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون". وقال ابن شبرمة: سمعت الشعبي إذا سئل عن مسألة شديدة قال: "رب ذات وبر لا تنقاد ولا تنساق ولو سئل عنها الصحابة لعضلت بهم". وقال أبو حصين الأسدي: "إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر". وقال ابن سيرين: "لأن يموت الرجل جاهلا خير له من أن يقول ما لا يعلم". وقال القاسم: "من إكرام الرجل نفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه" وقال: "يا أهل العراق والله لا نعلم كثيرا مما تسألوننا عنه ولأن يعيش الرجل جاهلا إلا أن يعلم ما فرض الله عليه خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم". وقال مالك: من فقه العالم أن يقول: "لا أعلم" فإنه عسى أن يتهيأ له الخير وقال: سمعت بن هرمز يقول: "ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون ذلك أصلا في أيديهم يفزعون إليه". وقال الشعبي: "لا أدري" نصف العلم. وقال ابن جبير: "ويل لمن يقول لما لا يعلم إني أعلم". وقال الشافعي: سمعت مالكا يقول: سمعت ابن عجلان يقول: "إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتلة" وذكره ابن عجلان عن ابن عباس. وقال عبد الرحمن بن مهدي: جاء رجل إلى مالك فسأله عن شيء فمكث أياما ما يجيبه فقال: يا أبا عبد الله إني أريد الخروج فأطرق طويلا ورفع رأسه فقال: ما شاء الله يا هذا إني أتكلم فيما أحتسب فيه الخير ولست أحسن مسألتك هذه. وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: "العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق" قال: وكان يقال: "التأني من الله والعجلة من الشيطان" وهذا الكلام قد رواه الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: "التأني من الله والعجلة من الشيطان" وإسناده جيد. وقال ابن المنكدر: "العالم بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم. وقال ابن وهب: قال لي مالك وهو ينكر كثرة الجواب في المسائل: "يا عبد الله ما عملت فقل وإياك أن تقلد الناس قلادة سوء". وقال مالك: حدثني ربيعة قال: قال لي أبو خلدة وكان نعم القاضي "يا ربيعة أراك تفتي الناس فإذا جاءك الرجل يسألك فلا يكن همك أن تتخلص مما سألك عنه". وكان ابن المسيب لا يكاد يفتي إلا قال: "اللهم سلمني وسلم مني". وقال مالك ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني: هل تراني موضعا لذلك؟ سألت ربيعة وسألت يحيى بن سعيد فأمراني بذلك فقيل له: يا أبا عبد الله فلو نهوك؟ قال: كنت أنتهي. وقال ابن عباس لمولاه عكرمة: اذهب فأفت الناس وأنا لك عون فمن سألك عما يعنيه فأفته ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس. تكرير السؤال وفوائده وكان أيوب إذا سأله السائل قال له: أعد فإن أعاد السؤال كما سأله عنه أولا أجابه وإلا لم يجبه وهذا من فهمه وفطنته رحمه الله وفي ذلك فوائد عديدة: منها أن المسألة تزداد وضوحا وبيانا بتفهم السؤال ومنها أن السائل لعله أهمل فيها أمرا يتغير به الحكم فإذا أعادها ربما بينه له ومنها أن المسؤل قد يكون ذاهلا عن السؤال أولا ثم يحضر ذهنه بعد ذلك ومنها أنه ربما بان له تعنت السائل وأنه وضع المسألة فإذا غير السؤال وزاد فيه ونقص فربما ظهر له أن المسألة لا حقيقة لها وأنها من الأغلوطات أو غير الواقعات التي لا يجب الجواب عنها فإن الجواب بالظن إنما يجوز عند الضرورة فإن وقعت المسألة صارت حال ضرورة فيكون التوفيق إلى الصواب أقرب والله أعلم. ذكر تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به وإلى ما يجب المصير إليه وإلى ما يسوغ من غير إيجاب فأما النوع الأول فهو ثلاثة أنواع أحدها: الإعراض عما أنزل الله وعدم الالفتات إليه اكتفاء بتقليد الآباء الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله الثالث التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد والفرق بين هذا وبين النوع الأول أن الأول قلد قبل تمكنه من العلم والحجة وهذا قلد بعد ظهور الحجة له فهو أولى بالذم ومعصية الله ورسوله. وقد ذم الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه كما في قوله تعالى{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} وقال تعالى {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} وقال تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} وهذا في القرآن كثير يذم فيه من أعرض عما أنزله وقنع بتقليد الآباء. فإن قيل: إنما ذم من قلد الكفار وآباءه الذين لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ولم يذم من قلد العلماء المهتدين بل قد أمر بسؤال أهل الذكر وهم أهل العلم وذلك تقليد لهم فقال تعالى {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وهذا أمر لمن لا يعلم بتقليد من يعلم. فالجواب أنه سبحانه ذم من أعرض عما أنزله إلى تقليد الآباء وهذا القدر من التقليد هو مما اتفق السلف والأئمة الأربعة على ذمه وتحريمه وأما تقليد من بذل جهده في اتباع ما أنزل الله وخفي عليه بعضه فقلد فيه من هو أعلم منه فهذا محمود غير مذموم ومأجور غير مأزور كما سيأتي بيانه عند ذكر التقليد الواجب والسائغ إن شاء الله. وقال تعالى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم كما سيأتي وقال تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقال تعالى {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} فأمر باتباع المنزل خاصة والمقلد ليس له علم أن هذا هو المنزل وإن كان قد تبينت له الدلالة في خلاف قول من قلده فقد علم أن تقليده في خلافه اتباع لغير المنزل وقال تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} فمنعنا سبحانه من الرد إلى غيره وغير رسوله وهذا يبطل التقليد وقال تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} ولا وليجة أعظم ممن جعل رجلا بعينه مختارا على كلام الله وكلام رسوله وكلام سائر الأمة يقدمه على ذلك كله ويعرض كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة على قوله فما وافقه منها قبله لموافقته لقوله وما خلفه منها تلطف في رده وتطلب له وجوه الحيل فإن لم تكن هذه وليجة فلا ندري ما الوليجة وقال تعالى {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} وهذا نص في بطلان التقليد. فإن قيل: إنما فيه ذم من قلد من أضله السبيل أما من هداه السبيل فأين ذم الله تقليده؟ قيل: جواب هذا السؤال في نفس السؤال فإنه لا يكون العبد مهتديا حتى يتبع ما أنزل الله على رسوله فهذا المقلد إن كان يعرف ما أنزل الله على رسوله فهو مهتد وليس بمقلد وإن كان لم يعرف ما أنزل الله على رسوله فهو جاهل ضال بإقراره على نفسه فمن أين يعرف أنه على هدى في تقليده وهذا جواب كل سؤال يوردونه في هذا الباب وأنهم إذا كانوا إنما يقلدون أهل الهدى فهم في تقليدهم على هدى. فإن قيل: فأنتم تقرون أن الأئمة المقلدين في الدين على هدى فمقلدوهم على هدى قطعا لأنهم سالكون خلفهم. قيل: سلوكهم خلفهم مبطل لتقليدهم لهم قطعا فإن طريقتهم كانت اتباع الحجة والنهي عن تقليدهم كما سنذكره عنهم إن شاء الله فمن ترك الحجة وارتكب ما نهوا عنه ونهى الله ورسوله عنه قبلهم فليس على طريقتهم وهو من المخالفين لهم وإنما يكون على طريقتهم من اتبع الحجة وانقاد للدليل ولم يتخذ رجلا بعينه سوى الرسول ﷺ يجعله مختارا على الكتاب والسنة يعرضهما على قوله وبهذا يظهر بطلان فهم من جعل التقليد اتباعا وإيهامه وتلبيسه بل هو مخالف للاتباع وقد فرق الله ورسوله وأهل العلم بينهما كما فرقت الحقائق بينهما فإن الاتباع سلوك طريق المتبع والإتيان بمثل ما أتي به. الاتباع والتقليد قال أبو عمر في الجامع: باب فساد التقليد ونفيه والفرق بينه وبين الاتباع قال أبو عمر قد ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من كتابه فقال {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} روي عن حذيفة وغيره وقال لم يعبدوهم من دون الله ولكنهم أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم وقال عدي ابن حاتم: "أتيت رسول الله ﷺ وفي عنقي صليب فقال: "يا عدي ألق هذا الوثن من عنقك" وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال فقلت: يا رسول الله إنا لم نتخذهم أربابا قال: "بلى أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل لكم فتحرمونه" فقلت بلى: قال: "فتلك عبادتهم". قلت: الحديث في المسند والترمذي مطولا. وقال أبو البختري في قوله عز وجل {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: "أما إنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم ولكنهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرامه حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية". وقال وكيع: ثنا سفيان والأعمش جميعا عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي ثابت عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة في قوله تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أكانوا يعبدونهم فقال: "لا ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه". وقال تعالى {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء فقالوا {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} وفي هؤلاء ومثلهم قال الله عز وجل {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} وقال تعالى معاتبا لأهل الكفر وذاما لهم {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} وقال {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر وإنما وقع التشبيه بين المقلدين بغير حجة للمقلد كما لو قلد رجلا فكفر وقلد آخر فأذنب وقلد آخر في مسألة فأخطأ وجهها كان كل واحد ملموما على التقليد بغير حجة لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت الآثام فيه وقال الله عز وجل {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}. قال: فإذا أبطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها وهي الكتاب والسنة وما كان في معناهما بدليل جامع ثم ساق من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إني لا أخاف على أمتي من بعدي إلا من أعمال ثلاثة قالوا" وما هي يا رسول الله؟ قال: أخاف عليهم زلة العالم ومن حكم جائر ومن هوى متبع" وبهذا الإسناد عن النبي ﷺ أنه قال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله ﷺ". قلت: والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله وبيان زلة العالم ليبينوا بذلك فساد التقليد وأن العالم قد يزل ولا بد إذ ليس بمعصوم فلا يجوز قبول كل ما يقوله وينزل قوله منزلة قول المعصوم فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض وحرموه وذموا أهله وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم فإنهم يقلدون العالم فيما زل فيه وفيما لم يزل فيه وليس لهم تمييز بين ذلك فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله ويشرعون ما لم يشرع ولا بد لهم من ذلك إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه فالخطأ واقع منه ولا بد وقد ذكر البيهقي وغيره من حديث كثير هذا عن أبيه عن جده مرفوعا: "اتقوا زلة العالم وانتظروا فيئته". وذكر من حديث مسعود بن سعد عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: "أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم". ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم تقليده فيها إذ لولا التقليد لم يخف من زلة العالم على غيره. فإذا عرف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين فإنه اتباع للخطأ على عمد ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه وكلاهما مفرط فيما أمر به وقال الشعبي: قال عمر: "يفسد الزمان ثلاثة: أئمة مضلون وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق وزلة العالم" وقد تقدم أن معاذا كان لا يجلس مجلسا للذكر إلا قال حين يجلس: "الله حكم قسط هلك المرتابون" الحديث وفيه "وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق" قلت لمعاذ: ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال لي: اجتنب من كلام الحكيم المشبهات التي يقال ما هذه ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله يراجع وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نورا. وذكر البيهقي من حديث حماد بن زيد عن المثنى بن سعيد عن أبي العالية قال: قال ابن عباس: ويل للأتباع من عثرات العالم قيل: وكيف ذاك يا أبا العباس؟ قال: يقول العالم من قبل رأيه ثم يسمع الحديث عن النبي ﷺ فيدع ما كان عليه وفي لفظ: فيلقى من هو أعلم برسول الله ﷺ منه فيخبره فيرجع ويقضي الأتباع بما حكم. وقال تميم الداري: اتقوا زلة العالم فسأله عمر: ما زلة العالم؟ قال: يزل بالناس فيؤخذ به فعسى أن يتوب العالم والناس يأخذون بقوله. وقال شعبة: عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال قال معاذ بن جبل: يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال منافق بالقرآن فسكتوا فقال: أما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وإن افتتن فلا تقطعوا منه إياسكم فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب وأما القرآن فله منار كمنارالطريق فلا يخفى على أحد فما عرفتم منه فلا تسألوا عنه وما شككتم فكلوه إلى عالمه وأما الدنيا فمن جعل الله الغني في قلبه فقد أفلح ومن لا فليس بنافعته دنياه. وذكر أبو عمر من حديث حسين الجعفي عن زائدة عن عطاء بن السائب عن أبي البختري قال: قال سلمان: "كيف أنتم عند ثلاث زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وأما مجأدلة المنافق بالقرآن فإن للقرآن منار كمنار الطريق فلا يخفى على أحد فما عرفتم منه فخذوه وما لم تعرفوه فكلوه إلى الله وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم". قال أبو عمر: "وتشبه زلة العالم بانكسار السفينة لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير". قال أبو عمر: "وإذا صح وثبت أن العالم يزل ويخطىء لم يجز لأحد أن يفتي ويدين بقول لا يعرف وجهه". وقال غير أبي عمر: "كما أن القضاة ثلاثة قاضيان في النار وواحد في الجنة فالمفتون ثلاثة ولا فرق بينهما إلا في كون القاضي يلزم بما أفتى به والمفتي لا يلزم به". وقال ابن وهب: سمعت سفيان بن عيينة يحدث عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه كان يقول: "اغد عالما أو متعلما ولا تغد إمعة فيما بين ذلك" قال ابن وهب: فسألت سفيان عن الإمعة فحدثني عن أبي الزناد عن أبي الأحوص عن أبي مسعود قال: "كنا ندعو الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيأتي معه بغيره وهو فيكم المحقب دينه الرجال". وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النصري: ثنا أبو مسهر ثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله عن السائب بن يزيد ابن أخت نمر أنه سمع عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يقول: "إن حديثكم شر الحديث إن كلامكم شر الكلام فإنكم قد حدثتم الناس حتى قيل قال فلان وقال فلان ويترك كتاب الله من كان منكم قائما فليقم بكتاب الله وإلا فليجلس" فهذا قول عمر لأفضل قرن على وجه الأرض فكيف لو أدرك ما أصبحنا فيه من ترك كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة لقول فلان وفلان فالله المستعان. حديث علي لكميل بن زياد قال أبو عمر: وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة لكميل ابن زياد النخعي وهو حديث مشهور عند أهل العلم يستغني عن الإسناد لشهرته عندهم: ياكميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير والناس ثلاثة فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق ثم قال آه إن ههنا علما وأشار بيده إلى صدره لو أصبت له حملة بل قد أصبت لقنا غير مأمون يستعمل آلة الدين للدنيا ويستظهر بحجج الله على كتابه وبنعمه على معاصيه أو حامل حق لا بصيرة في إحيائه ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا يدري أين الحق أن قال أخطأ وإن أخطأ لم يدر مشغوف بما لا يدري حقيقته فهو فتنة لمن فتن به وإن من الخير كله من عرفه الله دينه وكفى بالمرء جهلا لا يعرف دينه. النهي عن الاستنان بالرجال وذكر أبو عمر عن أبي البختري عن علي قال: إياكم والاستنان بالرجال فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة فإن كنتم لابد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء. وقال ابن مسعود: لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر. قال أبو عمر: وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "يذهب العلماء ثم يتخذ الناس رءوسا جهالا يسألون فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون" قال أبو عمر: "وهذا كله نفي للتقليد وإبطال له لمن فهمه وهدى لرشده". ثم ذكر من طريق يونس بن عبد الأعلى ثنا سفيان بن عينية قال: اضطجع ربيعة مقنعا رأسه وبكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: رياء ظاهر وشهوة خفية والناس عند علمائهم كالصبيان في إمامهم: ما نهوهم عنه انتهوا وما أمروا به ائتمروا. وقال عبد الله بن المعتمر: "لا فرق بين بهيمة تنقاد وإنسان يقلد". ثم ساق من حديث جامع بن وهب: أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن بكر بن عمر عن عمروا بن أبي نعيمة عن مسلم بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: "من قال علي مالم أقل فليتبوأ مقعده من النار ومن استشار أخاه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه ومن أفتى بفتيا بغير ثبت فإنما إثمها على من أفتاه" وقد تقدم هذا الحديث من رواية أبي داود وفيه دليل على تحريم الإفتاء بالتقليد فإنه إفتاء بغير ثبت فإن الثبت الحجة التي يثبت بها الحكم باتفاق الناس كما قال أبو عمر. الرد على من أجاز التقليد بحجج عقلية وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية بعدما تقدم فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني وأنا أورده قال: يقال لمن حكم بالتقليد: هل لك من حجة فيما حكمت به؟ فإن قال: "نعم" بطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد وإن قال: "حكمت به بغير حجة" قيل له: فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت الأموال وقد حرم الله ذلك إلا بحجة قال الله عزوجل {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} أي من حجة بهذا فإن قال: "أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة لأني قلدت كبيرا من العلماء وهولا يقول إلا بحجة خفيت علي" قيل له: إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك فإن قال: "نعم" ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله ﷺ وإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له كيف تجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما وهذا تناقض فإن قال لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك قيل له وكذلك من تعلم من معلمك فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك فإن قلد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله ﷺ وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع والتابع من دونه في قياس قوله والأعلى للأدنى أبدا وكفى بقول يؤول إلى هذا تناقضا وفسادا. وقال أبو عمر: قال أهل العلم والنظر: "حد العلم البتيين وإدراك المعلوم على ما هو به فمن بان له الشيء فقد علمه" قالوا: والمقلد لا علم له ولم يختلفوا في ذلك ومن ههنا والله أعلم قال البحتري. عرف العالمون فضلك بالعلم ** وقال الجهال بالتقليد. وأرى الناس مجمعين على فضلك ** من بين سيد ومسود. وقال أبو عبد الله بن خواز منداد البصري المالكي: التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه وذلك ممنوع منه في الشريعة والاتباع: ما ثبت عليه حجة. وقال في موضع آخر من كتابه: كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قبوله بدليل يوجب ذلك فأنت مقلده والتقليد في دين الله غير صحيح وكل من أوجب الدليل عليك اتباع قوله فأنت متبعه والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع. وقال: وذكر محمد بن حارث في أخبار سحنون بن سعيد عنه قال: كان مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما وإذا سأله ابن دينار وذووه لا يجيبهم فتعرض له ابن دينار يوما فقال له: يا أبا بكر لم تستحل مني ما لا يحل لك فقال له: يا ابن أخي وما ذاك قال يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما وأسألك أنا وذووي فلا تجيبنا فقال أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك قال نعم قال إني قد كبرت سني ودق عظمي وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان إذا سمعا مني حقا قبلاه وإن سمعا خطأ تركاه وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه. قال ابن حارث: "هذا والله الدين الكامل والعقل الراجح لا كمن يأتي بالهذيان ويريد أن ينزل قوله من القلوب منزلة القرآن". قال أبو عمر: يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا فإن قال: "قلدت لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله وسنة رسول الله ﷺ لم أحصها والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني" قيل له: أما العلماء إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية عن سنة رسوله ﷺ أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض وكلهم عالم ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه فإن قال: "قلدته لأني اعلم أنه على صواب" قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب الله أو سنة أو إجماع فإن قال: "نعم" أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل وإن قال: "قلدته لأنه أعلم مني" قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا ولا تخص من قلدته إذ علتك فيه أنه أعلم منك فإن قال: "قلدته لأنه أعلم الناس" قيل له: فإنه إذا أعلم من الصحابة وكفى بقول مثل هذا قبحا فإن قال: "أنا أقلد بعض الصحابة" قيل له: فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله على أن القول لا يصح لفضل قائله وإنما يصح بدلالة الدليل عليه. وقد ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار قال: عن القاسم عن مالك قال: ليس كلما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه لقول الله عز وجل {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} فإن قال: "قصري وقلة علمي يحملني على التقليد" قيل له: أما من قلد فيما ينزل به من أحكام شريعته عالما يتفق له على علمه فيصدر في ذلك عما يخبره فمعذور لأنه قد أدى ما عليه وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك ولكن من كانت هذه حاله هل تجوز له الفتيا في شرائع دين الله فيحمل غيره على إباحة الفروج وإراقة الدماء واسترقاق الرقاب وإزالة الأملاك ويصيرها إلى غير من كانت في يديه بقول لا يعرف صحته ولا قام الدليل عليه وهو مقر أن قائله يخطىء ويصيب وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما خالفه فيه فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى لحفظه الفروع لزمه أن يجيزه للعامة وكفى بهذا جهلا وردا للقرآن وقال الله تعالى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقال {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقد أجمع العلماء على أن مالم يتبين ولم يتيقن فليس بعلم وإنما هو ظن والظن لا يغني من الحق شيئا ثم ذكر حديث ابن عباس: "من أفتى بفتيا وهو يعمى عنها كان إثمها عليه" موقوفا ومرفوعا قال وهب عن النبي ﷺ: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث". قال: ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد ثم ذكر من طريق ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو عثمان بن مسنة أن رسول الله ﷺ قال: "إن العلم بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء" ومن طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال: "إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء" قيل: له يا رسول الله وما الغرباء؟ قال: "الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله" وكان يقال: العلماء غرباء لكثرة الجهال ثم ذكر عن مالك عن زيد بن أسلم في قوله {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} قال: "بالعلم" وقال ابن عباس في قول الله تعالى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} قال: "يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات". وروى هشام بن سعد عن زيد بن أسلم في قوله {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} قال: "بالعلم وإذا كان المقلد ليس من العلماء باتفاق العلماء لم يدخل في شيء من هذه النصوص" وبالله التوفيق. فصل نهى الأئمة عن تقليدهم وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة فقال الشافعي: "مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري" ذكره البيهقي. وقال إسماعيل بن يحيى المزني في أول مختصره: اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه. وقال أبو داود: قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ قال: "لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء، ما جاء عن النبي ﷺ وأصحابه فخذ به ثم التابعي بعد الرجل فيه مخير". وقد فرق أحمد بين التقليد والاتباع فقال أبو داود: سمعته يقول: "الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي ﷺ وعن أصحابه ثم هو من بعد في التابعين مخير" وقال أيضا: "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثوري ولا الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا" وقال: "من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال". وقال بشر بن الوليد: قال أبو يوسف: "لا يحل لأحد ان يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا". وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب فكيف بمن ترك قول الله ورسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله. وقال جعفر الفريابي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثني الهيثم بن جميل قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله إن عندنا قوما وضعوا كتبا يقول أحدهم ثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا وكذا وفلان عن إبراهيم بكذا ويأخذ بقول إبراهيم قال مالك: وصح عندهم قول عمر قلت: إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم فقال مالك: هؤلاء يستتابون والله أعلم. فصل في عقد مجلس مناظرة بين مقلد وبين صاحب حجة منقاد للحق حيث كان قال المقلد: نحن معاشر المقلدين ممتثلون قول الله تعالى {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فأمر الله سبحانه من لا علم له أن يسأل من هو أعلم منه وهذا نص قولنا وقد أرشد النبي ﷺ من لا يعلم إلى سؤال من يعلم فقال في حديث صاحب الشجة: "ألا سألوا إذا لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال" وقال أبو العسيف الذي زنى بامرأة مستأجره: "وإني سألت أهل العلم فأخبروني أنما علي ابنى جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم". فلم ينكر عليه تقليد من هو أعلم منه وهذا عالم الأرض عمر قد قلد أبا بكر فروى شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة: "أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله منه بريء هو ما دون الولد والوالد" فقال عمر بن الخطاب: "إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر" وصح عنه أنه قال له: "رأينا لرأيك تبع" وصح عن ابن مسعود أنه كان يأخذ بقول عمر. وقال الشعبي عن مسروق: كان ستة من أصحاب النبي ﷺ يفتون الناس: ابن مسعود وعمر بن الخطاب وعلي وزيد بن ثابت وأبي ابن كعب وأبو موسى وكان ثلاثة منهم يدعون قولهم لقول ثلاثة كان عبد الله يدع قوله لقول عمر وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب وقال جندب: "ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس" وقد قال النبي ﷺ: "إن معاذا قد سن لكم سنة فكذلك فافعلوا" في شأن الصلاة حيث أخر فصلى ما فاته من الصلاة مع الإمام بعد الفراغ وكانوا يصلون ما فاتهم أولا ثم يدخلون مع الإمام. قال المقلد: وقد أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر وهم العلماء أو العلماء والأمراء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به فإن لولا التقليد لم يكن هناك طاعة تختص بهم. وقال تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وتقليدهم اتباع لهم ففاعله ممن رضي الله عنهم ويكفي في ذلك الحديث المشهور: "أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم". وقال عبد الله بن مسعود: "من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم". وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" وقال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" "واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد" وقد كتب عمر إلى شريح: أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله ﷺ فإن لم يكن في سنة رسول الله ﷺ فاقض بما قضى به الصالحون وقد منع عمر عن بيع أمهات الأولاد وتبعه الصحابة وألزم بالطلاق الثلاث وتبعوه أيضا واحتلم مرة فقال له عمرو بن العاص: "خذ ثوبا غير ثوبك فقال: لو فعلتها صارت سنة" وقال أبي بن كعب وغيره من الصحابة: "ما استبان لك فاعمل به وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه". وقد كان الصحابة يفتون ورسول الله ﷺ حي بين أظهرهم وهذا تقليد لهم قطعا إذ قولهم لا يكون حجة في حياة النبي ﷺ وقد قال تعالى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} فأوجب عليهم قبول ما أنذروهم به إذا رجعوا إليهم وهذا تقليد منهم للعلماء. وصح عن ابن الزبير أنه سئل عن الجد والإخوة فقال: أما الذي قال رسول الله ﷺ: "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذته خليلا" فإنه أنزله أبا وهذا ظاهر في تقليده له وقد أمر الله سبحانه بقبول شهادة الشاهد وذلك تقليد له وجاءت الشريعة بقبول قول القائف والخارص والقاسم والمقوم للمتلفات وغيرها والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد وذلك تقليد محض. وأجمعت الأمة على قبول قول المترجم والرسول والمعرف والمعدل وإن اختلفوا في جواز الاكتفاء بواحد وذلك تقليد محض لهؤلاء. وأجمعوا على جواز شراء اللحمان والثياب والأطعمة وغيرها من غير سؤال عن أسباب حلها وتحريمها اكتفاء بتقليد أربابها ولو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء فضلاء لضاعت مصالح العباد وتعطلت الصنائع والمتاجر وكان الناس كلهم علماء مجتهدين وهذا مما لا سبيل إليه شرعا والقدر قد منع من وقوعه. وقد أجمع الناس على تقليد الزوج للنساء اللاتي يهدين إليه زوجته وجواز وطئها وتقليدا لهن في كونها هي زوجته. وأجمعوا على أن الأعمى يقلد في القبلة وعلى تقليد الأئمة في الطهارة وقراءة الفاتحة وما يصح به الاقتداء وعلى تقليد الزوجة مسلمة كانت أو ذمية أن حيضها قد انقطع فيباح للزوج وطؤها بالتقليد ويباح للولي تزويجها بالتقليد لها في انقضاء عدتها وعلى جواز تقليد الناس للمؤذنين في دخول أوقات الصلوات ولا يجب عليهم الاجتهاد ومعرفة ذلك بالدليل. وقد قالت الأمة السوداء لعقبة بن الحارث: أرضعتك وأرضعت امرأتك فأمره النبي ﷺ بفراقها وتقليدها فيما أخبرته به من ذلك. وقد صرح الأئمة بجواز التقليد فقال حفص بن غياث: سمعت سفيان يقول: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى تحريمه فلا تنهه. وقال محمد بن الحسن: يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ولا يجوز له تقليد من هو مثله. وقد صرح الشافعي بالتقليد فقال: في الضبع بعير قلته تقليدا لعمر وقال في مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب: قلته تقليدا لعثمان وقال في مسألة الجد مع الإخوة: إنه يقاسمهم ثم قال: وإنما قلت بقول زيد وعنه قبلنا أكثر الفرائض وقد قال في موضع آخر من كتابه الجديد قلته تقليدا لعطاء. وهذا أبو حنيفة رحمه الله قال في مسائل الآبار: ليس معه فيها إلا تقليد من تقدمه من التابعين فيها وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة ويصرح في موطئه بأنه أدرك العمل على هذا وهو الذي عليه أهل العلم ببلدنا ويقول في غير موضع: ما رأيت أحدا أفتدي به يفعله ولو جمعنا ذلك من كلامه لطال. وقد قال الشافعي في الصحابة: "رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا" ونحن نقول ونصدق أن رأى الشافعي والأئمة معه لنا خير من رأينا لأنفسنا. وقد جعل الله سبحانه في فطر العباد تقليد المتعلمين للأستاذين والمعلمين ولا تقوم مصالح الخلق إلا بهذا وذلك عام في كل علم وصناعة وقد فاوت الله سبحانه بين قوى الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان فلا يحسن في حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله والجواب عن معارضه في جميع مسائل الدين دقيقها وجليلها ولو كان كذلك لتساوت أقدام الخلائق في كونهم علماء بل جعل سبحانه هذا عالما وهذا متعلما وهذا متبعا للعالم مؤتما به بمنزلة المأموم مع الإمام والتابع مع المتبوع وأين حرم الله تعالى على الجاهل أن يكون متبعا للعالم مؤتما به مقلدا له يسير بسيره وينزل بنزوله وقد علم الله سبحانه أن الحوادث والنوازل كل وقت نازلة بالخلق فهل فرض على كل منهم فرض عين أن يأخذ حكم نازلته من الأدلة الشرعية بشروطها ولوازمها وهل ذلك في إمكان أحد فضلا عن كونه مشروعا وهؤلاء أصحاب رسول الله ﷺ فتحوا البلاد وكان الحديث العهد بالإسلام يسألهم فيفتونه ولا يقولون له عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل ولا يعرف ذلك عن أحد منهم البتة وهل التقليد إلامن لوازم التكليف ولوازم الوجود فهو من لوازم الشرع والقدر والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد وذلك فيما تقدم بيانه من الأحكام وغيرها. ونقول لمن احتج على إبطاله: كل حجة أثرية ذكرتها فأنت مقلد لحملها ورواتها إذ لم يقم دليل قطعي على صدقهم فليس بيدك إلا تقليد الراوي وليس بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد وكذلك ليس بيد العامي إلا تقليد العالم فما الذي سوغ لك تقليد الراوي والشاهد ومنعنا من تقليد العالم وهذا سمع بأذنه ما رواه وهذا عقل بقلبه ما سمعه فأذى هذا مسموعه وأدى هذا معقوله وفرض على هذا تأدية ما سمعه وعلى هذ تأدية ما عقله وعلى من لم يبلغ منزلتهما القبول منهما. ثم يقال للمانعين من التقليد: أنتم منعتموه خشية وقوع المقلد في الخطأ بأن يكون من قلده مخطئا في فتواه ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق ولا ريب أن صوابه في تقليده للعالم أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه وهذا كمن أراد شراء سلعة لا خبرة له بها فإنه إذا قلد عالما بتلك السلعة خبيرا بها أمينا ناصحا كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه وهذا متفق عليه بين العقلاء. قال أصحاب الحجة: عجبا لكم معاشر المقلدين الشاهدين على أنفسهم مع شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله ولا معدودين في زمرة أهله كيف أبطلتم مذهبكم بنفس دليلكم فما للمقلد وما للاستدلال وأين منصب المقلد من منصب المستدل وهل ما ذكرتم من الأدلة إلا ثيابا استعرتموها من صاحب الحجة فتجملتم بها بين الناس وكنتم في ذلك متشبعين بما لم تعطوه ناطقين من العلم بما شهدتم على أنفسكم أنكم لم تؤتوه وذلك ثوب زور لبستموه ومنصب لستم من أهله غصبتموه فأخبرونا: هل صرتم إلى التقليد لدليل قادكم إليه وبرهان دلكم عليه فنزلتم به من الاستدلال أقرب منزل وكنتم به عن التقليد بمعزل أم سلكتم سبيله اتفاقا وتخمينا من غير دليل وليس إلى خروجكم عن أحد هذين القسمين سبيل وأيهما كان فهو بفساد مذهب التقليد حاكم والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم ونحن إن خاطبناكم بلسان الحجة قلتم لسنا من أهل هذه السبيل وإن خاطبناكم بحكم التقليد فلا معنى لما أقمتموه من الدليل. والعجب أن كل طائفة من الطوائف وكل أمة من الأمم تدعى أنها على حق حاشا فرقة التقليد فإنهم لا يدعون ذلك ولو ادعوه لكانوا مبطلين فإنهم شاهدون على أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليه وبرهان دلهم عليه وإنما سبيلهم محض التقليد والمقلد لا يعرف الحق من الباطل ولا الحالي من العاطل. وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم وقالوا نحن على مذاهبهم وقد دانوا بخلافهم في أصول المذهب الذي بنوا عليه فإنهم بنوا على الحجة ونهوا عن التقليد وأوصوهم إذا ظهر الدليل أن يتركوا أقوالهم ويتبعوه فخالفوهم في ذلك كله وقالوا نحن من أتباعهم تلك أمانيهم وما أتباعهم إلا من سلك سبيلهم واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم. وأعجب من هذا أنهم مصرحون في كتبهم ببطلان التقليد وتحريمه وأنه لا يحل القول به في دين الله ولو اشترط الإمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا توليته ومنهم من صحح التولية وأبطل الشرط وكذلك المفتي يحرم عليه الإفتاء بما لا يعلم صحته باتفاق الناس والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده إذ طريق ذلك مسدودة عليه ثم كل منهم يعرف من نفسه أنه مقلد لمتبوعه لا يفارق قوله ويترك له كل ما خالفه من كتاب أو سنة أو قول صاحب أو قول من هو أعلم من متبوعه أو نظيره وهذا من أعجب العجب. وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلا منهم يقلده في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئا وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئا ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابعي التابعين فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول الله ﷺ وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله ﷺ قالمقلدون لمتبوعهم في جميع ما قالوه يبيحون به الفروج والدماء والأموال ويحرمونها ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ على خطر عظيم ولهم بين يدي الله موقف شديد يعلم فيه من قال على الله ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء. وأيضا فنقول لكل من قلد واحدا من الناس دون غيره: ما الذي خص صاحبك أن يكون أولى بالتقليد من غيره فإن قال: "لأنه أعلم أهل عصره" وربما فضله على من قبله مع جزمه الباطل أنه لم يجيء بعده أعلم منه قيل له: وما يدريك ولست من أهل العلم بشهادتك على نفسك أنه أعلم الأمة في وقته فإن هذا إنما يعرفه من عرف المذاهب وأدلتها وراجحها من مرجوحها فما للأعمى ونقد الدراهم وهذا أيضا باب آخر من القول على الله بلا علم ويقال له ثانيا فأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعائشة وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أعلم من صاحبك بلا شك فهلا قلدتهم وتركته بل سعيد بن المسيب والشعبي وعطاء وطاوس وأمثالهم أعلم وأفضل بلا شك فلم تركت تقليد الأعلم الأفضل الأجمع لأدوات الخير والعلم والدين ورغبت عن أقواله ومذاهبه إلى من هو دونه فإن قال: "لأن صاحبي ومن قلدته أعلم به فتقليدي له أوجب علي مخالفة قوله لقول من قلدته لأن وفور علمه ودينه يمنعه من مخالفة من هو فوقه وأعلم منه إلا لدليل صار إليه هو أولى من قول كل واحد من هؤلاء" قيل له: ومن أين علمت أن الدليل الذي صار إليه صاحبك الذي زعمت أنت أنه صاحبك أولى من الدليل الذي صار إليه من هو أعلم منه وخير منه أو هو نظيره وقولان معا متناقضان لا يكونان صوابا بل أحدهما هو الصواب ومعلوم أن ظفر الأعلم الأفضل بالصواب أقرب من ظفر من هو دونه فإن قلت: "علمت ذلك بالدليل" فههنا إذا قد انتقلت عن منصب التقليد إلى منصب الاستدلال وأبطلت التقليد. ثم يقال لك ثالثا: هذا لا ينفعك شيئا البتة فيما اختلف فيه فإن من قلدته ومن قلده غيرك قد اختلفا وصار من قلده غيرك إلى موافقة أبي بكر وعمر أو علي وابن عباس أو عائشة وغيرهم دون من قلدته فهلا نصحت نفسك وهديت لرشدك وقلت هذان عالمان كبيران ومع أحدهما من ذكر الصحابة فهو أولى بتقليدي إياه. ويقال له رابعا: إمام بإمام ويسلم قول الصحابي فيكون أولى بالتقليد. ويقال له خامسا: إذا جاز أن يظفر من قلدته بعلم خفي على عمر بن الخطاب وعلى علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وذويهم فأحق وأحق وأجوز وأجوز أن يظفر نظيره ومن بعده بعلم خفي عليه هو فإن النسبة بين من قلدته وبين نظيره ومن بعده أقرب أقرب بكثير من النسبة بين من قلدته وبين الصحابة والخفاء على من قلدته أقرب من الخفاء على الصحابة. ويقال سادسا: إذا سوغت لنفسك مخالفة الأفضل الأعلم لقول المفضول فهلا سوغت لها مخالفة المفضول لمن هو أعلم منه وهل كان الذي ينبغي ويجب إلا عكس ما ارتكبت؟ ويقال سابعا: هل أنت في تقليد إمامك وإباحة الفروج والدماء والأموال ونقلها عمن هي بيده إلى غيره موافق لأمر الله أو رسوله أو إجماع أمته أو قول أحد من الصحابة فإن قال: "نعم" قال ما يعلم الله ورسوله وجميع العلماء بطلانه وإن قال: "لا" فقد كفانا مؤنته وشهد على نفسه بشهادة الله ورسوله وأهل العلم عليه. ويقال ثامنا: تقليدك لمتبوعك يحرم عليك تقليده فإنه نهاك عن ذلك وقال: لا يحل لك أن تقول بقوله حتى تعلم من أين قاله ونهاك عن تقليده وتقليد غيره من العلماء فإن كنت مقلدا له في جميع مذهبه فهذا من مذهبه فهلا اتبعته فيه؟ ويقال تاسعا: هل أنت على بصيرة في أن من قلدته أولى بالصواب من سائر من رغبت عن قوله من الأولين والآخرين أم لست على بصيرة؟ فإن قال: "أنا على بصيرة" قال ما يعلم بطلانه وإن قال: "لست على بصيرة" وهو الحق قيل له: فما عذرك غدا بين يدي الله حين لا ينفعك من قلدته بحسنة واحدة ولا يحمل عنك سيئة واحدة إذا حكمت وأفتيت بين خلقه بما لست على بصيرة منه هل هو صواب أم خطأ؟ ويقال عاشرا: هل تدعى عصمة متبوعك أو تجوز عليه الخطأ؟ والأول لا سبيل إليه بل تقر ببطلانه فتعين الثاني وإذا جوزت عليه الخطأ فكيف تحلل وتحرم وتوجب وتريق الدماء وتبيح الدماء وتبيح الفروج وتنقل الأموال وتضرب الأبشار يقو من أنت مقر بجواز كونه مخطئا. ويقال حادي عشر: هل تقول إذا أفتيت أو حكمت بقول من قلدته: إن هذا هو دين الله الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه وشرعه لعباده ولا دين له سواه أو تقول إن دين الله الذي شرعه لعباده خلافه؟ أو تقول: لا أدري؟ ولا بد لك من قول من هذه الأقوال ولا سبيل لك إلى الأول قطعا فإن دين الله الذي لا دين له سواه لا تسوغ مخالفته وأقل درجات مخالفه أن يكون من الآثمين والثاني لا تدعيه فليس لك ملجأ إلا الثالث فيالله الله العجب كيف تستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق وتحلل وتحرم بأمر أحسن أحواله وأفضلها لا أدري؟ فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ** وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم. ويقال ثاني عشر: على أي شيء كان الناس قبل أن يولد فلان وفلان وفلان الذين قلدتموهم وجعلتم أقوالهم بمنزلة نصوص الشارع؟ وليتكم اقتصرتم على ذلك بل جعلتموها أولى بالاتباع من نصوص الشارع أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على هدى أو على ضلالة؟ فلا بد من أن تقروا بأنهم كانوا على هدى فيقال لهم: فما الذي كانوا عليه غير اتباع القرآن والسنن والآثار وتقديم قول الله ورسوله وآثار الصحابة على ما يخالفها والتاحكم إليها دون قول فلان أو رأي فلان وإذا كان هذا هو الهدى فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تؤفكون؟ فإن قالت كل فرقة من المقلدين وكذلك يقولون: صاحبنا هو الذي ثبت على ما مضى عليه السلف واقتفى منهاجهم وسلك سبيلهم قيل لهم: فمن سواه من الأئمة هل شارك صاحبكم في ذلك أو انفرد صاحبكم بالاتباع وحرمه من عداه فلا بد من واحد من الأمرين فإن قالوا بالثاني فهم أضل سبيلا من الأنعام وإن قالوا بالأول فيقال: كيف وقفتم لقبول قول صاحبكم كله ورد قول من هو مثله أو أعلم منه كله فلا يرد لهذا قول ولا يقبل لهذا قول حتى كأن الصواب وقف على صاحبكم والخطأ وقف على من خالفه ولهذا أنتم موكلون بنصرته في كل ما قاله وبالرد على من خالفه في كل ما قاله وهذه حال الفرقة الأخرى معكم. ويقال ثالث عشر: فمن قلدتموه من الأئمة قد نهوكم عن تقليدهم فأنتم أول مخالف لهم قال الشافعي: "مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري" وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: "لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه" وقال أحمد: "لا تقلد دينك أحدا". ويقال رابع عشر: هل أنتم موقنون بأنكم غدا موقوفون بين يدي الله وتسألون عما قضيتم به في دماء عباده وفروجهم وأبشارهم وأموالهم وعما أفتيتم به في دينه محرمين ومحللين وموجبين فمن قولهم: "نحن موقنون بذلك" فيقال لهم: فإذا سألكم "من أين قلتم ذلك" فماذا جوابكم؟ فإن قلتم: جوابنا إنا حللنا وحرمنا وقضينا بما في كتاب الأصل لمحمد بن الحسن مما رواه عن أبي حنيفة وأبي يوسف من رأى واختيار وبما في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم من رأى واختيار وبما في الأم من رواية الربيع من رأى واختيار وبما في جوابات غير هؤلاء من رأي واختيار وليتكم اقتصرتم على ذلك أو صعدتم إليه أو سمت هممكم نحوه بل نزلتم عن ذلك طبقات فإذا سئلتم: هل فعلتم ذلك عن امري أو أمر رسولي؟ فماذا يكون جوابكم إذا؟ فإن أمكنكم حينئذ أن تقولوا: فعلنا ما أمرتنا به وأمرنا به رسولك فزتم وتخلصتم وإن لم يمكنكم ذلك فلا بد أن تقولوا: لم تامرنا بذلك ولا رسولك ولا أئمتنا ولا بد من أحد الجوابين وكأن قد. ويقال خامس عشر: إذا نزل عيسى بن مريم إماما عدلا وحكما مقسطا فبمذهب من يحكم؟ وبرأي من يقضي؟ ومعلوم أنه لا يحكم ولا يقضي إلا بشريعة نبينا ﷺ التي شرعها الله لعباده فذلك الذي يقضى به أحق وأولى الناس به عيسى بن مريم هو الذي أوجب عليكم أن تقضوا به وتفتوا ولا يحل لأحد أن يقضى ولا يفتي بشيء سواه البتة فإن قلتم: نحن وأنتم في هذا السؤال سواء قيل: أجل ولكن نفترق في الجواب فنقول: يا ربنا إنك لتعلم أنا لم نجعل أحدا من الناس عيارا على كلامك وكلام رسولك وكلام أصحاب رسولك ونرد ما تنازعنا فيه إليه ونتحاكم إلى قوله ونقدم أقواله على كلامك وكلام رسولك وكلام أصحاب رسولك وكان الخلق عندنا أهون أن نقدم كلامهم وآراءهم على وحيك بل أفتينا بما وجدناه في كتابك وبما وصل إلينا من سنة رسولك وبما أفتى به أصحاب نبيك وإن عدلنا عن ذلك فخطأ منا لا عمد ولا نتخذ من دونك ولا دون رسولك ولا المؤمنين وليجة ولم نفرق ديننا ونكون شيعا ولم نقطع أمرنا بيننا زبرا وجعلنا أئمتنا قدوة لنا ووسائط بيننا وبين رسولك في نقلهم ما بلغوه إلينا عن رسولك فاتبعناهم في ذلك وقلدناهم فيه إذ أمرتنا أنت وأمرنا رسولك بأن نسمع منهم ونقبل ما بلغوه عنك وعن رسولك فسمعا لك ولرسولك وطاعة ولم نتخذهم أربابا نتحاكم إلى أقوالهم ونخاصم بها ونوالي ونعادي عليها بل عرضنا أقوالهم على كتابك وسنة رسولك فما وافقهما قبلناه وما خالفهما أعرضنا عنه وتركناه وإن كانوا اعلم منا بك وبرسولك فمن وافق قوله قول رسولك كان أعلم منهم في تلك المسألة فهذا جوابنا ونحن نناشدكم الله: هل أنتم كذلك حتى يمكنكم هذا الجواب بين يدي من لا يبدل القول لديه ولا يروج الباطل عليه؟ ويقال سادس عشر: كل طائفة منكم معاشر طوائف المقلدين قد أنزلت جميع الصحابة من أولهم إلى آخرهم وجميع التابعين من أولهم إلى آخرهم وجميع علماء الأمة من أولهم إلى آخرهم إلا من قلدتموه في مكان من لا يعتد بقوله ولا ينظر في فتاواه ولا يشتغل بها ولا يعتد بها ولا وجه للنظر فيها إلا للتمحل وإعمال الفكر وكده في الرد عليهم إذا خالف قولهم قول متبوعهم وهذا هو المسوغ للرد عليهم عندهم فإذا خالف قول متبوعهم نصا عن الله ورسوله فالواجب التمحل والتكلف في إخراج ذلك النص عن دلالته والتحيل لدفعه بكل طريق حتى يصح قول متبوعهم فيالله لدينه وكتابه وسنة رسوله ولبدعة كادت تثل عرش الإيمان وتهد ركنه لولا أن الله ضمن لهذا الدين أن لا يزال فيه من يتكلم بأعلامه ويذب عنه فمن أسوأ ثناء على الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين وأشد استخفافا بحقوقهم وأقل رعاية لواجبهم وأعظم استهانة بهم ممن لا يلتفت إلى قول رجل واحد منهم ولا إلى فتواه غير صاحبه الذي اتخذه وليجة من دون الله ورسوله؟ ويقال سابع عشر: من أعجب أمركم أيها المقلدون أنكم اعترفتم وأقررتم على أنفسكم بالعجز عن معرفة للحق بدليله من كلام الله وكلام رسوله مع سهولته وقرب مأخذه واستيلائه على أقصى غايات البيان واستحالة التناقض والاختلاف عليه فهو نقل مصدق عن قائل معصوم وقد نصب الله سبحانه الأدلة الظاهرة على الحق وبين لعباده ما يتقون فادعيتم العجز عن معرفة ما نصب عليه الأدلة وتولى بيانه ثم زعمتم أنكم قد عرفتم بالدليل أن صاحبكم أولى بالتقليد من غيره وأنه أعلم الأمة وأفضلها في زمانه وهلم جرا وغلاة كل طائفة منكم توجب اتباعه وتحرم اتباع غيره كما هو في كتب أصولهم فعجبا كل العجب لمن خفي عليه الترجيح فيما نصب الله عليه الأدلة من الحق ولم يهتد إليها واهتدى إلى ان متبوعه أحق وأولى بالصواب ممن عداه ولم ينصب الله على ذلك دليلا واحدا. ويقال ثامن عشر: أعجب من هذا كله من شأنكم معاشر المقلدين أنكم إذا وجدتم آية من كتاب الله توافق رأي صاحبكم أظهرتم أنكم تأخذون بها والعمدة في نفس الأمر على ما قاله لا على الآية وإذا وجدتم آية نظيرها تخالف قوله لم تأخذوا بها وتطلبتم لها وجوه التأويل وإخراجها عن ظاهرها حيث لم توافق رأيه وهكذا تفعلون في نصوص السنة سواء وإذا وجدتم حديثا صحيحا يوافق قوله أخذتم به وقلتم: "لنا قوله ﷺ كيت وكيت" وإذا وجدتم مائة حديث صحيح بل وأكثر تخالف قوله لم تلتفتوا إلى حديث منها ولم يكن لكم منها حديث واحد فتقولون: "لنا قوله ﷺ كذا وكذا" وإذا وجدتم مرسلا قد وافق رأيه أخذتم به وجعلتموه حجة هناك وإذا وجدتم مائة مرسل تخالف رأيه أطرحتموها كلها من أولها إلى آخرها وقلتم لا نأخذ بالمرسل. ويقال تاسع عشر: أعجب من هذا كله أنكم إذا أخذتم بالحديث مرسلا كان أو مسندا لموافقته رأي صاحبكم ثم وجدتم فيه حكما يخالف رأيه لم تأخذوا به في ذلك الحكم وهو حديث واحد وكأن الحديث حجة فيما وافق رأي من قلدتموه وليس بحجة فيما خالف رأيه. ولنذكر من هذا طرفا فإنه من عجيب أمرهم. المقلدون يتضاربون في أقوالهم فاحتج طائفة منهم في سلب طهورية الماء المستعمل في رفع الحدث بأن الني ﷺ "نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة والمرأة بفضل وضوء الرجل" وقالوا: الماء المنفصل عن أعضائهما هو فضل وضوئهما وخالفوا نفس الحديث: فجوزوا لكل منهما أن يتوضأ بفضل طهور الآخر وهو المقصود بالحديث فإنه نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خلت بالماء وليس عندهم للخلوة أثر ولا لكون الفضلة فضلة امرأة أثر فخالفوا نفس الحديث الذي احتجوا به وحملوا الحديث على غير محمله إذ فضل الوضوء بيقين هو الماء الذي فضل منه ليس هو الماء المتوضأ به فإن ذلك لا يقال له فضل الوضوء فاحتجوا به فيما لم يرد به وأبطلوا الاحتجاج به فيما أريد به. ومن ذلك احتجاجهم على نجاسة الماء بالملاقاة وإن لم يتغير بنهيه ﷺ أن يبال في الماء الدائم ثم قالوا: لو بال في الماء الدائم لم ينجسه حتى ينقص عن قلتين. واحتجوا على نجاسته أيضا بقوله ﷺ: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا" ثم قالوا: لو غمسها قبل غسلها لم ينجس الماء ولا يجب عليه غسلها وإن شاءان يغمسها قبل الغسل فعل. واحتجوا في هذه المسألة بأن النبي ﷺ أمر بحفر الأرض التي بال فيها البائل وإخراج ترابها ثم قالوا: لا يجب حفرها بل لو تركت حتى يبست بالشمس والريح طهرت. واحتجوا على منع الوضوء بالماء المستعمل بقوله ﷺ "يابني عبد المطلب إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس" يعني الزكاة ثم قالوا: لا تحرم الزكاة على بني عبد المطلب. واحتجوا على أن السمك الطافي إذا وقع في الماء لا ينجسه بخلاف غيره من ميتة البر فإنه ينجس الماء بقوله ﷺ في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" ثم خالفوا هذا الخبر بعينه وقالوا: لا يحل ما مات في البحر من السمك ولا يحل شيء مما فيه أصلا غير السمك. واحتج أهل الرأي على نجاسة الكلب وولوغه بقول النبي ﷺ: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات" ثم قالوا: لا يجب غسله سبعا بل يغسل مرة ومنهم من قال ثلاثا. واحتجوا على تفريقهم في النجاسة المغلظة بين قدر الدرهم وغيره بحديث لا يصح من طريق غطيف عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة يرفعه "تعاد الصلاة من قدر الدرهم" ثم قالوا: لا تعاد الصلاة من قدر الدرهم. واحتجوا بحديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة في الزكاة في زيادة الإبل على عشرين ومائة أنها ترد إلى أول الفريضة فيكون في كل خمس شاة وخالفوه في اثنى عشر موضعا منه ثم احتجوا بحديث عمرو بن حزم "أن ما زاد على مائتي درهم فلا شيء فيه حتى يبلغ أربعين فيكون فيها درهم" وخالفوا الحديث بعينه في نص ما فيه في أكثر من خمسة عشر موضعا. واحتجوا على أن الخيار لا يكون أكثر من ثلاثة أيام بحديث المصراة وهذا من إحدى العجائب فإنهم من أشد الناس إنكارا له ولا يقولون به فإن كان حقا وجب اتباعه وإن لم يكن صحيحا لم يجز الاحتجاج به في تقدير الثلاث مع أنه ليس في الحديث تعرض لخيار الشرط فالذي أريد بالحديث ودل عليه خالفوه والذي احتجوا عليه به لم يدل عليه. واحتجوا لهذه المسألة أيضا بخبر حبان بن منقذ الذي كان يغبن في البيع فجعل له النبي ﷺ الخيار ثلاثة أيام وخالفوا الخبر كله فلم يثبتوا الخيار بالغبن ولو كان يساوي عشر معشار ما بذله فيه وسواء قال المشتري: "لا خلابة" أو لم يقل وسواء غبن قليلا أو كثيرا لا خيار له في ذلك كله. واحتجوا في إيجاب الكفارة على من أفطر في نهار رمضان بأن في بعض ألفاظ الحديث أن رجلا أفطر فأمره النبي ﷺ أن يكفر ثم خالفوا هذا اللفظ بعينه فقالوا: إن استف دقيقا أو بلع عجينا أو أهليلجا أو طيبا أفطر ولا كفارة عليه. واحتجوا على وجوب القضاء على من تعمد القيء بحديث أبي هريرة ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا: إن تقيأ أقل من ملء فيه فلا قضاء عليه. واحتجوا على تحديد مسافة الفطر والقصر بقوله ﷺ: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا مع زوج أو ذي محرم" وهذا مع أنه لادليل فيه البتة على ما ادعوه فقد خالفوه نفسه فقالوا: يجوز للممولكة والمكاتبة وأم الولد السفر مع غير زوج ومحرم". واحتجوا على منع المحرم من تغطية وجهه بحديث ابن عباس في الذي وقصته ناقته وهو محرم فقال النبي ﷺ: "لا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" وهذا من العجب فإنهم يقولون: إذا مات المحرم جاز تغطية رأسه ووجهه وقد بطل إحرامه. واحتجوا على إيجاب الجزاء على من قتل ضبعا في الإحرام بحديث جابر أنه أفتى بأكلها وبالجزاء على قاتلها وأسند إلى ذلك رسول الله ﷺ ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا: لا يحل أكلها. واحتجوا فيمن وجبت عليه ابنة مخاض فأعطى ابنة لبون تساوي ابنة مخاض أو حمارا يساويها أنه يجزئه بحديث أنس الصحيح وفيه "من وجبت عليه ابنة مخاض وليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها تؤخذ منه ويرد عليه الساعي شاتين أو عشرين درهما" وهذا من العجب فإنهم لا يقولون بما دل عليه الحديث من تعيين ذلك ويستدلون به على ما لم يدل عليه بوجه ولا أريد به. واحتجوا على إسقاط الحدود في دار الحرب إذا فعل المسلم أسبابها بحديث لا تقطع الأيدي في الغزو وفي لفظ "في السفر" ولم يقولوا بالحديث فإن عندهم لا أثر للسفر ولا للغزو في ذلك. واحتجوا في إيجاب الأضحية بحديث أن النبي ﷺ "أمر بالأضحية وأن يطعم منها الجار والسائل" فقالوا: لا يجب أن يطعم منها جار ولا سائل. واحتجوا في إباحة ما ذبحه غاصب أو ساق بالخبر الذي فيه أن رسول الله ﷺ "دعى إلى الطعام مع رهط من أصحابه فلما أخذ لقمة قال: إني أجد لحم شاة أخذت بغير حق" فقالت المرأة: يا رسول الله إني أخذتها من امرأة فلان بغير علم زوجها فأمر رسول الله ﷺ أن تطعم الأسارى" وقد خالفوا هذا الحديث فقالوا: ذبيحة الغاصب حلال ولا تحرم على المسلمين. واحتجوا بقوله ﷺ: "جرح العجماء جبار" في إسقاط الضمان بجناية المواشي ثم خالفوه فيما يدل عليه وأريد به فقالوا: من ركب دابة أو قادها أو ساقها فهو ضامن لمن عضت بفمها ولا ضمان عليه فيما أتلفت برجلها. واحتجوا على تأخير القود إلى حين البرء بالحديث المشهور "أن رجلا طعن آخر في ركبته بقرن فطلب القود فقال له رسول الله ﷺ حتى يبرأ فأبى فأقادته قبل أن يبرأ" الحديث وخالفوه في القصاص من الطعنة فقالوا: لا يقتص منها. واحتجوا على إسقاط الحد عن الزاني بأمة ابنه أو أم ولده بقوله ﷺ أنت ومالك لأبيك وخالفوه فيما دل عليه فقالوا ليس للأب من مال ابنه شيء البتة ولم يبيحوا له من مال ابنه عود أراك فما فوقه وأوجبوا حبسه في دينه وضمان ما أتلفه عليه. واحتجوا على أن الإمام يكبر إذا قال المقيم: "قد قامت الصلاة" بحديث بلال أنه قال: قال رسول الله ﷺ: "لا تسبقني بآمين" وبقول أبي هريرة لمروان: "لا تسبقني بآمين" ثم خالفوا الخبر جهارا فقالوا: لا يؤمن الإمام ولا المأموم. واحتجوا على وجوب مسح ربع الرأس بحديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله ﷺ: "مسح بناصيته وعمامته" ثم خالفوه فيما دل عليه فقالوا: لا يجوز المسح على العمامة ولا أثر للمسح عليها البتة فإن الفرض سقط بالناصية والمسح على العمامة غير واجب ولا مستحب عندهم. واحتجوا لقولهم في استحباب مساوقة الإمام بقوله ﷺ: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" قالوا: والائتمام به يقتضي أن يفعل مثل فعله سواء ثم خالفوا الحديث فيما دل عليه فإن فيه "فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون". واحتجوا على أن الفاتحة لا تتعين في الصلاة بحديث المسيء في صلاته حيث قال له: "اقرأ ما تيسر معك من القرآن" وخالفوه فيما دل عليه صريحا في قوله: "ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا" وقوله: "ارجع فصل فأنك لم تصل" فقالوا: من ترك الطمأنينة فقد صلى وليس الأمر بها فرضا لازما مع أن الأمر بها وبالقراءة سواء في الحديث. واحتجوا على إسقاط جلسة الاستراحة بحديث أبي حميد حيث لم يذكرها فيه وخالفوه في نفس ما دل عليه من رفع اليدين عند الركوع والرفع منه. واحتجوا على إسقاط فرض الصلاة على النبي ﷺ والسلام في الصلاة بحديث ابن مسعود: "فإذا قلت ذلك فقد تمت صلاتك" ثم خالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا: صلاته تامة قال ذلك أو لم يقله. واحتجوا على جواز الكلام والإمام يخطب على المنبر يوم الجمعة بقوله ﷺ للداخل: "أصليت يا فلان قبل أن تجلس؟ قال: لا قال: قم فاركع ركعتين" وخالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا: من دخل والإمام يخطب جلس ولم يصل. واحتجوا على كراهية رفع اليدين في الصلاة بقوله ﷺ: "ما بالهم رافعي أيديهم كأنها أذناب خيل شمس" ثم خالفوه في نفس ما دل عليه فإن فيه: "إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه من عن يمينه وشماله السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله" فقالوا: لا يحتاج إلى ذلك ويكفيه غيره من كل مناف للصلاة. واحتجوا في استخلاف الإمام إذا أحدث بالخبر الصحيح أن رسول الله ﷺ خرج وأبو بكر يصلي بالناس فتأخر أبو بكر وتقدم النبي ﷺ فصلى بالناس ثم خالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا: من فعل مثل ذلك بطلت صلاته وأبطلوا صلاة من فعل مثل فعل النبي ﷺ وأبي بكر ومن حضر من الصحابة فاحتجوا بالحديث فيما لم يدل عليه وأبطلوا العمل به في نفس ما دل عليه. واحتجوا لقولهم إن الإمام إذا صلى جالسا لمرض صلى المأمومون خلفه قياما بالخبر الصحيح عن النبي ﷺ: "أنه خرج فوجد أبا بكر يصلي بالناس قائما فتقدم النبي ﷺ وجلس وصلى بالناس وتأخر أبو بكر" ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه وقالوا: إن تأخر الإمام لغير حدث وتقدم الآخر بطلت صلاة الإمامين وصلاة جمع المأمومين. واحتجوا على بطلان صوم من أكل يظنه ليلا فبان نهارا بقوله ﷺ إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه فقالوا: لا يجوز الأذان للفجر بالليل لا في رمضان ولا في غيره ثم خالفوه من جهة أخرى فإن في نفس الحديث وكان ابن مكتوم رجلا أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت" وعندهم من أكل في ذلك الوقت بطل صومه. واحتجوا على المنع من استقبال القبلة واستدبارها بالغائط بقول النبي ﷺ: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها" وخالفوا الحديث نفسه وجوزوا استقبالها واستدبارها بالبول. واحتجوا على عدم شرط الصوم في الاعتكاف بالحديث الصحيح عن عمر أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فأمره رسول الله ﷺ أن يوفي بنذره وهم لا يقولون بالحديث فإن عندهم أن نذر الكافر لا ينعقد ولا يلزم الوفاء به بعد الإسلام. واحتجوا على الرد بحديث "تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لا عنت عليه" ولم يقولوا بالحديث في حيازتها مال لقيطها وقد قال به عمر بن الخطاب وإسحاق بن راهوية وهو الصواب. واحتجوا في توريث ذوي الأرحام بالخبر الذي فيه "التمسوا له وارثا أو ذا رحم" فلم يجدوا فقال: "أعطوه الكبر من خزاعة" ولم يقولوا به في أن من وارث له يعطي ماله للكبر من قبيلته. واحتجوا في منع القاتل ميراث المقتول بخبر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "لا يرث قاتل ولا يقتل مؤمن بكافر" فقالوا بأول الحديث دون آخره. واحتجوا على جواز التيمم في الحضر مع وجود الماء للجنازة إذا خاف فوتها بحديث أبي جهيم بن الحارث في تيمم النبي ﷺ لرد السلام ثم خالفوه فيما دل عليه في موضعين: أحدهما أنه تيمم بوجهه وكفيه دون ذراعيه والثاني أنهم لم يكرهوا رد السلام للمحدث ولم يستحبوا التيمم لرد السلام. واحتجوا في جواز الاقتصار في الاستنجاء على حجرين بحديث ابن مسعود "أن رسول الله ﷺ ذهب لحاجته وقال: له ائتني بأحجار فأتاه بحجرين وروثه فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال هذه ركس" ثم خالفوه فيما هو نص فيه فأجازوا الاستجمار بالروث واستدلوا به على ما لا يدل عليه من الاكتفاء بحجرين. واحتجوا على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء بصلاة النبي ﷺ حاملا أمامه بنت أبي العاص بن الربيع إذا قام حملها وإذا ركع أو سجد وضعها ثم قالوا: من صلى كذلك بطلت صلاته وصلاة من ائتم به قال بعض أهل العلم ومن العجب إبطالهم هذه الصلاة وتصحيحهم الصلاة بقراءة {مُدْهَامَّتَانِ} بالفارسية ثم يركع قدر نفس ثم يرفع قدر حد السيف أو لا يرفع بل يخر كما هو ساجدا ولا يضع على الأرض يديه ولا رجليه وإن أمكن أن لا يضع ركبتيه صح ذلك ولا جبهته بل يكفيه وضع رأس أنفه كقدر نفس واحد ثم يجلس مقدار التشهد ثم يفعل فعلا ينافي الصلاة من فساء أو ضراط أو ضحك أو نحو ذلك. واحتجوا على تحريم وطء المسبية والمملوكة قبل الاستبراء بقول النبي ﷺ: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة" ثم خالفوا صريحه فقالوا: إن أعتقها وزوجها وقد وطئها البارحة حل للزوج أن يطأها الليلة. واحتجوا في ثبوت الحضانة للخالة بخبر بنت حمزة وأن رسول الله ﷺ "قضى بها لخالتها" ثم خالفوه فقالوا: لو تزوجت الخالة بغير محرم للبنت كابن عمها سقطت حضانتها. واحتجوا على المنع من التفريق بين الأخوين بحديث علي في نهيه عن التفريق بينهما ثم خالفوه فقالوا لا يرد المبيع إذا وقع كذلك وفي الحديث الأمر برده. واحتجوا على جريان القصاص بين المسلم والذمي بخبر روى أن النبي ﷺ أقاد يهوديا من مسلم لطمه ثم خالفوه فقالوا: لا قود في اللطمة والضربة لا بين مسلمين ولا بين مسلم وكافر. واحتجوا على أنه لا قصاص بين العبد وسيده بقوله ﷺ: "من لطم عبده فهو حر" ثم خالفوه فقالوا: لا يعتق بذلك واحتجوا أيضا بالحديث الذي فيه "من مثل بعبده عتق عليه" فقالوا: لم يوجب عليه القود ثم قالوا: لا يعتق عليه. واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب "في العين نصف الدية" ثم خالفوه في عدة مواضع: منها قوله: "وفي العين القأئمة السادة لموضعها ثلث الدية" ومنها قوله: "في السن السوداء ثلث الدية". واحتجوا على جواز تفضيل بعض الأولاد على بعض بحديث النعمان بن بشير وفيه "أشهد على هذا غيري" ثم خالفوه صريحا فإن في الحديث نفسه "إن هذا لا يصلح" وفي لفظ "إني لا أشهد على جور" فقالوا: بل هذا يصلح وليس بجور ولكل أحد أن يشهد عليه. واحتجوا على أن النجاسة تزول بغير الماء من المائعات بحديث "إذا وطىء أحدكم الأذى بنعليه فإن التراب لهما طهور" ثم خالفوه فقالوا لو وطىء العذرة بخفيه لم يطهرهما التراب. واحتجوا على جواز المسح على الجبيرة بحديث صاحب الشجة ثم خالفوه صريحا فقالوا: لا يجمع بين الماء والتراب بل إما أن يقتصر على غسل الصحيح إن كان أكثر ولا يتيمم وإما أن يقتصر على التيمم إن كان الجريح أكثر ولا يغسل الصحيح. واحتجوا على جواز تولية أمراء أو حكام أو متولين مرتين واحدا بعد واحد بقول النبي ﷺ: "أميركم زيد فإن قتل فعبد الله بن رواحة فإن قتل فجعفر" ثم خالفوا الحديث نفسه فقالوا: لا يصح تعليق الولاية بالشرط ونحن نشهد بالله أن هذه الولاية من أصح ولاية على وجه الأرض وأنها أصح من كل ولاياتهم من أولها إلى آخرها. واحتجوا على تضمين المتلف ما أتلفه ويملك هو ما أتلفه بحديث القصعة التي كسرتها إحدى أمهات المؤمنين فرد النبي ﷺ على صاحبة القصعة نظيرتها ثم خالفوه جهارا فقالوا: إنما يضمن بالدراهم والدنانير ولا يضمن بالمثل. واحتجوا على ذلك أيضا بخبر الشاة التي ذبحت بغير إذن صاحبها وأن النبي ﷺ لم يردها على صاحبها ثم خالفوه صريحا فإن النبي ﷺ لم يملكها الذابح بل أمر بإطعامها الأسارى. واحتجوا على سقوط القطع بسرقة الفواكه وما يسرع إليه الفساد بخبر لا قطع في ثمر ولا كثر ثم خالفوا الحديث نفسه في عدة مواضع: أحدها أن فيه فإذا آواه إلى الجرين ففيه القطع وعندهم لا قطع فيه آواه إلى الجرين أو لم يؤوه الثاني أنه قال: "إذا بلغ ثمن المجن" وفي الصحيح أن ثمن المجن كان ثلاثة دراهم وعندهم لا يقطع في هذا القدر الثالث أنهم قالوا: ليس الجرين حرزا فلو سرق منه ثمرا يابسا ولم يكن هناك حافظ لم يقطع. واحتجوا في مسألة الآبق يأتي به الرجل أن له أربعين درهما بخبر فيه أن من جاء بآبق من خارج الحرم فله عشرة دراهم أو دينار وخالفوه جهرة فأوجبوا أربعين. واحتجوا على خيار الشفعة على الفور بحديث ابن البيلماني الشفعة كحل العقال ولا شفعة لصغير ولا لغائب "ومن مثل به فهو حر" فخالفوا جميع ذلك إلا قوله "الشفعة كحل العقال". واحتجوا على امتناع القود بين الأب والابن والسيد والعبد بحديث "لا يقاد والد بولده ولا سيد بعبده" وخالفوا الحديث نفسه فإن تمامه "ومن مثل بعبده فهو حر". واحتجوا على أن الولد يلحق بصاحب الفراش دون الزاني بحديث ابن وليدة زمعة وفيه "الولد للفراش" ثم خالفوا الحديث نفسه صريحا فقالوا: الأمة لا تكون فراشا وإنما كان هذا القضاء في أمة ومن العجب أنهم قالوا: إذا عقد على أمه وابنته وأخته ووطئها لم يحد للشبهة وصارت فراشا بهذا العقد الباطل المحرم وأم ولده وسريته التي يطؤها ليلا ونهارا ليست فراشا له! ومن العجائب أنهم احتجوا على جواز صوم رمضان بنية ينشئها من النهار قبل الزوال بحديث عائشة أن النبي ﷺ "كان يدخل عليها فيقول: هل من غداء؟ فتقول: لا فيقول: فإني صائم" ثم قالوا: لو فعل ذلك في صوم التطوع لم يصح صومه والحديث إنما هو في التطوع نفسه. واحتجوا على المنع من بيع المدبر بأنه قد انعقد فيه سبب الحرية وفي بيعه إبطال لذلك وأجابوا عن بيع النبي ﷺ المدبر بأنه قد باع خدمته ثم قالوا: لا يجوز بيع خدمة المدبر أيضا. واحتجوا على إيجاب الشفعة في الأراضي والأشجار التابعة لها بقوله: "قضى رسول الله ﷺ بالشفعة في كل شرك في ربعة أو حائط" ثم خالفوا نص الحديث نفسه فإن فيه "ولا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به" فقالوا: يحل له أن يبيع قبل إذنه ويحل له أن يتحيل لإسقاط الشفعة وإن باع بعد إذن شريكه فهو أحق أيضا بالشفعة ولا أثر للاستئذان ولا لعدمه. واحتجوا على المنع من بيع الزيت بالزيتون إلا بعد العلم بأن ما في الزيتون من الزيت أقل من الزيت المفرد بالحديث الذي فيه النهي عن بيع اللحم بالحيوان ثم خالفوه نفسه فقالوا: يجوز بيع اللحم بالحيوان من نوعه وغير نوعه. واحتجوا على أن عطية المريض المنجزة كالوصية لا تنفذ إلا في الثلث بحديث عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته لا مال له سواهم فجزأهم النبي ﷺ ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة ثم خالفوه في موضعين فقالوا لا يقرع بينهم البتة ويعتق من كل واحد سدسه. وهذا كثير جدا والمقصود أن التقليد حكم عليكم بذلك وقادكم إليه قهرا ولو حكمتم الدليل على التقليد لم تقعوا في مثل هذا فإن هذه الأحاديث إن كانت حقا وجب الانقياد لها والأخذ بما فيها وإن لم تكن صحيحة لو يؤخذ بشيء مما فيها فأما أن تصحح ويؤخذ بها فيما وافق قول المتبوع وتضعف أو ترد إذا خالفت قوله أو تؤول فهذا من أعظم الخطأ والتناقض. فإن قلتم: عارض ما خالفناه منها ما هو أقوى منه ولم يعارض ما وافقناه منها ما يوجب العدول عنه واطراحه. قيل: لا تخلو هذه الأحاديث وأمثالها أن تكون منسوخة أو محكمة فإن كانت منسوخة لم يحتج بمنسوخ البتة وإن كانت محكمة لم يجز مخالفة شيء منها البتة. فإن قيل: هي منسوخة فيما خالفناها فيه ومحكمة فيما وافقناها فيه. قيل: هذا مع أنه ظاهر البطلان يتضمن ما لا علم لمدعيه به فهو قائل ما لا دليل له عليه فأقل ما فيه أن معارضا لو قلب عليه هذه الدعوى بمثلها سواء لكانت دعواه من جنس دعواه ولم يكن بينهما فرق ولا فرق وكلاهما مدع ما لا يمكنه إثباته فالواجب اتباع سنن رسول الله ﷺ وتحكيمها والتحاكم إليها حتى يقوم الدليل القاطع على نسخ المنسوخ منها أو تجمع الأمة على العمل بخلاف شيء منها وهذا الثاني محال قطعا فإن الأمة ولله الحمد لم تجمع على ترك العمل بسنة واحدة إلا سنة ظاهرة النسخ معلوم للأمة ناسخها وحينئذ يتعين العمل بالناسخ دون المنسوخ وأما أن تترك السنن لقول أحد من الناس فلا كائنا من كان وبالله التوفيق. الوجه العاشرون: أن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله وأمر رسوله وهدى أصحابه وأحوال أئمتهم وسلكوا ضد طريق أهل العلم أما أمر الله فإن أمر برد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله والمقلدون قالوا: إنما نرده إلى من قلدناه وأما أمر رسوله فإنه ﷺ أمر عند الاختلاف بالأخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين وأمر أن يتمسك بها ويعض عليها بالنواجذ وقال المقلدون بل عند الاختلاف نتمسك بقول من قلدناه ونقدمه على كل ما عداه وأما هدي الصحابة فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد يقلد رجلا واحدا في جميع أقواله ويخالف ما عداه من الصحابة بحيث لا يرد من أقواله شيئا ولا يقبل من أقوالهم شيئا وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهوا عن تقليدهم وحذروا منه كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم. وأما سلوكهم ضد طريق أهل العلم فإن طريقهم طلب أقوال العلماء وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله ﷺ وأقوال خلفائه الراشدين فما وافق ذلك منهم قبلوه ودانوا الله به وقضوا به وأفتوا به وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردوه وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع لا واجبة الاتباع من غير أن يلزمها بها أحدا ولا يقولوا إنها الحق دون ما خالفها هذه طريقة أهل العلم سلفا وخلفا وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق وقلبوا أوضاع الدين فزيفوا كتاب الله وسنة رسوله وأقوال خلفائه وأصحابه فعرضوها على أقوال من قلدوه فما وافقها منها قالوا لنا وانقادوا له مذعنين وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا احتج الخصم بكذا وكذا ولم يقبلوه ولم يدينوا به واحتال فضلاؤهم في ردها بكل ممكن وتطلبوا لها وجوه الحيل التي تردها حتى إذا كانت موافقة لمذاهبهم وكانت تلك الوجوه بعينها قأئمة فيها شنعوا على منازعهم وأنكروا عليه ردها بتلك الوجوه بعينها وقالوا: لا ترد النصوص بمثل هذا ومن له همة تسموا إلى الله ومرضاته ونصر الحق الذي بعث الله به رسوله أين كان ومع من كان لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخلق الذميم. الوجه الحادي والعشرون: أن الله سبحانه ذم الذين {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وهؤلاء هم أهل التقليد بأعيانهم بخلاف أهل العلم فإنهم وإن اختلفوا لم يفرقوا دينهم ولم يكونوا شيعا بل شيعة واحدة متفقة على طلب الحق وإيثاره عند ظهوره وتقديمه على كل ما سواه فهم طائفة واحدة قد اتفقت مقاصدهم وطريقهم فالطريق واحد والقصد واحد والمقلدون بالعكس مقاصدهم شتى وطرقهم مختلفة فليسوا مع الأئمة في القصد ولا في الطريق. الوجه الثاني والعشرون: أن الله سبحانه ذم الذين {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} والزبر: الكتب المصنفة التي رغبوا بها عن كتاب الله وما بعث الله به رسوله فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} فأمر تعالى الرسل بما أمر به أممهم: أن يأكلوا من الطيبات وأن يعملوا صالحا وأن يعبدوه وحده وأن يطيعوا أمره وحده وأن لا يتفرقوا في الدين فمضت الرسل وأتباعهم على ذلك ممتثلين لأمر الله قابلين لرحمته حتى نشأت خلوف قطعوا أمرهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فمن تدبر هذه الآيات ونزلها على الواقع تبين له حقيقة الحال وعلم من أي الحزبين هو والله المستعان. الوجه الثالث والعشرون: أن الله سبحانه قال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فخص هؤلاء بالفلاح دون من عداهم والداعون إلى الخير هم الداعون إلى كتاب الله وسنة رسوله لا الداعون إلى رأي فلان وفلان. الوجه الرابع والعشرون: أن الله سبحانه ذم من إذا دعي إلى الله ورسوله أعرض ورضي بالتحاكم إلى غيره وهذا شأن أهل التقليد قال تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} فكل من أعرض عن الداعي له إلى ما أنزل الله ورسوله إلى غيره فله نصيب من هذا الذم فمستكثر ومستقل. الوجه الخامس والعشرون: أن يقال لفرقة التقليد: "دين الله عندكم واحد وهو في القول وضده فدينه هو الأقوال المختلفة المتضادة التي يناقض بعضها بعضا ويبطل بعضها بعضا كلها دين الله"؟ فإن قالوا: "بلى هذه الأقوال المتضادة المتعارضة التي يناقض بعضها بعضا كلها دين الله" خرجوا عن نصوص أئمتهم فإن جميعهم على أن الحق في واحد من الأقوال كما أن القبلة في جهة من الجهات وخرجوا عن نصوص القرآن والسنة والمعقول والصريح وجعلوا دين الله تابعا لآراء الرجال وإن قالوا: "الصواب الذي لا صواب غيره أن دين الله واحد وهو ما أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله وارتضاه لعباده كما أن نبيه واحد وقبلته واحدة فمن وافقه فهو المصيب وله أجران ومن أخطأه فله أجر واحد على اجتهاده لا على خطئه". قيل لهم: فالواجب إذا طلب الحق وبذل الاجتهاد في الوصول إليه بحسب الإمكان لأن الله سبحانه أوجب على الخلق تقواه بحسب الاستطاعة وتقواه: فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه فلا بد أن يعرف العبد ما أمر به ليفعله وما نهى عنه ليجتنبه وما أبيح له ليأتيه ومعرفة هذا لا تكون إلا بنوع اجتهاد وطلب وتحر للحق فإذا لم يأت بذلك فهو في عهدة الأمر ويلقى الله ولما يقض ما أمره. الوجه السادس والعشرون: أن دعوة رسول الله ﷺ عامة لمن كان في عصره ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة والواجب على من بعد الصحابة هو الواجب عليهم بعينه وإن تنوعت صفاته وكيفياته باختلاف الأحوال ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة لم يكونوا يعرضون ما يسمعون منه ﷺ على أقوال علمائهم بل لم يمكن لعلمائهم قول غير قوله ولم يكن أحد منهم يتوقف في قبول ما سمعه منه على موافقة موافق أو رأي ذي رأي أصلا وكان هذا هو الواجب الذي لا يتم الإيمان إلا به وهو بعينه الواجب علينا وعلى سائر المكلفين إلى يوم القيامة ومعلوم أن هذا الواجب لم ينسخ بعد موته ولا هو مختص بالصحابة فمن خرج عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه الله ورسوله. الوجه السابع والعشرون: أن أقوال العلماء وآراءهم لا تنضبط ولا تنحصر ولم تضمن لها العصمة إلا إذا اتفقوا ولم يختلفوا فلا يكون اتفاقهم إلا حقا ومن المحال أن يحيلنا الله ورسوله على ما لا ينضبط ولا ينحصر ولم يضمن لنا عصمته من الخطأ ولم يقم لنا دليلا على أن أحد القائلين أولى بأن نأخذ قوله كله من الآخر بل يترك قول هذا كله ويؤخذ قول هذا كله هذا محال أن يشرعه الله أو يرضى به إلا إذا كان أحد القائلين رسولا والآخر كاذبا على الله فالفرض حينئذ ما يعتمده هؤلاء المقلدون مع متبوعهم ومخالفيهم. الوجه الثامن والعشرون: أن النبي ﷺ قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" وأخبر أن العلم يقل فلا بد من وقوع ما أخبر به الصادق ومعلوم أن كتب المقلدين قد طبقت شرق الأرض وغربها ولم تكن في وقت قط أكثر منها في هذا الوقت ونحن نراها في كل عام في ازدياد وكثرة والمقلدون يحفظون منها ما يمكن حفظه بحروفه وشهرتها في الناس خلاف الغربة بل هي المعروف الذي لا يعرفون غيره فلو كانت هي العلم الذي بعث الله به رسوله لكان الدين كل وقت في ظهور وزيادة والعلم في شهرة وظهور وهو خلاف ما أخبر به الصادق. الوجه التاسع والعشرون: أن الاختلاف كثير في كتب المقلدين وأقوالهم وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه بل هو حق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض وقد قال تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}. الوجه الثلاثون: أنه لا يجب على العبد أن يقلد زيدا دون عمرو بل يجوز له الانتقال من تقليد هذا إلى تقليد الآخر عند المقلدين فإن كان قول من قلده أولا هو الحق لا سواه فقد جوزتم له الانتقال عن الحق إلى خلافه وهذا محال وإن كان الثاني هو الحق وحده فقد جوزتم الإقامة على خلاف الحق وإن قلتم القولان المتضادان المتناقضان حق فهو أشد حالة ولا بد لكم من قسم من هذه الأقسام الثلاثة. الوجه الحادي والثلاثون: أن يقال للمقلد بأي شيء عرفت أن الصواب مع من قلدته دون من لا تقلده فإن قال: "عرفته بالدليل" فليس بمقلد وإن قال: "عرفته تقليدا له فإنه أفتى بهذا القول ودان به وعلمه ودينه وحسن ثناء الأمة عليه يمنعه أن يقول غير الحق" قيل له: أفمعصوم هو عندك أم يجوز عليه الخطأ فإن قال بعصمته أبطل وإن جوز عليه الخطأ قيل له: فما يؤمنك أن يكون قد أخطأ فيما قلدته فيه وخالف فيه غيره فإن قال: وإن أخطأ فهو مأجور قيل: أجل هو مأجور لاجتهاده وأنت غير مأجور لأنك لم تأت بموجب الأجر بل قد فرطت في الاتباع الواجب فأنت إذا مأزور فإن قال: كيف يأجره الله على ما أفتى به ويمدحه عليه ويذم المستفتي على قبوله منه وهل يعقل هذا؟ قيل له: المستفتي إن هو قصر وفرط في معرفته الحق مع قدرته عليه لحقه الذم والوعيد وإن بذل جهده ولم يقصر فيما أمر به واتقى الله ما استطاع فهو مأجور أيضا وأما المتعصب الذي جعل قول متبوعه عبارا على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة يزنها به فما وافق قول متبوعه منها قبله وما خالفه رده فهذا إلى الذم والعقاب أقرب منه إلى الأجر والصواب وإن قال وهو الواقع: اتبعته وقلدته ولا أدري أعلي صواب هو أم لا فالعهدة على القائل وأنا حاك لأقواله قيل له فهل تتخلص بهذا من الله عند السؤال لك عما حكمت به بين عباد الله وأفتيتهم به فوالله إن للحكام والمفتين لموقفا للسؤال لا يتخلص فيه إلا من عرف الحق وحكم به وأفتى به وأما من عداهما فسيعلم عند انكشاف الحال أنه لم يكن على شيء. الوجه الثاني والثلاثون: أن نقول: أخذتم بقول فلان لأن فلانا قاله أو لأن رسول الله ﷺ قاله؟ فإن قلتم: "لأن فلانا قاله" جعلتم قول فلان حجة وهذا عين الباطل وإن قلتم: "لأن رسول الله ﷺ قاله" كان هذا أعظم وأقبح فإنه مع تضمنه للكذب على رسول الله ﷺ وتقويلكم عليه ما لم يقله وهو أيضا كذب على المتبوع فإنه لم يقل هذا قول رسول الله ﷺ فقد دار قولكم بين أمرين لا ثالث لهما: إما جعل قول غير المعصوم حجة وإما تقويل المعصوم ما لم يقله ولا بد من واحد من الأمرين فإن قلتم: "بل منهما بد وبقي قسم ثالث وهو أنا قلنا كذا لأن رسول الله ﷺ أمرنا أن نتبع من هو أعلم منا ونسأل أهل الذكر إن كنا لا نعلم ونرد ما لم نعلمه إلى استنباط أولي العلم فنحن في ذلك متبعون ما أمرنا به نبينا" قيل: وهل ندندن إلا حول اتباع أمره ﷺ فتحيهلا بالموافقة على هذا الأصل الذي لا يتم الإيمان والإسلام إلا به فنناشدكم بالذي أرسله إذا جاء أمره وجاء قول من قلدتموه هل تتركون قوله لأمره ﷺ وتضربون به الحائط وتحرمون الأخذ به والحالة هذه حتى تتحق المتابعة كما زعمتم أم تأخذون بقوله وتفوضون أمر الرسول ﷺ إلى الله وتقولون هو أعلم برسول الله ﷺ منا ولم يخالف هذا الحديث إلا وهو عنده منسوخ أو معارض بما هو أقوى منه أو غير صحيح عنده فتجعلون قول المتبوع محكما وقول الرسول متشابها فلو كنتم قائلين بقوله لكون الرسول أمركم بالأخذ بقوله لقدمتم قول الرسول أين كان. ثم نقول في الوجه الثالث والثلاثين: وأين أمركم الرسول بأخذ قول واحد من الأمة بعينه وترك قول نظيره ومن هو أعلم منه وأقرب إلى الرسول وهل هذا إلا نسبة لرسول الله ﷺ إلى أنه أمر بما لم يأمر به قط؟ يوضحه الوجه الرابع والثلاثون: أن ما ذكرتم بعينه حجة عليكم فإن الله سبحانه أمر بسؤال أهل الذكر والذكر هو القرآن والحديث الذي أمر الله نساء نبيه أن يذكرنه بقوله {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} فهذا هو الذكر الذي أمرنا الله باتباعه وأمر من لا علم عنده أن يسأل أهله وهذا هو الواجب على كل أحد أن يسأل أهل العلم بالذكر الذي أنزله على رسوله ليخبروه به فإذا أخبروه به لم يسعه غير اتباعه وهذا كان شأن أئمة أهل العلم لم يكن لهم مقلد معين يتبعونه في كل ما قال فكان عبد الله بن عباس يسأل الصحابة عما قاله رسول الله ﷺ أو فعله أو سنه لا يسألهم عن غير ذلك وكذلك الصحابة كانوا يسألون أمهات المؤمنين خصوصا عائشة عن فعل رسول الله ﷺ في بيته وكذلك التابعون كانوا يسألون الصحابة عن شأن نبيهم فقط وكذلك أئمة الفقه كما قال الشافعي لأحمد: "يا أبا عبد الله أنت أعلم بالحديث مني فإذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه شاميا كان أو كوفيا أو بصريا" ولم يكن أحد من أهل العلم قط يسأل عن رأي رجل بعينه ومذهبه فيأخذ به وحده ويخالف له ما سواه. الوجه الخامس والثلاثون: أن النبي ﷺ إنما أرشد المستفتين كصاحب الشجة بالسؤال عن حكمه وسنته فقال: "قتلوه قتلهم الله" فدعا عليهم لما أفتوا بغير علم وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد فإنه ليس علما باتفاق الناس فإن ما دعا رسول الله ﷺ على فاعله فهو حرام وذلك أحد أدلة التحريم فما احتج المقلدون به هو من أكبر الحجج عليهم والله الموفق وكذلك سؤال أبي العسيف الذي زنى بامرأة مستأجره لأهل العلم فإنهم لما أخبروه بسنة رسول الله ﷺ في البكر الزاني أقره على ذلك ولم ينكره فلم يكن سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم. الوجه السادس والثلاثون: قولهم إن عمر قال في الكلالة إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر وهذا تقليد منه له فجوابه من خمسة أوجه: أحدها: أنهم اختصروا الحديث وحذفوا منه ما يبطل استدلالهم ونحن نذكره بتمامه قال شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي إن أبا بكر قال في الكلالة: "أقضي فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله منه بريء هو ما دون الولد والوالد" فقال عمر بن الخطاب: "إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر" فاستحى عمر من مخالفة أبي بكر في اعترافه بجواز الخطأ عليه وأنه ليس كلامه كله صوابا مأمونا عليه الخطأ ويدل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقر عند موته أنه لم يقض في الكلالة بشيء وقد اعترف أنه لم يفهمها. الوجه الثاني: أن خلاف عمر لأبي بكر أشهر من أن يذكر كما خالفه في سبي أهل الردة فسباهم أبو بكر وخالفه عمر وبلغ خلافه إلى أن ردهن حرائر إلى أهلهن إلا من ولدت لسيدها منهن ونقض حكمه ومن جملتهن خولة الحنفية أم محمد بن علي فأين هذا من فعل المقلدين بمتبوعهم وخالفه في أرض العنوة فقسمها أبو بكر ووقفها عمر وخالفه في المفاضلة في العطاء فرأي أبو بكر التسوية ورأي عمر المفاضلة ومن ذلك مخالفته له في الاستخلاف وصرح بذلك فقال إن أستخلف فقد استخلف أبو بكر وإن لم أستخلف فإن رسول الله ﷺ لم يستخلف قال ابن عمر: "والله ما هو إلا أن ذكر رسول الله ﷺ فعلمت أنه لا يعدل برسول الله ﷺ أحدا وأنه غير مستخلف" فهكذا يفعل أهل العلم حين تتعارض عندهم سنة رسول الله ﷺ وقول غيره لا يعدلون بالسنة شيئا سواها لا كما يصرح به المقلدون صراحا وخلافه له في الجد والإخوة معلوم أيضا. الثالث: أنه لو قدر تقليد عمر لأبي بكر في كل ما قاله لم يكن في ذلك مستراح لمقلدي من هو بعد الصحابة والتابعين ممن لا يدابي الصحابة ولا يقاربهم فإن كان كما زعمتم لكم أسوة بعمر فقلدوا أبا بكر واتركوا تقليد غيره والله ورسوله وجميع عباده يحمدونكم على هذا التقليد ما لا يحمدونكم على تقليد غير أبي بكر. الرابع: أن المقلدين لأئمتهم لم يستحيوا مما استحيا منه عمر لأنهم يخالفون أبا بكر وعمر معه ولا يستحيون من ذلك لقول من قلدوه من الأئمة بل قد صرح بعض غلاتهم في بعض كتبه الأصولية أنه لا يجوز تقليد أبي بكر وعمر ويجب تقليد الشافعي فبا لله العجب الذي أوجب تقليد الشافعي حرم عليكم تقليد أبي بكر وعمر ونحن نشهد الله علينا شهادة نسأل عنها يوم نلقاه أنه إذا صح عن الخليفتين الراشدين اللذين أمرنا رسول الله ﷺ باتباعهما والاقتداء بهما قول وأطبق أهل الأرض على خلافه لم نلتفت إلى أحد منهم ونحمد الله أن عافانا مما ابتلى به من حرم تقليدهما وأوجب تقليد متبوعه من الأئمة وبالجملة فلو صح تقليد عمر لأبي بكر لم يكن في ذلك راحة لمقلدي من لم يأمر الله ولا رسوله بتقليده ولا جعله عيارا على كتابه وسنة نبيه ولا هو جعل نفسه كذلك. الخامس: أن غاية هذا أن يكون عمر قد قلد أبا بكر في مسألة واحدة فهل في هذا دليل على جواز اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول من سواه بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة. الوجه السابع والثلاثون: قولهم إن عمر قال لأبي بكر: رأينا لرأيك تبع فالظاهر أن المحتج بهذا سمع الناس يقولون كلمة تكفي العاقل فاقتصر من الحديث على هذه الكلمة واكتفى بها والحديث من أعظم الأشياء إبطالا لقوله ففي صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال جاء وفد بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألون الصلح فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية فقالوا: هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية قال ننزع منكم الحلقة والكراع ونغنم ما أصبنا لكم وتردون لنا ما أصبتم منا وتدون لنا قتلانا وتكون قتلاكم في النار وتتركون أقواما يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله والمهاجرين أمرا يعذرونكم به فعرض أبو بكر ما قال على القوم فقام عمر بن الخطاب فقال: قد رأيت رأيا سنشير عليك أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت وما ذكرت من أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت وأما ما ذكرت من أن تدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار فإن قتلانا قاتلت فقتلت على ما أمر الله أجورها على الله ليس لها ديات فتتابع القوم على ما قال عمر" فهذا هو الحديث الذي في بعض ألفاظه: "قد رأيت رأيا ورأينا لرأيك تبع" فأي مستراح في هذا لفرقة التقليد؟ الوجه الثامن والثلاثون: قولهم إن ابن مسعود كان يأخذ بقول عمر فخلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يتكلف إيراده وإنما كان يوافقه كما يوافق العالم العالم وحتى لو أخذ بقوله تقليدا لعمر فإنما ذلك في نحو أربع مسائل نعدها وكان من عماله وكان عمر أمير المؤمنين وأما مخالفته له ففي نحو مائة مسألة منها أن ابن مسعود صح عنه أن أم الولد تعتق من نصيب ولدها ومنها أنه كان يطبق في الصلاة إلى أن مات وعمر كان يضع يديه على ركبتيه ومنها: أن ابن مسعود كان يقول في الحرام هي يمين وعمر يقول طلقة واحدة ومنها: أن ابن مسعود كان يحرم نكاح الزانية على الزاني أبدا وعمر كان يتوبهما وينكح أحدهما الآخر ومنها أن ابن مسعود كان يرى بيع الأمة طلاقها وعمر يقول لا تطلق بذلك إلى قضايا كثيرة. والعجب أن المحتجين بهذا لا يرون تقليد ابن مسعود ولا تقليد عمر، وتقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي أحب إليهم وآثر عندهم ثم كيف ينسب إلى ابن مسعود تقليد الرجال وهو يقول: لقد علم أصحاب رسول الله ﷺ أني أعلمهم بكتاب الله ولو أعلم أن أحدا أعلم مني لرحلت إليه قال شقيق فجلست في حلقة من أصحاب رسول الله فيما سمعت أحدا يرد ذلك عليه وكان يقول والذي لا إله إلا هو ما من كتاب الله سورة إلا وأنا أعلم حيث نزلت وما من آية إلا وأنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه وقال أبو موسى الأشعري: "كنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي ﷺ من كثرة دخولهم ولزومهم له" وقال أبو مسعود البدري وقد قام عبد الله بن مسعود: "ما أعلم رسول الله ﷺ ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم فقال أبو موسى: لقد كان يشهد إذا ما غبنا ويؤذن له إذا ما حجبنا" وكتب عمر إلى أهل الكوفة: "إني بعثت إليكم عمارا أميرا وعبد الله معلما وزيرا وهما من النجباء من أصحاب محمد ﷺ من أهل بدر فخذوا عنهما واقتدوا بهما فإني آثرتكم بعبد الله على نفسي" وقد صح عن ابن عمر أنه استفتى ابن مسعود في "البتة" وأخذ بقوله ولم يكن ذلك تقليدا له بل لما سمع قوله فيها تبين له أنه الصواب فهذا هو الذي كان يأخذ به الصحابة من أقوال بعضهم بعضا وقد صح عن ابن مسعود أنه قال: "أغد عالما أو متعلما ولا تكونن إمعة" فأخرج الإمعة وهو المقلد من زمرة العلماء والمتعلمين وهو كما قال رضي الله عنه فإنه لا مع العلماء ولا مع المتعلمين للعلم والحجة كما هو معروف ظاهر لمن تأمله. الوجه التاسع والثلاثون: قولهم إن عبد الله كان يدع قوله لقول عمر وأبو موسى كان يدع قوله لقول علي وزيد يدع قوله لقول أبي بن كعب فجوابه أنهم لم يكونوا يدعون ما يعرفون من السنة تقليدا لهؤلاء الثلاثة كما تفعله فرقة التقليد بل من تأمل سيرة القوم رأى أنهم كانوا إذا ظهرت لهم السنة لم يكونوا يدعونها لقول أحد كائنا من كان وكان ابن عمر يدع قول عمر إذا ظهرت له السنة وابن عباس ينكر على من يعارض ما بلغه من السنة بقوله: قال أبو بكر وعمر ويقول: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله ﷺ وتقولون قال أبو بكر وعمر فرحم الله ابن عباس ورضي عنه فوالله لو شاهد خلفنا هؤلاء الذين إذا قيل لهم قال رسول الله ﷺ قالوا قال فلان وفلان لمن لا يداني الصحابة ولا قريبا من قريب وإنما كانوا يدعون أقوالهم لأقوال هؤلاء لأنهم يقولون القول ويقول هؤلاء فيكون الدليل معهم فيرجعون إليهم ويدعون أقوالهم كما يفعل أهل العلم الذين هو أحب إليهم مما سواه وهذا عكس طريقة فرقه أهل التقليد من كل وجه وهذا هو الجواب عن قول مسروق ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس. الوجه الأربعون: قولهم إن النبي ﷺ قال: "قد سن لكم معاذ فاتبعوه" فعجبا لمحتج بهذا على تقليد الرجال في دين الله وهل صار ما سنه معاذ سنة إلا بقوله ﷺ "فاتبعوه" كما صار الأذان سنة بقوله ﷺ وإقراره وشرعه لا بمجرد المنام. فإن قيل: فما معنى الحديث؟ قيل: معناه أن معاذا فعل فعلا جعله الله لكم سنة وإنما صار سنة لنا حين أمر به النبي ﷺ لا لأن معاذا فعله فقط وقد صح عن معاذ أنه قال: كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال منافق بالقرآن فأما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وإن افتتن فلا تقطعوا منه إياسكم فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب وأما القرآن فإن له منارا كمنار الطريق لا يخفى على أحد فما علمتم منه فلا تسألوا عنه أحدا وما لم تعلموه فكلوه إلى عالمه وأما الدنيا فمن جعل الله غناه في قلبه فقد أفلح ومن لا فليست بنافعته دنياه فصدع رضي الله عنه بالحق ونهى عن التقليد في كل شيء وامر باتباع ظاهر القرآن وأن لا يبالي بمن خالف فيه وأمر بالتوقف فيما أشكل وهذا كله خلاف طريقة المقلدين وبالله التوفيق. الوجه الحادي والأربعون: قولكم إن الله سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر وهم العلماء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتنون به فجوابه أن أولي الأمر قد قيل: هم الأمراء وقيل: هم العلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد والتحقيق أن الآية تتناول الطائفتين وطاعتهم من طاعة الرسول لكن خفي على المقلدين أنهم إنما يطاعون في طاعة الله إذا أمروا بأمر الله ورسوله فكان العلماء مبلغين لأمر الرسول والأمراء منفذين له فحينئذ تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله فأين في الآية تقديم آراء الرجال على سنة رسول الله ﷺ وإيثار التقليد عليها؟ الوجه الثاني والأربعون: أن هذه الآية من أكثر الحجج عليهم وأعظمها إبطالا للتقليد وذلك من وجوه أحدها: الأمر بطاعة الله التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه الثاني: طاعة رسوله ولا يكون العبد مطيعا لله ورسوله حتى يكون عالما بأمر الله ورسوله ومن أقر على نفسه بأنه ليس من أهل العلم بأوامر الله ورسوله وإنما هو مقلد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيق طاعة الله ورسوله ألبتة الثالث: أن أولي الأمر قد نهوا عن تقليدهم كما صح ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة وذكرناه نصا عن الأئمة الأربعة وغيرهم وحينئذ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبة بطل التقليد وإن لم تكن واجبة بطل الإستدلال الرابع: أنه سبحانه قال في الآية نفسها {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وهذا صريح في إبطال التقليد والمنع من رد المتنازع فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد. فإن قيل: فما هي طاعتهم المختصة بهم إذ لو كانوا إتما يطاعون فيما يخبرون به عن الله ورسوله كانت الطاعة لله ورسوله لا لهم؟ قيل: وهذا هو الحق وطاعتهم إنما هي تبع لا استقلال ولهذا قرنها بطاعة الرسول ولم يعد العامل وأفرد طاعة الرسول وأعاد العامل لئلا يتوهم أنه إنما يطاع تبعا كما يطاع أولو الأمر تبعا وليس بل طاعته واجبة استقلالا سواء كان ما أمر به ونهى عنه في القرآن أو لم يكن. الوجه الثالث والأربعون: قولهم إن الله سبحانه وتعالى أثنى على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وتقليدهم هو اتباعهم بإحسان فما أصدق المقدمة الأولى وما أكذب الثانية بل الآية من أعظم الأدلة ردا على فرقة التقليد فإن اتباعهم هو سلوك سبيلهم ومنهماجهم وقد نهوا عن التقليد وكون الرجل إمعة وأخبروا أنه ليس من أهل البصيرة ولم يكن فيهم ولله الحمد رجل واحد على مذهب هؤلاء المقلدين وقد أعاذهم الله وعافاهم مما ابتلى به من يرد النصوص لآراء الرجال وتقليدها فهذا ضد متابعتهم وهو نفس مخالفتهم فالتابعون لهم بإحسان حقا هم أولو العلم والبصائر الذين لا يقدمون على كتاب الله وسنة رسوله رأيا ولا قياسا ولا معقولا ولا قول أحد من العالمين ولا يجعلون مذهب أحد عيارا على القرآن والسنن فهؤلاء أتباعهم حقا جعلنا الله منهم بفضله ورحمته. يوضحه الوجه الرابع والأربعون: أن أتباعهم لو كانوا هم المقلدين الذين هم مقرون على أنفسهم وجميع أهل العلم أنهم ليسوا من أولي العلم لكان سادات العلماء الدائرون مع الحجة ليسوا من أتباعهم والجهال أسعد بأتباعهم منهم وهذا عين المحال بل من خالف واحدا منهم للحجة فهو المتبع له دون من أخذ قوله بغير حجة وهكذا القول في أتباع الأئمة رضي الله عنهم معاذ الله أن يكونوا هم المقلدين لهم الذين ينزلون آراءهم منزلة النصوص بل يتركون لها النصوص فهؤلاء ليسوا من أتباعهم وإنما أتباعهم من كان على طريقتهم واقتفى منهاجهم. ولقد أنكر بعض المقلدين على شيخ الإسلام في تدريسه بمدرسة ابن الحنبلي وهي وقف على الحنابلة والمجتهد ليس منهم فقال: إنما أتناول ما أتناوله منها على معرفتي بمذهب أحمد لا على تقليدي له ومن المحال أن يكون هؤلاء المتأخرون على مذهب الأئمة دون أصحابهم الذين لم يكونوا يقلدونهم فأتبع الناس لمالك ابن وهب وطبقته ممن يحكم الحجة وينقاد للدليل أين كان وكذلك أبو يوسف ومحمد أتبع لأبي حنيفة من المقلدين له مع كثرة مخالفتهما له وكذلك البخاري ومسلم وأبو داود والأثرم وهذه الطبقة من أصحاب أحمد أتبع له من المقلدين المحض المنتسبين إليه وعلى هذا فالوقف على أتباع الأئمة أهل الحجة والعلم أحق به من المقلدين في نفس الأمر. الوجه الخامس والأربعون: قولهم يكفي في صحة التقليد الحديث المشهور أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم جوابه من وجوه: أحدها: أن هذا الحديث قد روي من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر ولا يثبت شيء منها قال ابن عبد البر: حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد أن أبا عبد الله بن مفرج حدثهم ثنا محمد بن أيوب الصموت قال: قال لنا البزار: "وأما ما يروى عن النبي ﷺ "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" فهذا الكلام لا يصح عن النبي ﷺ". الثاني: أن يقال لهؤلاء المقلدين: فكيف استجزتم ترك تقليد النجوم التي يهتدي بها وقلدتم من هو دونهم بمراتب كثيرة فكان تقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد آثر عندكم من تقليد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فما دل عليه الحديث خالفتموه صريحا واستدللتم به على تقليد من لم يتعرض له بوجه. الثالث: أن هذا يوجب عليكم تقليد من ورث الجد مع الأخوة منهم ومن أسقط الإخوة به معا وتقليد من قال: الحرام يمين ومن قال: هو طلاق وتقليد من حرم الجمع بين الأختين بملك اليمين ومن أباحه وتقليد من جوز للصائم أكل البرد ومن منع منه وتقليد من قال: تعتد المتوفى عنها بأقصى الأجلين ومن قال: بوضع الحمل وتقليد من قال: يحرم على المحرم استدامة الطيب وتقليد من أباحه وتقليد من جوز بيع الدرهم بالدرهمين وتقليد من حرمه وتقليد من أوجب الغسل من الإكسال وتقليد من أسقطه وتقليد من ورث ذوي الأرحام ومن أسقطهم وتقليد من رأى التحريم برضاع الكبير ومن لم يره وتقليد من منع تيمم الجنب ومن أوجبه وتقليد من رأى الطلاق الثلاث واحدا ومن رآه ثلاثا وتقليد من أوجب فسخ الحج إلى العمرة ومن منع منه وتقليد من أباح لحوم الحمر الأهلية ومن منع منها وتقليد من رأى النقض بمس الذكر ومن لم يره وتقليد من رأى بيع الأمة طلاقها ومن لم يره وتقليد من وقف المولى عند الأجل ومن لم يقفه وأضعاف أضعاف ذلك مما اختلف فيه أصحاب رسول الله ﷺ فإن سوغتم هذا فلا تحتجوا لقول على قول ومذهب على مذهب بل اجعلوا الرجل مخيرا في الأخذ بأي قول شاء من أقوالهم ولا تنكروا على من خالف مذهبكم واتبع قول أحدهم وإن لم تسوغوه فأنتم أول مبطل لهذا الحديث ومخالف له وقائل بضد مقتضاه وهذا مما لا انفكاك لكم منه. الرابع: أن الاقتداء بهم هو اتباع القرآن والسنة والقبول من كل من دعا إليهما منهم فإن الاقتداء بهم يحرم عليكم التقليد ويوجب الاستدلال وتحكيم الدليل كما كان عليه القوم رضي الله عنهم وحينئذ فالحديث من أقوى الحجج عليكم وبالله التوفيق. الوجه السادس والأربعون: قولكم: قال عبد الله بن مسعود "من كان مستنا منكم فليستن بمن قد مات" أولئك أصحاب محمد فهذا من أكبر الحجج عليكم من وجوه فإنه نهى عن الاستنان بالأحياء وأنتم تقلدون الأحياء والأموات الثاني أنه عين المستن بهم بأنهم خير الخلق وأبر الأمة وأعلمهم وهم الصحابة رضي الله عنهم وأنتم معاشر المقلدين لا ترون تقليدهم ولا الاستنان بهم وإنما ترون تقليد فلان وفلان ممن هو دونهم بكثير الثالث أن الاستنان بهم هو الاقتداء بهم وهو بأن يأتي المقتدي بمثل ما أتوا به ويفعل كما فعلوا وهذا يبطل قبول قول أحد بغير حجة كما كان الصحابة عليه الرابع: أن ابن مسعود قد صح عنه النهي عن التقليد وأن يكون الرجل إمعة لا بصيرة له فعلم أن الاستنان عنده غير التقليد. الوجه السابع والأربعون: قولكم: قد صح النبي ﷺ أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" وقال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" فهذا من أكبر حججنا عليكم في بطلان ما أنتم عليه من التقليد فإنه خلاف سنتهم ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا منهم لم يكن يدع السنة إذا ظهرت لقول غيره كائنا من كان ولم يكن له معها قول ألبتة وطريقة فرقة التقليد خلاف ذلك. يوضحه الوجه الثامن والأربعون: أنه ﷺ قرن سنتهم بسنته في وجوب الاتباع والأخذ بسنتهم ليس تقليدا لهم بل اتباع لرسول الله ﷺ كما أن الأخذ بلأذان لم يكن تقليدا لمن رآه في المنام والأخذ بقضاء ما فات المسبوق من صلاته بعد سلام الإمام لم يكن تقليدا لمعاذ بل اتباعا لما أمرنا بالأخذ بذلك فاين التقليد الذي أنتم عليه من هذا؟ يوضحه الوجه التاسع والأربعون: أنكم أول مخالف لهذين الحديثين فإنكم لا ترون الأخذ بسنتهم ولا الاقتداء بهم واجبا وليس قولهم عندكم حجة وقد صرح بعض غلاتكم بأنه لا يجوز تقليدهم ويجب تقليد الشافعي فمن العجائب احتجاجكم بشيء أنتم أشد الناس خلافا له وبالله التوفيق. يوضحه الوجه الخمسون: أن الحديث بجملته حجة عليكم من كل وجه فإنه أمر عند كثرة الاختلاف بسنته وسنة خلفائه وأمرتم أنتم برأي فلان ومذهب فلان الثاني أنه حذر من محدثات الأمور وأخبر أن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ومن المعلوم بالاضطرار أن ما أنتم عليه من التقليد الذي ترك له كتاب الله وسنة رسوله ويعرض القرآن والسنة عليه ويجعل معيارا عليهما من أعظم المحدثات والبدع التي برأ الله سبحانه القرون التي فضلها وخيرها على غيرها وبالجمله فما سنه الخلفاء الراشدون أو أحدهم للأمة فهو حجة لا يجوز العدول عنها فأين هذا من قول فرقة التقليد ليست سنتهم حجة ولا يجوز تقليدهم فيها؟ يوضحه الوجه الحادي والخمسون: أنه ﷺ قال في نفس هذا الحديث: "فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا" وهذا ذم للمختلفين وتحذير من سلوك سبيلهم وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره بسبب التقليد وأهله وهم الذين فرقوا الدين وصيروا أهله شيعا كل فرقة تنصر متبوعها وتدعو إليه وتذم من خالفها ولا يرون العمل بقولهم حتى كأنهم ملة أخرى سواهم يدأبون ويكدحون في الرد عليهم ويقولون: كتبهم وكتبنا وأئمتهم وأئمتنا ومذهبهم ومذهبنا هذا والنبي واحد والقرآن واحد والدين واحد والرب واحد فالواجب على الجميع أن ينقادوا إلى كلمة سواء بينهم كلهم وأن لا يطيعوا إلا الرسول ولا يجعلوا معه من يكون أقواله كنصوصه ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله فلو اتفقت كلمتهم على ذلك وانقاد كل واحد منهم لمن دعاه إلى الله ورسوله وتحاكموا كلهم إلى السنة وآثار الصحابة لقل الاختلاف وإن لم يعدم من الأرض ولهذا تجد أقل الناس اختلافا أهل السنة والحديث فليس على وجه الأرض طائفة أكثر اتفاقا وأقل اختلافا منهم لما بنوا على هذا الأصل وكلما كانت الفرقة عن الحديث أبعد كان اختلافهم في أنفسهم أشد وأكثر فإن من رد الحق مرج عليه أمره واختلط عليه والتبس عليه وجه الصواب فلم يدر أين يذهب كما قال تعالى {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}. الوجه الثاني والخمسون: قولكم: إن عمر كتب إلى شريح "أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله فإن لم يكن في سنة رسول الله فبما قضى به الصالحون" فهذا من أظهر الحجج عليكم على بطلان التقليد فإنه أمره أن يقدم الحكم بالكتاب على كل ما سواه فإن لم يجده في الكتاب ووجده في السنة لم يلتفت إلى غيرها فإن لم يجده في السنة قضى بما قضى الصحابة ونحن نناشد الله فرقة التقليد: هل هم كذلك أو قريبا من ذلك؟ وهل إذا نزلت بهم نازلة حدث أحد منهم نفسه أن يأخذ حكمها من كتاب الله ثم ينفذه فإن لم يجدها في كتاب الله أخذها من سنة رسول الله ﷺ فإن لم يجدها في السنة أفتى فيها بما أفتى به الصحابة والله يشهد عليهم وملائكته وهم شاهدون على أنفسهم بأنهم إنما يأخذون حكمها من قول من قلدوه وإن استبان لهم في الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة خلاف ذلك لم يلتفتوا إليه ولم يأخذوا بشيء منه إلا بقول من قلدوه فكتاب عمر من أبطل الأشياء وأكسرها لقولهم وهذا كان سير السلف المستقيم وهديهم القويم. فلما انتهت النوبة إلى المتأخرين ساروا عكس هذا السير وقالوا إذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم فعليه أن ينظر أولا: هل فيها اختلاف أم لا فإن لم يكن فيها اختلاف لم ينظر في كتاب ولا في سنة بل يفتي ويقضي فيها بالإجماع وإن كان فيها اختلاف اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل فأفتى به وحكم به وهذا خلاف ما دل عليه حديث معاذ وكتاب عمر وأقوال الصحابة والذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة أولى فإنه مقدور مأمور فإن علم المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة أسهل عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم وهذا إن لم يكن متعذرا فهو أصعب شيء وأشقه إلا فيما هو من لوازم الإسلام فكيف يحيلنا الله ورسوله على ما لا وصول لنا إليه ويترك الحوالة على كتابه وسنة رسوله اللذين هدانا بهما ويسرهما لنا وجعل لنا إلى معرفتهما طريقا سهلة التناول من قرب؟ ثم ما يدريه فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم وليس عدم العلم بالنزاع علما بعدمه فكيف يقدم عدم العلم على أصل العلم كله ثم كيف يسوغ له ترك الحق المعلوم إلى أمر لا علم له به وغايته أن يكون موهوها وأحسن أحواله أن يكون مشكوكا فيه شكا متساويا أو راجحا ثم كيف يستقيم هذا على رأي من يقول: انقراض عصر المجمعين شرط في صحة الإجماع فما لم ينقرض عصرهم فلمن نشأ في زمنهم أن يخالفهم فصاحب هذا السلوك لا يمكنه أن يحتج بالإجماع حتى يعلم أن العصر انقرض ولم ينشأ فيه مخالف لأهله وهل أحال الله الأمة في الاهتداء بكتابه وسنة رسوله على ما لا سبيل لهم إليه ولا اطلاع لأفرادهم عليه وترك إحالتهم على ما هو بين أظهرهم حجة عليهم باقية إلى آخر الدهر متمكنون من الاهتداء به ومعرفة الحق منه وهذا من أمحل المحال وحين نشأت هذه الطريقة تولد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول وانفتح باب دعواه وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتج عليه بالقرآن والسنة قال هذا خلاف الإجماع وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام وعابوا من كل ناحية على من ارتكبه وكذبوا من ادعاه فقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله من ادعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس اختلفوا هذه دعوى بشر المريسي والأصم ولكن بقول لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغنا. وقال في رواية المروزي: كيف يجوز للرجل أن يقول: "أجمعوا" إذا سمعتهم يقولون: "أجمعوا" فاتهمهم لو قال: "إني لم أعلم مخالفا" كان. وقال في رواية أبي طالب: هذا كذب ما علمه أن الناس مجمعون؟ ولكن يقال: "ما أعلم فيه اختلافا" فهو أحسن من قوله إجماع الناس. وقال في رواية أبي الحارث: لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع لعل الناس اختلفوا. ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب على السنة والسنة على الإجماع وجعل الإجماع في المرتبة الثالثة قال الشافعي: "الحجة كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الأئمة" وقال في كتاب اختلافه مع مالك: "والعلم طبقات الأولى: الكتاب والسنة الثابتة ثم الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة الثالثة: أن يقول الصحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة الرابعة: اختلاف الصحابة والخامسة: القياس" فقدم النظر في الكتاب والسنة على الإجماع ثم أخبر أنه إنما يصار إلى الإجماع فيما لم يعلم فيه كتابا ولا سنة وهذا هو الحق. وقال أبو حاتم الرازي: العلم عندنا ما كان عن الله تعالى من كتاب ناطق ناسخ غير منسوخ وما صحت به الأخبار عن رسول الله ﷺ مما لا معارض له وما جاء عن الألباء من الصحابة ما اتفقوا عليه فإذا اختلفوا لم يخرج من اختلافهم فإذا خفي ذلك ولم يفهم فعن التابعين فإذا لم يوجد عن التابعين فعن أئمة الهدى من أتباعهم مثل أيوب السختياني وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وسفيان ومالك والأوزاعي والحسن بن صالح ثم ما لم يوجد عن أمثالهم فعن مثل عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن إدريس ويحيى بن آدم وابن عيينة ووكيع بن الجراح ومن بعدهم محمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هارون والحميدي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي وأبي عبيد القاسم ابن سلام انتهى. فهذا طريق أهل العلم وأئمة الدين جعل أقوال هؤلاء بدلا عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة بمنزلة التيمم إنما يصار إليه عند عدم الماء فعدل هؤلاء المتأخرون المقلدون إلى التيمم والماء بين أظهرهم أسهل من التيمم بكثير. ثم حدثت بعد هؤلاء فرقة هم أعداء العلم وأهله فقالوا: إذا نزلت بالمفتي أو الحاكم نازلة لم يجز أن ينظر فيها في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا أقوال الصحابة بل إلى ما قاله مقلده ومتبوعه ومن جعله عيارا على القرآن والسنة فما وافق قوله أفتى به وحكم به وما خالفه لم يجز له أن يفتي به ولا يقضي به وإن فعل ذلك تعرض لعزله عن منصب الفتوى والحكم واستفتى له ما تقول السادة والفقهاء فيمن ينتسب إلى مذهب إمام معين يقلده دون غيره ثم يفتي أو يحكم بخلاف مذهبه هل يجوز له ذلك أم لا وهل يقدح ذلك فيه أم لا فينغض المقلدون رءوسهم ويقولون له لا يجوز ذلك ويقدح فيه ولعل القول الذي عدل إليه هو قول أبي بكر وعمر وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأمثالهم فيجيب هذا الذي انتصب للتوقيع عن الله ورسوله بأنه لا يجوز له مخالفة قول متبوعه لأقوال من هو أعلم بالله ورسوله منه وإن كان مع أقوالهم كتاب الله وسنة رسوله وهذا من أعظم جنايات فرقة التقليد على الدين ولو أنهم لزموا حدهم ومرتبتهم وأخبروا إخبارا مجردا عما وجدوه من السواد في البياض من أقوال لا علم لهم بصحيحها من باطلها لكان لهم عذر ما عند الله ولكن هذا مبلغهم من العلم وهذه معاداتهم لأهله وللقائمين لله بحججه وبالله التوفيق. الوجه الثالث والخمسون: قولكم: "منع عمر من بيع أمهات الأولاد وتبعه الصحابة وألزم بالطلاق الثلاث وتبعوه أيضا" جوابه من وجوه أحدها: أنهم لم يتبعوه تقليدا له بل أداهم اجتهادهم في ذلك إلى ما أداه إليه اجتهاده ولم يقل أحد منهم قط إني رأيت ذلك تقليدا لعمر الثاني: أنهم لم يتبعوه كلهم فهذا ابن مسعود يخالفه في أمهات الأولاد وهذا ابن عباس يخالفه في الإلزام بالطلاق الثلاث وإذا اختلف الصحابة وغيرهم فالحاكم هو الحجة الثالث: أنه ليس في اتباع قول عمر رضي الله عنه في هاتين المسألتين وتقليد الصحابة لو فرض له في ذلك ما يسوغ تقليد من هو دونه بكثير في كل ما يقوله وترك قول من هو مثله ومن هو فوقه وأعلم منه فهذا من أبطل الاستدلال وهو تعلق ببيت العنكبوت فقلدوا عمر وتركوا تقليد فلان وفلان فأما أنتم تصرحون بأن عمر لا يقلد وأبو حنيفة والشافعي ومالك يقلدون فلا يمكنكم الاستدلال بما أنتم مخالفون له فكيف يجوز للرجل أن يحتج بما لا يقول به؟ الوجه الرابع والخمسون: قولكم: "إن عمرو بن العاص قال لعمر لما احتلم: خذ ثوبا غير ثوبك فقال: لو فعلت صارت سنة" فأين في هذا من الإذن من عمر في تقليده والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله؟ وغاية هذا أنه تركه لئلا يقتدي به من يراه ويفعل ذلك ويقول: لولا أن هذه سنة رسول الله ﷺ ما فعله عمر فهذا هو الذي خشيه عمر والناس مقتدون بعلمائهم شاءوا أم أبوا فهذا هو الواقع وإن كان الوجب فيه تفصيل. الوجه الخامس والخمسون: قولكم: "قد قال أبيّ: ما اشتبه عليك فكله إلى عالمه" فهذا حق وهو الواجب على من سوى الرسول فإن كل أحد بعد الرسول لا بد أن يشتبه عليه بعض ما جاء به وكل من اشتبه عليه شيء وجب عليه أن يكله إلى من هو أعلم منه فإن تبين له صار عالما مثله وإلا وكله إليه ولم يتكلف مالا علم به فهذا هو الواجب علينا في كتاب ربنا وسنة نبينا وأقوال أصحابه وقد جعل الله سبحانه فوق كل ذي علم عليم فمن خفي عليه بعض الحق فوكله إلى من هو أعلم منه فقد أصاب فأي شيء في هذا من الإعراض عن القرآن والسنن وآثار الصحابة واتخاذ رجل بعينه معيارا على ذلك وترك النصوص لقوله وعرضها عليه وقبول كل ما أفتى به ورد كل ما خالفه وهذا الأثر نفسه من أكبر الحجج على بطلان التقليد فإن أوله "ما استبان لك فاعمل به وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه" ونحن نناشدكم الله إذا استبانت لكم السنة هل تتركون قول من قلدتموه لها وتعلمون بها وتفتون أو تقضون بموجبها أم تتركونها وتعدلون عنها إلى قوله وتقولون: هو أعلم بها منا؟ فأبي رضي الله عنه مع سائر الصحابة على هذه الوصية وهي مبطلة للتقليد قطعا وبالله التوفيق ثم نقول: هل وكلتم ما اشتبه عليكم من المسائل إلى عالمها من أصحاب رسول الله ﷺ إذ هم أعلم الأمة وأفضلها أم تركتم أقوالهم وعدلتم عنها فإن كل من قلدتموه ممن يوكل ذلك إليه فالصحابة أحق أن يوكل ذلك إليهم. الوجه السادس والخمسون: قولكم: "كان الصحابة يفتون ورسول الله ﷺ حي بين أظهرهم وهذا تقليد من المستفتين لهم" وجوابه أن فتواهم إنما كانت تبليغا عن الله ورسوله وكانوا بمنزلة المخبرين فقط لم تكن فتواهم تقليدا لرأي فلان وفلان وإن خالفت النصوص فهم لم يكونوا يقلدون في فتواهم ولا يفتون بغير النصوص ولم يكن المستفتون لهم يعتمدون إلا على ما يبلغونهم إياه عن نبيهم فيقولون: أمر بكذا وفعل كذا ونهى عن كذا هكذا كانت فتواهم فهي حجة على المستفتين كما هي حجة عليهم ولا فرق بينهم وبين المستفتين لهم في ذلك إلا في الواسطة بينهم وبين الرسول وعدمها والله ورسوله وسائر أهل العلم يعلمون أنهم وأن مستفتيهم لم يعلموا إلا بما علموه عن نبيهم وشاهدوه وسمعوه منه وهؤلاء بواسطة وهؤلاء بغير واسطة ولم يكن فيهم من يأخذ قول واحد من الأمة يحلل ما حلله ويحرم ما حرمه ويستبيح ما أباحه وقد أنكر النبي ﷺ على من أفتى بغير السنة منهم كما أنكر على أبي السنابل وكذبه وأنكر على من أفتى برجم الزاني البكر وأنكر عن من أفتى باغتسال الجريح حتى مات وأنكر على من أفتى بغير علم كمن يفتي بما لا يعلم صحته وأخبر أن إثم المستفتى عليه فإفتاء الصحابة في حياته نوعان: أحدهما: كان يبلغه ويقرهم عليه فهو حجة بإقراره لا بمجرد إفتائهم الثاني: ما كانوا يفتون به مبلغين له عن نبيهم فهم فيه رواة لا مقلدون ولا مقلدون. الوجه السابع والخمسون: قولكم: "وقد قال تعالى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} فأوجب قبول نذراتهم وذلك تقليد لهم" جوابه من وجوه أحدها: أن الله سبحانه إنما أوجب عليهم قبول ما أنذروهم به من الوحي الذي ينزل في غيبتهم عن النبي ﷺ في الجهاد فأين في هذا حجة لفرقة التقليد على تقديم آراء الرجال على الوحي؟ الثاني: أن الآية حجة عليهم ظاهرة فإنه سبحانه نوع عبوديتهم وقيامهم بأمره إلى نوعين: أحدهما: نفير الجهاد والثاني التفقه في الدين وجعل قيام الدين بهذين الفريقين وهم الأمراء والعلماء أهل الجهاد وأهل العلم فالنافرون يجاهدون عن القاعدين والقاعدون يحفظون العلم للنافرين فإذا رجعوا من نفيرهم استدركوا ما فاتهم من العلم بإخبار من سمعه من رسول الله ﷺ وهنا للناس في الآية قولان أحدهما: أن المعنى فهلا نفر من كل فرقة طائفة تتفقه وتنذر القاعدة فيكون المعنى في طلب العلم وهذا قول الشافعي وجماعة من المفسرين واحتجوا به على قبول خبر واحد لأن الطائفة لا يجب أن تكون عدد التواتر والثاني أن المعنى فلولا نفر من كل قرية طائفة تجاهد لتتفقه القاعدة وتنذر النافرة للجهاد إذا رجعوا إليهم ويخبرونهم بما نزل بعدهم من الوحي وهذا قول الأكثرين وهو الصحيح لأن النفير إنما هو الخروج للجهاد كما قال النبي ﷺ: "وإذا استنفرتم فانفروا" وأيضا فإن المؤمنين عام في المقيمين مع النبي ﷺ والغائبين عنه والمقيمون مرادون ولا بد فإنهم سادات المؤمنين فكيف لا يتناولهم اللفظ وعلى قول أولئك يكون المؤمنون خاصا بالغائبين عنه فقط والمعنى وما كان المؤمنون لينفروا إليه كلهم فلولا نفر إليه كل قرية منهم طائفة وهذا خلاف ظاهر لفظ المؤمنين وإخراج للفظ النفير عن مفهومه في القرآن والسنة وعلى كلا القولين فليس في الآية ما يقتضي صحة القول بالتقليد المذموم بل هي حجة على فساده وبطلانه فإن الإنذار إنما يقوم بالحجة فمن لم تقم عليه الحجة لم يكن قد أنذر كما أن النذير من أقام الحجة فمن لم يأتي بحجة فليس بنذير فإن سميتم ذلك تقليدا فليس الشأن في الأسماء ونحن لا ننكر التقليد بهذا المعنى فسموه ما شئتم وإنما ننكر نصب رجل معين يجعل قوله عيارا على القرآن والسنن فما وافق قوله منها قبل وما خالفه لم يقبل ويقبل قوله بغير حجة ويرد قول نظيره أو أعلم منه والحجة معه فهذا الذي أنكرناه وكل عالم على وجه الأرض يعلن إنكاره وذمه وذم أهله. الوجه الثامن والخمسون: قولكم: "إن ابن الزبير سئل عن الجد والإخوة فقال: أما الذي قال رسول الله ﷺ لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذته خليلا يريد أبا بكر رضي الله عنه فإنه أنزله أبا" فأي شيء في هذا مما يدل على التقليد بوجه من الوجوه وقد تقدم من الأدلة الشافية التي لا مطمع في دفعها ما يدل على أن قول الصديق في الجد أصح الأقوال على الإطلاق وابن الزبير لم يخبر بذلك تقليدا بل أضاف المذهب إلى الصديق لينبه على جلالة قائله وأنه ممن لا يقاس غيره به لا يقبل قوله بغير حجة وتترك الحجة من القرآن والسنة لقوله فابن الزبير وغيره من الصحابة كانوا أتقى لله وحجج الله وبيناته أحب إليهم من أن يتركوها لآراء الرجال ولقول أحد كائنا من كان وقول ابن الزبير: "إن الصديق أنزله أبا" متضمن للحكم والدليل معا. الوجه التاسع والخمسون: قولكم: "وقد أمر الله بقبول شهادة الشاهد وذلك تقليد له" فلو لم يكن في آفات التقليد غير هذا الاستدلال لكفى به بطلانا وهل قبلنا قول الشاهد إلا بنص كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع الأمة على قبول قوله فإن الله سبحانه نصبه حجة يحكم الحاكم بها كما يحكم بالإقرار وكذلك قول المقر أيضا حجة شرعية وقبوله تقليد له كما سميتم قبول شهادة الشاهد تقليدا فسموه ما شئتم فإن الله سبحانه أمرنا بالحكم بذلك وجعله دليلا على الأحكام فالحاكم بالشهادة والإقرار منفذ لأمر الله ورسوله ولو تركنا تقليد الشاهد لم يلزم به حكم وقد كان النبي ﷺ يقضي بالشاهد وبالإقرار وذلك حكم بنفس ما أنزل الله لا بالتقليد فالاستدلال بذلك على التقليد المتضمن للإعراض عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وتقديم آراء الرجال عليها وتقديم قول الرجل على من هو أعلم منه واطراح قول من عداه جملة من باب قلب الحقائق وانتكاس العقول والإفهام وبالجملة فنحن إذا قبلنا قول الشاهد لم نقبله لمجرد كونه شهد به بل لأن الله سبحانه أمرنا بقبول قوله فأنتم معاشر المقلدين إذا قبلتم قول من قلدتموه قبلتموه لمجرد كونه قاله أو لأن الله أمركم بقبول قوله وطرح قول من سواه. الوجه الستون: قولكم: "وقد جاءت الشريعة بقبول قول القائف والخارص والقاسم والمقوم والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد وذلك تقليد محض" أتعنون به أنه تقليد لبعض العلماء في قبول أقوالهم أو تقليدهم فيما يخبرون به فإن عنيتم الأول فهو باطل وإن عنيتم الثاني فليس فيه ما تستروحون إليه من التقليد الذي قام الدليل على بطلانه وقبول قول هؤلاء من باب قبول خبر المخبر والشاهد لا من باب قبول الفتيا في الدين من غير قيام دليل على صحتها بل لمجرد إحسان الظن بقائلها مع تجويز الخطأ عليه فأين قبول الإخبار والشهادات والأقارير إلى التقليد في الفتوى والمخبر بهذه الأمور يخبر عن أمر حسي طريق العلم به إدراكه بالحواس والمشاعر الظاهرة والباطنة وقد أمر الله سبحانه بقول خبر المخبر به إذا كان ظاهر الصدق والعدالة وطرد هذا ونظيره قبول خبرالمخبر عن رسول الله ﷺ بأنه قال أو فعل وقبول خبر المخبر عمن أخبر عنه بذلك وهلم جرا فهذا حق لا ينازع فيه أحد. وأما تقليد الرجل فيما يخبر به عن ظنه فليس فيه أكثر من العلم بأن ذلك ظنه واجتهاده فتقليدنا له في ذلك بمنزلة تقليدنا له فيما يخبر به عن رؤيته وسماعه وإدراكه فأين في هذا ما يوجب علينا أو يسوغ لنا أن نفتي بذلك أو نحكم به وندين الله به ونقول هذا هو الحق وما خالفه باطل ونترك له نصوص القرآن والسنة وآثار الصحابة وأقوال من عداه من جميع أهل العلم؟ ومن هذا الباب تقليد الأعمى في القبلة ودخول الوقت لغيره وقد كان ابن أم مكتوم لا يؤذن حتى يقلد غيره في طلوع الفجر ويقال له أصبحت أصبحت وكذلك تقليد الناس للمؤذن في دخول الوقت وتقليد من في المطمورة لمن يعلمه بأوقات الصلاة والفطر والصوم وأمثال ذلك ومن ذلك التقليد في قبول الترجمة في الرسالة والتعريف والتعديل والجرح كل هذا من باب الأخبار التي أمر الله بقبول المخبر بها إذا كان عدلا صادقا وقد أجمع الناس على قبول خبر الواحد في الهدية وإدخال الزوجة على زوجها وقبول خبر المرأة ذمية كانت أو مسلمة في انقطاع دم حيضها لوقته وجواز وطئها أو نكاحها بذلك وليس هذا تقليد في الفتيا والحكم وإذا كان تقليدا لها فإن الله سبحانه شرع لنا أن نقبل قولها ونقلدها فيه ولم يشرع لنا أن نتلقى أحكامه عن غير رسوله فضلا عن أن نترك سنة رسوله لقول واحد من أهل العلم ونقدم قوله على قول من عداه من الأمة. الوجه الحادي والستون: قولكم: "وأجمعوا على جواز شراء اللحمان والأطعمة والثياب وغيرها من غير سؤال عن أسباب حلها اكتفاء بتقليد أربابها" جوابه أن هذا ليس تقليدا في حكم من أحكام الله ورسوله من غير دليل بل هو اكتفاء بقبول قول الذابح والبائع وهو اقتداء واتباع لأمر الله ورسوله حتى لو كان الذابح والبائع يهوديا أو نصرانيا أو فاجرا اكتفينا بقوله في ذلك ولم نسأله عن أسباب الحل كما قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله إن ناسا يأتوننا باللحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لا فقال: "سموا وأنتم وكلوا" فهل يسوغ لكم تقليد الكفار والفساق في الدين كما تقلدونهم في الذبائح والأطعمة فدعوا هذه الاحتجاجات الباردة وادخلوا معنا في الأدلة الفارقة بين الحق والباطل لنعقد معكم عقد الصلح اللازم على تحكيم كتاب الله وسنة رسوله والتحاكم إليهما وترك أقوال الرجال لهما وأن ندور مع الحق حيث كان ولا نتحيز إلى شخص معين غير الرسول نقبل قوله كله ونرد قول من خالفه كله وإلا فاشهدوا بأنا أول منكر لهذه الطريقة وراغب عنها داع إلى خلافها والله المستعان. الوجه الثاني والستون: قولكم: "لو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء ضاعت مصالح العباد وتعطلت الصنائع والمتاجر وهذا مما لا سبيل إليه شرعا وقدرا" فجوابه من وجوه: أحدها: أن من رحمة الله سبحانه بنا ورأفته أنه لم يكلفنا بالتقليد فلو كلفنا به لضاعت أمورنا وفسدت مصالحنا لأنا لم نكن ندري من نقلد من المفتين والفقهاء وهم عدد فوق المئتين ولا يدري عددهم في الحقيقة إلا الله فإن المسلمين قد ملأوا الأرض شرقا وغربا وجنوبا وشمالا وانتشر الإسلام بحمد الله وفضله وبلغ ما بلغ الليل فلو كلفنا بالتقليد لوقعنا في أعظم العنت والفساد ولكلفنا بتحليل الشيء وتحريمه وإيجاب الشيء وإسقاطه كعا إن كلفنا بتقليد كل عالم وإن كلفنا بتقليد الأعلم فالأعلم فمعرفة ما دل عليه القرآن والسنن من الأحكام أسهل بكثير من معرفة الأعلم الذي اجتمعت فيه شروط التقليد ومعرفة ذلك مشقة على العالم الراسخ فضلا عن المقلد الذي هو كالأعمى وإن كلفنا بتقليد البعض وكان جعل ذلك إلى تشهينا واختيارنا صار دين الله تبعا لإرادتنا واختيارنا وشهواتنا وهو عين المحال فلا بد أن يكون ذلك راجعا إلى من أمر الله باتباع قوله وتلقي الدين من بين شفتيه وذلك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله وأمينه على وحيه وحجته على خلقه ولم يحعل الله هذا المنصب لسواه بعده أبدا. الثاني: أن بالنظر والاستدلال صلاح الأمور لا ضياعها وبإهماله وتقليد من يخطيء ويصيب إضاعتها وفسادها كما الواقع شاهد به. والثالث: أن كل واحد منا مأمور بأن يصدق الرسول فيما أخبر به ويطيعه فيما أمر وذلك لا يكون إلا بعد معرفة أمره وخبره ولم يوجب الله سبحانه من ذلك على الأمة إلا ما فيه حفظ دينها ودنياها وصلاحها في معاشها ومعادها وبإهمال ذلك تضيع مصالحها وتفسد أمورها فما خراب العالم إلا بالجهل ولا عمارته إلا بالعلم وإذا ظهر العلم في بلد أو محلة قل الشر في أهلها وإذا خفي العلم هناك ظهر الشر والفساد ومن لم يعرف هذا فهو ممن لم يجعل الله له نورا قال الإمام أحمد ولولا العلم كان الناس كالبهائم وقال الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثا والعلم يحتاج إليه كل وقت. الرابع: أن الواجب على كل عبد أن يعرف ما يخصه من الأحكام ولا يجب عليه أن يعرف ما لا تدعوه الحاجة إلى معرفته وليس في ذلك إضاعة لمصلحة الخلق ولا تعطيل لمعاشهم فقد كان الصحابة رضي الله عنهم قائمين بمصالحهم ومعاشهم وعمارة حروثهم والقيام على مواشيهم والضرب في الأرض لمتاجرهم والصفق بالأسواق وهم أهدى العلماء الذين لا يشق في العلم غبارهم. الخامس: أن العلم النافع هو الذي جاء به الرسول دون مقدرات الأذهان ومسائل الخرص والألغاز وذلك بحمد الله تعالى أيسر شيء على النفوس تحصيله وحفظه وفهمه فإنه كتاب الله الذي يسره للذكر كما قال تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قال البخاري في صحيحه: قال مطر الوراق: هل من طالب علم فيعان عليه؟ ولم يقل فتضيع عليه مصالحه وتتعطل معايشه عليه وسنة رسوله وهي بحمد الله تعالى مضبوطة محفوظة وأصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمسمائة حديث وفرشها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث وإنما الذي هو في غاية الصعوبة والمشقة مقدرات الأذهان وأغلوطات المسائل والفروع والأصول التي ما أنزل الله بها من سلطان التي كل مالها في نمو وزيادة وتوليد والدين كل ماله في غربة ونقصان والله المستعان. الوجه الثالث والستون: قولكم: "قد أجمع الناس على تقليد الزوج لمن يهدي إليه زوجته ليلة الدخول وعلى تقليد الأعمى في القبلة والوقت وتقليد المؤذنين وتقليد الأئمة في الطهارة وقراءة الفاتحة وتقليد الزوجة في انقطاع دمها ووطئها وتزويجها". فجوابه ما تقدم أن استدلالكم بهذا من باب المغاليط وليس هذا من التقليد المذموم على لسان السلف والخلف في شيء ونحن لم نرجع إلى أقوال هؤلاء لكونهم أخبروا بها بل لأن الله ورسوله أمر بقبول قولهم وجعله دليلا على ترتب الأحكام فإخبارهم بمنزلة الشهادة والإقرار فأين في هذا ما يسوغ التقليد في أحكام الدين والإعراض عن القرآن والسنن ونصب رجل بعينه ميزانا على كتاب الله وسنة رسوله. الوجه الرابع والستون: قولكم: "أمر النبي ﷺ عقبة بن الحارث أن يقلد المرأة التي أخبرته بأنها أرضعته وزوجته" فيالله العجب فأنتم لا تقلدونها في ذلك ولو كانت أمهات المؤمنين ولا تأخذون بهذا الحديث وتتركونه تقليدا لمن قلدتموه دينكم وأي شيء في هذا مما يدل على التقليد في دين الله وهل هذا إلا بمنزلة قبول خبر المخبر عن أمر حسي يخبر به وبمنزلة قبول الشاهد وهل كان مفارقة عقبة لها تقليدا لتلك الأمة أو اتباعا لرسول الله حيث أمره بفراقها فمن بركة التقليد أنكم لا تأمرونه بفراقها وتقولون هي زوجتك حلال وطؤها وأما نحن فمن حقوق الدليل علينا أن نأمر من وقعت له هذه الواقعة بمثل ما أمر به رسول الله ﷺ لعقبة بن الحارث سواء ولا نترك الحديث تقليدا لأحد. الوجه الخامس والستون: قولكم: "قد صرح الأئمة بجواز التقليد كما قال سفيان: "إذا رأيت الرجل يعمل العمل وأنت ترى غيره فلا تنهه" وقال محمد بن الحسن: "يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ولا يجوز له تقليد مثله" وقال الشافعي في غير موضع: "قلته تقليدا لعمر وقلته تقليدا لعثمان وقلته تقليدا لعطاء". جوابه من وجوه أحدها: أنكم إن ادعيتم أن جميع العلماء صرحوا بجواز التقليد فدعوى باطلة فقد ذكرنا من كلام الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في ذم التقليد وأهله والنهي عنه ما فيه كفاية وكانوا يسمون المقلد الإمعة ومحقب دينه كما قال ابن مسعود الإمعة الذي يحقب دينه الرجال وكانوا يسمونه الأعمى الذي لا بصيرة له ويسمون المقلدين أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يركنوا إلى ركن وثيق كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة وكما سماه الشافعي حاطب ليل ونهى عن تقليده وتقليد غيره فجزاه الله عن الإسلام خيرا لقد نصح لله ولرسوله والمسلمين ودعا إلى كتاب الله وسنة رسوله وأمر باتباعهما دون قوله وأمرنا بأن نعرض أقواله عليهما فنقبل منها ما وافقهما ونرد ما خالفهما فنحن نناشد المقلدين هل حفظوا في ذلك وصيته وأطاعوه أم عصوه وخالفوه وإن ادعيتم أن من العلماء من جوز التقليد فكان ما رأى. الثاني: أن هؤلاء الذين حكيتم عنهم أنهم جوزوا التقليد لمن هو أعلم منهم هم من أعظم الناس رغبة عن التقليد واتباعا للحجة ومخالفة لمن هو أعلم منهم فأنتم مقرون أن أبا حنيفة أعلم من محمد بن الحسن ومن أبي يوسف وخلافهما له معروف وقد صح عن أبي يوسف أنه قال لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا. الثالث: أنكم منكرون أن يكون من قلدتموه من الأئمة مقلدا لغيره أشد الإنكار وقمتم وقعدتم في قول الشافعي قلته تقليدا لعمر وقلته تقليدا لعثمان وقلته تقليدا لعطاء واضطربتم في حمل كلامه على موافقة الاجتهاد أشد الاضطراب وادعيتم أنه لم يقلد زيدا في الفرائض وإنما اجتهد فوافق اجتهاده اجتهاده ووقع الخاطر على الخاطر حتى وافق اجتهاده في مسائل المعادة حتى في الأكدرية وجاء الاجتهاد حذو القذة بالقذة فكيف نصبتموه مقلدا ههنا ولكن هذا التناقض جاء من بركة التقليد ولو انبعتم العلم من حيث هو واقتديتم بالدليل وجعلتم الحجة إماما لما تناقضتم هذا التناقض وأعطيتم كل ذي حق حقه. الرابع: أن هذا من أكبر الحجج عليكم فإن الشافعي قد صرح بتقليد عمر وعثمان وعطاء مع كونه من أئمة المجتهدين وأنتم مع إقراركم بأنكم من المقلدين لا ترون تقليد واحد من هؤلاء بل إذا قال الشافعي وقال عمر وعثمان وابن مسعود فضلا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن تركتم تقليد هؤلاء وقلدتم الشافعي وهذا عين التناقض فخالفتموه من حيث زعمتم أنكم قلدتموه فإن قلدتم الشافعي فقلدوا من قلده الشافعي فإن قلتم بل قلدناهم فيما قلدهم فيه الشافعي قيل لم يكن ذلك تقليدا منكم لهم بل تقليدا له وإلا فلو جاء عنهم خلاف قوله لم تلتفتوا إلى أحد منهم. الخامس: أن من ذكرتم من الأئمة لم يقلدوا تقليدكم ولا سوغوه بتة بل غاية ما نقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة لم يظفروا فيها بنص عن الله ورسوله ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلدوه وهذا فعل أهل العلم وهو الواجب فإن التقليد إنما يباح للمضطر وأما من عدل عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد فهو كمن عدل إلى الميتة مع قدرته على المذكى فإن الأصل أن لا يقبل قول الغير إلا بدليل عند الضرورة فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم. الوجه السادس والستون: قولكم: "قال الشافعي: رأي الصحابة لنا خير من رأينا لأنفسنا" ونحن نقول ونصدق رأي الشافعي والأئمة لنا خير من رأينا لأنفسنا جوابه من وجوه: أحدها: أنكم أول مخالف لقوله ولا ترون رأيهم لكم خيرا من رأي الأئمة لأنفسهم بل تقولون رأي الأئمة لأنفسهم خير لنا من رأي الصحابة لنا فإذا جاءت الفتيا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسادات الصحابة وجاءت الفتيا عن الشافعي وأبي حنيفة ومالك تركتم ما جاء عن الصحابة وأخذتم بما أفتى به الأئمة فهلا كان رأي الصحابة لكم خيرا من رأي الأئمة لكم لو نصحتم أنفسكم. الثاني: أن هذا لا يوجب صحة تقليد من سوى الصحابة لما خصهم الله به من العلم والفهم والفضل والفقه عن الله ورسوله وشاهدوا الوحي والتلقي عن الرسول بلا واسطة ونزول الوحي بلغتهم وهي غضة محضة لم تشب ومراجعتهم رسول الله ﷺ فيما أشكل عليهم من القرآن والسنة حتى يجليه لهم فمن له هذه المزية بعدهم ومن شاركهم في هذه المنزلة حتى يقلد كما يقلدون فضلا عن وجوب تقليده وسقوط تقليدهم أو تحريمه كما صرح به غلاتهم وتالله إن بين علم الصحابة وعلم من قلدتموه من الفضل كما بينهم وبينهم في ذلك. قال الشافعي في الرسالة القديمة بعد أن ذكرهم وذكر من تعظيمهم وفضلهم: "وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به عليهم وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا" قال الشافعي: "وقد أثنى الله على الصحابة في القرآن والتوراة والإنجيل وسبق لهم من الفضل على لسان نبيهم ما ليس لأحد بعدهم" وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" وقال ابن مسعود: "إن الله نظر في قلوب عباده فوجد قلب محمد خير قلوب العباد ثم نظر في قلوب الناس بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته وجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح وقد أمرنا رسول الله ﷺ باتباع سنة خلفائه الراشدين وبالاقتداء بالخليفتين" وقال أبو سعيد: "كان أبو بكر أعلمنا برسول الله ﷺ وشهد رسول الله ﷺ لابن مسعود بالعلم ودعا لابن عباس بأن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل وضمه إليه مرة وقال اللهم علمه الحكمة وتأول عمر في المنام القدح الذي شرب منه حتى رأى الري يخرج من تحت أظفاره وأوله بالعلم وأخبر أن القوم إن أطاعوا أبا بكر وعمر يرشدوا وأخبر أنه لو كان بعده نبي لكان عمر وأخبر أن الله جعل الحق على لسانه وقلبه وقال رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد يعني عبد الله بن مسعود وفضائلهم ومناقبهم وما خصهم الله به من العلم والفضل أكثر من أن يذكر فهل يستوي تقليد هؤلاء وتقليد من بعدهم ممن لا يدانيهم ولا يقاربهم". الثالث: أنه لم يختلف المسلمون أنه ليس قول من قلدتموه حجة وأكثر العلماء بل الذي نص عليه من قلدتموه أن أقوال الصحابة حجة يجب اتباعها ويحرم الخروج منها كما سيأتي حكاية ألفاظ الأئمة في ذلك وأبلغهم فيه الشافعي ونبين أنه لم يختلف مذهبه أن قول الصحابي حجة ونذكر نصوصه في الجديد على ذلك إن شاء الله وأن من حكى عنه قولين في ذلك فإنما حكى ذلك بلازم قوله لا بصريحه وإن كان قول الصحابي حجة فقبول قوله حجة واجب متعين وقبول قول من سواه أحسن أحواله أن يكون سائعا فقياس أحد القائلين على الآخر من أفسد القياس وأبطله. الوجه السابع والستون: قولكم: "وقد جعل الله سبحانه في فطر العباد تقليد المتعلمين للمعلمين والأستاذين في جميع الصنائع والعلوم إلى آخره" فجوابه أن هذا حق لا ينكره عاقل ولكن كيف يستلزم ذلك صحة التقليد في دين الله وقبول قول المتبوع بغير حجة توجب قبول قوله وتقديم قوله على قول من هو أعلم منه وترك الحجة لقوله وترك أقوال أهل العلم جميعا من السلف والخلف لقوله فهل جعل الله ذلك في فطرة أحد من العالمين ثم يقال: بل الذي فطر الله عليه عباده طلب الحجة والدليل المثبت لقول المدعي فركز سبحانه في فطر الناس أنهم لا يقبلون قول من لم يقم الدليل على صحة قوله ولأجل ذلك أقام الله سبحانه البراهين القاطعة والحجج الساطعة والأدلة الظاهرة والآيات الباهرة على صدق رسله إقامة للحجة وقطعا للمعذرة هذا وهم أصدق خلقه وأعلمهم وأبرهم وأكملهم فأتوا بالآيات والحجج والبراهين مع اعتراف أممهم لهم بأنهم أصدق الناس فكيف يقبل قول من عداهم بغير حجة توجب قبول قوله؟ والله تعالى إنما أوجب قبول قولهم بعد قيام الحجة وظهور الآيات المستلزمة لصحة دعواهم لما جعل الله في فطر عباده من الانقياد للحجة وقبول قول صاحبها وهذا أمر مشترك بين جميع أهل الأرض مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم الانقياد للحجة وتعظيم صاحبها وإن خالفوه عنادا وبغيا فلفوات أغراضهم بالانقياد ولقد أحسن القائل: أبن وجه قول الحق في قلب سامع ** ودعه فنور الحق يسري ويشرق. سيؤنسه رشدا وينسى نفاره ** كما نسي التوثيق من هو مطلق. ففطرة الله وشرعه من أكبر الحجج على فرقة التقليد. الوجه الثامن والستون: قولكم: "إن الله سبحانه فاوت بين قوى الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان فلا يليق بحكمته وعدله أن يفرض على كل أحد معرفة الحق بدليله في كل مسألة إلى آخره" فنحن لا ننكر ذلك ولا ندعي أن الله فرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله في كل مسألة من مسائل الدين دقه وجليه وإنما أنكرنا ما أنكره الأئمة ومن تقدمهم من الصحابة والتابعين وما حدث في الإسلام بعد انقضاء القرون الفاضلة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله ﷺ من نصب رجل واحد وجعل فتاويه بمنزلة نصوص الشارع بل تقديمها عليه وتقديم قوله على أقوال من بعد رسول الله ﷺ من جميع علماء أمته والاكتفاء بتقليده عن تلقي الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة وأن يضم إلى ذلك أنه لا يقول إلا بما في كتاب الله وسنة رسوله وهذا مع تضمنه للشهادة بما لا يعلم الشاهد والقول على الله بلا علم والإخبار عمن خالفه وإن كان أعلم منه أنه غير مصيب للكتاب والسنة ومتبوعي هو المصيب أو يقول: كلاهما مصيب للكتاب والسنة وقد تعارضت أقوالهما فيجعل أدلة الكتاب والسنة متعارضة متناقضة والله ورسوله يحكم بالشيء وضده في وقت واحد ودينه تبع لآراء الرجال وليس له في نفس الأمر حكم معين فهو إما أن يسلك هذا المسلك أو يخطيء من خالف متبوعه ولا بد له من واحد من الأمرين وهذا من بركة التقليد عليه. إذا عرفت هذا فنحن إنما قلنا ونقول: إن الله تعالى أوجب على العباد أن يتقوه بحسب استطاعتهم وأصل التقوى معرفة ما يتقى ثم العمل به فالواجب على كل عبد أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه ثم يلتزم طاعة الله ورسوله وما خفي عليه فهو فيه أسوة أمثاله ممن عدا الرسول فكل أحد سواه قد خفي عليه بعض ما جاء به ولم يخرجه ذلك عن كونه من أهل العلم ولم يكلفه الله ما لا يطيق من معرفة الحق واتباعه قال أبو عمر وليس أحد بعد رسول الله ﷺ إلا وقد خفي عليه بعض أمره فإذا أوجب الله سبحانه على كل أحد ما استطاعه وبلغته قواه من معرفة الحق وعذره فيما خفي عليه منه فأخطأ أو قلد فيه غيره كان ذلك هو مقتضى حكمته وعدله ورحمته بخلاف ما لو فرض على العباد تقليد من شاءوا من العلماء وأن يختار كل منهم رجلا ينصبه معيارا على وحيه ويعرض عن أخذ الأحكام واقتباسها من مشكاة الوحي فإن هذا ينافي حكمته ورحمته وإحسانه ويؤدي إلى ضياع دينه وهجر كتابه وسنة رسوله كما وقع فيه من وقع وبالله التوفيق. الوجه التاسع والستون: قولكم: "إنكم في تقليدكم بمنزلة المأموم مع الإمام والمتبوع مع التابع فالركب خلف الدليل" جوابه إنا والله حولها ندندن ولكن الشأن في الإمام والدليل والمتبوع الذي فرض الله على الخلائق أن تأتم به وتتبعه وتسير خلفه وأقسم سبحانه بعزته أن العباد لو أتوه من كل طريق أو استفتحوا من كل باب لم يفتح لهم حتى يدخلوا خلفه فهذا لعمر الله هو إمام الخلق ودليلهم وقائدهم حقا ولم يجعل الله منصب الإمامة بعده إلا لمن دعا إليه ودل عليه وأمر الناس أن يقتدوا به ويأتموا به ويسيروا خلفه وأن لا ينصبوا لنفوسهم متبوعا ولا إماما ولا دليلا غيره بل يكون العلماء مع الناس بمنزلة أئمة الصلاة مع المصلين كل واحد يصلي طاعة لله وامتثالا لأمره وهم في الجماعة متعاونون متساعدون بمنزلة الوفد مع الدليل كلهم يحج طاعة لله وامتثالا لأمره ل أن المأموم يصلي لأجل كون الإمام يصلي بل هو يصلي صلى إمامه أو لا بخلاف المقلد فإنه إنما ذهب إلى قول متبوعه لأنه قاله لا لأن الرسول قاله ولو كان كذاك لدار مع قول الرسول أين كان ولم يكن مقلدا فاحتجاجهم بإمام الصلاة ودليل الحاج من أظهر الحجج عليهم. يوضحه الوجه السبعون: أن المأموم قد علم أن هذه الصلاة التي فرضها الله سبحانه على عباده وأنه وإمامه في وجوبها سواء وأن هذا البيت هو الذي فرض الله حجه على كل من استطاع إليه سبيلا وأنه هو والدليل في هذا الفرض سواء فهو لم يحج تقليدا للدليل ولم يصل تقليدا للإمام وقد استأجر النبي ﷺ دليلا يدله على طريق المدينة لما هاجر الهجرة التي فرضها الله عليه وصلى خلف عبد الرحمن بن عوف مأموما والعالم يصلي خلف مثله ومن هو دونه بل خلف من ليس بعالم وليس من تقليده في شيء. يوضحه الوجه الحادي والسبعون: أن المأموم يأتي بمثل ما يأتي به الإمام سواء والركب يأتون بمثل ما يأتي به الدليل ولو لم يفعلا ذلك لما كان هذا متبعا فالمتبع للأئمة هو الذي يأتي بمثل ما أتوا به سواء من معرفة الدليل وتقديم الحجة وتحكيمها حيث كانت ومع من كانت فهذا يكون متبعا لهم وأما مع إعراضه عن الأصل الذي قامت عليه إمامتهم ويسلك غير سبيلهم ثم يدعي أنه مؤتم بهم فتلك أمانيهم ويقال لهم {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. الوجه الثاني والسبعون: قولكم: "إن أصحاب رسول الله ﷺ فتحوا البلاد وكان الناس حديثي عهد بالإسلام وكانوا يفتونهم ولم يقولوا لأحد منهم عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل" جوابه أنهم لم يفتوهم بآرائهم وإنما بلغوهم ما قاله نبيهم وفعله وأمر به فكان ما أفتو هم به هو الحكم وهو الحجة وقالوا لهم هذا عهد نبينا إلينا وهوعهدنا إليكم فكان ما يخبرونهم به هو نفس الدليل وهو الحكم فإن كلام رسول الله ﷺ وهو الحكم وهو دليل الحكم وكذلك القرآن وكان الناس إذ ذاك إنما يحرصون على معرفة ما قاله نبيهم وفعله وأمر به وإنما تبلغهم الصحابة ذلك فأين هذا من زمان إنما يحرص أشباه الناس فيه على ما قاله الآخر فالآخر وكلما تأخر الرجل أخذوا كلامه وهجروا أو كادوا يهجرون كلام من فوقه حتى تجد أتباع الأئمة أشد الناس هجرا لكلامهم وأهل كل عصر إنما يقضون ويفتون بقول الأدنى فالأدنى إليهم وكلما بعد العهد ازداد كلام المتقدم هجرا ورغبة عنه حتى إن كتبه لا تكاد تجد عندهم منها شيئا بحسب تقدم زمانه لكن أين قال أصحاب رسول الله ﷺ للتابعين: لينصب كل منكم لنفسه رجلا يختاره ويقلده دينه ولا يلتفت إلى غيره ولا يتلق الأحكام من الكتاب والسنة بل من تقليد الرجال فإذا جاءكم عن الله ورسوله شيء وعمن نصبتموه إماما تقلدونه فخذوا بقوله ودعوا ما بلغكم عن الله ورسوله فوالله لو كشف الغطاء لكم وحقت الحقائق لرأيتم نفوسكم وطريقكم مع الصحابة كما قال الأول: نزلوا بمكة في قبائل هاشم ** ونزلت بالبيداء أبعد منزل. وكما قال الثاني: سارت مشرقة وسرت مغربا ** شتان بين مشرق ومغرب. وكما قال الثالث: أيها المنكح الثريا سهيلا ** عمرك الله كيف يلتقيان. هي شامية إذا ما استقلت ** وسهيل إذا استقل يماني. الوجه الثالث السبعون: قولكم: "إن التقليد من لوازم الشرع والقدر والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد كما تقدم بيانه من الأحكام" جوابه أن التقليد المنكر المذموم ليس من لوازم الشرع وإن كان من لوازم القدر بل بطلانه وفساده من لوازم الشرع كما عرف بهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها وإنما الذي من لوازم الشرع المتابعة وهذه المسائل التي ذكرتم أنها من لوازم الشرع ليست تقليدا وإنما هي متابعة وامتثال للأمر فإن أبيتم إلا تسميتها تقليدا فالتقليد بهذا الاعتبار حق وهو من الشرع ولا يلزم من ذلك أن يكون التقليد الذي وقع النزاع فيه من الشرع ولا من لوازمه وإنما بطلانه من لوازمه. يوضحه الوجه الرابع والسبعون: أن ما كان من لوازم الشرع فبطلان ضده من لوازم الشرع فلو كان التقليد الذي وقع فيه النزاع من لوازم الشرع لكان بطلان الاستدلال واتباع الحجة في موضع التقليد من لوازم الشرع فإن ثبوت أحد النقيضين يقتضي انتفاء الآخر وصحة أحد الضدين يوجب بطلان الآخر ونحرره دليلا فنقول: لو كان التقليد من الدين لم يجز العدول عنه إلى الاجتهاد والاستدلال لأنه يتضمن بطلانه. فإن قيل: كلاهما من الدين أو أحدهما أكمل من الآخر فيجوز العدول عن المفضول إلى الفاضل. قيل: إذا كان قد انسد باب الاجتهاد عندكم وقطعتم طريقه وصار الفرض هو التقليد فالعدول عنه إلى ما قد سد بابه وقطعت طريقه يكون عندكم معصية وفاعله آثما وفي هذا من قطع طريق العلم وإبطال حجج الله وبيناته وخلو الأرض من قائم لله بحججه ما يبطل هذا القول ويدحضه وقد ضمن النبي ﷺ أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة وهؤلاء هم أولو العلم والمعرفة بما بعث الله به رسوله فإنهم على بصيرة وبينة بخلاف الأعمى الذي قد شهد على نفسه بأنه ليس من أولي العلم والبصائر. والمقصود أن الذي هو من لوازم الشرع المتابعة والاقتداء وتقديم النصوص على آراء الرجال وتحكيم الكتاب والسنة في كل ما تنازع فيه العلماء وأما الزهد في النصوص والاستغناء عنها بآراء الرجال وتقديمها عليها والإنكار على من جعل كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة نصب عينيه وعرض أقوال العلماء عليها ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة فبطلانه من لوازم الشرع ولا يتم الدين إلا بإنكاره وإبطاله فهذا لون والاتباع لون والله الموفق. الوجه الخامس والسبعون: قولكم: "كل حجة أثرية احتججتم بها على بطلان التقليد فأنتم مقلدون لحملتها ورواتها وليس بيد العالم إلا تقليد الرواي ولا بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد ولا بيد العامي إلا تقليد العالم إلى آخره" جوابه ما تقدم مرارا من أن هذا الذي سميتموه تقليدا هو اتباع أمر الله ورسوله ولو كان هذا تقليدا لكان كل عالم على وجه الأرض بعد الصحابة مقلدا بل كان الصحابة الذين أخذوا عن نظرائهم مقلدين ومثل هذا الاستدلال لا يصدر إلا من مشاغب أو ملبس يقصد لبس الحق بالباطل والمقلد لجهله أخذ نوعا صحيحا من أنواع التقليد واستدل به على النوع الباطل منه لوجود القدر المشترك وغفل عن القدر الفارق وهذا هو القياس الباطل المتفق على ذمه وهو أخو هذا التقليد الباطل كلاهما في البطلان سواء. وإذا جعل الله سبحانه خبر الصادق حجة وشهادة العدل حجة لم يكن متبع الحجة مقلدا وإذا قيل إنه مقلد للحجة فحيهلا بهذا التقليد وأهله وهل ندندن إلا حوله؟ والله المستعان. الوجه السادس والسبعون: قولكم: "أنتم منعتم من التقليد خشية وقوع المقلد في الخطأ بأن يكون من قلده مخطئا في فتواه ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق ولا ريب أن صوابه في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من اجتهاده هو لنفسه كمن أراد شراء سلعة لا خبرة له بها فإنه إذا قلد عالما بتلك السلعة خبيرا بها أمينا ناصحا كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه". جوابه من وجوه: أحدها: أنا منعنا التقليد طاعة لله ورسوله والله ورسوله منع منه وذم أهله في كتابه وأمر بتحكيمه وتحكيم رسوله ورد ما تنازعت فيه الأمة إليه وإلى رسوله وأخبر أن الحكم له وحده ونهى أن يتخذ من دونه ودون رسوله وليجة وأمر أن يعتصم بكتابه ونهى أن يتخذ من دونه أولياء وأربابا يحل من اتخذهم ما أحلوه ويحرم ما حرموه وجعل من لا علم له بما أنزله على رسوله بمنزلة الأنعام وأمر بطاعة أولي الأمر إذا كانت طاعتهم طاعة لرسوله بأن يكونوا متبعين لأمره مخبرين به وأقسم بنفسه سبحانه أنا لا نؤمن حتى نحكم الرسول خاصة فيما شجر بيننا لا نحكم غيره ثم لا نجد في أنفسنا حرجا مما حكم به كما يجده المقلدون إذا جاء حكمه خلاف قول من قلدوه وأن نسلم لحكمه تسليما كما يسلم المقلدون لأقوال من قلدوه بل تسليما أعظم من تسليمهم وأكمل والله المستعان وذم من حاكم إلى غير الرسول وهذا كما أنه ثابت في حياته فهو ثابت بعد مماته فلو كان حيا بين أظهرنا وتحاكمنا إلى غيره لكنا من أهل الذم والوعيد فسنته وما جاء به من الهدى ودين الحق لم يمت وإن فقد من بين الأمة شخصه الكريم فلم يفقد من بيننا سنته ودعوته وهديه والعلم والإيمان بحمد الله مكانهما من ابتغاهما وجدهما وقد ضمن الله سبحانه حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله فلا يزال محفوظا بحفظ الله محميا بحمايته لتقوم حجة الله على عباده قرنا بعد قرن إذ كان نبيهم آخر الأنبياء ولا نبي بعده فكان حفظه لدينه وما أنزله على رسوله مغنيا عن رسول آخر بعد خاتم الرسل والذي أوجبه الله سبحانه وفرضه على الصحابة من تلقي العلم والهدى من القرآن والسنة دون غيرهما هو بعينه واجب على من بعدهم وهو محكم لم ينسخ ولا يتطرق إليه النسخ حتى ينسخ الله العالم أو يطوي الدنيا وقد ذم الله تعالى من إذا دعى إلى ما أنزله وإلى رسوله صد وأعرض وحذره أن تصيبه مصيبة بإعراضه عن ذلك في قلبه ودينه ودنياه وحذر من خالف عن أمره واتبع غيره أن تصيبه فتنة أو يصيبه عذاب أليم فالفتنة في قلبه والعذاب الأليم في بدنه وروحه وهما متلازمان فمن فتن في قلبه بإعراضه عما جاء به ومخالفته له إلى غيره أصيب بالعذاب الأليم ولا بد وأخبر سبحانه أنه إذا قضى أمرا على لسان رسوله لم يكن لأحد من المؤمنين أن يختار من أمره غير ماقضاه فلا خيرة بعد قضائه لمؤمن البتة. ونحن نسأل المقلدين: هل يمكن أن يخفي قضاء الله ورسوله على من قلدتموه دينكم في كثير من المواضع أم لا فإن قالوا: "لا يمكن أن يخفى عليه ذلك" أنزلوه فوق منزلة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة كلهم فليس أحد منهم إلا وقد خفي عليه بعض ما قضى الله ورسوله به فهذا الصديق أعلم الأمة به خفي عليه ميراث الجدة حتى اعلمه به محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة وخفي عليه أن الشهيد لا دية له حتى أعلمه به عمر فرجع إلى قوله وخفي على عمر تيمم الجنب فقال: لو بقي شهرا لم يصل حتى يغتسل وخفي عليه دية الأصابع فقضى في الإبهام والتي تليها بخمس وعشرين حتى أخبر أن كتاب آل عمرو بن حزم أن رسول الله ﷺ قضى فيها بعشر عشر فترك قوله ورجع إليه وخفي عليه شأن الاستئذان حتى أخبره به أبو موسى وأبو سعيد الخدري وخفي عليه توريث المرأة من دية زوجها حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان الكلابي وهو أعرابي من أهل البادية أن رسول الله ﷺ أمره أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها وخفي عليه حكم إملاص المرأة حتى سأل عنه فوجده عند المغيرة بن شعبة وخفي عليه أمر المجوس في الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ أخذها من مجوس هجر وخفي عليه سقوط طواف الوداع عن الحائض فكان يردهن حتى يطهرن ثم يطفن حتى بلغه عن النبي ﷺ خلاف ذلك فرجع عن قوله وخفي عليه التسوية بين دية الأصابع وكان يفاضل بينها حتى بلغته السنة في التسوية فرجع إليها وخفي عليه شأن متعة الحج وكان ينهى عنها حتى وقف على أن النبي ﷺ أمر بها فترك قوله وأمر بها وخفي عليه جواز التسمي بأسماء الأنبياء فنهى عنه حتى أخبره به طلحة أن النبي ﷺ كناه أبا محمد فأمسك ولم يتماد على النهي هذا وأبو موسى ومحمد بن مسلمة وأبو أيوب من أشهر الصحابة ولكن لم يمر بباله رضي الله عنه أمر هو بين يديه حتى نهى عنه وكما خفي عليه قوله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقوله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} حتى قال والله كأني ما سمعتها قط قبل وقتي هذا وكما خفي عليه حكم الزيادة في المهر على مهر أزواج النبي ﷺ وبناته حتى ذكرته تلك المرأة بقوله تعالى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} فقال: "كل أحد أفقه من عمر حتى النساء" وكما خفي عليه أمر الجد والكلالة وبعض أبواب الربا فتمنى أن رسول الله ﷺ كان عهد إليهم فيها عهدا وكما خفي عليه يوم الحديبية أن وعد الله لنبيه وأصحابه بدخول مكة مطلق لا يتعين لذاك العام حتى بينه له النبي ﷺ وكما خفي عليه جواز استدامة الطيب للمحرم وتطيبه بعد النحر وقبل طواف الإفاضة وقد صحت السنة بذلك وكما خفي عليه أمر القدوم على محل الطاعون والفرار منه حتى أخبر بأن رسول الله ﷺ قال: "إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها فإن وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارا منه" هذا وهو أعلم الأمة بعد الصديق على الإطلاق وهو كما قال ابن مسعود: "لو وضع علم عمر في كفة ميزان وجعل علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر" قال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: والله إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم وخفي على عثمان بن عفان أقل مدة الحمل حتى ذكره ابن عباس بقوله تعالى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} مع قوله {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} فرجع إلى ذلك وخفي على أبي موسى الأشعري ميراث بنت الابن مع البنت السدس حتى ذكر له أن رسوله الله ﷺ ورثها ذلك وخفي على ابن العباس تحريم لحوم الحمر الأهلية حتى ذكر له أن رسول الله ﷺ حرمها يوم خيبر وخفي على ابن مسعود حكم المفوضة وترددوا إليه فيها شهرا فأفتاهم برأيه ثم بلغه النص بمثل ما أفتى به. وهذا باب واسع لو تتبعناه لجاء سفرا كبيرا فنسأل حينئذ فرقة التقليد: هل يجوز أن يخفي على من قلدتموه بعض شأن رسول الله ﷺ كما خفي ذلك على سادات الأمة أولا؟ فإن قالوا: "لا يخفى عليه" وقد خفي علىالصحابة مع قرب عهدهم بلغوا في الغلو مبلغ مدعي العصمة في الأئمة وإن قالوا: "بل يجوز أن يخفى عليهم" وهو الواقع وهم مراتب في الخفاء في القلة والكثرة قلنا: فنحن نناشدكم الله الذي هو عند لسان كل قائل وقلبه وإذا قضى الله ورسوله أمرا خفي على من قلدتموه هل تبقى لكم الخيرة بين قبول قوله ورده أم تنقطع خيرتكم وتوجبون العمل بما قضاه الله ورسوله عينا لا يجوز سواه فأعدوا لهذا السؤال جوابا وللجواب صوابا فإن السؤال واقع والجواب لا زم والمقصود أن هذا هو الذي منعنا من التقليد فأين معكم حجة واحدة تقطع العذر وتسوغ لكم ما ارتضيتموه لأنفسكم من التقليد. الوجه الثاني: أن قولكم: "صواب المقلد في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من صوابه في اجتهاده" دعوى باطلة فإنه إذا قلد من قد خالفه غيره ممن هو نظيره أو أعلم منه لم يدر على صواب هو من تقليده أو على خطأ بل هو كما قال الشافعي حاطب ليل إما أن يقع بيده عود أو أفعى تلدغه وأما إذا بذل اجتهاده في معرفة الحق فإنه بين أمرين إما أن يظفر به فله أجران وإما أن يخطئه فله أجر فهو مصيب للأجر ولا بد بخلاف المقلد المتعصب فإنه إن أصاب لم يؤجر وإن أخطأ لم يسلم من الإثم فأين صواب الأعمى من صواب البصير الباذل جهده؟ الوجه الثالث: أنه إنما يكون أقرب إلى الصواب إذا عرف أن الصواب مع من قلده دون غيره وحينئذ فلا يكون مقلدا له بل متبعا للحجة وأما إذا لم يعرف ذلك البتة فمن أين لكم أنه أقرب إلى الصواب من باذل جهده ومستفرغ وسعه في طلب الحق. الوجه الرابع: أن الأقرب إلى الصواب عند تنازع العلماء من امتثل أمر الله فرد ما تنازعوا فيه إلى القرآن والسنة وأما من رد ما تنازعوا فيه إلى قول متبوعه دون غيره فكيف يكون أقرب إلى الصواب. الوجه الخامس: أن المثال الذي مثلتم به من أكبر الحجج عليكم فإن من أراد شراء سلعة أو سلوك طريق حين اختلف عليه اثنان أو أكثر وكل منهم يأمره بخلاف ما يأمره به الآخر فإنه لا يقدم على تقليد واحد منهم بل يبقى مترددا طالبا للصواب من أقوالهم فلو أقدم على قبول قول أحدهم مع مساواة الآخر له في المعرفة والنصيحة والديانة أو كونه فوقه في ذلك عد مخاطرا مذموما ولم يمدح إن أصاب وقد جعل الله في فطر العقلاء في مثل هذا أن يتوقف أحدهم ويطلب ترجيح قول المتخلفين عليه من خارج حتى يستبين له الصواب ولم يجعل في فطرهم الهجم على قبول قول واحد واطرح قول من عداه. الوجه السابع والسبعون: أن نقول لطائفة المقلدين: هل تسوغون تقليد كل عالم من السلف والخلف أو تقليد بعضهم دون بعض؟ فإن سوغتم تقليد الجميع كان تسويغكم لتقليد من انتميتم إلى مذهبه كتسويغكم لتقليد غيره سواء فكيف صارت أقوال هذا العالم مذهبا لكم تفتون وتقضون بها وقد سوغتم من تقليد هذا ما سوغتم من تقليد الآخر؟ فكيف صار هذا صاحب مذهبكم دون هذا؟ وكيف استجزتم أن تردوا أقوال هذاوتقبلوا أقوال هذا وكلاهما عال عالم يسوغ اتباعه فإن كانت أقواله من الدين فكيف ساغ لكم دفع الدين وإن لم تكن أقواله من الدين فكيف سوغتم تقليده وهذا لا جواب لكم عنه. يوضحه الوجه الثامن والسبعون: أن من قلدتموه إذا روى عنه قولان وروايتان سوغتم العمل بهما وقلتم: مجتهد له قولان فيسوغ لنا الأخذ بهذا وهذا وكان القولان جميعا مذهبا لكم فهلا جعلتم قول نظيره من المجتهدين بمنزلة قوله الآخر وجعلتم القولين جميعا مذهبا لكم وربما كان قول نظيره ومن هو أعلم منه أرجح من قوله الآخر وأقرب إلى الكتاب والسنة. يوضحه الوجه التاسع والسبعون: أنكم معاشر المقلدين إذا قال بعض أصحابكم ممن قلدتموه قولا خلاف قول المتبوع أو خرجه على قوله جعلتموه وجها وقضيتم وأفتيتم وألزمتم بمقتضاه فإذا قال الإمام الذي هو نظير متبوعكم أو فوقه قولا يخالفه لم تلتفتوا إليه ولم تعدوه شيئا ومعلوم أن واحدا من الأئمة الذين هم نظير متبوعكم أجل من جميع أصحابه من أولهم إلى آخرهم فقدروا أسوأ التقادير أن يكون قوله بمنزلة وجه في مذهبكم فيالله العجب صار من أفتى أو حكم بقول واحد من مشائخ المذهب أحق بالقبول ممن أفتى بقول الخلفاء الراشدين وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وأبي الدرداء ومعاذ بن جبل وهذا من بركة التقليد عليكم. وتمام ذلك الوجه الثمانون: أنكم إن رمتم التخلص من هذه الخطة وقلتم: بل يسوغ تقليد بعضهم دون بعض وقال كل فرقة منكم: يسوغ أو يجب تقليد من قلدناه دون غيره من الأئمة الذين هم مثله أو أعلم منه كان أقل ما في ذلك معارضة قولكم بقول الفرقة الأخرى في ضرب هذه الأقوال بعضها ببعض ثم يقال: ما الذي جعل متبوعكم أولى بالتقليد من متبوع الفرقة الأخرى بأي كتاب أم بأية سنة؟ وهل تقطعت الأمة أمرها بينها زبرا وصار كل حزب بما لديهم فرحون إلا بهذا السبب؟ فكل طائفة تدعو إلى متبوعها وتنأى عن غيره وتنهى عنه وذلك مفض إلى التفريق بين الأمة وجعل دين الله تابعا للتشهي والأغراض وعرضة للاضطراب والاختلاف وهذا كله يدل على أن التقليد ليس من عند الله للاختلاف الكثير الذي فيه ويكفي في فساد هذا المذهب تناقض أصحابه ومعارضة أقوالهم بعضها ببعض ولو لم يكن فيه من الشناعة إلا إيجابهم تقليد صاحبهم وتحريمهم تقليد الواحد من أكابر الصحابة كما صرحوا به في كتبهم. الوجه الحادي والثمانون أن المقلدين حكموا على الله قدرا وشرعا بالحكم الباطل جهارا المخالف لما أخبر به رسوله فأخلوا الأرض من القائمين لله بحججه وقالوا: لم يبق في الأرض عالم منذ الأعصار المتقدمة فقالت طائفة ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد اللؤلؤي وهذا قول كثير من الحنفية وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي: ليس لأحد أن يختار بعد المائتين من الهجرة وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي وسفيان الثوري ووكيع بن الجراح وعبد الله ابن المبارك وقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي واختلف المقلدون من أتباعه فيمن يؤخذ بقوله من المنتسبين إليه ويكون له وجه يفتي ويحكم به من ليس كذلك وجعلوهم ثلاث مراتب: طائفة أصحاب وجوه كابن سريج والقفال وأبي حامد وطائفة أصحاب احتمالات لا أصحاب وجوه كأبي المعالي وطائفة ليسوا أصحاب وجوه ولا احتمالات كأبي حامد وغيره واختلفوا متى انسد باب الاجتهاد على أقوال كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان وعند هؤلاء أن الأرض قد خلت من قائم لله بحجة ولم يبق فيها من يتكلم بالعلم ولم يحل لأحد بعد أن ينظر في كتاب الله ولا سنة رسوله لأخذ الأحكام منهما ولا يقضي يفتي بما فيهما حتى يعرضه على قول مقلده ومتبوعه فإن وافقه حكم به وأفتى به وإلا رده ولم يقبله وهذا أقوال كما ترى قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض والقول على الله بلا علم وإبطال حججه والزهد في كتابه وسنة رسوله وتلقي الأحكام منهما مبلغها ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويصدق قول رسوله إنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحججه ولن تزال طائفة من أمته على محض الحق الذي بعثه به وأنه لا يزال يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها ويكفي في فساد هذه الأقوال أن يقال لأربابها: فإذا لم يكن لأحد أن يختار بعد من ذكرتم فمن أين وقع لكم اختيار تقليدهم دون غيرهم وكيف حرمتم على الرجل أن يختار ما يؤديه إليه اجتهاده من القول الموافق لكتاب الله وسنة رسوله وأبحتم لأنفسكم اختيار قول من قلدتموه وأوجبتم على الأمة تقليده وحرمتم تقليد من سواه ورجحتموه على تقليد من سواه فما الذي سوغ لكم هذا الاختيار الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب وحرم اختيار ما عليه الدليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة؟ ويقال لكم: فإذا كان لا يجوز الاختيار بعد المائتين عندك ولا عند غيرك فمن أين ساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين أو من هو مثله من فقهاء الأمصار أو ممن جاء بعده؟ وموجب هذا القول أن أشهب وابن الماجشون ومطرف بن عبد الله وأصبغ بن الفرج وسحنون بن سعيد وأحمد بن المعدل ومن طبقتهم من الفقهاء كان لهم أن يختاروا إلى انسلاخ ذي الحجة من سنة مائتين فلما استهل هلال المحرم من سنة إحدى ومائتين وغابت الشمس من تلك الليلة حرم عليهم الوقت بلا مهلة ما كان مطلقا لهم من الاختيار؟ ويقال للآخرين: أليس من المصائب وعجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والاجتهاد والقول في دين الله بالرأي والقياس لمن ذكرتم من أئمتكم ثم لا تجيزون الاختيار والاجتهاد لحفاظ الإسلام وأعلم الأمة بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة وفتاواهم كأحمد بن حنبل والشافعي وإسحاق بن راهويه ومحمد بن إسماعيل البخاري وداود بن علي ونظرائهم على سعة علمهم بالسنن ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم وتحريهم في معرفة أقوال الصحابة والتابعين ودقة نظرهم ولطف استخراجهم للدلائل ومن قال منهم بالقياس فقياسه من أقرب القياس إلى الصواب وأبعده عن الفساد وأقربه إلى النصوص مع شدة ورعهم وما منحهم الله من محبة المؤمنين لهم وتعظيم المسلمين علمائهم وعامتهم لهم فإن احتج كل فريق منهم بترجيح متبوعه بوجه من وجوه التراجيح من تقدم زمان أو زهد أو ورع أو لقاء شيوخ وأئمة لم يلقهم من بعده أو كثرة أتباع لم يكونوا لغيره أمكن الفريق الآخر أن يبدوا لمتبوعهم من الترجيح بذلك أو غيره ما هو مثل هذا أو فوقه وأمكن غير هؤلاء كلهم أن يقولوا لهم جميعا نفوذ قولكم هذا إن لم تأنفوا من التناقض يوجب عليكم أن تتركوا قول متبوعكم لقول من هو أقدم منه من الصحابة والتابعين وأعلم وأورع وأزهد وأكثر أتباعا وأجل فأين أتباع ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل بل أتباع عمر وعلي من أتباع الأئمة المتأخرين في الكثرة والجلالة؟ وهذا أبو هريرة قال البخاري: حمل العلم عنه ثمانمائة رجل ما بين صاحب وتابع وهذا زيد بن ثابت من جملة أصحاب عبد الله بن عباس وأين في أتباع الأئمة مثل عطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وجابر ابن زيد؟ وأين في أتباعهم مثل السعيدين والشعبي ومسروق وعلقمة والأسود وشريح وأين في أتباعهم مثل نافع وسالم والقاسم وعروة وخارجة بن زيد وسليمان ابن يسار وأبي بكر بن عبد الرحمن؟ فما الذي جعل الأئمة بأتباعهم أسعد من هؤلاء بأتباعهم ولكن أولئك وأتباعهم على قدر عصرهم فعظمهم وجلالتهم وكبرهم منع المتأخرين من الاقتداء بهم وقالوا بلسان قالهم وحالهم هؤلاء كبار علينا لسنا من زبونهم كما صرحوا وشهدوا على أنفسهم فإن أقدارهم تتقاصر عن تلقي العلم من القرآن والسنة وقالوا لسنا أهلا لذلك لا لقصور الكتاب والسنة ولكن لعجزنا نحن وقصورنا فاكتفينا بمن هو أعلم بهما منا. فيقال لهم: فلم تنكرون على من اقتدى بهما وحكمهما وتحاكم إليهما وعرض أقوال العلماء عليهما فما وافقهما قبله وما خالفهما رده فهب أنكم لم تصلوا إلى هذا العنقود فلم تنكرون على من وصل إليه وذاق حلاوته وكيف تحجزتم الواسع من فضل الله الذي ليس على قياس عقول العالمين ولا اقتراحاتهم وهم وإن كانوا في عصركم ونشأوا معكم وبينكم وبينهم نسب قريب فالله يمن على من يشاء من عباده وقد أنكر الله سبحانه على من رد النبوة بأن الله صرفها عن عظماء القرى ومن رؤسائها وأعطاها لمن ليس كذلك بقوله {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} وقد قال النبي ﷺ: "مثل أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره" وقد أخبر الله سبحانه عن السابقين بأنهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين وأخبر سبحانه أنه {بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ثم قال {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ثم أخبر أن {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد وذكرنا من مآخذهما وحجج أصحابهما وما لهم وعليهم من المنقول والمعقول ما لا يجده الناظر في كتاب من كتب القوم من أولها إلى آخرها ولا يظفر به في غير هذا الكتاب أبدا وذلك بحول الله وقوته ومعونته وفتحه فله الحمد والمنة وما كان فيه من صواب فمن الله هو المان به وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان وليس الله ورسوله ودينه في شيء منه وبالله التوفيق. الجزء الثالث المحتويات المقدمة في تحريم الإفتاء والحكم في دين الله بما يخالف النصوص وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص وذكر إجماع العلماء على ذلك لا حكم بما يخالف النصوص أقوال العلماء في العمل بالنص السنة لا تعارض القرآن أنواع السنن الزائدة عن القرآن بيان السنة على أنواع المراد بالنسخ في السنة الزائدة على القرآن تخصيص القرآن بالسنة نقل قوله صلى الله عليه وسلم نقل فعله صلى الله عليه وسلم نقل تقريره صلى الله عليه وسلم فصل نقل الصحابة ما تركه صلى الله عليه وسلم فصل نقل الصحابة الأعيان وتعيين الأماكن فصل نقل الصحابة العمل المستمر فصل الاختلاف في العمل الذي طريقه الاجتهاد فصل الشرط العرفي كاللفظي في تغير الفتوى واختلافها يحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد الإنكار له شروط أربع درجات للإنكار فصل النهي عن قطع الأيدي في الغزو التائب يسقط عنه الحد الأخذ بالقرائن وشواهد الأحوال فصل سقوط حد السرقة أيام المجاعة فصل صدقة الفطر حسب قوت المخرجين فصل لا يتعين في المصراة رد صاع من تمر فصل طواف الحائض بالبيت فصل التقدير الثاني فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة فصل التقدير الثالث فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة فصل التقدير الرابع فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة فصل التقدير الخامس فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة فصل التقدير السادس فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة فصل التقدير السابع فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة فصل أصح التقديرات فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة المحذور الأول فصل المحذور الثاني فصل مناقشة أدلة المانعين فصل الواجب على من طاف غير طاهر فصل حكم جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد الحكمة في تغير الفتوى بتغير الأحوال فصل مساوئ التحليل والتشنيع على فاعله فصل رأي الإسلام في التحليل الحكمة في جعل الطلقات الثلاث المجموعة طلقة واحدة فصل منع التحليل بما هو أخف منه ضررا فصل موجبات الأيمان والأقارير والنذور فصل كيف يقع الطلاق الباب الثالث: في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه محل الطلاق الزوجة ومحل العتاق العبد اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ فصل تعليق الطلاق بالشرط المنوي فصل الحلف بالطلاق وبالحرام له صيغتان المذهب الأول فيمن قال لزوجته أنت علي حرام فصل المذهب الثاني المذهب الثالث المذهب الرابع المذهب الخامس المذهب السادس المذهب السابع المذهب الثامن المذهب التاسع المذهب العاشر المذهب الحادي عشر المذهب الثاني عشر المذهب الثالث عشر المذهب الرابع عشر المذهب الخامس عشر خمسة أقوال للمالكية في هذه المسألة فصل مذهب الشافعية فصل مذهب الحنابلة مذهب ابن تيمية فصل أيمان البيعة بيعة النبي ﷺ للناس الحجاج الثقفي وأيمان البيعة مذهب الشافعية مذهب الحنابلة فصل مذهب المالكية فصل الحلف بأيمان المسلمين والأيمان اللازمة آراء أخر في الحلف بالأيمان اللازمة فصل تأجيل جزء من المهر وحكم المؤجل بعض فتاوى الصحابة في هذه المسألة رسالة الليث إلى مالك مهر السر ومهر العلانية شرط الواقف ليس بمنزلة نص الشارع أقسام شروط الواقفين وحكمها فصل المقاصد تغير أحكام التصرفات الأحكام لا تجري على الظواهر الألفاظ موضوعة للدلالة على ما في النفس فصل أقسام الألفاظ الثلاثة القسم الأول من أقسام الألفاظ فصل القسم الثاني من أقسام الألفاظ فصل القسم الثالث من أقسام الألفاظ متى يحمل الكلام على ظاهره متى يحمل الكلام على غير ظاهره العمل تابع للنية مثل من وقف مع الظواهر ولم يراع الحقائق أسماء ما أنزل الله بها من سلطان العبرة في العقود القصد دون اللفظ المجرد تقسيمات لصيغ العقود فصل حكم عقود الهازل فصل عقود الهازل واختلاف الفقهاء في نفاذها شريعة الإسلام خير الشرائع أحكام الدنيا تجري على الأسباب السر في قبول توبة الكافر دون الزنديق فصل فيمن لا يعتبر سد الذرائع والقصد في العقود في سد الذرائع حكم الوسائل المؤدية إلى المقاصد منع ما يؤدي إلى الحرام فصل في تحريم الحيل الأدلة على تحريم الحيل ليس للعبد إلا ما نواه الذين يذكرون الحيل لم يعترفوا بجوازها كلها فصل الأدلة على بطلان الحيل فصل مناقضة الحيل لأصول الأئمة فصل حجج من جوزوا الحيل ادعاء أن في مذاهب الأئمة تجويزا للحيل إعلام الموقعين/الجزء الثالث في تحريم الإفتاء والحكم في دين الله بما يخالف النصوص وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص وذكر إجماع العلماء على ذلك لا حكم بما يخالف النصوص قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقال تعالى {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} وقال تعالى {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} وقال تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقال تعالى {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} وقال تعالى {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} وقال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فأكد هذا التأكيد وكرر هذا التقرير في موضع واحد لعظم مفسدة الحكم بغير ما أنزله وعموم مضرته وبلية الأمة به وقال {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وأنكر تعالى على من حاج في دينه بما ليس له به علم فقال {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ونهى أن يقول أحد {هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} لما لم يحرمه الله ورسوله نصا وأخبر أن فاعل ذلك مفتر على الله الكذب فقال {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والآيات في هذا المعنى كثيرة وأما السنة ففي الصحيحين من حديث ابن عباس: "أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء عند النبي ﷺ فذكر حديث اللعان وقول النبي ﷺ أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء وإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية فجاءت به النعت المكروه فقال النبي ﷺ: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن" يريد والله ورسوله أعلم بكتاب الله قوله تعالى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ}" ويريد بالشأن والله أعلم أنه كان يحدها لمشابهة ولدها للرجل الذي رميت به ولكن كتاب الله فصل الحكومة وأسقط كل قول وراءه ولم يبق للاجتهاد بعده موقع. أقوال العلماء في العمل بالنص وقال الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد عن أبيه قال: "أرسل عمر بن الخطاب إلى شيخ من زهرة كان يسكن دارنا فذهبت معه إلى عمر رضي الله عنه فسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية فقال أما الفراش فلفلان وأما النطفة فلفلان فقال عمر: صدقت ولكن رسول الله ﷺ قضى بالفراش". قال الشافعي: وأخبرني من لا أتهم عن ابن أبي ذئب قال: أخبرني مخلد ابن خفاف قال: ابتعت غلاما فاستغللته ثم ظهرت منه على عيب فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز فقضى لي برده وقضى علي برد غلته فأتيت عروة فأخبرته فقال: أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله ﷺ "قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان" فجعلت إلى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة عن عائشة عن رسول الله ﷺ فقال عمر: فما أيسر هذا علي من قضاء قضيته اللهم إنك تعلم أني لم أرد فيه إلا الحق فبلغتني فيه سنة عن رسول الله ﷺ فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله ﷺ فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له. قال الشافعي: وأخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال: قضى سعد بن إبراهيم على رجل بقضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن فأخبرته عن النبي ﷺ بخلاف ما قضى به فقال سعد لربيعة: هذا ابن أبي ذئب وهو عندي ثقة يخبرني عن النبي ﷺ بخلاف ما قضيت به فقال له ربيعة: قد اجتهدت ومضى حكمك فقال سعد واعجبا أنفذ قضاء سعد بن أم سعد وأرد قضاء رسول الله ﷺ بل أرد قضاء ابن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله ﷺ فدعا بكتاب القضية فشقه وقضى للمقضي عليه فليوحشنا المقلدون ثم أوحش الله منهم. وقال أبو النضر هاشم بن القاسم: حدثنا محمد بن راشد عن عبدة بن أبي لبابة عن هشام بن يحيى المخزومي "أن رجلا من ثقيف أتى عمر بن الخطاب فسأله عن امرأة حاضت وقد كانت زارت البيت يوم النحر ألها أن تنفر؟ فقال عمر: لا فقال له الثقفي: إن رسول الله ﷺ أفتأتي في مثل هذه المرأة بغير ما أفتيت به فقام إليه عمر يضربه بالدرة ويقول له: لم تستفتيني في شيء قد أفتى فيه رسول الله ﷺ؟" ورواه أبو داود بنحوه. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا صالح بن عبد الله ثنا سفيان بن عامر عن عتاب بن منصور قال: قال عمر بن عبد العزيز: لا أرى لأحد مع سنة سنها رسول الله ﷺ. وقال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس وتواتر عنه أنه قال: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط وصح عنه أنه قال: إذا رويت عن رسول الله ﷺ حديثا ولم آخذ به فاعلموا أن عقلي قد ذهب وصح عنه أنه قال: لا قول لأحد مع سنة رسول الله ﷺ. وقال إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعد بن إياس عن ابن مسعود: "أن رجلا سأله عن رجل تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته فطلق امرأته ليتزوج أمها فقال: لا بأس فتزوجها الرجل وكان عبد الله على بيت المال فكان يبيع نفاية بيت المال يعطي الكثير ويأخذ القليل حتى قدم المدينة فسأل أصحاب محمد ﷺ فقالوا: لا تحل لهذا الرجل هذه المرأة ولا تصلح الفضة إلا وزنا بوزن فلما قدم عبد الله انطلق إلى الرجل فلم يجده ووجد قومه فقال: إن الذي أفتيت به صاحبكم لا يحل وأتى الصيارفة فقال: يا معشر الصيارفة إن الذي كنت أبايعكم لا يحل لا تحل الفضة إلا وزنا بوزن. وفي صحيح مسلم من حديث الليث عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن أبا هريرة وابن عباس وأبا سلمة بن عبد الرحمن تذاكروا في المتوفى عنها الحامل تضع عند وفاة زوجها فقال ابن عباس: تعتد آخر الأجلين فقال أبو سلمة: تحل حين تضع فقال أبو هريرة: وأنا مع ابن أخي فأرسلوا إلى أم سلمة فقالت: قد وضعت سبيعة بعد وفاة زوجها بيسير فأمرها رسول الله ﷺ أن تتزوج. وقد تقدم من ذكر رجوع عمر رضي الله عنه وأبي موسى وابن عباس عن اجتهادهم إلى السنة ما فيه كفاية. وقال شداد بن حكيم عن زفر بن الهذيل: إنما نأخذ بالرأي ما لم نجد الأثر فإذا جاء الأثر تركنا الرأي وأخذنا الأثر وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة: لا قول لأحد مع رسول الله ﷺ إذا صح الخبر عنه وقد كان إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله تعالى له أصحاب ينتحلون مذهبه ولم يكن مقلدا بل إماما مستقلا كما ذكر البهقي في مدخله عن يحيى بن محمد العنبري قال: طبقات أصحاب الحديث خمسة المالكية والشافعية والحنبلية والراهوية والخزيمية أصحاب ابن خزيمة. وقال الشافعي: إذا حدث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله ﷺ فهو ثابت ولا يترك لرسول الله ﷺ حديث أبدا إلا حديث وجد عن رسول الله ﷺ آخر يخالفه وقال في كتاب اختلافه مع مالك ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر على من سمعهما مقطوع إلا بإتيانهما. وقال الشافعي: قال لي قائل: دلني على أن عمر عمل شيئا ثم صار إلى غيره لخبر نبوي قلت له: حدثنا سفيان عن الزهري عن ابن المسيب أن عمر كان يقول: "الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها" حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله ﷺ كتب إليه أن يورث امرأة الضبابي من ديته فرجع إليه عمر وأخبرنا ابن عيينة عن عمرو وابن طاوس أن عمر قال: "أذكر الله امرأ سمع من النبي ﷺ في الجنين شيئا فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين جاريتين لي فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا فقضى فيه رسول الله ﷺ بعرة فقال عمر: لو لم نسمع فيه هذا لقضينا فيه بغير هذا أو قال: إن كدنا لنقضي فيه برأينا" فترك اجتهاده رضي الله عنه للنص. وهذا هو الواجب على كل مسلم إذ اجتهاد الرأي إنما يباح للمضطر كما تباح له الميتة والدم عند الضرورة {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وكذلك القياس إنما يصار إليه عند الضرورة قال الإمام أحمد: سألت الشافعي عن القياس فقال: "عند الضرورة" ذكره البيهقي في مدخله. وكان زيد بن ثابت لا يرى للحائض أن تنفر حتى تطوف طواف الوداع وتناظر في ذلك هو وعبد الله بن عباس فقال له ابن عباس: "إما لا فسل فلانة الأنصارية هل أمرها بذلك رسول الله ﷺ فرجع زيد يضحك ويقول: ما أراك إلا قد صدقت" ذكره البخاري في صحيحه بنحوه. وقال ابن عمر: "كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى زعم رافع أن رسول الله ﷺ نهى عنها فتركناها من أجل ذلك". وقال عمرو بن دينار: عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب نهى عن الطيب قبل زيارة البيت وبعد الجمرة فقالت عائشة: "طيبت رسول الله ﷺ بيدي لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت وسنة رسول الله ﷺ أحق" قال الشافعي: "فترك سالم قول جده لروايتها" قلت: لا كما تصنع فرقة التقليد. وقال الأصم: أخبرنا الربيع بن سليمان لنعطينك جملة تغنيك إن شاء الله لا تدع لرسول الله ﷺ حديثا أبدا إلا أن يأتي عن رسول الله ﷺ خلافه فتعمل بما قلت لك في الأحاديث إذا اختلفت قال الأصم: وسمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله ﷺ فقولوا بسنة رسول الله ﷺ ودعوا ما قلت" وقال أبو محمد الجارودي: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: "إذا وجدتم سنة رسول الله ﷺ خلاف قولي فخذوا بالسنة ودعوا قولي فإني أقول بها" وقال أحمد بن علي بن ماهان الرازي: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: "كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عن النبي ﷺ عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي". وقال حرملة بن يحيى: قال الشافعي: "ما قلت وقد كان النبي ﷺ قد قال بخلاف قولي مما يصح فحديث النبي ﷺ أولى لا تقلدوني" وقال الحاكم: سمعت الأصم يقول: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: وروى حديثا فقال له رجل: تأخذ بها يا أبا عبد الله؟ فقال: متى رويت عن رسول الله ﷺ حديثا صحيحا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب وأشار بيده إلى رءوسهم وقال الحميدي: سأل رجل الشافعي عن مسألة فأفتاه وقال: قال النبي ﷺ كذا فقال الرجل: أتقول بهذا؟ قال: أرأيت في وسطي زنارا؟ أتراني خرجت من الكنيسة؟ أقول قال النبي ﷺ تقول لي أتقول بهذا وروي عن النبي ﷺ ولا أقول به؟ وقال الحاكم: أنبأني أبو عمرون السماك مشافهة أن أبا سعيد الجصاص حدثهم قال: سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول وسأله رجل عن مسألة فقال: روى عن النبي ﷺ أنه قال كذا وكذا فقال له السائل: يا أبا عبد الله أتقول بهذا؟ فارتعد الشافعي واصفر وحال لونه وقال: ويحك أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله ﷺ شيئا فلم أقل به نعم على الرأس والعينين نعم على الرأس والعينين قال: وسمعت الشافعي يقول: "ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله ﷺ وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله ﷺ خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله ﷺ وهو قولي" وجعل يردد هذا الكلام. وقال الربيع: قال الشافعي: لم أسمع أحد نسبته عامة أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله اتباع أمر رسول الله ﷺ والتسليم لحكمه فإن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه وإنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله وسنة رسوله وإن ما سواهما تبع لهما وإن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله ﷺ واحد لا يختلف فيه الفرض وواجب قبول الخبر عن رسول الله ﷺ إلا فرقة سأصف قولها إن شاء الله وقال الشافعي: ثم تفرق أهل الكلام في تثبيت خبر الواحد عن رسول الله ﷺ تفرقا متباينا وتفرق عنهم ممن نسبته العامة إلى الفقه تفرقا أتى بعضهم فيه أكثر من التقليد أو التحقيق من النظر والغفلة والاستعجال بالرياسة وقال عبد الله بن أحمد قال أبي: قال لنا الشافعي: إذا صح لكم الحديث عن النبي ﷺ فقولوا لي حتى أذهب إليه. وقال الإمام أحمد: كان أحسن أمر الشافعي عندي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وترك قوله وقال الربيع: قال الشافعي: لا نترك الحديث عن رسول الله ﷺ بأن لا يدخله القياس ولا موضع للقياس لموقع السنة وقال الربيع: وقد روى عن النبي ﷺ بأبي هو وأمي أنه قضى في بروع بنت واشق أنكحت بغير مهر فمات زوجها فقضى لها بمهر نسائها وقضى لها بالميراث فإن كان ثبت عن النبي ﷺ فهو أولى الأمور بنا ولا حجة في قول أحد دون النبي ﷺ ولا في قياس ولا في شيء إلا طاعة الله بالتسليم له وإن كان لا يثبت عن النبي ﷺ لم يكن لأحد أن يثبت عنه ما لم يثبت ولم أحفظه من وجه يثبت مثله هو مرة عن معقل بن يسار ومرة عن معقل بن سنان ومرة عن بعض أشجع لا يسمى. وقال الربيع: سألت الشافعي عن رفع الأيدي في الصلاة فقال: يرفع المصلي يديه إذا افتتح الصلاة حذو منكبيه وإذا أراد أن يركع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ولا يفعل ذلك في السجود قلت له فما الحجة في ذلك فقال: أنبأنا ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي ﷺ مثل قولنا قال الربيع: فقلت له: فإنا نقول يرفع في الابتداء ثم لا يعود قال الشافعي: أنا مالك عن نافع أن ابن عمر كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك قال الشافعي: وهو يعني مالكا يروى عن النبي ﷺ أنه كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ثم خالفتم رسول الله ﷺ وابن عمر فقلتم لا يرفع يديه إلا في ابتداء الصلاة وقد رويتم عنهما أنهما رفعاهما في الابتداء وعند الرفع من الركوع أفيجوز لعالم أن يترك فعل النبي ﷺ وفعل ابن عمر لرأي نفسه أو فعل النبي ﷺ لرأي ابن عمر ثم القياس على قول ابن عمر ثم يأتي موضع آخر يصيب فيه فيترك علي ابن عمر ما روى عن النبي ﷺ فكيف لم ينهه بعض هذا عن بعض أرأيت إذا جاز له أن يروي عن النبي ﷺ أن يرفع يديه في مرتين أو ثلاث وعن ابن عمر فيه اثنتين أنأخذ بواحدة ونترك واحدة؟ أيجوز لغيره ترك الذي أخذ به وأخذ الذي ترك؟ أو يجوز لغيره ترك ما روى عن النبي ﷺ؟ فقلت له فإن صاحبنا قال: فما معنى الرفع؟ قال: معناه تعظيم لله واتباع لسنة النبي ﷺ ومعنى الرفع في الأولى معنى الرفع الذي خالفتم فيه النبي ﷺ عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع ثم خالفتم فيه روايتكم عن النبي ﷺ وابن عمر معا ويروي ذلك عن النبي ﷺ ثلاثة عشر رجلا أو أربعة عشر رجلا وروى عن أصحاب النبي ﷺ من غير وجه ومن تركه فقد ترك السنة. قلت: وهذا تصريح من الشافعي بأن تارك رفع اليدين عند الركوع والرفع منه تارك للسنة، ونص أحمد على ذلك أيضا في إحدى الروايتين عنه. وقال الربيع: سألت الشافعي عن الطيب قبل الإحرام بما يبقى ريحه بعد الإحرام وبعد رمي الجمرة والحلاق وقبل الإفاضة فقال جائز وأحبه ولا أكرهه لثبوت السنة فيه عن النبي ﷺ والأخبار عن غير واحد من الصحابة فقلت: وما حجتك فيه؟ فذكر الأخبار فيه والآثار ثم قال: أنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سالم قال: قال عمر: "من رمى الجمرة فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب" قال سالم: وقالت عائشة: طيبت رسول الله ﷺ بيدي وسنة رسول الله ﷺ أحق أن تتبع. قال الشافعي: وهكذا ينبغي أن يكون الصالحون وأهل العلم فأما ما تذهبون إليه من ترك السنة وغيرها وترك ذلك لغير شيء بل لرأي أنفسكم فالعلم إذا إليكم تأتون منه ما شئتم وتدعون ما شئتم. وقال في الكتاب القديم رواية الزعفراني في مسألة بيع المدبر في جواب من قال له إن بعض أصحابك قد قال خلاف هذا قال الشافعي: فقلت له: من تبع سنة رسول الله ﷺ وافقته ومن خلط فتركها خالفته حتى صاحبي الذي لا أفارق الملازم الثابت مع رسول الله ﷺ وإن بعد والذي أفارق من لم يقل بحديث رسول الله ﷺ وإن قرب. وقال في خطبة كتابه إبطال الاستحسان: الحمد لله على جميع نعمه بما هو أهله وكما ينبغي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله بعثه بكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد فهدى بكتابه ثم على لسان رسوله ﷺ ثم أنعم عليه وأقام الحجة على خلقه { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقال {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وهى ورحمة وقال {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وفرض عليهم اتباع ما أنزل إليهم وسن رسول الله ﷺ لهم فقال {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} فأعلم أن معصيته في ترك أمر رسول الله ﷺ ولم يجعل لهم إلا اتباعه وكذلك قال لرسول الله ﷺ {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} مع ما علم الله نبيه ثم فرض اتباع كتابه فقال {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} وقال {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} وأعلمهم أنه أكمل لهم دينهم فقال عز وجل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} إلى أن قال: ثم علمهم بما آتاهم من العلم فأمرهم بالاقتصار عليه وأن لا يقولوا غيره إلا ما علمهم فقال لنبيه {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} وقال لنبيه {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} وقال لنبيه {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ثم أنزل على نبيه أن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يعني والله أعلم ما تقدم من ذنبه قبل الوحي وما تأخر قبل أن يعصمه فلا يذنب فعلم ما يفعل به من رضاه عنه وأنه أول شافع ومشفع يوم القيامة وسيد الخلائق وقال لنبيه {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وجاءه ﷺ رجل في امرأة رجل رماها بالزنا فقال له يرجع فأوحى الله إليه آية اللعان فلاعن بينهما وقال {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} وقال {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} الآية وقال لنبيه {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} فحجب عن نبيه علم الساعة وكان من عدا ملائكة الله المقربين وأنبياءه المصطفين من عباد الله أقصر علما من ملائكته وأنبيائه والله عز وجل فرض على خلقه طاعة نبيه ولم يجعل لهم من الأمر شيئا. وقد صنف الإمام أحمد رضي الله عنه كتابا في طاعة الرسول ﷺ رد فيه على من احتج بظاهر القرآن في معارضة سنن رسول الله ﷺ وترك الاحتجاج بها فقال في أثناء خطبته: إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وأنزل عليه كتابه الهدى والنور لمن اتبعه وجعل رسوله الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه وخاصة وعامة وناسخة ومنسوخه وما قصد له الكتاب فكان رسول الله ﷺ هو المعبر عن كتاب الله الدال على معانيه شاهده في ذلك أصحاب الذين ارتضاهم الله لنبيه واصطفاهم له ونقلوا ذلك عنه فكانوا هم أعلم الناس برسول الله ﷺ وبما أراد الله من كتابه بمشاهدتهم وما قصد له الكتاب فكانوا هم المعبرين عن ذلك بعد رسول الله ﷺ قال جابر: "ورسول الله ﷺ بين أظهرنا عليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به" ثم ساق الآيات الدالة على طاعة الرسول فقال جل ثناؤه في أول آل عمران {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وقال {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} وقال في النساء {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وقال {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} وقال {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} وقال {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقال {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} وقال في المائدة {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقال {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وقال {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وقال {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَن} وقال {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وقال {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقال {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} وقال {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} وقال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فكان الحسن يقول لا تذبحوا قبل ذبحه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ إِنّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} وقال {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} وقال {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وقال {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقال {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} وقال {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} وقال {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} قال ابن عباس هو جبريل وقال مجاهد {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} قال سعيد بن جبير: "الأحزاب الملل" ثم ذكر حديث يعلي بن أمية: "طفت مع عمر فلما بلغنا الركن الغربي الذي يلي الأسود جررت بيده ليستلم فقال: ما شأنك فقلت: ألا تستلم" فقال: ألم تطف مع النبي ﷺ فقلت: بلى قال: أفرأيته يستلم هذين الركنين الغربيين قال لا قال أليس لك فيه أسوة حسنة قلت بلى قال فانفذ عنك قال وجعل معاوية يستلم الأركان كلها فقال له ابن عباس: لم تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله ﷺ يستلمهما فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورا فقال ابن عباس {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فقال معاوية: صدقت". ثم ذكر أحمد الاحتجاج على إبطال قول من عارض السنن بظاهر القرآن وردها بذلك وهذا فعل الذين يستمسكون بالمتشابه في رد المحكم فإن لم يجدوا لفظا متشابها غير المحكم يردونه به استخرجوا من المحكم وصفا متشابها وردوه به فلهم طريقان في رد السنن أحدهما: ردها بالمتشابه من القرآن أو من السنن الثاني: جعلهم المحكم متشابها ليعطلوا دلالته وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق فعكس هذه الطريق وهي أنهم يردون المتشابه إلى المحكم ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم فتتفق دلالته مع دلالة المحكم وتوافق النصوص بعضها بعضا فإنها كلها من عند الله وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره. ولنذكر لهذا الأصل أمثلة لشدة حاجة كل مسلم إليه أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب. المثال الأول: رد الجهمية النصوص المحكمة غاية الإحكام المبينة بأقصى غاية البيان أن الله موصوف بصفات الكمال من العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر والوجه واليدين والغضب والرضا والفرح والضحك والرحمة والحكمة وبالأفعال كالمجيء والإتيان والنزول إلى السماء الدنيا ونحو ذلك والعلم بمجيء الرسول بذلك وإخباره به عن ربه إن لم يكن فوق العلم بوجوب الصلاة والصيام والحج والزكاة وتحريم الظلم والفواحش والكذب فليس يقصر عنه فالعلم الضروري حاصل بأن الرسول أخبر عن الله بذلك وفرض على الأمة تصديقه فيه فرضا لا يتم أصل الإيمان إلا به فرد الجهمية ذلك بالمتشابه من قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ومن قوله {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ومن قوله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم استخرجوا من هذه النصوص المحكمة المبينة احتمالات وتحريفات جعلوها به من قسم المتشابه. المثال الثاني: ردهم المحكم المعلوم بالضرورة أن الرسل جاءوا به من إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه بمتشابه قول الله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وقوله {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وقوله {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ونحو ذلك ثم تحيلوا وتمحلوا حتى ردوا نصوص العلو والفوقية بمتشابهه. المثال الثالث: رد القدرية النصوص الصريحة المحكمة في قدرة الله على خلقه وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن بالمتشابه من قوله {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ثم استخرجوا لتلك النصوص المحكمة وجوها أخر أخرجوها به من قسم المحكم وأدخلوها في المتشابه. المثال الرابع: رد الجبرية النصوص المحكمة في إثبات كون العبد قادرا مختارا فاعلا بمشيئته بمتشابه قوله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقوله {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وأمثال ذلك ثم استخرجوا لتلك النصوص من الاحتمالات التي يقطع السامع أن المتكلم لم يردها ما صيروها به متشابهة. المثال الخامس: رد الخوارج والمعتزلة النصوص الصريحة المحكمة غاية الإحكام في ثبوت الشفاعة للعصاة وخروجهم من النار بالمتشابه من قوله {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وقوله {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وقوله {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} ونحو ذلك وفعلوا فيها فعل من ذكرناه سواء. المثال السادس: رد الجهمية النصوص المحكمة التي قد بلغت في صراحتها وصحتها إلى أعلى الدرجات في رؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى في عرضات القيامة وفي الجنة بامتشابه من قوله {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} وقوله لموسى {لَنْ تَرَانِي} وقوله {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} ونحوها ثم أحالوا المحكم متشابها وردوا الجميع. المثال السابع: رد النصوص الصريحة الصحيحة التي تفوت العدد على ثبوت الأفعال الاختيارية للرب سبحانه وقيامها به كقوله {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وقوله {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} وقوله {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقوله {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ} وقوله {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} وقوله {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} وقوله {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} وقوله {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} وقوله: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا" وقوله {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} وقوله: "إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب الله قبله مثله ولم يغضب بعده مثله" وقوله: "إذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي" الحديث وأضعاف أضعاف ذلك من النصوص التي تزيد على الألف فردوا هذا كله مع إحكامه بمتشابه قوله {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}. المثال الثامن: رد النصوص المحكمة الصريحة التي في غاية الصحة والكثرة على أن الرب سبحانه إنما يفعل ما يفعله لحكمة وغاية محمودة وجودها خير من عدمها ودخول لام التعليل في شرعه وقدره أكثر من أن يعد فردوها بالمتشابه من قوله {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} ثم جعلوها كلها متشابهة. المثال التاسع: رد النصوص الصحيحة الصريحة الكثيرة الدالة على ثبوت الأسباب شرعا وقدرا كقوله {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ} {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} وقوله {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} وقوله {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} وقوله {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وقوله {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} وقوله {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} وقوله في العسل {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} وقوله في القرآن {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} إلى أضعاف أضعاف ذلك من النصوص المثبتة للسببية فردوا ذلك كله بالمتشابه من قوله {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} وقوله {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وقول النبي ﷺ: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم" ونحو ذلك وقوله: "إني لا أعطي أحدا ولا أمنعه" وقوله: "للذي سأله عن العزل عن أمته اعزل عنها فسيأتيها ما قدر لها" وقوله: "لا عدوى ولا طيرة" وقوله: "فمن أعدى الأول" وقوله: "أرأيت إن منع الله الثمرة" ولم يقل منعها البرد والآفة التي تصيب الثمار ونحو ذلك من المتشابه الذي إنما يدل على أن مالك السبب وخالقه يتصرف فيه بأن يسلبه سببيته إن شاء ويبقيها عليه إن شاء كما سلب النار قوة الإحراق عن الخليل ويالله العجب أترى من أثبت الأسباب وقال إن الله خالقها أثبت خالقا غير الله؟ وأما قوله {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فغاب عنهم فقه الآية وفهمها والآية من أكبر معجزات النبي ﷺ والخطاب بها خاص لأهل بدر وكذلك القبضة التي رمى بها النبي ﷺ فأوصلها الله سبحانه إلى جميع وجوه المشركين وذلك خارج عن قدرته ﷺ وهو الرمي الذي نفاه عنه وأثبت له الرمي الذي هو في محل قدرته وهو الحذف وكذلك القتل الذي نفاه عنهم هو قتل لم تباشره أيديهم وإنما باشرته أيدي الملائكة فكان أحدهم يشتد في أثر الفارس وإذا برأسه قد وقع أمامه من ضربة الملك ولو كان المراد ما فهمه هؤلاء الذين لا فقه لهم في فهم النصوص لم يكن فرق بين ذلك وبين كل وقتل وكل فعل من شرب أو زنا أو سرقة أو ظلم فإن الله خالق الجميع وكلام الله ينزه عن هذا وكذلك قوله ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم لم يرد أن الله حملهم بالقدر وإنما كان النبي ﷺ متصرفا بأمر الله منفذا له فالله سبحانه أمره بحملهم فنفذ أوامره فكأن الله هو الذي حملهم وهذا معنى قوله: "والله إني لا أعطي أحدا شيئا ولا أمنعه" ولهذا قال: "وإنما أنا قاسم" فالله سبحانه هو المعطي على لسانه وهو يقسم ما قسمه بأمره وكذلك قوله في العزل: "فسيأتيها ما قدر لها" ليس فيه إسقاط الأسباب فإن الله سبحانه إذا قدر خلق الولد سبق من الماء ما يخلق منه الولد ولو كان أقل شيء فليس من كل الماء يكون الولد ولكن أين في السنة أن الوطء لا تأثير له في الولد البتة وليس سببا له وأن الزوج أو السيد إن وطىء أو لم يطأ فكلا الأمرين بالنسبة إلى حصول الولد وعدمه على حد سواء كما يقوله منكرو الأسباب وكذلك قوله: "لا عدوى ولا طيرة" ولو كان المراد به نفي السبب كما زعمتم لم يدل على نفي كل سبب وإنما غايته أن هذين الأمرين ليسا من أسباب الشر كيف والحديث لا يدل على ذلك وإنما ينفي ما كان المشركون يثبتونه من سببية مستمرة على طريقة واحدة لا يمكن إطالها ولا صرفها عن محلها ولا معارضتها بما هو أقوى منها لا كما يقوله من قصر علمه إنهم كانوا يرون ذلك فاعلا مستقلا بنفسه. فالناس في الأسباب لهم ثلاث طرق: إبطالها بالكلية وإثباتها على وجه لا يتغير ولا يقبل سلب سببيتها ولا معارضتها بمثلها أو أقوى منها كما يقوله الطبائعية والمنجمون والدهرية والثالث ما جاءت به الرسل ودل عليه الحس والعقل والفطرة إثباتها أسبابا وجواز بل وقوع سلب سببيتها عنها إذا شاء الله ودفعها بأمور أخرى نظيرها أو أقوى منها مع بقاء مقتضى السببية فيها كما تصرف كثير من أسباب الشر بالتوكل والدعاء والصدقة والذكر والاستغفار والعتق والصلة وتصرف كثير من أسباب الخير بعد انعقادها بضد ذلك فلله كم من خير انعقد سببه ثم صرف عن العبد بأسباب أحدثها منعت حصوله وهو يشاهد السبب حتى كأنه أخذ باليد وكم من شر انعقد سببه ثم صرف عن العبد بأسباب أحدثها منعت حصوله ومن لا فقه له في هذه المسألة فلا انتفاع له بنفسه ولا بعلمه والله المستعان وعليه التكلان. المثال العاشر: رد الجهمية النصوص المحكمة الصريحة التي تفوت العد على أن الله سبحانه تكلم ويتكلم وكلم ويكلم وقال ويقول وأخبر ويخبر ونبأ وأمر ويأمر ونهى وينهى ورضى ويرضى ويعطي ويبشر وينذر ويحذر ويوصل لعباده القول ويبين لهم ما يتقون ونادى وينادي وناجى ويناجي ووعد وأوعد ويسأل عباده يوم القيامة ويخاطبهم ويكلم كلا منهم ليس بينه وبينه ترجماه ولا حاجب ويراجعه عبده مراجعة وهذه كلها أنواع للكلام والتكليم وثبوتها بدون ثبوت صفة التكلم له ممتنع فردها الجهمية مع إحكامها وصراحتها وتعيينها للمراد منها بحيث لا تحتمل غيره بالمتشابه من قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. المثال الحادي عشر: ردوا محكم قوله ألا له الخلق والأمر وقوله {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} وقوله {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ} وقوله {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وقوله {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} وغيرها من النصوص المحكمة بالمتشابه من قوله {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} والآيتان حجة عليهم فإن صفات الله جل جلاله داخلة في مسمى اسمه فليس الله أسما لذات لا سمع لها ولا بصر لها ولا حياة لها ولا كلام لها ولا علم وليس هذا رب العالمين وكلامه تعالى وعلمه وحياته وقدرته ومشيئته ورحمته داخلة في مسمى اسمه فهو سبحانه بصفاته وكلامه الخالق وكل ما سواه مخلوق وأما إضافة القرآن إلى الرسول فإضافة تبليغ محض لا إنشاء والرسالة تستلزم تبيلغ كلام المرسل ولو لم يكن للمرسل كلام يبلغه الرسول لم يكن رسولا ولهذا قال غير واحد من السلف: "من أنكر أن يكون الله متكلما فقد أنكر رسالة رسله فإن حقيقة رسالتهم تبليغ كلام من أرسلهم" فالجهمية وإخوانهم ردوا تلك النصوص المحكمة بالمتشابه ثم صيروا الكل متشابها ثم ردوا الجميع فلم يثبتوا لله فعلا يقوم به يكون به فاعلا كما لم يثبتوا له كلاما يقوم به يكون به متكلما فلا كلام له عندهم ولا أفعال بل كلامه وفعله عندهم مخلوق منفصل عنه وذلك لا يكون صفة له لأنه سبحانه إنما يوصف بما قام به لا بما لم يقم به. المثال الثاني عشر: وقد تقدم ذكره مجملا فنذكره ههنا مفصلا: رد الجهمية النصوص المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه وكونه فوق عباده من ثمانية عشر نوعا. أحدها: التصريح بالفوقية مقرونة بأداة من المعينة لفوقية الذات نحو: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم}. الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة كقوله {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}. الثالث: التصريح بالعروج إليه نحو {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وقول النبي ﷺ: "فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم". الرابع: التصريح بالصعود إليه كقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}. الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه كقوله {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وقوله {عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}. السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتا وقدرا وشرفا كقوله {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} وهو {الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}. السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه كقوله {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} وهذا يدل على شيئين: على أن القرآن ظهر منه لا من غيره وأنه الذي تكلم به لا غيره الثاني: على علوه على خلقه وأن كلامه نزل به الروح الأمين من عنده من أعلى مكان إلى رسوله. الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده وأن بعضها أقرب إليه من بعض كقوله {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} وقوله {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} ففرق بين من له عموما ومن عنده من مماليكه وعبيده خصوصا وقول النبي ﷺ في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: "إنه عنده على العرش". التاسع: التصريح بأنه سبحانه في السماء وهذا عند أهل السنة على أحد وجهين إما أن تكون في بمعنى على وإما أن يراد بالسماء العلو لا يختلفون في ذلك ولا يجوز حمل النص على غيره. العاشر: التصريح بالاستواء مقرونا بأداة على مختصا بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات مصاحبا في الأكثر لأداة "ثم" الدالة على الترتيب والمهلة وهو بهذا السياق صريح في معناه الذي لا يفهم المخاطبون غيره من العلو والارتفاع ولا يحتمل غيره البتة. الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله سبحانه كقوله ﷺ: "إن الله يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا". الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى أسفل. الثالث عشر: الإشارة إليه حسا إلى العلو كما أشار إليه من هو أعلم به وما يجب له ويمتنع عليه من أفراخ الجهمية والمعتزله والفلاسفة في أعظم مجمع على وجه الأرض يرفع أصبعه إلى السماء ويقول: اللهم اشهد ليشهد الجميع أن الرب الذي أرسله ودعا إليه واستشهده هو الذي فوق سماواته على عرشه. الرابع عشر: التصريح بلفظ الأين الذي هو عند الجهمية بمنزلة متى في الاستحالة ولا فرق بين اللفظين عندهم البتة فالقائل: "أين الله" ومتى كان الله عندهم سواء كقول أعلم الخلق به وأنصحهم لأمته وأعظمهم بيانا عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلا بوجه "أين الله" في غير موضع. الخامس عشر: شهادته التي هي أصدق شهادة عند الله وملائكته وجميع المؤمنين لمن قال: "إن ربه في السماء" بالإيمان وشهد عليه أفراخ جهم بالكفر وصرح الشافعي بأن هذا الذي وصفته من أن ربها في السماء إيمان فقال في كتابه في باب عتق الرقبة المؤمنة وذكر حديث الأمة السوداء التي سودت وجوه الجهمية وبيضت وجوه المحمدية فلما وصفت الإيمان قال: "أعتقها فإنها مؤمنة" وهي إنما وصفت كون ربها في السماء وأن محمدا عبده ورسوله فقرنت بينهما في الذكر فجعل الصادق المصدوق مجموعهما هو الإيمان. السادس عشر: إخباره سبحانه عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطلع إلى إله موسى فيكذبه فيما أخبر به من أنه سبحانه فوق السموات فقال {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} فكذب فرعون موسى في إخباره إياه بأن ربه فوق السماء وعند الجهمية لا فرق بين الإخبار بذلك وبين الإخبار بأنه يأكل ويشرب وعلى زعمهم يكون فرعون قد نزه الرب عما لا يليق به وكذب موسى في إخباره بذلك إذ من قال عندهم إن ربه فوق السموات فهو كاذب فهم في هذا التكذيب موافقون لفرعون مخالفون لموسى ولجميع الأنبياء ولذلك سماهم أئمة السنة "فرعونية" قالوا: وهم شر من الجهمية فإن الجهمية يقولون: إن الله في كل مكان بذاته وهؤلاء عطلوه بالكلية وأوقعوا عليه الوصف المطابق للعدم المحض فأي طائفة من طوائف بني آدم أثبتت الصانع على أي وجه كان قولهم خيرا من قولهم. السابع عشر: إخباره ﷺ أنه تردد بين موسى وبين الله ويقول له موسى: ارجع إلى ربك فسله التخفيف فيرجع إليه ثم ينزل إلى موسى فيأمره بالرجوع إليه سبحانه فيصعد إليه سبحانه ثم ينزل من عنده إلى موسى عدة مرات. الثامن عشر: إخباره تعالى عن نفسه وإخبار رسوله عنه أن المؤمنين يرونه عيانا جهرة كرؤية الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر والذي تفهمه الأمم على اختلاف لغاتها وأوهامها من هذه الرؤية رؤية المقابلة والمواجهة التي تكون بين الرائي والمرئي فيها مسافة محدودة غير مفرطة في البعد فتمتنع الرؤية ولا في القرب فلا تمكن الرؤية لا تعقل الأمم غير هذا فإما أن يروه سبحانه من تحتهم تعالى الله أو من خلفهم أو من أمامهم أو عن أيمانهم أو عن شمائلهم أو من فوقهم ولابد من قسم من هذه الأقسام إن كانت الرؤية حقا وكلها باطل سوى رؤيتهم له من فوقهم كما في حديث جابر الذي في المسند وغيره: "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا الجبار قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم" ثم قرأ قوله {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ثم يتوارى عنهم وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية ولهذا طرد الجهمية أصلهم وصرحوا بذلك وركبوا النفيين معا وصدق أهل السنة بالأمرين معا وأقروا بهما وصار من أثبت الرؤية ونفى علو الرب على خلقه واستواءه على عرشه مذبذبا بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. فهذه أنواع من الأدلة السمعية المحكمة إذا بسطت أفرادها كانت ألف دليل على علو الرب على خلقه واستوائه على عرشه فترك الجهمية ذلك كله وردوه بالمتشابه من قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ورده زعيمهم المتأخر بقوله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وبقوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ثم ردوا تلك الأنواع كلها متشابهة فسلطوا المتشابه على المحكم وردوه به ثم ردوا المحكم متشابها فتارة يحتجون به على الباطل وتارة يدفعون به الحق ومن له أدنى بصيرة يعلم أنه لا شيء في النصوص أظهر ولا أبين دلالة من مضمون هذه النصوص فإذا كانت متشابهة فالشريعة كلها متشابهة وليس فيها شيء محكم البتة ولازم هذا القول لزوما لا محيد عنه أن ترك الناس بدونها خير لهم من إنزالها إليهم فإنها أوهمتهم وأفهمتهم غير المراد وأوقعتهم في اعتقاد الباطل ولم يتبين لهم ما هو الحق في نفسه بل أحيلوا فيه على ما يستخرجونه بعقولهم وأفكارهم ومقايسهم فنسأل الله مثبت القلوب تبارك وتعالى أن يثبت قلوبنا على دينه وما بعث به رسوله من الهدى ودين الحق وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا إنه قريب مجيب. المثال الثالث عشر: رد الرافضة النصوص الصحيحة الصريحة المحكمة المعلومة عند خاص الأمة وعامتها بالضرورة في مدح الصحابة والثناء عليهم ورضاء الله عنهم ومغفرته لهم وتجاوزه عن سيئاتهم ووجوب محبة الأمة واتباعهم لهم واستغفارهم لهم واقتدائهم بهم بالمتشابه من قوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" ونحوه كما ردوا المحكم الصريح من أفعالهم وإيمانهم وطاعتهم بالمتشابه من أفعالهم كفعل إخوانهم من الخوارج حين ردوا النصوص الصحيحة المحكمة في موالاة المؤمنين ومحبتهم وإن ارتكبوا بعض الذنوب التي تقع المكفرة بالتوبة النصوح والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المفرة ودعاء المسلمين لهم في حياتهم وبعد موتهم وبالامتحان في البرزخ وفي موقف القيامة وبشفاعة من يأذن الله له في الشفاعة وبصدق التوحيد وبرحمة أرحم الرحمين فهذه عشرة أسباب تمحق أثر الذنوب فإن عجزت هذه الأسباب عنها فلابد من دخول النار ثم يخرجون منها فتركوا ذلك كله بالمتشابه من نصوص الوعيد وردوا المحكم من أفعالهم وإيمانهم وطاعتهم بالمتشابه من أفعالهم التي يحتمل أن يكونوا قصدوا بها طاعة الله افجتهدوا فأداهم إجتهادهم إلى ذلك فحصلوا فيه على الأجر المفرد وكان حظ أعدائهم منه تكفيرهم واستحلال دمائهم وأموالهم وإن لم يكونوا قصدوا ذلك كان غايتهم أن يكونوا قد أذنبوا ولهم من الحسنات والتوبة وغيرها ما يرفع موجب الذنب فاشتركوا هم والرافضة في رد المحكم من النصوص وأفعال المؤمنين بالمتشابه منها فكفروهم وخرجوا عليهم بالسيف يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان ففساد الدنيا والدين من تقديم المتشابه على المحكم وتقديم الرأي على الشرع والهوى على الهدى وبالله التوفيق. المثال الرابع عشر: رد المحكم الصريح الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا من وجوب الطمأنينة وتوقف اجزاء الصلاة وصحتها عليه كقوله: "لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في ركوعه وسجوده" وقوله لمن تركها: "صل فإنك لم تصل" وقوله: "ثم اركع حتى تطمئن راكعا" فنفى إجزاءها بدون الطمأنينة ونفى مسماها الشرعي بدونها وأمر بالإتيان بها فرد هذا المحكم الصريح بالمتشابه من قوله {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}. المثال الخامس عشر: رد المحكم الصريح من تعيين التكبير للدخول في الصلاة بقوله: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر" وقوله: "تحريمها التكبير" وقوله: "لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يستقبل القبلة ويقول الله أكبر" وهي نصوص في غاية الصحة فردت بالمتشابه من قوله: "وذكر اسم ربه فصلى". المثال السادس عشر: رد النصوص المحكمة الصريحة الصحيحة في تعيين قراءة فاتحة الكتاب فرضا بالمتشابه من قوله {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وليس ذلك في الصلاة إنما هو بدل عن قيام الليل وبقوله للأعرابي: "ثم أقرأ ما تيسر معك من القرآن" وهذا يحتمل أن يكون قبل تعيين الفاتحة للصلاة وأن يكون الأعرابي لا يحسنها وأن يكون لم يسىء في قراءتها فأمره أن يقرأ معها ما تيسر من القرآن وأن يكون أمره بالاكتفاء بما تيسر عنها فهو متشابه يحتمل هذه الوجوه فلا يترك له المحكم الصريح. المثال السابع عشر: رد المحكم الصريح من توقف الخروج من الصلاة على التسليم كما في قوله: "تحليلها التسليم" وقوله: "إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه من عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله" فأخبر أنه لا يكفي غير ذلك فرد المتشابه من قول ابن مسعود "فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك" وبالمتشابه من عدم أمره للأعرابي بالسلام. المثال الثامن عشر: رد المحكم الصريح في اشتراط النية لعبادة الوضوء والغسل كما في قوله {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} وقوله: "وإنما لامرىء ما نوى" وهذا لم ينو رفع الحدث فلا يكون له بالنص فردوا هذا بالمتشابه من قوله {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ولم يأمر بالنية قالوا فلو أوجبناها بالسنة لكان زيادة على نص القرآن فيكون نسخا والسنة لا تنسخ القرآن فهذه ثلاث مقدمات: إحداها أن القرآن لم يوجب النية الثانية أن إيجاب السنة لها نسخ القرآن الثالثة: أن نسخ القرآن بالسنة لا يجوز وبنوا على هذه المقدمات إسقاط كثير مما صرحت السنة بإيجابه كقراءة الفاتحة والطمأنينة وتعيين التكبير للدخول في الصلاة والتسليم للخروج منها ولا يتصور صدق المقدمات الثلاث في موضع واحد أصلا بل إما أن تكون كلها كاذبة أو بعضها فأما آية الوضوء فالقرآن قد نبه على أنه لم يكتف من طاعات عبادة إلا بما أخلصوا له في الدين فلم ينو التقرب إليه جملة لم يكن ما أتى به طاعة البتة فلا يكون معتدا به مع أن قوله {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إنما يفهم المخاطب منه غسل الوجه وما بعده لأجل الصلاة كما يفهم من قوله: "إذا واجهت الأمير فترجل وإذا دخل الشتاء فاشتر الفرو" ونحو ذلك فإن لم يكن القرآن قد دل على النية ودلت عليها السنة لم يكن وجوبها ناسخا للقرآن وإن كان زائدا عليه ولو كان كل ما أوجبته السنة ولم يوجبه القرآن نسخا له لبطلت أكثر سنن رسول الله ﷺ ودفع في صدورها وأعجازها وقال القائل: هذه زيادة على ما في كتاب الله فلا تقبل ولا يعمل بها وهذا بعينه هو الذي أخبر به رسول الله ﷺ أنه سيقع وحذر منه كما في السنن من حديث المقدام بن معد يكرب عن النبي ﷺ أنه قال: "ألا إني أوتيت اللقرآن ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة مال المعاهد" وفي لفظ "يوشك أن يقعد الرجل على أريكته فيحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإن ما حرم رسول الله ﷺ كما حرم الله" قال الترمذي: حديث حسن وقال البيهقي: إسناده صحيح وقال صالح بن موسى: عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "إني قد خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يفترقا حتى يردا على الحوض" فلا يجوز التفريق بين ما جمع الله بينهما ويرد أحدهما بالآخر بل سكوته عما نطق به ولا يمكن أحدا أن يطرد ذلك ولا الذين أصلوا هذا الأصل بل قد نقضوه في أكثر من ثلاثمائة موضع منها ما هو مجمع عليه ومنهاما هو مختلف فيه. السنة لا تعارض القرآن والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتظافرها الثاني: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيرا له الثالث: أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه ولا تخرج عن هذه الأقسام فلا تعارض القرآن بوجه ما فما كان منها زائدا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي ﷺ تجب طاعته فيه ولا تحل معصيته وليس هذا تقديما لها على كتاب الله بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله ولو كان رسول الله ﷺ لا يطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى وسقطت طاعته المختصة به وإنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه لم يكن له طاعة خاصة تختص به وقد قال الله تعالى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وكيف يكمن أحدا من أهل العلم أن لا يقبل حديثا زائدا على كتاب الله فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يحرم من النسب ولا حديث خيار الشرط ولا أحدايث الشفعة ولا حديث الرهن في الحضر مع أنه زائد على ما في القرآن ولا حديث ميراث الجدة ولا حديث تخيير الأمة إذا أعتقت تحت زوجها ولا حديث منع الحائض من الصوم والصلاة ولا حديث وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان ولا أحاديث إحداد المتوفي عنها زوجها مع زيادتها على ما في القرآن من العدة فهلا قلتم: إنها نسخ للقرآن وهو لا ينسخ بالسنة وكيف أوجبتم الوتر مع أنه زيادة محضة على القرآن بخبر مختلف فيه وكيف زدتم على كتاب الله فجوزتم الوضوء بنبيذ التمر بخبر ضعيف وكيف زدتم على كتاب الله فشرطتم في الصداق أن يكون أقله عشرة دراهم بخبر لا يصح البتة وهو زيادة محضة عى القرآن وقد أخذ الناس بحديث لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم وهو زائد على القرآن وأخذوا كلهم بحديث توريثه ﷺ بنت الابن السدس مع البنت وهو زائد على ما في القرآن وأخذ الناس كلهم بحديث استبراء المسبية بحيضة وهو زائد على ما في كتاب الله وأخذوا بحديث: "من قتل قيلا فله سلبه" وهو زائد على ما في القرآن من قسمة الغنائم وأخذوا كلهم بقضائه ﷺ الزائد على ما في القرآن من أن أعيان بني الأبوين يتوارثون دون بني العلات الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه ولو تتبعنا هذا لطال جدا فسنن رسول الله ﷺ أجل في صدورنا وأعظم وأفرض علينا أن لا نقبلها إذا كانت زائد على ما في القرآن بل على الرأس والعينين وكذلك فرض على الأمة الأخذ بحديث القضاء بالشاهد واليمين وإن كان زائدا على ما في القرآن وقد أخذ به أصحاب رسول الله ﷺ وجمهور التابعين والأئمة والعجب ممن يرده لأنه زائد على ما في كتاب الله ثم يقضي بالنكول ومعاقد القمط ووجوه الآجر في الحائط وليست في كتاب الله ولا سنة رسوله وأخذتم أنتم وجمهور الأمة بحديث: "لا يقاد الوالد بالولد" مع ضعفه وهو زائد على ما في القرآن وأخذتم أنتم والناس بحديث أخذ الجزية من المجوس وهو زائد على ما في القرآن وأخذتم مع سائر الناس بقطع رجل السارق في المرة الثانية مع زيادته على ما في القرآن وأخذتم أنتم والناس بحديث النهي عن الاقتصاص من الجرح قبل الاندمال وهو زائد على ما في القرآن وأخذت الأمة بأحاديث الحضانة وليست في القرآن وأخذتم أنتم والجمهور باعتداد المتوفي عنها في منزلها وهو زائد على ما في القرآن وأخذتم أنتم مع الناس بأحاديث البلوغ بالسن والإنبات وهي زائدة على ما في القرآن إذ ليس فيه إلا الاحتلام وأخذتم مع الناس بحديث: "الخراج بالضمان" مع ضعفه وهو زائد على ما في القرآن وبحديث النهي عن بيع الكالىء وهو زائد على ما في القرآن وأضعاف أضعاف ما ذكرنا بل أحكام السنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثر منها لم تنقص عنها فلو ساغ لنا رد كل سنة زائدة كانت على نص القرآن لبطلت سنن رسول الله ﷺ كلها إلا سنة دل عليها القرآن وهذا هو الذي أخبر النبي ﷺ بأنه سيقع ولابد من وقوع خبره. أنواع السنن الزائدة عن القرآن فإن قيل: السنن الزائدة على ما دل عليه القرآن تارة تكون بيانا له وتارة نزاعنا منشئة لحكم لم يتعرض القرآن له وتارة تكون مغيرة لحكمه وليس نزاعنا في القسمين الأولين فإنهما حجة باتفاق ولكن النزاع في القسم الثالث وهو الذي ترجمته بمسألة الزيادة على النص وقد ذهب الشيخ أبو الحسن الكرخي وجماعة كثيرة من أصحاب أبي حنيفة إلى أنها نسخ ومن ههنا جعلوا إيجاب التغريب مع الجلد نسخا كما لو زاد عشرين صوتا على الثمانين في حد القذف. وذهب أبو بكر الرازي إب أن الزيادة إن وردت بعد استقرار حكم النص منفرده عنه كانت ناسخة وإن وردة متصلة بالنص قبل إستقرار حكمه لم تكن ناسخة وإن وردت ولا يعلم تاريخها فإن وردت من جهة يثبت النص بمثلها فإن شهدت الأصول من عمل السلف أو النظر على ثبوتهما معا أثبتناهما وإن شهدت بالنص منفردا عنها أثبتناه دونها وإن لم يكن في الأصول دلالة على أحدهما فالواجب أن يحكم بورودهما معا ويكونان بمنزلة الخاص والعام إذا لم يعلم تاريخهما ولم يكن في الأصول دلالة على وجوب القضاء بأحدهما على الآخر فإنهما يستعملان معا وإن كان ورود النص من جهة توجب العلم كالكتاب والخبر المستفيض وورود الزيادة من جهة أخبار الآحاد لم يجزإلحاقها بالنص ولا العمل بها وذهب بعض أصحابنا إلى أن الزيادة إن غيرت حكم المزيد عليه تغييرا شرعيا بحيث إنه لو فعل على حد ما كان يفعل قبلها لم يكن معتدا به بل يجب استئنافه كان نسخا نحو ضم ركعة إلى ركعتي الفجر وإن لم يغير حكم المزيد عليه بحيث لو فعل على حد ما كان يفعل قبلها كان معتدا به ولا يجب استئنافه لم يكن نسخا ولم يجعلوا إيجاب الغريب مع الجلد نسخا وإيجاب عشرين جلدة مع الثمانين نسخا وكذلك إيجاب شرط منفصل عن العبادة لا يكون نسخا كإيجاب الوضوء بعد فرض الصلاة ولم يختلفوا أن إيجاب زيادة عبادة على عبادة كإيجاب الزكاة بعد إيجاب الصلاة لا يكون نسخا ولم يختلفوا أيضا أن إيجاب صلاة سادسة على الصلوات الخمس لا يكون نسخا. فالكلام معكم في الزيادة المغيرة في ثلاثة مواضع: في المعنى والاسم والحكم. أما المعنى فإنها تفيد النسخ لأنه الإزالة والزيادة تزيل حكم الاعتداد بالمزيد عليه وتوجب استئنافه بدونها وتخرجه عن كونه جميع الواجب وتجعله بعضه وتوجب التأثيم على المقتصر عليه بعد أن لم يكن إثما وهذا معنى النسخ وعليه يرتب الاسم فإنه تابع للمعنى فإن الكلام في زيادة شرعية مغيرة للحكم الشرعي بدليل شرعي متراخ عن المزيد عليه فإن اختل وصف من هذه الأوصاف لم يكن نسخا فإن لم تغير حكما شرعيا بل رفعت حكم البراءة الأصلية لم تكن نسخا كإيجاب عبادة بعد أخرى وإن كانت الزيادة مقارنة للمزيد عليه لم تكن نسخا وإن غيرته بل تكون تقييدا أو تخصيصا. وأما الحكم فإن كان النص المزيد عليه ثابتا بالكتاب أو السنة المتواترة لم يقبل خبرالواحد بالزيادة عليه وإن كان ثابتا بخبر الواحد قبلت الزيادة فإن اتفقت الأمة على قبول خبر الواحد في القسم الأول علمنا أنه ورد مقارنا للمزيد عليه فيكون تخصيصا لا نسخا قالوا: وإنما لم يقبل خبر الواحد بالزيادة على النص لأن الزيادة لو كانت موجودة معه لنقلها إلينا من نقل النص إذ غير جائز أن يكون المراد إثبات النص معقودا بالزيادة فيقتصر النبي ﷺ على إبلاغ النص منفردا عنها فواجب إذا أن يذكرها معه ولو ذكرها لنقلها إلينا من نقل النص فإن كان النص مذكورا في القرآن والزيادة وإرادة من جهة السنة فغير جائز أن يقتصر النبي ﷺ على تلاوة الحكم المنزل في القرآن دون أن يعقبها بذكر الزيادة لأن حصول الفراغ من النص الذي يمكننا استعماله بنفسه يلزمنا اعتقاد مقتضاه من حكمه كقوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} فإن كان الحد هو الجلد والتغريب فغير جائز أن يتلو النبي ﷺ الآية على الناس عارية من ذكر النفي عقبها لأن سكوته عن ذكر الزيادة معها يلزمنا اعتقاد موجبها وأن الجلد هو كمال الحد فلو كان معه تغريب لكان بعض الحد لا كماله فإذا أخلى التلاوة من ذكر النفي عقيبها فقد أراد منا اعتقاد ان الجلد المذكور في الآية هو تمام الحد وكماله فغير جائز إلحاق الزيادة معه إلا على وجه النسخ ولهذا كان قوله: "واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" ناسخا لحديث عبادة بن الصامت "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم" وكذلك لما رجم ماعزا ولم يجلده كذلك يجب أن يكون قوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ناسخا لحكم التغريب في قوله: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام". والمقصود أن هذه الزيادة لو كانت ثابتة مع النص لذكرها النبي ﷺ عقيب التلاوة ولنقلها إلينا من نقل المزيد عليه إذ غير جائز عليهم أن يعلموا أن الحد مجموع الأمرين وينقلوا بعضه دون بعضه وقد سموا الرسول ﷺ يذكر الأمرين فامتنع حينئذ العمل بالزيادة إلا من الجهة التي ورد منها الأصل فإذا وردت من جهة الآحاد فإن كانت قبل النص فقد نسخها النص المطلق عاريا من ذكرها وإن كانت بعده فهذا يوجب نسخ الآية بخبر الواحد وهو ممتنع فإن كان المزيد عليه بخبر الواحد جاز إلحاق الزيادة بخبر الواحد على الوجه الذي يجوز نسخه به فإن كانت واردة مع النص في خطاب واحد لم تكن نسخا وكانت بيانا. فالجواب من وجوه أحدها: أنكم أول من نقض هذا الأصل الذي أصلتموه فإنكم قبلتم خبر الوضوء بنبيذ التمر وهو زائد على ما في كتاب الله مغير لحكمه فإن الله سبحانه جعل حكم عادم الماء التيمم والخبر يقتضي أن يكون حكمه الوضوء بالنبيذ فهذه الزيادة بهذا الخبر الذي لا يثبت رافعة لحكم شرعي غير مقارنة له ولا مقاومة بوجه وقبلتم خبر الأمر بالوتر مع رفعه لحكم شرعي وهو اعتقاد كون الصلوات الخمس هي جميع الواجب ورفع التأثيم بالاقتصار عليها وإجزاء الإتيان في التعبد بفريضة الصلاة والذي قال هذه الزيادة هو الذي قال سائر الأحاديث الزائدة على ما في القرآن والذي نقلها إلينا هو الذي نقل تلك بعينه أو أوثق منه أو نظيره والذي فرض علينا طاعة رسوله وقبول قوله في تلك الزيادة هو الذي فرض علينا طاعته وقبول قوله في هذه والذي قال لنا {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} هو الذي شرع لنا هذه الزيادة على لسانه والله سبحانه ولاه منصب التشريع عنه ابتداء كما ولاه منصب البيان لما أراده بكلامه كله بل كلامه كله بيان عن الله والزيلدة بجميع وجوهها لا تخرج عن البيان بوجه من الوجوه بل كان السلف الصالح الطيب إذا سمعوا الحديث عنه وجدوا تصديه في القرآن ولم يقل أحد منهم قط في حديث واحد أبدا: إن هذا زيادة على القرآن فلا نقبله ولا نسمعه ولا نعمل به ورسول الله ﷺ أجل في صدورهم وسنته أعظم عندهم من ذلك وأكبر ولا فرق أصلا بين مجيء السنة بعدد الطواف وعدد ركعات الصلاة ومجيئها بفرض الطمأنينة وتعيين الفاتحة والنية فنينة وتعيين الفاتحة والنية فإن الجميع بيان لمراد الله أنه أوجب هذه العبادات على عباده على هذا الوجه فهذا الوجه هو المراد فجاءت السنة بيانا للمراد في جميع وجوهها حتى في التشريع المبتدأ فإنها بيان لمراد الله من عموم الأمر بطاعته وطاعة رسوله فلا فرق بين بيان هذا المراد وبين بيان المراد من الصلاة والزكاة والحج والطواف وغيرها بل هذا بيان المراد من شيء وذاك بيان المراد من أعم منه فالتغريب بيان محض للمراد من قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} وقد صرح النبي ﷺ بأن التغريب بيان لهذا السبيل المذكور في القرآن فكيف يجوز رده بأنه مخالف للقرآن معارض له ويقال لو قبلناه لأبطلنا به حكم القرآن وهل هذا إلا قلب للحقائق فإن حكم القرآن العام والخاص يوجب علينا قبوله فرضا لا يسعنا مخالفته فلو خالفنا القرآن ولخرجنا عن حكمه ولابد ولكان في ذلك مخالفة للقرآن والحديث معا. يوضحه الوجه الثاني: ان الله سبحانه نصب رسول الله ﷺ منصب المبلغ المبين عنه فكل ما شرعه للأمة فهو بيان منه عن الله أن هذا شرعه ودينه ولا فرق بين ما يبلغه عنه من كلامه المتلو ومن وحيه الذي هو نظير كلامه في وجوب الاتباع ومخالفة هذا كمخالفة هذا. يوضحه الوجه الثالث: أن الله سبحانه أمرنا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان وجاء البيان عن رسوله ﷺ بمقادير ذلك وصفاته وشروطه فوجب على الأمة قبوله إذ هو تفصيل لما أمر الله به كما يجب علينا قبول الأصل المفصل وهكذا أمر الله سبحانه بطاعته وطاعة رسوله فإذا أمر الرسول بأمر كان تفصيلا وبيانا للطاعة المأمور بها وكان فرض قبوله كفرض قبول الأصل المفصل ولا فرق بينهما. بيان السنة على أنواع يوضحه الوجه الرابع: أن البيان من النبي ﷺ أقسام أحدها: بيان نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أن كان خفيا الثاني: بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك كما بين أن الظلم المذكور في قوله {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} هو الشرك وأن الحساب اليسير هو العرض وأن الخيط الأبيض والأسود هما بياض النهار وسواد الليل وأن الذي {رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} هو جبريل كما فسر قوله {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} أنه طلوع الشمس من مغربها وكما فسر قوله {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} بأنها النخلة وكما فسر قوله {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} أن ذلك في القبر حين يسأل من ربك وما دينك وكما فسر الرعد بأنه ملك من الملائكة موكل بالسحاب وكما فسر اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله بأن ذلك باستحلال ما أحلوه لهم من الحرام وتحريم ما حرموه من الحلال وكما فسر القوة التي أمر الله أن نعدها لأعدائه بالرمي وكما فسر قوله {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} بأنه ما يجزى به العبد في الدنيا من النصب والهم والخوف واللأواء وكما فسر الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم وكما فسر الدعاء في قوله {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} بأنه العبادة وكما فسر أدبار النجوم بأنه الركعتان قبل الفجر وأدبار السجود بالركعتين بعد المغرب ونظائر ذلك الثالث: بيانه بالفعل كما بين أوقات الصلاة للسائل بفعله الرابع: بيان ما سئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن فنزل القرآن ببيانها كما سئل عن قذف الزوجة فجاء القرآن باللعان ونظائره الخامس: بيان ما سئل عنه بالوحي وإن لم يكن قرآنا كما سئل عن رجل أحرم في جبة بعدما تمضخ بالخلوق فجاء الوحي بأن ينزع عنه الجبة ويغسل أثر الخلوق السادس: بيانه للأحكام بالسنة ايتداء من غير سؤال كما حرم عليهم لحوم الحمر والمتعة وصيد المدينة ونكاح المرأة على عمتها وخالتها وأمثال ذلك السابع: بيانه للأمة جواز الشيء بفعله هو له وعدم نهيهم عن التأسي به الثامن: بيانه جواز الشيء بإقراره لهم على فعله وهو يشاهده أو يعلمهم يفعلونه التاسع: بيانه إباحة الشيء عفوا بالسكوت عن تحريمه وإن لم يأذن فيه نطقا العاشر: أن يحكم القرآن بإيجاب شيء أو تحريمه أو إباحته ويكون لذلك الحكم شروط وموانع وقيود وأوقات مخصوصة وأحوال وأوصاف فيحيل الرب سبحانه وتعالى على رسوله في بيانها كقوله تعالى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} فالحل موقوف على شروط النكاح وانتفاء موانعه وحضور وقته وأهلية المحل فإذا جاءت السنة ببيان ذلك كله لم يكن الشيء منه زائدا على النص فيكون نسخا له وإن كان رفعا لظاهر إطلاقه. فهكذا كل حكم منه ﷺ زائد على القرآن هذا سبيله سواء بسواء وقد قال تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ثم جاءت السنة بأن القاتل والكافر والرقيق لا يرث ولم يكن نسخا للقرآن مع أنه زائد عليه قطعا أعني في موجبات الميراث فإن القرآن أوجبه بالولادة وحدها فزادت السنة مع وصف الولادة اتحاد الدين وعدم الرق والقتل فهلا قلتم: إن هذه زيادة على النص فيكون نسخا والقرآن لا ينسخ بالسنة كما قلتم ذلك في كل موضع تركتم فيه الحديث لأنه زائد على القرآن. الوجه الخامس: أن تسميتكم للزيادة المذكورة نسخا لا توجب بل لا يجوز مخالفتها فإن تسمية ذلك نسخا اصطلاح منكم والأسماء المتواضع عليها التابعة للاصطلاح لا توجب رفع أحكام النصوص فأين سمي الله ورسوله ذلك نسخا وأين قال رسول الله ﷺ إذا جاءكم حديثي زائدا على ما في كتاب الله فردوه ولا تقبلوه فإنه يكون نسخا لكتاب الله وأين قال الله إذا قال رسولي قولا زائدا على القرآن فلا تقبلوه ولا تعملوا به وردوه وكيف يسوغ رد سنن رسول الله ﷺ بقواعد قعدتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. المراد بالنسخ في السنة الزائدة على القرآن الوجه السادس: أن يقال: ما تعنون بالنسخ الذي تضمنته الزيادة بزعمكم أتعنون أن حكم المزيد عليه من الإيجاب والتحريم والإباحة بطل بالكلية أم تعنون به تغير وصفه بزيادة شيء عليه من شرط أو قيد أو حال أو مانع أو ما هو أعم من ذلك فإن عنيتم الأول فلا ريب أن الزيادة لا تتضمن ذلك فلا تكون ناسخة وإن عنيتم الثاني فهو حق ولكن لا يلزم منها بطلان حكم المزيد عليه ولا رفعه ولا معارضته بل غايتها مع المزيد عليه كالشروط والموانع والقيود والمخصصات وشيء من ذلك لا يكون نسخا يوجب إبطال الأول ورفعه رأسا وإن كان نسخا بالمعنى العام الذي يسميه السلف نسخا وهو رفع الظاهر بتخصيص أو تقييد أو شرط أو مانع فهذا كثير من السلف يسميه نسخا حتى سمي الاستثناء نسخا فإن أردتم هذا المعنى فلا مشاحة في الاسم ولكن ذلك لا يسوغ رد السنن الناسخة للقرآن بهذا المعنى ولا ينكر أحد نسخ القرآن بالسنة بهذا المعنى بل هو متفق عليه بين الناس وإنما تنازعوا في جواز نسخه بالسنة النسخ الخاص الذي هو رفع أصل الحكم وجملته بحيث يبقى بمنزلة ما لم يشرع البتة وإن أردتم بالنسخ ما هو أعم من القسمين وهو رفع الحكم بجملته تارة وتقييد مطلقه وتخصيص عامه وزيادة شرط أو مانع تارة كنتم قد أدرجتم في كلامكم قسمين: مقبولا ومردودا كما تبين فليس الشأن في الألفاظ فسموا الزيادة ما شئتم فإبطال السنن بهذا الاسم مما لا سبيل إليه. يوضحه الوجه السابع: أن الزيادة لو كانت ناسخة لما جاز اقترانها بالمزيد لأن الناسخ لا يقارن المنسوخ وقد جوزتم اقترانها به وقلتم: تكون بيانا أو تخصيصا فهلا كان حكمها مع التأخر كذلك والبيان لا يجب اقترانه بالمبين بل يجوز تأخيره إلى وقت حضور العمل وما ذكرتموه من إيهام اعتقاد خلاف الحق فهو منتقض بجواز تأخير الناسخ وعدم الإشعار بأنه سينسخه ولا محذور في اعتقاد موجب النص ما لم يأت ما يرفعه أو يرفع ظاهره فحينئذ يعتقد موجبه كذلك فكان كل من الاعتقادين في وقته هو المأمور به إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. يوضحه الوجه الثامن: أن المكلف إنما يعتقده على إطلاقه وعمومه مقيدا بعدم ورود ما يرفع ظاهره كما يعتقد المنسوخ مؤيدا اعتقادا مقيدا بعدم ورود ما يبطله وهذا هو الواجب عليه الذي لا يمكنه سواه. الوجه التاسع: أن إيجاب الشرط الملحق بالعبادة بعدها لا يكون نسخا وإن تضمن رفع الإجزاء بدونه كما صرح بذلك بعض أصحابكم وهو الحق فكذلك إيجاب كل زيادة بل أولى أن لا تكون نسخا فإن إيجاب الشرط يرفع إجزاء المشروط عن نفسه وعن غيره وإيجاب الزيادة إنما يرفع إجزاء المزيد عن نفسه خاصة. الوجه العاشر: ان الناس متفقون على أن إيجاب عبادة مستقلة بعد الثانية لا يكون نسخا وذلك أن الأحكام لم تشرع جملة واحدة وإنما شرعها أحكم الحاكمين شيئا بعد شيء وكل منها زائدة على ما قبله وكان ما قبله جميع الواجب والإثم محطوط عمن اقتصر عليه وبالزيادة تغير هذان الحكمان فلم يبق الأول جميع الواجب ولم يحط الإثم عمن اقتصر عليه ومع ذلك فليس الزائد ناسخا للمزيد عليه إذ حكمه من الوجوب وغيره باق فهذه الزيادة المتعلقة بالمزيد لا تكون ناسخا له حيث لم ترفع حكمه بل هو باق على حكمه وقد ضم إليه غيره. يوضحه الوجه الحادي عشر: ان الزيادة إن رفعت حكما خطابيا كانت نسخا وزيادة التغريب وشروط الحكم وموانعه وحراحق لا ترفع حكم الخطاب وإن رفع حكم الاستصحاب. يوضحه الوجه الثاني عشر: أن ما ذكروه من كون الأول جميع الواجب وكونه مجزئا وحده وكون الإثم محطوطا عمن اقتصر عليه إنما هو من أحكام البراءة الأصلية فهو حكم استصحابي لم نستفده من لفظ الأمر الأول ولا أريد به فإن معنى كون العبادة مجزئة أن الذمة بريئة بعد الإتيان بها وحط الذم عن فاعلها معناه أنه قد خرج من عهدة الأمر فلا يلحقه ذم والزيادة وإن رفعت هذه الأحكام لم ترفع حكما دل عليه لفظ المزيد. تخصيص القرآن بالسنة يوضحه الوجه الثالث عشر: أن تخصيص القرآن بالسنة جائز كما أجمعت الأمة على تخصيص قوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} بقوله ﷺ: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" وعموم قوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} بقوله ﷺ: "لا يرث المسلم الكافر" وعموم قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} بقوله ﷺ: "لا قطع في ثمر ولا كثر" ونظائر ذلك كثيرة فإذا جاز التخصيص وهو رفع ما تناوله اللفظ وهو نقصان من معناه فلأن تجوز الزيادة التي لا تتضمن رفع شيء من مدلوله ولا نقصانه بطريق الأولى والأحرى. الوجه الرابع عشر: أن الزيادة لا توجب رفع المزيد لغة ولا شرعا ولا عرفا ولا عقلا ولا تقول العقلاء لمن ازداد خيره أو ماله أو جاهله أو علمه أو ولده إنه قد ارتفع شيء مما في الكيس بل تقول في. الوجه الخامس عشر: أن الزيادة قررت حكم المزيد وزادته بيانا وتأكيدا فهي كزيادة العلم والهدى والإيمان قال تعالى {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} وقال {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} وقال {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} وقال {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} فكذلك زيادة الواجب على الواجب إنما يزيده قوة وتأكيدا وثبوتا فإن كانت متصلة به اتصال الجزاء والشرط كان ذلك أقوى له وأثبت وآكد ولا ريب أن هذا أقرب إلى المعقول والمنقول والفطرة من جعل الزيادة مبطلة للمزيد عليه ناسخة له. الوجه السادس عشر: أن الزيادة لم تتضمن النهي عن المزيد ولا المنع منه وذلك حقيقة النسخ وإذا انتفت حقيقة النسخ استحال ثبوته. الوجه السابع عشر: أنه لابد في النسخ من تنافي الناسخ والمنسوخ وامتناع اجتماعهما والزيادة غير منافية للمزيد عليه ولا اجتماعهما ممتنع. الوجه الثامن عشر: أن الزيادة لو كانت نسخا لكانت إما نسخا بانفرادها عن المزيد أو بانضمامها إليه والقسمان محال فلا يكون نسخا أما الأول فظاهر لأنها لا حكم لها بمفردها البتة فإنها تابعة للمزيد عليه في حكمه وأما الثاني فكذلك أيضا لأنها إذا كانت ناسخة بانضمامها إلى المزيد كان الشيء ناسخا لنفسه ومبطلا لحقيقته وهذا غير معقول وأجاب بعضهم عن هذا بأن النسخ يقع على حكم الفعل دون نفسه وصورته وهذا الجواب لا يجدي عليهم شيئا والإلزام قائم بعينه فإنه يوجب أن يكون المزيد عليه قد نسخ حكم نفسه وجعل نفسه إذا انفرد عن الزيادة غير مجزىء بعد أن كان مجزئا. الوجه التاسع عشر: أن النقصان من العبادة لا يكون نسخا لما بقي منها فكذلك الزيادة عليها لا تكون نسخا لها بل أولى لما تقدم. الوجه العشرون: ان نسخ الزيادة للمزيد عليه: إما أن يكون نسخا لوجوبه أو لإجزائه أو لعدم وجوب غيره أو لأم رابع وهذا كزيادة التغريب مثلا على المائة جلدة لا يجوز أن تكون ناسخة لوجوبها فإن الوجوب بحالة ولا لإجزائها لأنها مجزئة عن نفسها ولا لعدم وجوب الزائد لأنه رفع لحكم عقلي وهو البراءة الأصلية فلو كان رفعها نسخا كان كلما أوجب الله شيئا بعد الشهادتين قد نسخ به ما قبله والأمر الرابع غير متصور ولا معقول فلا يحكم عليه. فإن قيل: بل ههنا أمر رابع معقول وهو الاقتصار على الأول فإنه نسخ بالزيادة وهذا غير الأقسام الثلاثة. فالجواب أنه لا معنى للاقتصار غير عدم وجوب غيره وكونه جميع الواجب وهذا هو القسم الثالث بعينه غيرتم التعبير عنه وكسوتموه عبارة أخرى. الوجه الحادي والعشرون: أن الناسخ والمنسوخ لابد أن يتواردا على محل واحد يقتضي المنسوخ ثبوته والناسخ رفعه أو بالعكس وهذا غير متحقق في الزيادة على النص. الوجه الثالث والعشرون: ان كل واحد من الزائد والمزيد عليه دليل قائم بنفسه مستقل بإفادة حكمه وقد أمكن العمل بالدليلين فلا يجوز إلغاؤه أحدهما وإبطاله وإلقاء الحرب بينه وبين شقيقه وصاحبه فإن كل ما جاء من عند الله فهو حق يجب اتباعه والعمل به ولا يجوز إلغؤه وإبطاله إلا حيث أبطله الله ورسوله بنص آخر ناسخ له لا يمكن الجمع بينه وبين المنسوخ وهذا بحمد الله منتف في مسألتنا فإن العمل بالدليلين ممكن ولا تعارض بينهما ولا تناقض بوجه فلا يسوغ لنا إلغاء ما اعتبره الله ورسوله كما لا يسوغ لنا اعتبار ما ألغاه وبالله التوفيق. الوجه الثالث والعشرون: أنه إن كان القضاء بالشاهد واليمين ناسخا للقرآن وإثبات التغريب ناسخا للقرآن فالوضوء بالنبيذ أيضا ناسخ للقرآن ولا فرق بينهما البتة بل القضاء بالنكول ومعاقد القمط يكون ناسخا للقرآن وحينئذ فنسخ كتاب الله بالسنة الصحيحة التي لا مطعن فيها أولى من نسخه بالرأي والقياس والحديث الذي لا يثبت وإن لم يكن ناسخا للقرآن لم يكن هذا نسخا له وأما أن يكون هذا نسخا وذاك ليس بنسخ فتحكم باطل وتفريق بين متماثلين. الوجه الرابع والعشرون: أن ما خالفتموه من الأحاديث التي زعمتم أنها زيادة على نص القرآن إن كانت تستلزم نسخه فقطع رجل السارق في المرة الثانية نسخ لأنه زيادة على القرآن وإن لم يكن هذا نسخا فليس ذلك نسخا. الوجه الخامس والعشرون: أنكم قلتم لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم وذلك زيادة على ما في القرآن فإن الله سبحانه أباح استحلال البضع بكل ما يسمى مالا وذلك يتناول القليل والكثير فزدتم على القرآن بقياس في غاية الضعف وبخبر في غاية البطلان فإن جاز نسخ القرآن بذلك فلم لا يجوز نسخه بالسنة الصحيحة الصريحة وإن كان هذا ليس بنسخ لم يكن الآخر نسخا. الوجه السادس والعشرون: أنكم أوجبتم الطهارة للطواف بقوله: "الطواف بالبيت صلاة" وذلك زيادة على القرآن فإن الله إنما أمر بالطواف ولم يأمر بالطهارة فكيف لم تجعلوا ذلك نسخا للقرآن وجعلتم القضاء بالشاهد واليمين والتغريب في حد الزنا نسخا للقرآن؟ الوجه السابع والعشرون: أنكم مع الناس أوجبتم الاستبراء في جواز وطء المسبية بحديث ورد زائد على كتاب الله ولم تجعلوا ذلك نسخا له وهو الصواب بلا شك فهلا فعلتم ذلك في سائر الأحاديث الزائدة على القرآن. الوجه الثامن والعشرون: أنكم وافقتم على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها بخبر الواحد وهو زائد على كتاب الله تعالى قطعا ولم يكن ذلك نسخا فهلا فعلتم ذلك في خبر القضاء بالشاهد واليمين والتغريب ولم تعدوه نسخا وكل ما تقولونه في محل الوفاق يقوله لكم منازعوكم في محل النزاع حرفا بحرف. الوجه التاسع والعشرون: أنكم قلتم: لا يفطر المسافر ولا يقصر في أقل من ثلاثة أيام والله تعالى قال {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وهذ يتناول الثلاثة وما دونها فأخذتم بقياس ضعيف أو أثر لا يثبت في التحديد بالثلاث وهو زيادة على القرآن ولم تجعلوا ذلك نسخا فكذلك الباقي. الوجه الثلاثون: أنكم منعتم قطع من سرق ما يسرع إليه الفساد من الأموال مع أنه سارق حقيقة ولغة وشرعا لقوله: "لا قطع في ثمر ولا كثر" ولم تجعلوا ذلك نسخا للقرآن وهو زائد عليه. الوجه الحادي والثلاثون: أنكم رددتم السنن الثابتة عن رسول الله ﷺ في المسح على العمامة وقلتم: إنها زائدة على نص الكتاب فتكون ناسخة له فلا تقبل ثم ناقضتم فأخذتم بأحاديث المسح على الخفين وهي زائدة على القرآن ولا فرق بينهما واعتذرتم بالفرق بأن أحاديث المسح على الخفين متواترة بخلاف المسح على العمامة وهو اعتذار فاسد فإن من له اطلاع على الحديث لا يشك في شهرة كل منها وتعدد طرقها واختلاف مخارجها وثبوتها عن النبي ﷺ قولا وفعلا. الوجه الثاني والثلاثون: أنكم قبلتم شهادة المرأة الواحدة على الرضاع والولادة وعيوب النساء مع أنه زائد على ما في القرآن ولم يصح الحديث به صحته بالشاهد واليمين ورددتم هذا ونحوه بأنه زائد على القرآن. الوجه الثالث والثلاثون: أنكم رددتم السنة الثانيه عن رسول الله ﷺ في أنه لا يحرم أقل من خمس رضعات ولا تحرم الرضعة والرضعتان وقلتم: هي زائدة على القرآن ثم أخذتم بخبر لا يصح بوجه ما في أنه لا قطع في أقل من عشرة دراهم أو ما يساويها ولم تروه زيادة على القرآن وقلتم هذا بيان للفظ السارق فإنه مجمل والرسول بينة بقوله: "لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم" فيالله العجب كيف كان هذا بيانا ولم يكن حديث التحريم بخمس رضعات بيانا لمجمل قوله: "وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم" ولا تأتون بعذر في آية القطع إلا كان مثله أو أولى منه في آية الرضاع سواء بسواء. الوجه الرابع والثلاثون: أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ بالمسح على الجوربين وقلتم: هي زائدة على القرآن وجوزتم الوضوء بالخمر المحرمه من نبيذ التمر المسكر بخبر لا يثبت وهو خلاف القرآن. الوجه الخامس والثلاثون: أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ في الصوم عن الميت والحج عنه وقلتم هو زائد على قوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} ثم جوزتم أن تعمل أعمال الحج كلها عن المغمى عليه ولم تروه زائدا على قوله {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} وأخذتم بالسنة الصحيحة وأصبتم في حمل العاقلة الدية عن القاتل خطأ ولم تقولوا هو زائد على قوله {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} واعتذاركم بأن الإجماع ألجأكم إلى ذلك لا يفيد لأن عثمان البتي وهو من فقهاء التابعين يرى أن الدية على القاتل وليس على العاقلة منها شيء ثم هذا حجة عليكم أن تجمع الأمة على الأخذ بالخبر وإن كان زائدا على القرآن. الوجه السادس والثلاثون: أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ في اشتراط المحرم ان يحل حيث حبس وقلتم: هو زائد على القرآن فإن الله أمر بإتمام الحج والعمرة والإحلال خلاف الإتمام ثم أخذتم وأصبتم بحديث تحريم لبن الفحل وهو زائد على ما في القرآن قطعا. الوجه السابع والثلاثون: ردكم السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ بالوضوء من مس الفرج وأكل لحوم الإبل وقلتم: ذلك زيادة على القرآن لأن الله تعالى إنما ذكر الغائط ثم أخذتم بحديث ضعيف في إيجاب الوضوء من القهقهة وخبر ضعيف في إيجابه من القيء ولم يكن إذ ذاك زائدا على ما في القرآن إذ هو قول متبوعكم فمن العجب إذا قال من قلدتموه قولا زائدا على ما في القرآن قبلتموه وقلتم: ما قاله إلا بدليل ويهل عليكم مخالفة ظاهر القرآن حينئذ وإذا قال رسول الله ﷺ قولا زائدا على ما في القرآن قلتم: هذا زيادة على النص وهو نسخ والقرآن لا ينسخ بالسنة فلم تأخذوا به واستصعبتم خلاف ظاهر القرآن فهان خلافه إذا وافق قول من قلدتموه وصهب خلافه إذا وافق قول رسول الله ﷺ. الوجه الثامن والثلاثون: أنكم أخذتم بخبر ضعيف لا يثبت في إيجاب المضمضة والاستنشاق في الغسل من الجنابة ولم تروه زائدا على القرآن ورددتم السنة الصحيحة الصريحة في أمر المتوضىء بالاستنشاق وقلتم: هو زائد على القرآن فهاتوا لنا الفرق بين ما يقبل من السنن الصحيحة وما يرد منها فإما أن تقبلوها كلها وإن زادت على القرآن وإما أن تردوها كلها إذا كانت زائدة على القرآن وأما التحكم في قبول ما شئتم منها ورد ماشئتم منها فما لم يأذن به الله ولا رسوله ونحن نشهد الله شهادة يسألنا عنها يوم نلقاه أنا لا نرد لرسول الله ﷺ سنة واحدة صحيحة أبدا إلا بسنة صحيحة مثلها نعلم أنها ناسخة لها. الوجه التاسع والثلاثون: أنكم رددتم السنة الصحيحة عن رسول الله ﷺ في القسم للبكر سبعا يفضلها بها على من عنده من النساء وللثيب ثلاثا إذا أعرس بهما وقلتم: هذا زائد على العدل المأمور به في القرآن ومخالف له فلو قبلناه كنا نسخنا به القرآن ثم أخذتم بقياس فاسد واه لا يصح في جواز نكاح الأمة لواجد الطول غير خائف العنت إذا لم تكن تحته حرة وهو خلاف ظاهر القرآن وزائد عليه قطعا. الوجه الأربعون: ردكم السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ نفقة المبتوتة وسكناها وقلتم: هو مخالف للقرآن فلو قبلناه كان نسخا للقرآن به ثم أخذتم بخبر ضعيف لا يصح أن عدة الأمة قرءان وطلاقها طلقتان مع كونه زائد على ما في القرآن قطعا. الوجه الحادي والأربعون: ردكم السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ في تخيير ولي الدم بين الدية أو القود أو العفو بقولكم: إنها زائدة على ما في القرآن ثم أخذتم بقياس من أفسد القياس أنه لو ضربه بأعظم دبوس يوجد حتى ينثر دماغه على الأرض فلا قود عليه ولم تروا ذلك مخالفا لظاهر القرآن والله تعالى يقول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ويقول {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}. الوجه الثاني والأربعون: أنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ بقوله: "لا يقتل مسلم بكافر" وقوله: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" وقلتم: هذا خلاف ظاهر القرآن لأن الله تعالى يقول {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وأخذتم بخبر لا يصح عن رسول الله ﷺ بأنه "لا قود إلا بالسيف" وهو مخالف لظاهر القرآن فإنه سبحانه قال {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقال {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}. الوجه الثالث والأربعون: أنكم أخذتم بخبر لا يصح عن رسول الله ﷺ في أنه "لا جمعة إلا في مصر جامع" وهو مخالف لظاهر القرآن قطعا وزائد عليه ورددتم الخبر الصحيح الذي لا شك في صحته عند أحد من أهل العلم في أن كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا وقلتم هو خلاف ظاهر القرآن في وجوب الوفاء بالعقد. الوجه الرابع والأربعون: أنكم أخذتم بخبر ضعيف "لا تقطع الأيدي في الغزو" وهو زائد على القرآن وعديتموه إلى سقوط الحدود على من فعل أسبابها في دار الحرب وتركتم الخبر الصحيح الذي لا ريب في صحته في المصراة وقلتم هو خلاف ظاهر القرآن من عدة أوجه. الوجه الخامس والأربعون: أنكم أخذتم بخبر ضعيف بل باطل في أنه لا يؤكل الطافي من السمك وهو خلاف ظاهر القرآن إذ يقول تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} فصيده ما صيد منه حيا وطعامه قال أصحاب رسول الله ﷺ هو ما مات فيه صح ذلك عن الصديق وابن عباس وغيرهما ثم تركتم الخبر الصحيح المصرح بأن ميتته حلال مع موافقته لظاهر القرآن. الوجه السادس والأربعون: أنكم أخذتم وأصبتم بحديث تحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وهو زائد على ما في القرآن ولم تروه ناسخا ثم تركتم حديث حل لحوم الخيل الصحيح الصريح وقلتم هو مخالف لما في القرآن زائد عليه وليس كذلك. الوجه السابع والأربعون: أنكم أخذتم بحديث المنع من توريث القاتل مع أنه زائد على القرآن وحديث عدم القود على قاتل ولده وهو زائد على ما في القرآن مع أن الحديثين ليسا في الصحة بذاك وتركتم الأخذ بحديث إعتاق النبي ﷺ لصفية وجعل عتقها صداقها فصارت بذلك زوجة وقلتم هذا خلاف ظاهر القرآن والحديث في غاية الصحة. الوجه الثامن والأربعون: أنكم أخذتم بالحديث الضعيف الزائد على ما في القرآن وهو كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه فقلتم: هذا يدل على وقوع طلاق المكره والسكران وتركتم السنة الصحيحة التي لا ريب في صحتها فيمن وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن بقوله {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} ولاعجب أن ظاهر القرآن مع الحديث متوافقان متطابقان فإن منع البائع من الوصول إلى الثمن وإلى عين ماله إطعام له بالباطل الغرماء فخالفتم ظاهر القرآن مع السنة الصحيحة الصريحة. الوجه التاسع والأربعون: أنكم أخذتم بالحديث الضعيف وهو "من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له" ولم تقولوا هو زائد على القرآن في قوله {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وتركتم الحديث الصحيح في بقاء الإحرام بعد الموت وأنه لا ينقطع به وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن في قوله {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وخلاف ظاهر قوله ﷺ "إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث". الوجه الخمسون: رد السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ في وجوب الموالاة حيث أمر الذي ترك لمعة من قدمه بأن يعيد الوضوء والصلاة وقالوا: هو زائد على كتاب الله ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على كتاب الله في أن "أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة". الوجه الحادي والخمسون: رد الحديث الثابت عن رسول الله ﷺ في أنه "لا نكاح إلا بولي" وأن من أنكحت نفسها فنكاحها باطل وقالوا: هو زائد على كتاب الله فإن الله تعالى يقول {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ} وقال {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على القرآن قطعا في اشتراط الشهادة في صحة النكاح والعجب أنهم استدلوا على ذلك بقوله: "لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل" ثم قالوا: لا يفتقر إلى حضور الولي ولا عدالة الشاهدين. فهذا طرف من بيان تناقض من رد السنن بكونها زائدة على القرآن فتكون ناسخة فلا تقبل. الوجه الثاني والخمسون: أنكم تجوزون الزيادة على القرآن بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون للأمة فيه قولان أحدهما: أنه باطل مناف للدين والثاني: أنه صحيح مؤخر عن الكتاب والسنة فهو في المرتبة الأخيرة ولا تختلفون في جواز إثبات حكم زائسد على القرآن به فهلا قلتم إن ذلك يتضمن نسخ الكتاب بالقياس. فإن قيل: قد دل القرآن على صحة القياس واعتباره وإثبات الأحكام به فما خرجنا عن موجب القرآن ولا زدنا على ما في القرآن إلا بما دلنا عليه القرآن. قيل: فهلا قلتم مثل هذا سواء في السنة الزائدة على القرآن وكان قولكم ذلك في السنة أسعد وأصلح من القياس الذي هو محل آراء المجتهدين وعرضة للخطأ بخلاف قول من ضمنت لنا العصمة في أقواله وفرض الله علينا اتباعه وطاعته. فإن قيل: القياس بيان لمراد الله ورسوله من النصوص وأنه أريد بها إثبات الحكم في المذكور في نظيره وليس ذلك زائدا على القرآن بل تفسير له وتبيين. قيل: فهلا قلتم إن السنة بيان لمراد الله من القرآن تفصيلا لما أجمله وتبيينا لما سكت عنه وتفسيرا لما أبهمه فإن الله سبحانه أمر بالعدل والإحسان والبر والتقوى ونهى عن الظلم والفواحش والعدوان والإثم وأباح لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث فكل ما جاءت به السنة فإنها تفصيل لهذا المأمور به والمنهى عنه والذي أحل لنا هو الذي حرم علينا. وهذا يتبين بالمثال التاسع عشر: وهو أن النبي ﷺ أمر في حديث النعمان بن بشير أن يعدل بين الأولاد في العطية فقال: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" وفي الحديث: "إني لا أشهد على جور" فسماه جورا وقال: "إن هذا لا يصلح" وقال: "أشهد على هذا غيري" تهديدا له وإلا فمن الذي يطيب قلبه من المسلمين أن يشهد على ما حكم النبي ﷺ بأنه جور وأنه لا يصلح وأنه على خلاف تقوى الله وأنه خلاف العدل وهذا الحديث من تفاصيل العدل الذي أمر الله به في كتابه وقامت به السماوات والأرض وأسست عليه الشريعة فهو أشد موافقة للقرآن من كل قياس على وجه الأرض وهو محكم الدلالة غاية الإحكام فرد بالمتشابه من قوله: "كل أحد أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين" فكونه أحق به يقتضى جواز تصرفه فيه كما يشاء وبقياس متشابه على إعطاء الأجانب ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المتشابه من العموم والقياس لا يقاوم هذا المحكم المبين غاية البيان. المثال العشرون: رد المحكم الصحيح الصريح في مسألة المصراة بالمتشابه من القياس وزعمهم أن هذا حديث يخالف الأصول فلا يقبل فيقال الأصول كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أمته والقياس الصحيح الموافق للكتاب والسنة فالحديث الصحيح أصل بنفسه فكيف يقال: الأصل يخالف نفسه هذا من أبطل الباطل والأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما: كلام الله وكلام رسوله وما عداهما فمردود إليهما فالسنة أصل قائم بنفسه والقياس فرع فكيف يرد الأصل بالفرع قال الإمام أحمد: "إنما القياس أن تقيس على أصل" فأما أن تجيء إلى الأصل فتهدمه ثم تقيس فعلى أي شيء تقيس وقد تقدم بيان موافقة حديث المصراة للقياس وإبطال قول من زعم أنه خلاف القياس وأنه في الشريعة حكم يخالف القياس الصحيح وأما القياس الباطل فالشريعة كلها مخالفة له ويالله العجب كيف وافق الوضوء بالنبيذ المشتد للأصول حتى قبل وخالف خبر المصراة للأصول حتى رد؟ المثال الحادي والعشرون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في العرايا بالمتشابه من قوله: "التمر بالتمر مثلا بمثل سواء بسواء" فإن هذا لا يتناول الرطب بالتمر. فإن قيل: فأنتم رددتم خبر النهي عن بيع الرطب بالتمر مع أنه محكم صريح صحيح بحديث العرايا وهو متشابه. قيل: فإذا كان عندكم محكما صحيحا فكيف رددتموه بالمتشابه من اشتراط المساواة بين التمر والتمر؟ فلا بحديث النهي أخذتم ولا بحديث العرايا بل خالفتم الحديثين معا وأما نحن فأخذنا بالسنن الثلاثة وتركنا كل سنة على وجهها ومقتضاها ولم نضرب بعضها ببعض ولم نخالف شيئا منها فأخذنا بحديث النهي عن بيع التمر بالتمر متفاضلا وأخذنا بحديث النهي عن بيع الرطب بالتمر مطلقا وأخذنا بحديث العرايا وخصصنا به عموم حديث النهي عن بيع الرطب بالتمر اتباعا لسنن رسول الله ﷺ كلها وإعمالا لأدلة الشرع جميعها فإنها كلها حق ولا يجوز ضرب الحق بعضه ببعض وإبطال بعضه ببعض والله الموفق. المثال الثاني والعشرون: رد حديث القسامة الصحيح الصريح المحكم بالمتشابه من قوله: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" والذي شرع الحكم بالقسامة هو الذي شرع أن لا يعطى أحد بدعواه المجردة وكلا الأمرين حق من عند الله لا اختلاف فيه ولم يعط في القسامة بمجرد الدعوى وكيف يليق بمن بهرت حكمة شرعه العقول أن لا يعطى المدعي بمجرد دعواه عودا من أراك ثم يعطيه بدعوى مجردة دم أخيه المسلم؟ وإنما أعطاه ذلك بالدليل الظاهر الذي يغلب على الظن صدقه فوق تغليب الشاهدين وهو اللوث والعداوة والقرينة الظاهرة من وجود العدو مقتولا في بيت عدوه فقوى الشارع الحكيم هذا السبب باستحلاف خمسين من أولياء القتيل الذين يبعد أو يستحيل اتفاقهم كلهم على رمي البريء بدم ليس منه بسبيل ولا يكون فيهم رجل رشيد يراقب الله ولو عرض على جميع العقلاء هذا الحكم والحكم بتحليف العدو الذي وجد القتيل في داره بأنه ما قتله لرأوا أن مابينهما من العدل كما بين السماء والأرض ولو سئل كل سليم الحاسة عن قاتل هذا لقال من وجد في داره والذي يقضي منه العجب أن يرى قتيل يتشحط في دمه وعدوه هارب بسكين ملطخة بالدم ويقال القول قوله فيستحلفه بالله ما قتله ويخلي سبيله ويقدم ذلك على أحسن الأحكام وأعدلها وألصقها بالعقول والفطر الذي لو اتفقت العقلاء لم يهتدوا الأحسن منه بل ولا لمثله وأين ما تضمنه الحكم بالقسامة من حفظ الدماء إلى ما تضمنه تحليف من لا يشك مع القرائن التي تفيد القطع أنه الجاني؟ ونظير هذا إذا رأينا رجلا من أشراف الناس حاسر الرأس بغير عمامة وآخر أمامه يشتد عدوا وفي يده عمامة وعلى رأسه أخرى فإنا ندفع العمامة التي بيده إلى حاسر الرأس ونقبل قوله ولا نقول لصاحب اليد: القول قولك مع يمينك وقوله ﷺ: "لو يعطى الناس بدعواهم" لا يعارض القسامة بوجه فإنه إنما نفى الإعطاء بدعوى مجردة وقوله: "ولكن اليمين على المدعى عليه" هو في مثل هذه الصورة حيث لا تكون مع المدعي إلا مجرد الدعوى وقد دل القرآن على رجم المرأة بلعان الزوج إذا نكلت وليس ذلك إقامة للحد بمجرد أيمان الزوج بل بها وبنكولها وهكذا في القسامة إنما يقبل فيها باللوث الظاهر والأيمان المتعددة المغلظة وهاتان بينتا هذين الموضعين والبينات تختلف بحسب حال المشهود به كما تقدم: بأربعة شهود وثلاثة بالنص وإن خالفه من خالفه في بينة الإعسار واثنان وواحد ويمين ورجل وامرأتان ورجل واحد وامرأة واحدة وأربعة أيمان وخمسون يمينا ونكول وشهادة الحال ووصف المالك اللقطة وقيام القرائن والشبه الذي يخبر به القائف ومعاقد القمط ووجوه الآجر في الحائط وكونه معقودا ببناء أحدهما عند من يقول بذلك فالقسامة مع اللوث أقوى البينات. المثال الثالث والعشرون: رد السنة الثابتة المحكمة في النهي عن بيع الرطب بالتمر بالمتشابه من قوله: "وأحل الله البيع" وبالمتشابه من قياس في غاية الفساد وهو قولهم: الرطب والتمر إما أن يكونا جنسين وإما أن يكونا جنسا واحدا وعلى التقديرين فلا يمنع بيع أحدهما بالآخر وأنت إذا نظرت إلى هذا القياس رأيته مصادما للسنة أعظم مصادمة ومع أنه فاسد في نفسه بل هما جنس واحد أحدهما أزيد من الآخر قطعا بلينته فهو أزيد أجزاء من الآخر بزيادة لا يمكن فصلها وتمييزها ولا يمكن أن يجعل في مقابلة تلك الأجزاء من الرطب ما يتساويان به عند الكمال إذ هو ظن وحسبان فكان المنع من بيع أحدهما بالآخر محض القياس لو لم تأت به سنة وحتى لو لم يكن ربا ولا القياس يقتضيه لكان أصلا قائما بنفسه يجب التسليم والانقياد له كما يجب التسليم لسائر نصوصه المحكمة ومن العجب رد هذه السنة بدعوى أنها مخالفة للقياس والأصول وتحريم بيع الكسب بالسمسم ودعوى أن ذلك موافق للأصول فكل أحد يعلم أن جريان الربا بين التمر والرطب أقوب إلى الربا نصا وقياسا ومعقولا من جريانه بين الكسب والسمسم. المثال الرابع والعشرون: رد المحكم الصريح الصحيح من السنة بالإقراع يبن الأعبد الستة الموصى بعتقهم وقالوا: هذا خلاف الأصول بالمتشابه من رأي فاسد وقياس باطل بأنهم إما أن يكون كل واحد منهم قد استحق العتق فلا يجوز نقله عنه إلى غيره أو لم يستحقه فلا يجوز أن يعتق منهم أحد وهذا الرأي الباطل كما أنه في مصادمة السنة فهو فاسد في نفسه فإن العتق إنما استحق في ثلث ماله ليس إلا والقياس والأصول تقتضي جمع الثلث في محل واحد كما إذا أوصى بثلاثة دراهم وهي كل ماله فلم يجز الورثة فإنا ندفع إلى الموصى له درهما ولا نجعله شريكا بثلث كل درهم ونظائر كل ذلك فهذا المعتق لعبيده كأنه أوصى بعتق ثلثهم إذ هذا هو الذي يملكه وفيه صحت الوصية فالحكم بجمع الثلث في اثنين منهم أحسن عقلا وشرعا وفطرة من جعل الثلث شائعا في كل واحد منهم فحكم رسول الله ﷺ في هذه المسألة خير من حكم غيره بالرأي المحض. المثال الخامس والعشرون: رد السنة الصريحة المحكمة في تحريم الرجوع في الهبة لكل أحد إلا للوالد برأي متشابه فاسد اقتضى عكس السنة وأنه يجوز الرجوع في الهبة لكل أحد إلا لوالد أو لذي رحم محرم أو لزوج أو زوجة أو يكون الواهب قد أثيب منها ففي هذه المواضع الأربعة يمتنع الرجوع وفرقوا بين الأجنبي والرحم بأن هبة القريب صلة ولا يجوز قطعها وهبة الأجنبي تبرع وله أن يمضيه وأن لا يمضيه وهذا مع كونه مصادما للسنة مصادمة محضة فهو فاسد لأن الموهوب له حين قبض العين الموهوبة دخلت في ملكة وجاز له التصرف فيها فرجوع الواهب فيها انتزاع لملكة منه بغير رضاه وهذا باطل شرعا وعقلا وأما الوالد فولده جزء منه وهو وماله لأبيه وبينهما من البعضية ما يوجب شدة الاتصال بخلاف الأجنبي. فإن قيل: لم نخالفه إلا بنص محكم صريح صحيح وهو حديث سالم عن أبيه عن النبي ﷺ "من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها" قال البيهقي: قال لنا أبو عبد الله يعني الحاكم هذا حديث صحيح إلا أن يكون الحمل فيه على شيخنا يريد أحمد بن إسحاق بن محمد بن خالد الهاشمي ورواه الحاكم من حديث عمرو بن دينار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "الواهب أحق بهبته ما لم يثب" وفي كتاب الدارقطي من حديث حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي ﷺ قال: "إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها" وفي الغيلانيات ثنا محمد بن إبراهيم بن يحيى عن محمد بن عبد الله عن عطاء عن ابن عباس عن النبي ﷺ "من وهب هبة فارتجع بها فهو أحق بها ما لم يثب منها ولكنه كالكلب يعود في قيئه". فالجواب أن هذه الأحاديث لا تثبت ولو ثبتت لم تحل مخالفتها ووجب العمل بها وبحديث "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته" ولا يبطل أحدهما بالآخر ويكون الواهب الذي لا يحل له الرجوع من وهب تبرعا محضا لا لأجل العوض والواهب الذي له الرجوع من وهب ليتعوض من هبته ويثاب منها فلم يفعل المتهب وتستعمل سنن رسول الله ﷺ كلها ولا يضرب بعضها ببعض أما حديث ابن عمر فقال الدارقطني: لا يثبت مرفوعا والصواب عن ابن عمر عن عمر قوله وقال البيهقي: ورواه علي بن سهل بن المغيرة عن عبيد الله ابن موسى ثنا حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت سالم بن عبد الله فذكره وهو غير محفوظ بهذا الإسناد وإنما يروى عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع وإبراهيم ضعيف انتهى وقال الدارقطني: غلط فيه علي بن سهل انتهى وإبراهيم ابن إسماعيل هذا قال أبو نعيم: لا يساوي حديثه فلسين وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به وقال يحيى بن معين: إبراهيم بن إسماعيل المكي ليس بشيء وقال البيهقي: والمحفوظ عن عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه عن عمر من وهب هبة فلم يثب منها فهو أحق بها إلا لذي رحم محرم قال البخاري: هذا أصح وأما حديث عبيد الله بن موسى عن حنظلة فلا أراه إلا وهما وأما حديث حماد ابن سلمة فمن رواية عبد الله بن جعفر الرقي عن ابن المبارك وعبد الله هذا ضعيف عندهم وأما حديث ابن عباس فمحمد بن عبد الله فيه هو العزرمي ولا تقوم به حجة قال الفلاس والنسائي: هو متروك الحديث وفيه إبراهيم بن يحيى قال مالك ويحيى بن سعيد وابن معين: هو كذاب وقال الدارقطني: متروك الحديث فإن لم تصح هذه الأحاديث لم يلتفت إليها وإن صحت وجب حملها على من وهب للعوض وبالله التوفيق. المثال السادس والعشرون: رد السنة المحكمة في القضاء بالقافة وقالوا هو خلاف الأصول ثم قالوا: لو ادعاه اثنان ألحقناه بهما وكان هذا مقتضى الأصول. ونظير هذا المثال السابع والعشرون: رد السنة المحكمة الثابتة في جعل الأمة فراشا وإلحاق الولد بالسيد لم يدعه وقالوا: هو خلاف الأصول والأمة لا تكون فراشا ثم قالوا: لو تزوجها وهو بأقصى بقعة من المشرق وهي بأقصى بقعة من المغرب وأتت بولد لستة أشهر لحقه وإن علمنا بأنهما لم يتلاقيا قط وهي في فراش بالعقد فأمته التي يطؤها ليلا ونهارا ليست بفراش وهذه فراش وهذا مقتضى الأصول وحكم رسول الله ﷺ خلاف الأصول على لازم قولهم! ونظير هذا قياس الحدث على السلام في الخروج من الصلاة بكل واحد منهما ودعوى أن ذلك موجب الأصول مع بعد ما بين الحدث والسلام وترك قياس نبيذ التمر المسكر على عصير العنب المسكر في تحريم قليل كل منهما مع شدة الأخوة بينهما ودعوى أن ذلك خلاف الأصول. ونظيره أن الذمي لو منع دينارا واحدا من الجزية انتقض عهده وحل ماله ودمه ولو حرق الكعبة البيت الحرام ومسجد رسول الله ﷺ وجاهر بسب الله ورسوله أقبح سب على رءوس المسلمين فعهده باق ودمه معصوم وعدم النقض بذلك مقتضى الأصول والنقض بمنع الدينار مقتضى الأصول. ونظيره أيضا إباحة قراءة القرآن بالعجمية وأنه مقتضى الأصول ومنع رواية الحديث بالمعنى وهو خلاف الأصول. ونظيره إسقاط الحد عمن استأجر امرأة ليزني بها أو تغسل ثيابه فزنى بها وأن هذا مقتضى الأصول وإيجاب الحد على الأعمى إذا وجد على فراشه امرأة فظنها زوجته فبانت أجنبية. ونظيره أيضا منع المصلي من الصلاة بالوضوء من ماء يبلغ قناطير مقنطرة وقعت فيه قطرة دم أو بول وإباحتهم له أن يصلي في ثوب ربعه متلطخ بالبول وإن كان عذرة فقدر راحة الكف. ونظيره دعواهم أن الإيمان واحد والناس فيه سواء وهو مجرد التصديق وليست الأعمال داخلة في ماهيته وأن من مات ولم يصل صلاة قط في عمره مع قدرته وصحة جسمه وفراغه فهو مؤمن وتكفيرهم من يقول مسيجد أو فقيه بالتصغير أو يقول للخمر أو للسماع المحرم: ما أطيبه وألذه. ونظير ذلك أنه لو شهد عليه أربعة بالزنا فقال: "صدقوا" سقط عنه الحد بتصديقهم ولو قال "كذبوا عليّ" حد. ونظيره أنه لا يصح استئجار دار تجعل مسجدا يصلي فيه المسلمون وتصح إجارتها كنيسة يعبد فيها الصليب والنار. ونظيره أنه لو قهقه في صلاته بطل وضوءه ولو غنى في صلاته أو قذف المحصنات أو شهد بالزور فوضوء بحاله. ونظيره أنه لو وقع في البئر فأرة تنجست البئر فإذا نزع منها دلو فالدلو والماء نجسان ثم هكذا إلى تمام كذا وكذا دلوا فإذا نزع الدلو الذي قبل الأخير فرشرش على حيطان البئر نجسها كلها فإذا جاءت النوبة إلى الدلو الأخير قشقش النجاسة كلها من البئر وحيطانها وطينها بعد أن كانت نجسة. ونظيره إنكار كون القرعة التي ثبت فيها ستة أحاديث عن رسول الله ﷺ وفيها آيتان من كتاب الله طريقا للأحكامم الشرعية وإثبات حل الوطء بشهادة الزور التي يعلم المقدوح أنها شهادة زور وبها فرق الشاهدان بين الرجل والمرأة. ونظير هذا إيجاب الاستبراء على السيد إذا ملك امرأة بكرا لا يوطأ مثلها مع القطع ببراءة رحمها وإسقاطه عمن أراد وطء الأمة التي وطئها سيدها البارحة ثم اشتراها هو فملكها لغيره ثم وكله في تزويجها منه فقالوا: يحل له وطؤها وليس بين وطء بائعها ووطئه هو إلا ساعة من نهار. ونظير هذا التناقض إباحة نكاح المخلوقة من ماء الزاني مع كونها بعضه مع تحريم المرضعة من لبن امرأته لكون اللبن ثاب بوطئه فقد صار فيه جزء منه فيالله العجب كيف انتهض هذا الجزء اليسير سببا للتحريم ثم يباح له وطؤها وهي جزؤه الحقيقي وسلالته وأين تشنيعكم وإنكاركم لاستمناء الرجل بيده عند الحاجة خوفا من العنت ثم تجوزون له وطء بنته المخلوقة من مائه حقيقة؟ ونظير هذا لو ادعى على ذمي حقا وأقام به شاهدين عبدين عالمين صالحين مقبولة شهادتهما على رسول الله ﷺ لم تقبل شهادتهما عليه فإن أقام به شاهدين كافرين حرين قبلت شهادتهما عليه مع كونهما من أكذب الخلق على الله وأنبيائه ودينه. نظير هذا لو تداعيا حائطا لأحدهما عليه خشبتان وللآخر عليه ثلاث خشبات ولا بينة فهو كله لصاحب الخشبات الثلاث فلو كان لأحدهما ثلاث خشبات وللآخر مائة خشبة بينهما نصفين. ونظير هذا لو اغتصب نصراني رجلا على ابنته أو امرأته أو حرمته وزنى بها ثم شدخ رأسها بحجر أو رمى بها من أعلى شاهق حتى ماتت فلا حد عليه ولا قصاص فلو قتله المسلم صاحب الحرمة بقصبة محددة قتل به. ونظير هذا أنه لو أكره على قتل ألف مسلم أو أكثر بسجن شهر وأخذ شيء من ماله فقتلهم فلا قود عليه ولا دية حتى إذا أكره بالقتل على عتق أمته أو طلاق زوجته لزمه حكم العتق والطلاق ولم يكن الإكراه مانعا من نفوذ حكمنا عليه مع أن الله سبحانه أباح التكلم بكلمة الكفر مع الإكراه ولم يبح قتل المسلم بالإكراه أبدا. ونظير هذا إبطال الصلاة بتسبيح من نابه شيء في صلاته وقد أمر به النبي ﷺ وتصحيح صلاة من ركع ثم خر ساجدا من غير أن يقيم صلبه وقد أبطلها النبي ﷺ بقوله: "لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في ركوعه وسجوده" ودعوى أن ذلك مقتضى الأصول. نظيره أيضا إبطال الصلاة بالإشارة لرد السلام أو غيره وقد أشار النبي ﷺ في صلاته برد السلام وأشار الصحابة برءوسهم تارة وبأكفهم تارة وتصحيحها مع ترك الطمأنينة وقد أمر بها النبي ﷺ ونفى الصلاة بدونها وأخبر أن صلاة النقر صلاة المنافقين وأخبر حذيفة أن من صلى كذلك لقي الله على غير الفطرة التي فطر الله عليها رسوله ﷺ وأخبر النبي ﷺ أن من لا يتم ركوعه ولا سجوده أسوأ الناس سرقة وهذا يدل على أنه أسوأ حالا عند الله من سراق الأموال. ونظير هذا قولهم: لو أن رجلا مسلما طاهر البدن عليه جنابة غمس يده في بئر بنية رفع الحدث صارت البئر كلها نجسة يحرم شرب مائها والوضوء منه والطبخ به فلو اغتسل فيها مائة نصراني قلف عابدو صليب أو مائة يهودي فماؤها باق على حاله طاهر مطهر يجوز الوضوء منه وشربه والطبخ به. نظيره لو ماتت فأرة في ماء فصب ذلك الماء في بئر لم ينزح منها إلا عشرون دلوا فقط وتطهر بذلك ولو توضأ رجل مسلم طاهر الأعضاء بماء فسقط ذلك الماء في البئر فلابد أن تنزح كلها. ونظير هذا قولهم: لو عقد على أمه أو أخته أو بنته ووطئها وهو يعلم أن الله حرم ذلك فلا حد عليه لأن صورة العقد شبهة ولو رأى امرأة في الظلمة ظنها امرأته فوطئها فعليه الحد ولم يكن ذلك شبهة. ونظيره قولهم: لو أنه رشا شاهدين فشهدا بالزور المحض أن فلانا طلق امرأته ففرق الحاكم بينهما جاز له أن يتزوجها ويطأها حلالا بل ويجوز لأحد الشاهدين ذلك فلو حكم حاكم بصحة هذا العقد لم يجز نقض حكمه ولو حكم حاكم بالشاهد واليمين لنقض حكمه وقد حكم به النبي ﷺ. ونظير ذلك قولهم: لو تزوج امرأة فخرجت مجنونة برصاء من قرنها إلى قدمها مجذومة عمياء مقطوعة الأطراف فلا خيار له وكذلك إذا وجدت هي الزوج كذلك فلا خيار لها وإن خرج الزوج من خيار عباد الله وأغناهم وأجملهم وأعلمهم وليس له أبوان في الإسلام وللزوجة أبوان في الإسلام فلها الفسخ بذلك. ونظيره قولهم: يصح نكاح الشغار ويجب فيه مهر المثل وقد صح نهي رسول الله ﷺ عنه وتحريمه إياه ولا يصح نكاح من أعتق أمة وجعل عنقها صداقها وقد فعله رسول الله ﷺ. ونظيره قولهم: يصح نكاح التحليل وقد صح لعنة رسول الله ﷺ لمن فعله من رواية عبد الله بن مسعود وأبي هريرة وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة ولا يصح نكاح الأمة لمضطر خائف العنت عادم الطول إذا كانت تحته حرة ولو كانت عجوزا شا لا تعفه. ونظيره قولهم: يجوز بيع الكلب وقد منع منه النبي ﷺ وتحريم بيع المدبر وقد باعه رسول الله ﷺ. ونظيره قولهم: للجار أن يمنع جاره أن يغرز خشبة هو محتاج إلى غرزها في حائطه وقد نهاه رسول الله ﷺ عن منمعه وتسليطهم إياه على انتزاع دراه كلها منه بالشفعة بعد وقوع الحدود وتصريف الطرق وقد أبطلها النبي ﷺ. ونظيره قولهم لا يحكم بالقسامة لأنها خلاف الأصول ثم قالوا يحلف الذين وجدوا القتيل في محلتهم ودارهم خمسين يمينا ثم يقتضى عليهم بالدية فيالله العجب كيف كيف هذا وفق الأصول وحكم رسول الله ﷺ خلاف الأصول. ونظيره قولهم: لو تزوج امرأة فقالت له امرأة أخرى أنا أرضعتك وزوجتك أو قال له رجل هذه أختك من الرضاعة جاز له تكذيبها ووطء الزوجة مع أن هذه هي الوقعة التي أمر رسول الله ﷺ عقبة ابن الحارث بفراق امرأته لأجل قول الأمة السوداء إنها أرضعتهما ولو اشترى طعاما أو ماء فقال له رجل هذا ذبيحة مجوسي أو نجس لم يسعه أن يتناوله مع أن الأصل في الطعام والماء الحل والأصل في الأبضاع التحريم ثم قالوا: لو قال المخبر: "هذا الطعام والشراب لفلان سرقه أو غصبه منه فلان" وسعه أن يتناوله. ونظير هذا قولهم: لو أسلم وتحته أختان وخيرناه فطلق إحداهما كانت هي المختارة والتي أمسكها هي المفارقة قالوا: لأن الطلاق لا يكون إلا في زوجة وأصحاب أبي حنيفة تخلصوا من هذا بأنه إن عقد على الأختين في عقد واحد فسد نكاحهما واستأنف نكاح من شاء منهما وإن تزوج واحدة بعد واحدة فنكاح الأولى هو الصحيح ونكاح الثانية فاسد ولكن لزمهم نظيره في مسألة العبد إذا تزوج بدون إذن سيده كان موقوفا على إجازته فلو قال له طلقها طلاقا رجعيا كان ذلك إجازة منه للناكح فلو قال له: "طلقها" ولم يقل "رجعيا" لم يكن إجازة للنكاح مع ان الطلاق في هذا النكاح لا يكون رجعيا إلا بعد الإجازة وقبل الدخول وأما قبل الإجازة والدخول فلا ينقسم إلى بائن ورجعي. المثال الثامن والعشرون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في أن من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح بكونها خلاف الأصول وبالمتشابه من نهيه ﷺ عن الصلاة وقت طلوع الشمس قالوا والعام عندنا يعارض الخاص فقد تعارض حاظر ومبيح فقدمنا الحاظر احتياطا فإنه يوجب عليه الصلاة وحديث الإتمام يجوز له المضي فيها وإذا تعارضا صبرنا إلى النص الذي يوجب الإعادة لتتيقن براءة الذمة فيقال لا ريب أن قوله ﷺ من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته حديث واحد قاله ﷺ في وقت واحد وقد وجبت طاعته في شطره فتجب طاعته في الشطر الآخر وهو محكم خاص لا يحتمل إلا وجها واحدا لا يحتمل غيره البتة وحديث النهي عن الصلاة في أوقات النهي عام مجمل قد خص منه عصر يومه بالإجماع وخص منه قضاء الفائتة والمنسية بالنص وخص منه ذوات الأسباب بالسنة كما قضى النبي ﷺ سنة الظهر بعد العصر وأقر من قضى سنة الفجر بعد صلاة الفجر وقد أعلمه أنها سنة الفجر وأمر من صلى في رحله ثم جاء مسجد جماعة ان يصلي معهم وتكون له نافلة وقاله في صلاة الفجر وهي سبب الحديث وأمر الداخل والإمام يخطب أن يصلي تحية المسجد قبل أن يجلس وأيضا فإن الأمر بإتمام الصلاة وقد طلعت الشمس فيها أمر بإتمام لا بابتداء والنهي عن الصلاة في ذلك الوقت نهي عن ابتدائها لا عن استدامتها فإنه لم يقل لا تتموا الصلاة في ذلك الوقت وإنما قال لا تصلوا وأين أحكام الابتداء من الدوام وقد فرق النص والإجماع والقياس بينهما فلا تؤخذ أحكام الدوام من أحكام الابتداء ولا أحكام اللابتداء من أحكام الدوام في عامة مسائل الشريعة فالإحرام ينافي ابتداء النكاح والطيب دون استدامتهما والنكاح ينافي قيام العدة والردة دون استدامتهما والحدث ينافي ابتداء المسح على الخفين دون استدامته وزوال خوف العنت ينافي ابتداء النكاح على الأمة دون استدامته عند الجمهور والزنا من المرأة ينافي ابتداء عقد النكاح دون استدامته عند الإمام أحمد ومن وافقه والذهول عن نية العبادة ينافي ابتداءها دون استدامتها وفقد الكفاءة ينافي لزوم النكاح في الابتداء دون الدوام وحصول الغنى ينافي جواز الأخذ من الزكاة ابتداء ولا ينافيه دواما وحصول الحجر بالسفه والجنون ينافي ابتداء العقد من المحجور عليه ولا ينافي دوامه وطريان ما يمنع الشهادة من الفسق والكفر والعداوة بعد الحكم بها لا يمنع العمل بها على الدوام ويمنعه في الابتداء والقدرة على التكفير بالمال تمنع التكفير بالصوم ابتداء لا دواما والقدرة على هدي التمتع تمنع الانتقال إلى الصوم ابتداء لا دواما والقدرة على الماء تمنع ابتداء التيمم اتفاقا وفي منعه لاستدامة الصلاة بالتيمم خلاف بين أهل العلم ولا يجوز إجارة العين المغصوبة ممن لا يقدر على تخليصها ولو غصبها بعد العقد من لا يقدر المستأجر على تخليصها منه لم تنفسخ الإجارة وخير المستأجر بين فسخ العقد وإمضائه ويمنع أهل الذمة من ابتداء إحداث كنيسة في دار الإسلام ولا يمنعون من استدامتها ولو حلف لا يتزوج ولا يتطيب أولا يتطهر فاستدام ذلك لم يحنث وإن ابتدأه حنث وأضعاف اضعاف ذلك من الأحكام التي يفرق فيها بين الابتداء والدوام فيحتاج في ابتدائها إلى ما لا يحتاج إليه في دوامها وذلك لقوة الدوام وثبوته واستقرار حكمه وأيضا فهو مستصحب بالأصل وأيضا فالدافع أسهل من الرافع وأيضا فأحكام التبع يثبت فيها مالا يثبت في المتبوعات والمستدام تابع لأصله الثابت فلو لم يكن في المسألة نص لكان القياس يقتضي صحة ما ورد به النص فكيف وقد توارد عليه النص والقياس. فقد تبين أنه لم يتعارض في هذه المسألة عام وخاص ولا نص وقياس بل النص فيها والقياس متفقان والنص للعام لا يتناول مورد الخاص ولا هو داخل تحت لفظه ولو قدر صلاحية لفظه له فالخاص بيان لعدم إرادته فلا يجوز تعطيل حكمه وإبطاله بل تيعين إعماله واعتباره ولا تضرب أحاديث رسول الله ﷺ بعضها ببعض وهذه القاعدة أولى من القاعدة التي تتضمن إبطال إحدى السنتين وإلغاء أحد الدليلين والله الموفق. ثم نقول: الصورة التي أبطلتم فيها الصلاة وهي حالة طلوع الشمس وخالفتم السنة أولى بالصحة من الصورة التي وافقتم فيها السنة فإنه إذا ابتدأ العصر قبل الغروب فقد ابتدأها في وقت نهي وهو وقت ناقص بل هو أولى الأوقات بالنقصان كما جعله النبي ﷺ وقت صلاة المنافقين حين تصير الشمس بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار وإنما كان النهي عن الصلاة قبل ذلك الوقت حريما له وسدا للذريعة وهو بخلاف من ابتدأ الصلاة قبل طلوع الشمس فإن الكفار حينئذ لا يسجدون لها بل ينتظرون بسجودهم طلوعها فكيف يقال تبطل صلاة من ابتدأها في وقت تام لا يسجد فيه الكفار للشمس وتصح صلاة من ابتدأها وقت سجود الكفار للشمس سواء وهو الوقت الذي تكون فيه بين قرني الشيطان فإنه حينئذ يقارنها ليقع السجود له كما يقارنها وقت الطلوع ليقع السجود له فإذا كان ابتداؤها وقت مقارنة الشيطان لها غير مانع من صحتها فلأن تكون استدامتها وقت مقارنة الشيطان غير مانع من الصحة بطريق الأولى والأخرى فإن كان في الدنيا قياس صحيح فهذا من أصحه فقد تبين ان الصورة التي خالفتم فيها النص أولى بالجواز قياسا من الصورة التي وافقتموه فيها. وهذا مما حصلته عن شيخ الإسلام قدس الله روحه وقت القراءة عليه وهذه كانت طريقته وإنما يقرر أن القياس الصحيح هو ما دل عليه النص وأن من خالف النص للقياس فقد وقع في مخالفة القياس والنص معا وبالله التوفيق. ومن العجب أنهم قالوا: لو صلى ركعة من العصر ثم غربت الشمس صحت صلاته وكان مدركا لها لقول رسول الله ﷺ: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" وهذا شطر الحديث وشطره الثاني "ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر". المثال التاسع والعشرون: رد السنة الثابتة المحكمة الصريحة في دفع اللقطة إلى من وصف عفاصها ووعاءها ووكاءها وقالوا: هو مخالف للأصول فكيف يعطي المدعي بدعواه من غير بينة ثم لم ينشبوا أن قالوا: من ادعى لقيطا عند غيره ثم وصف علامات في بدنه فإنه يقضى له به بغير بينة ولم يروا ذلك خلاف الأصول وقالوا: من ادعى خصيا ومعاقد قمطة من جهته قضى له به ولم يكن ذلك خلاف الأصول ومن ادعى حائطا ووجوه الآجر من جهته قضي له به ولم يكن ذلك خلاف الأصول ومن ادعى مالا على غيره فأنكر ونكل عن اليمين قضي له بدعواه ولم يكن ذلك خلاف الأصول وإذا ادعى الزوجان ما في البيت قضي لكل واحد منهما بما يناسبه ولم يكن ذلك خلاف الأصول. ونحن نقول: ليس في الأصول ما يبطل الحكم بدفع اللقطة إلى واصفها البتة بل هو مقتضى الأصول فإن الظن المستفاد بوصفه أعظم من الظن المستفاد بمجرد النكول بل وبالشاهدين فوصفه بينة ظاهرة على صحة دعواه لا سيما ولم يعارضه معارض فلا يجوز إلغاء دليل صدقه مع عدم معارض أقوى منه فهذا خلاف الأصول حقا لا موجب السنة. المثال الثلاثون: رد السنة الثابتة المحكمة الصريحة في صحة صلاة من تكلم فيها جاهلا أو ناسيا بأنها خلاف الأصول ثم قالوا: من أكل في رمضان أو شرب ناسيا صح صومه مع اعترافهم بأن ذلك على خلاف الأصول والقياس لكن تبعنا فيه السنة فما الذي منعكم من تقديم السنة الأخرى على القياس والأصول كما قدمتم خبر القهقهة في الصلاة والوضوء بنبيذ التمر وآثار الآبار على القياس والأصول. المثال الحادي والثلاثون: رد السنة الثابتة المحكمة في اشتراط البائع منفعة المبيع مدة معلومة بأنها خلاف الأصول ثم قالوا: يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع في الحال مع العلم بأنها لو قطعت لم تكن مالا ينتفع به ولا يساوي شيئا البتة ثم لهما أن يتفقا على بقائها إلى حين الكمال ودعوى أن ذلك موافق للأصول وهو عين ما نهى عنه النبي ﷺ. المثال الثاني والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تخيير النبي ﷺ الولد بين أبويه وقالوا: هو خلاف الأصول ثم قالوا: إذا زوج الولي غير الأب الصغيرة صح وكان النكاح لازما فإذا بلغت انقلب جائزا وثبت لها الخيار بين الفسخ والإمضاء وهذا وفق الأصول فياللعجب أين في الأصول التي هي كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة المستند إلى الكتاب والسنة موافقة هذا الحكم للأصول ومخالفة حكم رسول الله ﷺ بالتخيير بين الأبوين للأصول. المثال الثالث والثلاثون: رد السنة الثابتة الصحيحة الصريحة المحكمة في رجم الزانيين الكتابيين بأنها خلاف الأصول وسقوط الحد عمن عقد على أمه ووطئها وأن هذا هو مقتضى الأصول فياعجبا لهذه الأصول التي منعت إقامة الحد على من أقامه عليه رسول الله ﷺ وأسقتطه عمن لم يسقطه عنه فإنه ثبت عنه أنه أرسل البراء بن عازب إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن يضرب عنقه ويأخذ ماله فوالله ما رضي له بحد الزاني حتى حكم عليه بضرب العنق وأخذ المال وهذا هو الحق المحض فإن جريمته أعظم من جريمة من زنى بامرأة أبيه من غير عقد فإن هذا ارتكب محظورا واحدا والعاقد عليها ضم إلى جريمة الوطء جريمة العقد الذي حرمه الله فانتهك حرمة شرعه بالعقد وحرمة أمه بالوطء ثم يقال الأصول تقتضي سقوط الحد عنه وكذلك حكم رسول الله ﷺ برجم اليهوديين هو من أعظم الأصول فكيف رد هذا الأصل العظيم بالرأي الفاسد ويقال: أنه مقتضى الأصول. فإن قيل: إنما حكم رسول الله ﷺ بالرجم بما في التوراة إلزاما لهما بما اعتقدا صحته. قيل: هب أن الأمر كذلك أفحكم بحق يجب اتباعه وموافقته وتحرم مخالفته أم بغير ذلك فاختاروا أحد الجوابين ثم اذهبوا إلى ما شئتم. المثال الرابع والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وجوب الوفاء بالشروط في النكاح وإنها أحق الشروط بالوفاء على الإطلاق بأنها خلاف الأصول والأخذ بحديث النهي عن بيع وشرط الذي لا يعلم له إسناد يصح مع مخالفته للسنة الصحيحة والقياس ولانعقاد الإجماع على خلافه ودعوى أنه موافق للأصول. أما مخالفته للسنة الصحيحة فإن جابرا باع بعيره وشرط ركوبه إلى المدينة والنبي ﷺ قال: "من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع" فجعله للمشتري بالشرط الزائد على عقد البيع وقال: "من باع ثمرة قد أبرت فهي للبائع إلا أن يشترطها المبتاع" فهذا بيع وشرط ثابت بالسنة الصحيحة الصريحة. وأما مخالفته للإجماع فالأمة مجمعة على جواز اشتراط الرهن والكفيل والضمين والتأجيل والخيار ثلاثة أيام ونقد غير نقد البلد فهذا بيع وشرط متفق عليه فكيف يجعل النهي عن بيع وشرط موافقا للأصول وشروط النكاح التي هي أحق الشروط بالوفاء مخالفة للأصول. المثال الخامس والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في دفع الأرض بالثلث والربع مزارعة بأنها خلاف الأصول والأخذ بالحديث الذي لا يثبت بوجه أنه "نهى عن قفيز الطحان" وهو: أن يدفع حنطته إلى من يطحنها بقفيز منها أو غزلة إلى من ينسجه ثوبا بجزء منه أو زيتونة إلى من يعصره بجزء منه ونحو ذلك مما لا غرر فيه ولا خطر ولا قمار ولا جهالة ولا أكل مال بالباطل بل هو نظير دفع ماله إلى من يتجر فيه بجزء من الربح بل أولى فإنه قد لا يربح المال فيذهب عمله مجانا وهذا لا يذهب عمله مجانا فإنه يطحن الحب ويعصر الزيتون ويحصل على جزء منه يكون به شريكا لمالكه فهو أولى بالجواز من المضاربة فكيف يكون المنع منه موافقا للأصول والمزارعة التي فعلها رسول الله ﷺ وخلفاؤه الراشدون خلاف الأصول. المثال السادس والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة التي رواها بضعة وعشرون صحابيا في أن المدينة حرم يحرم صيدها ودعوى أن ذلك خلاف الأصول ومعارضتها بالمتشابه من قوله ﷺ: "يا أبا عمير ما فعل النغير" ويالله العجب أي الأصول التي خالفتها هذه السنن وهي من أعظم الأصول فهلا رد حديث أبي عمير لمخالفته هذه الأصول ونحن نقول: معاذ الله أن نرد لرسول الله ﷺ سنة صحيحة غير معلومة النسخ أبدا وحديث أبي عمير يحتمل أربعة أوجه قد ذهب إلى كل منها طائفة أحدها: أن يكون متقدما على أحاديث تحريم المدينة فيكون منسوخا الثاني: أن يكون متأخرا عنها معارضا لها فيكون ناسخا الثالث: أن يكون النغير مما صيد خارج المدينة ثم أدخل المدينة كما هو الغالب من الصيود الرابع: أن يكون رخصة لذلك الصغير دون غيره كما زحف لأبي بردة في التضحية بالعناق دون غيره فهو متشابه كما ترى فكيف يجعل أصلا يقدم على تلك النصوص الكثيرة المحكمة الصريحة التي لا تحتمل إلا وجها واحدا. المثال السابع والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تقدير نصاب المعشرات بخمسة أوسق بالمتشابه من قوله: "فيما سقت السماء العشر وما سقي بنضح أو غرب فنصف العشر" قالوا: وهذا يعم القليل والكثير وقد عارضه الخاص ودلالة العام قطعية كالخاص وإذا تعارضا قدم الأحوط وهو الوجوب فيقال: يجب العمل بكلا الحديثين ولا يجوز معارضة أحدهما بالآخر وإلغاء أحدهما بالكلية فإن طاعة الرسول فرض في هذا وفي هذا ولا تعارض بينهما بحمد الله بوجه من الوجوه فإن قوله: "فيما سقت السماء العشر" إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وما يجب فيه نصفه فذكر النوعين مفرقا بينهما في مقدار الواجب وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث وبينه نصا في الحديث الآخر فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير ما دل عليه البتة إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يتعلق فيه بعموم لم يقصد وبيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصها من النصوص ويالله العجب كيف يخصون عموم القرآن والسنة بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون مختلفا في الاحتجاج به وهو محل اشتباه واضطراب؟ إذ ما من قياس إلا وتمكن معارضته بقياس مثله أو دونه أو أقوى منه بخلاف السنة الصحيحة الصريحة فإنها لا يعارضها إلا سنة ناسخة معلومة التأخر والمخالفة ثم يقال: إذا خصصتم عموم قوله: "فيما سقت السماء العشر" بالقصب والحشيش ولا ذكر لهما في النص فهلا خصصتموه بقوله: "لا زكاة في حب ولا ثمر حتى يبلغ خمسة أوسق" وإذا كنتم تخصون العموم بالقياس فهلا خصصتم هذا العام بالقياس الجلي الذي هو من أجلى القياس وأصحه على سائر أنواع المال الذي تجب فيه الزكاة فإن الزكاة الخاصة لم يشرعها الله ورسوله في مال إلا وجعل له نصابا كالمواشي والذهب والفضة ويقال أيضا: فهلا أوجبتم الزكاة في قليل كل مال وكثيره عملا بقوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وبقوله ﷺ: "ما من صاحب إبل ولا بقر لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر" وبقوله: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له يوم القيامة صفائح من نار" وهلا كان هذا العموم عندكم مقدما على أحاديث النصب الخاصة وهلا قلتم: هناك تعارض مسقط وموجب فقدمنا الموجب احتياطا وهذا في غاية الوضوح وبالله التوفيق. المثال الثامن والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز النكاح بما قل من المهر ولو خاتما من حديد مع موافقتها لعموم القرآن في قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم} وللقياس في جواز التراضي بالمعاوضة على القليل والكثير بأثر لا يثبت وقياس من أفسد القياس على قطع يد السارق وأين النكاح من اللصوصية وأين استباحة الفرج به من قطع اليد في السرقة وقد تقدم مرارا أن أصح الناس قياسا أهل الحديث وكلما كان الرجل إلى الحديث أقرب كان قياسه أصح وكلما كان عن الحديث أبعد كان قياسه أفسد. المثال التاسع والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة فيمن أسلم وتحته أختان أنه يخير في إمساك من شاء منهما وترك الأخرى بأنه خلاف الأصول وقالوا قياس الأصول يقتضتي أنه إن نكح واحدة بعد واحدة فنكاح الثانية هو المردود ونكاح الأولى هو الصحيح من غير تخيير وإن نكحهما معا فنكاحهما باطل ولا تخيير وكذلك حديث من أسلم على عشر نسوة وربما أولوا التخيير بتخييره في ابتداء العقد على من شاء من المنكوحات ولفظ الحديث يأتي هذا التأويل أشد الإباء فإنه قال: "أمسك أربعا وفارق سائرهن" رواه معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن غيلان أسلم فذكره قال مسلم: هكذا روى معمر هذا الحديث بالبصرة فإن رواه عنه ثقة خارج البصريين حكمنا له بالصحة أو قال: صار الحديث صحيحا وإلا فالإرسال أولى قال البيهقي: فوجدنا سفيان بن سعيد الثوري وعبد الرحمن بن محمد المحاربي وعيسى بن يونس وثلاثتهم كوفيون حدثوا به عن معمر متصلا وهكذا عن يحيى بن أبي كثير وهو يماني وعن الفضل ابن موسى وهو خراساني عن معمر متصلا عن النبي ﷺ فصح الحديث بذلك وقد روى عن أيوب السختياني عن نافع وسالم عن ابن عمر متصلا قال أبو علي الحافظ: تفرد به سوار بن محيشر عن أيوب وسوار بصري ثقة قال الحاكم: رواة هذا الحديث كلهم ثقات تقوم الحجة بروايتهم وقد روى أبو داود عن فيروز الديلمي قال: قلت: يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان قال: "طلق أيتهما شئت". فهذان الحديثان هما الأصول التي نرد ما خالفها من القياس أما أن نقعد قاعدة ونقول هذا هو الأصل ثم نرد السنة لأجل مخالفة تلك القاعدة فلعمر الله لهدم ألف قاعدة لم يؤصلها الله ورسوله أفرض علينا من رد حديث واحد وهذه القاعدة معلومة البطلان من الدين فإن أنكحه الكفار لم يتعارض لها ﷺ كيف وقعت وهل صادفت الشروط المعتبرة في لإسلام فتصح أم لم تصادفها فتبطل وإنما اعتبر حالها وقت إسلام الزوج فإن كان ممن يجوز له المقام مع امرأته أقرهما ولو كان في الجاهلية قد وقع على غير شرطه من الولي والشهود وغير ذلك وإن لم يكن الآن ممن يجوز له الاستمرار لم يقر عليه كما لو أسلم وتحته ذات رحم محرم أو أختان أو أكثر من أربع فهذا هو الأصل الذي أصلته سنة رسول الله ﷺ وما خالفه فلا يلتفت إليه والله الموفق. المثال الأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة أن رسول الله ﷺ "لم يكن يفرق بين من أسلم وبين امرأته إذا لم تسلم معه بل متى أسلم الآخر فالنكاح بحاله ما لم تتزوج" هذه سنته المعلومة قال الشافعي: أسلم أبو سفيان بن حرب بمر الظهران وهي دار خزاعة وخزاعة مسلمون قبل الفتح وفي دار الإسلام ورجع إلى مكة وهند بنت عتبة مقيمة على غير الإسلام فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال ثم أسلمت هند بعد إسلام أبي سفيان بأيام كثيرة وقد كانت كافرة مقيمة بدار الإسلام وأبو سفيان بها مسلم وهند كافرة ثم أسلمت قبل انقضاء العدة واستقرا على النكاح لأن عدتها لم تنقض حتى أسلمت وكان كذلك حكيم بن حزام وإسلامه وأسلمت امرأة صفوان بن أمية وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة وصارت دارهما دار الإسلام وظهر حكم رسول الله ﷺ بمكة وهرب عكرمة إلى اليمن وهي دار حرب وصفوان يريد اليمن وهي دار حرب ثم رجع صفوان إلى مكة وهي دار الإسلام وشهد حنينا وهو كافر ثم أسلم فاستقرت عنده امرأته بالنكاح الأول وذلك أنه لم تنقض عدتها. وقد حفظ أهل العلم بالمغازي أن امرأة من الأنصار كانت عند رجل بمكة فأسلمت وهاجرت إلى المدينة فقدم زوجها وهي في العدة فاستقرا على النكاح قال الزهري لم يبلغني أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها وإنه لم يبلغنا أن امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: "كان المشركون على منزلتين من النبي ﷺ: أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه وأهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر فإذا طهرت حل لها النكاح فإن هاجرت قبل أن تنكح ردت إليه". وفي سنن أبي داود عن ابن عباس قال: "رد رسول الله ﷺ زينب ابنته على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا بعد ست سنين" وفي لفظ الأحمد "ولم يحدث شهادة ولا صداقا" وعند الترمذي "ولم يحدث نكاحا" قال الترمذي هذا حديث حسن ليس بإسناده بأس وقد روى بإسناد ضعيف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ "ردها على أبي العاص بنكاح جديد" قال الترمذي: في إسناده مقال وقال الإمام أحمد: وهذا حديث ضعيف والصحيح أنه أقرهما على النكاح الأول وقال الدارقطني: هذا حديث لا يثبت والصواب حديث أبي عباس أن النبي ﷺ ردا بالنكاح الأول وقال الترمذي في كتاب العلل له: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: حديث ابن عباس في هذا الباب أصح من حديث عمرو بن شعيب فكيف تجعل هذا الحديث الضعيف أصلا ترد به السنة الصحيحة المعلومة ويجعل خلاف الأصول. فإن قيل: إنما جعلناها خلاف الأصول لقوله تعالى {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وقوله {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} وقوله {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ولأن اختلاف الدين مانع من ابتداء النكاح فكان مانعا من دوامه كالرضاع. قيل: لا تخالف السنة شيئا من هذه الأصول إلا هذا القياس الفاسد فإن هذه الأصول إنما دلت على تحريم نكاح الكافر ابتداء والكافرة غير الكتابيين وهذا حق لا خلاف فيه بين الأمة ولكن أين في هذه الأصول ما يوجب تعجل الفرقة بالإسلام وأن لا تتوقف على انقضاء العدة ومعلوم أن افتراقهما في الدين سبب لافتراقهما في النكاح ولكن توقف السبب على وجود شرطه وانتفاء مانعه لا يخرجه عن السببية فإذا وجد الشرط وانتفى المانع عمل عمله واقتضى أثره والقرآن إنما دل على السببية والسنة دلت على شرط السبب ومانعه كسائر الأسباب التي فصلت السنة شروطها وموانعها كقوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وقوله {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقوله {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وقوله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} ونظائر ذلك فلا يجوز أن يجعل بيان الشروط والموانع معارضة لبيان الأسباب والموجبات فتعود السنة كلها أو أكثرها معارضة للقرآن وهذا محال. المثال الحادي والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة بأن ذكاة الجنين ذكاة أمه بأنها خلاف الأصول وهو تحريم الميتة فيقال: الذي جاء على لسانه تحريم الميتة هو الذي أباح الأجنة المذكورة فلو قدر أنها ميتة لكان استثناؤها بمنزلة استثناء السمك والجراد من الميتة فكيف وليست بميتة فإنها جزء منأجزاء الم والذكاة قد أتت على جميع أجزائها فلا يحتاج أن يفرد كل جزء منها بذكاة والجنين تابع للأم جزء منها فهذا هو مقتضى الأصول الصحيحة ولو لم ترد السنة بالإباحة فكيف وقد وردت بالإباحة الموافقة للقياس والأصول؟ فإن قيل: فالحديث عليكم فإنه قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" والمراد التشبيه أي ذكاته كذكاة أمه وهذا يدل على أنه لا يباح إلا بذكاة تشبه ذكاة الأم. قيل: هذا السؤال شقيق قول القائل كلمة تكفي العاقل فلو تأملتم الحديث لمتستحسنوا إيراد هذا السؤال: فإن لفظ الحديث هكذا: عن أبي سعيد قال: قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة وفي بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله قال: "كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه" فأباح لهم أكله معللا بأن ذكاة الأم له فقد اتفق النص والأصل والقياس ولله الحمد. المثال الثاني والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في إشعار الهدي بأنها خلاف الأصول إذ الإشعار مثله ولعمر الله أن هذه السنة خلاف الأصول الباطلة وما ضرها ذلك شيئا والمثلة المحرمة هي العدوان الذي لا يكون عقوبة ولا تعظيما لشعائر الله فأما شق صفحة سنام البعير المستحب أو الواجب ذبحه ليسيل دمه قليلا فيظهر شعار الإسلام وإقامة هذه السنة التي هي من أحب الأشياء إلى الله فعلى وفق الأصول وأي كتاب أو سنة حرم ذلك حتى يكون خلافا للأصول. وقياس الإشعار على المثلة المحرمة من أفسد قياس على وجه الأرض فإنه قياس ما يحبه الله ويرضاه على ما يبغضه ويسخطه وينهى عنه ولو لم يكن في حكمة الإشعار إلا تعظيم شعائر الله وإظهارها وعلم الناس بأن هذه قرابين الله عز وجل تساق إلى بيته تذبح له ويتقرب بها إليه عند بيته كما يتقرب إليه بالصلاة إلى بيته عكس ما عليه أعداؤه المشركون الذين يذبحون لأربابهم ويصلون لها فشرع لأوليائه وأهل توحيده أن يكون نسكهم وصلاتهم لله وحده وأن يظهروا شعائر توحيده غاية الإظهار ليعلوا دينه على كل دين فهذه هي الأصول الصحيحة التي جاءت السنة بالإشعار على وفقها ولله الحمد. المثال الثالث والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة أن النبي ﷺ قال: "لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح" متفق عليه وفي أفراد مسلم "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه" وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد "اطلع رجل من جحر في حجرة رسول الله ﷺ ومعه مدرى يحك بها رأسه فقال: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الاستئذان من أجل النظر" وفي صحيح مسلم عن أنس "أن رجلا اطلع من بعض حجر رسول الله ﷺ فقام إليه بمشقص أو بمشاقص قال: وكأني أنظر إلى رسول الله ﷺ يختله ليطعنه" وفي سنن البيهقي بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "من اطلع على قوم بغير إذنهم فرموه فأصابوا عينه فلا دية له ولا قصاص". فردت هذه السنن بأنها خلاف الأصول فإن الله إنما أباح قلع العين بالعين لا بجناية النظر ولهذا لو جنى عليه بلسانه لم يقطع ولو استمع عليه بأذنه لم يجز أن يقطع أذنه. فيقال: بل هذه السنن من أعظم الأصول فما خالفها فهو خلاف الأصول وقولكم: "إنما شرع الله سبحانه أخذ العين بالعين" فهذا حق في القصاص وأما العضو الجاني المتعدي الذي لا يمكن دفع ضرره وعدوانه إلا برميه فإن الآية تتناوله نفيا ولا إثباتا والسنة جاءت ببيان حكمه بيانا ابتدائيا لما سكت عنه القرآن لا مخالفا لما حكم به القرآن وهذا اسم آخر غير فقء العين قصاصا وغير دفع الصائل الذي يدفع بالأسهل فالأسهل إذ المقصود دفع ضرر صياله فإذا اندفع بالعصا لم يدفع بالسيف وأما هذا المتعدي بالنظر المحرم الذي لا يمكن الاحتراز منه فإنه إنما يقع على وجه الاختفاء والختل فهو قسم آخر غير الجاني وغير الصائل الذي لم يتحقق عدوانه ولا يقع هذا غالبا إلا على وجه الاختفاء وعدم مشاهدة غير الناظر إليه فلو كلف المنظور إليه إقامة البينة على جنايته لتعذرت عليه ولو أمر بدفعه بالأسهل فالأسهل ذهبت جناية عدوانه بالنظر إليه وإلى حريمه هدرا والشريعة الكاملة تأبى هذا وهذا فكان أحسن ما يمكن وأصلحه وأكفه لنا وللجاني ما جاءت به السنة التي لا معارض لها ولا دافع لصحتها من خذف ما هنالك وإن لم يكن هناك بصر عاد لم يضر خذف الحصاة وإن كان هنالك بصر عاد لا يلومن إلا نفسه فهو الذي عرضه صاحبه للتلف فأدناه إلى الهلاك والخاذف ليس بظالم له والناظر خائن ظالم والشريعة أكمل وأجل من أن تضيع حق هذا الذي قد هتكت حرمته وتحيله في الانتصار على التعزير بعد إقامة البينة فحكم الله فيه بما شرعه على لسان رسوله ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟ المثال الرابع والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وضع الجوائح بأنها خلاف الأصول كما في صحيح مسلم عن جابر يرفعه "لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق" وروى سفيان بن عيينة عن حميد عن سليمان عن جابر أن رسول الله ﷺ "نهى عن بيع السنين وأمر بوضع الجوائح" فقالوا: هذه خلاف الأصول فإن المشتري قد ملك الثمرة وملك التصرف فيها وتم نقل الملك إليه ولو ربح فيها كان الربح له فكيف تكون من ضمان البائع. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: أصيب رجل في عهد رسول الله ﷺ في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله ﷺ: "تصدقوا عليه فتصدقوا عليه" فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله ﷺ: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" وروى مالك عن أبي الرجال عن أمه عمرة أنه سمعها تقول: ابتاع رجل ثمر حائط في زمن رسول الله ﷺ فعالجه وأقام عليه حتى تبين له النقصان فسأل رب الحائط أن يضع عنه فحلف لا يفعل فذهبت أم المشتري إلى رسول الله ﷺ فذكرت له ذلك فقال رسول الله ﷺ: "تألى أن لا يفعل خيرا" فسمع بذلك رب المال فأتى إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله هو له. والجواب أن وضع الجوائح لا يخالف شيئا من الأصول الصحيحة بل هو مقتضى أصول الشريعة ونحن بحمد الله نبين هذا بمقامين أما الأول: فحديث وضع الجوائح لا يخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا وهو أصل بنفسه فيجب قبوله وأما ما ذكرتم من القياس فيكفي في فساده شهادة النص له بالإهدار كيف وهو فاسد في نفسه وهذا يتبين بالمقام الثاني وهو أن وضع الجوائح كما هو موافق للسنة الصحيحة الصريحة فهو مقتضى القياس الصحيح فإن المشتري لم يتسلم الثمرة ولم يقبضها القبض التام الذي يوجب نقل الضمان إليه فإن قبض كل شيء بحسبه وقبض الثمار إنما يكون عند كمال إدراكها شيئا فشيئا فهو كقبض المنافع في الإجارة وتسليم الشجرة إليه كتسليم العين المؤجرة من الأرض والعقار والحيوان وعلق البائع لم تنقطع عن المبيع فإن له سقي الأصل وتعاهده كما لم تنقطع علق المؤجر عن العين المستأجرة والمشتري لم يتسلم التسليم التام كما لم يتسلم المستأجر التسليم التام فإذا جاء أمر غالب اجتاح الثمرة من غير تفريط من المشتري لم يحل للبائع إلزامه بثمن ما أتلفه الله سبحانه منها قبل تمكنه من قبضها القبض المعتاد وهذا معنى قول النبي ﷺ: "أرأيت إن منع الله الثمرة؟ فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟" فذكرالحكم وهو قوله: "فلا يحل له أن يأخذ منه شيئا" وعلة الحكم وهو قوله أرأيت إن منع الله الثمرة إلى آخره وهذا الحكم نص لا يحتمل التأويل والتعليل وصف مناسب لا يقبل الإلغاء ولا المعارضة وقياس الأصول لا يقتضي غير ذلك ولهذا لو تمكن من القبض المعتاد في وقته ثم أخره لتفريط منه أو لانتظار غلاء السعر كان التلف من ضمانه ولم توضع عنه الجائحة. وأما معارضة هذه السنة بحديث الذي أصيب في ثمار ابتاعها فمن باب رد المحكم بالمتشابه فإنه ليس فيه أنه أصيب فيها بجائحة فليس في الحديث أنها كانت جائحة عامة بل لعله أصيب فيها بانحطاط سعرها وإن قدر أن المصيبة كانت جائحة فليس في الحديث أنها كانت جائحة عامة بل لعلها جائحة خاصة كسرقة اللصوص التي يمكن الاحتراز منها ومثل هذا لا يكون جائحة تسقط الثمن عن المشتري بخلاف نهب الجيوش والتلف بآفة سماوية وإن قدر أن الجائحة عامة فليس في الحديث ما يبين أن التلف لم يكن بتفريطه في التأخير ولو قدر أن التلف لم يكن بتفريطه فليس فيه أنه طلب الفسخ وأن توضع عنه الجائحة بل لعله رضي بالمبيع ولم يطلب الوضع والحق في ذلك له: إن شاء طلبه وإن شاء تركه فأين في الحديث أنه طلب ذلك وأن النبي ﷺ منع منه ولا يتم الدليل إلا بثبوت المقدمتين فكيف يعارض نص قوله الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل عيد معنى واحد وهو نص فيه بهذا الحديث المتشابه ثم قوله فيه: "ليس لكم فيه إلا ذلك" دليل على أنه لم يبق لبائعي الثمار في ذمة المشتري غير ما أخذه وعندكم المال كله في ذمته فالحديث حجة عليكم. وأما المعارضة بخبر مالك فمن أبطل المعارضات وأفسدها فأين فيه أنه أصابته جائحة بوجه ما وإنما فيه أنه عالجه وأقام عليه حتى تبين له النقصانومثل هذا لا يكون سببا لوضع الثمن وبالله التوفيق. المثال الخامس والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وجوب الإعادة على من صلى خلف الصف وحده كما في المسند بإسناد صحيح وصحيحي ابن حبان وابن خزيمة عن علي بن شيبان "أن رسول الله ﷺ رأى رجلا يصلي خلف الصف فوقف حتى انصرف الرجل فقال له: استقبل صلاتك فلا صلاة لفرد خلف الصف" وفي السنن وصحيحي ابن حبان وابن خزيمة عن وابصة بن معبد أن رسول الله ﷺ رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد صلاته وفي مسند الإمام أحمد سئل رسول الله ﷺ عن رجل صلى وحده خلف الصف قال: "يعيد صلاته" فردت هذه السنن المحكمة بأنها خلاف الأصول ولعمر الله إنها هي محض الأصول وما خالفها فهو خلاف الأصول وردت بالمتشابه من حديث ابن عباس حيث أحرم عن يسار النبي ﷺ فأداره إلى يمينه ولم يأمره باستقبال الصلاة وهذا من أفسد الرد فإنه لا يشترط أن تكون تكبيرة الإحرام من المأمومين في حال واحد بل لو كبر أحدهم وحده ثم كبر الآخر بعده صحت القدوة ولم يكن السابق فذا وإن أحرم وحده فالاعتبار بالمصافة فيما تدرك به الركعة وهو الركوع وأفسد من هذا الرد رد الحديث بأن الإمام يقف فذا وسنة رسول الله ﷺ أجل وأعظم في صدور أهلها أن تعارض بهذا وأمثاله وأقبح من هذه المعارضة معارضتها بأن المرأة تقف خلف الصف وحدها فإن هذا هو موقفها المشروع بل الواجب كما أن موقف الإمام المشروع أن يكون وحده أمام الصف وأما موقف الفذ خلف الصف فلم يشرعه رسول الله ﷺ البتة بل شرع الأمر بإعادة الصلاة لمن وقف فيه وأخبر أنه لا صلاة له. فإن قيل: فهب أن هذه المعارضات لم يسلم منها شيء فما تصنعون بحديث أبي بكرة حين ركع دون الصف ثم مشى راكعا حتى دخل في الصف فقال له النبي ﷺ: "زادك الله حرصا ولا تعد" ولم يأمره بإعادة الصلاة وقد وقعت منه تلك الركعة فذا؟ قيل: نقبله على الرأس والعينين وتمسك قوله ﷺ: "لا تعمد" فلو فعل أحد ذلك غير عالم بالنهي لقلنا له كما قال رسول الله ﷺ سواء فإن عاد بعد علمه بالنهي فإما أن يجتمع مع الإمام في الركوع وهو في الصف أو لا فإن جامعه في الركوع وهو في الصف صحت صلاته لأنه أدرك الركعة وهو غير فذ كما لو أدركها قائما وإن رفع الإمام رأسه من الركوع قبل أن يدخل في الصف فقد قيل تصح صلاته وقيل لا تصح له تلك الركعة ويكون فذا فيها والطائفتان احتجوا بحديث أبي بكرة والتحقيق أنه قضية عين يحتمل دخوله في الصف قبل رفع الإمام ويحتمل أنه لم يدخل فيه حتى رفع الإمام وحكاية الفعل لا عموم لها فلا يمكن أن يحتج بها على الصورتين فهي إذا مجملة متشابهة فلا يترك لها النص المحكم الصريح فهذا مقتضى الأصول نصا وقياسا وبالله التوفيق. المثال السادس والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز الأذان للفجر قبل دخول وقتها كما في الصحيحين من حديث سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي ﷺ أنه قال: "إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم" وفي صحيح مسلم عن سمرة عن النبي ﷺ "لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى ينفجر الفجر" وهو في الصحيحين من حديث ابن مسعود ولفظه "لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو قال ينادي بليل ليرجع قائمكم وينتبه نائمكم" قال مالك: لم تزل الصبح ينادى لها قبل الفجر فردت هذه السنة لمخالفتها الأصول والقياس على سائر الصلوات وبحديث حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر "أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي ﷺ أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام ألا إن العبد نام" فرجع فنادى "ألا إن العبد نام" ولا ترد السنة الصحيحة بمثل ذلك فإنها أصل بنفسها وقياس وقت الفجر على غيره من الأوقات لو لم يكن فيه إلا مصادمته للسنة لكفى في رده فكيف والفرق قد أشار إليه ﷺ وهو ما في النداء قبل الوقت من المصلحة والحكمة التي لا تكون في غير الفجر وإذا اختص وقتها بأمر لا يكون في سائر الصلوات امتنع الإلحاق. وأما حديث حماد عن أيوب فحديث معلول عند أئمة الحديث لا تقوم به حجة قال أبو داود: لم يروه عن أيوب إلا حماد بن سلمة وقال إسحاق ابن إبراهيم بن حبيب: سألت عليا وهو ابن المديني عن حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر أن بلالا أذن بليل فقال له النبي ﷺ: "ارجع فناد إن العبد نام" فقال: هو عندي خطأ لم يتابع حماد بن سلمة على هذا إنما روى أن بلالا كان ينادي بليل قال البيهقي: قد تابعه سعيد بن رزين وهو ضعيف وأما حماد بن سلمة فإنه أحد أئمة المسلمين حتى قال الإمام أحمد: إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة فاتهمه فإنه كان شديدا على أهل البدع قال البيهقي: إلا أنه لما طعن في السن ساء حفظه فلذلك ترك البخاري الاحتجاج بحديثه وأما مسلم فاجتهد في أمره وأخرج من حديثه عن ثابت ما سمع منه قبل تغيره وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ أكثر من اثني عشر حديثا أخرجها في الشواهد دون الاحتجاج به وإذا كان الأمر كذلك فالاحتياط لمن راقب الله عز وجل أن لا يحتج بما يجد من حديثه مخالفا لأحاديث الثقات الأثبات وهذا الحديث من جملتها. ثم ذكر من طريق الدارقطني عن معمر عن أيوب قال: أذن بلال مرة بليل قال الدارقطني: هذا مرسل ثم ذكر من طريق إبراهيم وعبد العزيز ابن عبد الملك بن أبي محذورة عن عبد العزيز بن أبي رواد عن ابن عمر أن بلالا قال له النبي ﷺ: "ما حملك على ذلك؟ قال: استيقظت وأنا وسنان فظننت أن الفجر قد طلع فأمره النبي ﷺ أن ينادي في المدينة: ألا إن العبد قد نام وأقعده إلى جانبه حتى طلع الفجر" ثم قال: هكذا رواه إبراهيم عن عبد العزيز وخالفه شعيب بن حرب فقال: عن عبد العزيز عن نافع عن مؤذن لعمر يقال له مسروح أنه أذن قبل الصبح فأمره عمر أن ينادي: ألا إن العبد قد نام أبو داود: ورواه حماد بن زيد عن عبيد الله بن عمر عن نافع أو غيره أن مؤذنا لعمر يقال له مسروح أو غيره ورواه الدراوردي عن عبيد الله بن عمر: عن نافع عن ابن عمر: كان لعمر مؤذن يقال له مسعود فذكر نحوه قال أبو داود: وهذا أصح من ذلك يعني حديث عمر أصح قال البيهقي: وروى من وجه آخر عن عبد العزيز موصولا ولا يصح رواه عامر بن مدرك عنه عن نافع عن ابن عمر: أن بلالا أذن قبل الفجر فغضب النبي ﷺ وأمره أن ينادي: إن العبد نام فوجد بلال وجدا شديدا. قال الدارقطني: وهم فيه عامر بن مدرك والصواب عن شعيب بن حرب عن عبد العزيز عن نافع عن مؤذن عمر عن عمر من قوله وروى عن أنس ابن مالك ولا يصح وروى عن أبي يوسف القاضي عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس: أن بلالا أذن قبل الفجر فأمره رسول الله ﷺ أن يصعد فينادي: ألا إن العبد نام ففعل وقال: ليت بلالا لم تلده أمه وابتل من نضح جبينه قال الدارقطني: تفرد به أبو يوسف عن سعيد يعني موصولا وغيره يرسله عن سعيد عن قتادة عن النبي ﷺ والمرسل أصح ورواه الدارقطني من طريق محمد بن القاسم الأسدي: ثنا الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس ثم قال: محمد بن القاسم الأسدي ضعيف جدا وقال البخاري: كذبه الإمام أحمد وروى عن حميد بن هلال أن بلالا أذن ليلة بسواد فأمره النبي ﷺ أن يرجع إلى مقامه فينادي: إن العبد نام ورواه إسماعيل بن مسلم عن حميد عن أبي قتادة وحميد لم يلق أبا قتادة فهو مرسل بكل حال وروى عن شداد مولى عياض قال جاء بلال إلى النبي ﷺ وهو يتسحر فقال: لا تؤذن حتى يطلع الفجر وهذا مرسل قال أبو داود: شداد مولى عياض لم يدرك بلالا. وروى الحسن بن عمارة عن طلحة بن مصرف عن سويد بن غفلة عن بلال قال: "أمرني رسول الله ﷺ ألا أؤذن حتى يطلع الفجر" وعن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال مثله ولم يروه هكذا غير الحسن بن عمارة وهو متروك ورواه الحجاج بن أرطاة عن طلحة وزبيد عن سويد بن غفلة أن بلالا لم يؤذن حتى ينشق الفجر هكذا رواه لم يذكر فيه أمر النبي ﷺ وكلاهما ضعيفان. وروى عن سفيان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان أن النبي ﷺ قال لبلال: "لا تؤذن" وجمع سفيان أصابعه الثلاث لا تؤذن حتى يقول الفجر هكذا وصف سفيان بين السبابتين ثم فرق بينهما قال وروينا عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود ما دل على أذان بلال بليل وأن رسول الله ﷺ ذكر معاني تأذينه بالليل وذلك أولى بالقبول لأنه موصول وهذا مرسل. وروى عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق عن الأسود قال قالت لي عائشة: "كان رسول الله ﷺ إذا أوتر من الليل رجع إلى فراشه فإذا أذن بلال قام فكان بلال يؤذن إذا طلع الفجر فإن كان جنبا اغتسل وإن لم يكن توضأ ثم صلى ركعتين" وروى الثوري عن أبي إسحاق في هذا الحديث قال: ما كان المؤذن يؤذن حتى يطلع الفجر. وروى شعبة عن أبي إسحاق عن الأسود: سألت عائشة عن صلاة رسول الله ﷺ بالليل قالت: "كان ينام أول الليل فإذا كان السحر أوى ثم يأتي فراشه فإن كانت له حاجة إلى أهله ألم بهم ثم ينام فإذا سمع النداء وربما قالت: الأذان وثب وربما قالت: قام فإذا كان جنبا أفاض عليه الماء وربما قالت: اغتسل وإن لم يكن جنبا توضأ ثم خرج للصلاة" وقال زهير ابن معاوية عن أبي إسحاق في هذا الحديث فإذا كان عند النداء الأول وثب. قال البيهقي: وفي روايته رواية شعبة كالدليل على أن هذا النداء كان قبل طلوع الفجر وهي موافقة لرواية القاسم عن عائشة وذلك أولى من رواية من خالفها. وروى عن عبد الكريم عن نافع عن ابن عمر عن حفصة قالت: "كان رسول الله ﷺ إذا أذن المؤذن صلى الركعتين ثم خرج إلى المسجد وحرم الطعام وكان لا يؤذن إلا بعد الفجر" قال البيهقي: هكذا في هذه الرواية وهو محمول إن صح على الأذان الثاني والصحيح عن نافع بغير هذا اللفظ ورواه مالك عن نافع عن ابن عمر عن حفصة زوج النبي ﷺ أنها أخبرته أن رسول الله ﷺ "كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة" والحديث في الصحيحين. فإن قبل عمدتكم في هذا إنما هو على حديث بلال ولا يمكن الاحتجاج به فإنه قد اضطرب الرواة فيه هل كان المؤذن بلالا أو ابن أم مكتوم وليست إحدى الروايتين أولى من الأخرى فتتساقطان فروى شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال سمعت عمتي أنيسة أن رسول الله ﷺ قال: "إن ابن مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال" رواة البيهقي وابن حبان في صحيحه. فالجواب أن هذا الحديث قد رواه ابن عمر وعائشة وابن مسعود وسمرة بن جندب عن النبي ﷺ "أن بلالا يؤذن بليل" وهذا الذي رواه صاحبا الصحيح ولم يخلف عليهم في ذلك وأما حديث أنيسة فاختلف عليها في ثلاثة أوجه أحدها: كذلك رواه محمد بن أيوب عن أبي الوليد وابن عمر عن شعبة الثاني: كحديث عائشة وابن عمر "إن بلالا يؤذن بليل" هكذا رواه محمد بن يونس الكديمي عن أبي الوليد عن شعبة وكذلك رواه أبو داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق عن شعبة الثالث: روى على الشك إن بلالا يؤذن بليل فكلوا اشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم أو قال: "ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال" كذلك رواه سليمان بن حرب وجماعة والصواب رواية أبي داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق لموافقتها لحديث ابن عمر وعائشة وأما رواية أبي الوليد وابن عمر فيمما انقلب فيها لفظ الحديث وقد عارضها رواية الشك ورواية الجزم بأن المؤذن بليل هو بلال وهو الصواب بلا شك فإن ابن أم مكتوم كان ضرير البصر ولم يكن له علم بالفجر فكان إذا قيل له طلع الفجر أذن وأما ما ادعاه بعض الناس أن النبي ﷺ جعل الأذان نوبا بين بلال وابن أم مكتوم وكان كل منهما في نوبته يؤذن بليل فأمر النبي ﷺ الناس أن يأكلواويشربوا حتى يؤذن الآخر فهذا كلام باطل على رسول الله ﷺ ولم يجىء في ذلك أثر قط لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مرسل ولا متصل ولكن هذه طريقة من يجعل غلط الرواة شريعة ويحملها على السنة وخبر ابن مسعود وابن عمر وعائشة وسمرة الذي لم يخنلف عليهم فيه أولى بالصحة والله أعلم. المثال السابع والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المستفيظة عن النبي ﷺ في الصلاة على القبر كما في الصحيحين من حديث ابن عباس: "أن النبي صلى على قبر منبوذ فصفهم وتقدم فكبر عليه أربعا" وفيهما من حديث أبي هريرة: "أنه صلى على قبر امرأة سوداء كانت تقم المسجد" وفي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي ﷺ "صلى على قبر امرأة بعدما دفنت" وفي سنن البيهقي والدارقطني عن ابن عباس أن النبي ﷺ "صلى على قبر بعد شهر" وفيهما عنه "أن النبي صلى على ميت بعد ثلاث" وفي جامع الترمذي "أن النبي ﷺ صلى على أم سعد بعد شهر" فردت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" وهذا حديث صحيح والذي قاله هو النبي ﷺ الذي صلى على قبر فهذا قوله وهذا فعله ولا يناقض أحدهما الآخر فإن الصلاة المنهي عنها إلى القبر غير الصلاة التي على القبر فهذه صلاة الجنازة على الميت التي لا تختص بمكان بل فعلها في غير المسجد أفضل من فعلها فيه فالصلاة عليه على قبره من جنس الصلاة عليه على نعشه فإنه المقصود بالصلاة في الموضعين ولا فرق بين كونه على النعش وعلى الأرض وبين كونه في بطنها بخلاف سائر الصلوات فإنها لم تشرع في القبور ولا إليها لأنها ذريعة إلى اتخاذها مساجد وقد لعن رسول الله ﷺ من فعل ذلك فأين ما لعن فاعله وحذر منه وأخبر أن أهله شرار الخلق كما قال: "إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهو احياء والذين يتخذون القبور مساجد" إلى ما فعله ﷺ مرارا متكرارا وبالله التوفيق. المثال الثامن والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في النهي عن الجلوس على فراش الحرير كما في صحيح البخاري من حديث حذيفة "نهانا رسول الله ﷺ أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها وعن الحرير والديباج وأن نجلس عليه وقال: هو لهم في الدنيا ولنا في الآخرة" ولو لم يأت هذا النص لكان النهي عن لبسه متناولا لافتراشه كما هو متناول للالتحاف به وذلك لبس لغة وشرعا منا قال أنس: قمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبس ولو لم يأت اللفظ العام المتناول لافتراشه بالنهي لكان القياس المحض موجبا لتحريمه إما قياس المثل الأولى فقد دل على تحريم الافتراش النص الخاص اللفظ العام والقياس الصحيح ولا يجوز رد ذلك كله بالمتشابه من قوله {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ومن القياس على ما إذا كان الحرير بطانة الفراش دون ظهارته فإن الحكم في ذلك التحريم على أصح القولين والفرق على القول الآخر مباشرة الحرير وعدمها كحشو الفراش به فإن صح الفرق بطل القياس وإن بطل الفرق منع الحكم. وقد تمسك بعموم النهي عن افتراش الحرير طائفة من الفقهاء فحرموه على الرجال والنساء وهذه طريقة الخراسانيين من أصحاب الشافعي وقابلهم من أباحه للنوعين والصواب التفصيل وأن من أبيح له لبسه أبيح له افتراشه ومن حرم عليه حرم عليع وهذا قول الأكثرين وهي طريقة العراقيين من الشافعية. المثال التاسع والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في خرص الثمار في الزكاة والعرايا وغيرها إذا بدا صلاحها كما رواه الشافعي عن عبد الله بن نافع عن محمد بن صالح التمار عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أن رسول الله ﷺ قال في زكاة الكرم: "يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمرا" وبهذا الإسناد بعينه أن رسول الله ﷺ "كان يبعث من يخرص على الناس فدعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ورواه أبو داود كرومهم وثمارهم" وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال: سمعت عبد الرحمن بن مسعود بن نيار يقول: أتانا سهل بن أبي حثمة إلى مجلسنا فحدثنا أن رسول الله ﷺ قال: "إذا خرصتم في السنن وروى فيها أيضا عن عائشة:: كان النبي ﷺ يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه ثم يخير يهود فيأخذونه بذلك الخرص أم يدفعونه إليهم بذلك الخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق" وروى الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله ﷺ قال ليهود خيبر: "أقركم على ما أقركم الله على أن التمر بيننا وبينكم" قال: وكان رسول الله ﷺ يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص عليهم ثم يقول: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي وكانوا يأخذونه وفي الصحيحين أن رسول الله ﷺ "خرص حديقة المرأة وهو ذاهب إلى تبوك" وقال لأصحابه: اخرصوها فخرصوها بعشرة أوسق فلما قفل رسول الله ﷺ سألوا المرأة عن الحديقة فقالت: بلغ عشرة أوسق وفي الصحيحين من حديث زيد بن ثابت: "رخص رسول الله ﷺ لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها تمرا" رصح عن عمر بن الخطاب أنه بعث سهل بن أبي حثمة على خرص التمر وقال: "إذا أتيت أرضا فأخرصها ودع لهم قدر ما يأكلون" فردت هذه السنن كلها بقوله تعالى {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوه} قالوا: والخرص من باب القمار والميسر فيكون تحريمه ناسخا لهذه الآثار وهذا من أبطل الباطل فإن الفرق بين القمار والميسر والخرص المشروع كالفرق بين البيع والربا والميتة والمذكى وقد نزه الله رسوله وأصحابه عن تعاطي القمار وعن شرعه وعن إدخاله في الدين: ويالله العجب أكان المسلمون يقامرون إلى زمن خيبر ثم استمروا على ذلك إلى عهد الخلفاء الراشدين ثم انقضى عصر الصحابة وعصر التابعين على القمار ولا يعرفون أن الخرص قمار حتى بينه بعض فقهاء الكوفة وهذا والله الباطل حقا والله الموفق. المثال الخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في صفة صلاة الكسوف وتكرار الركوع في كل ركعة كحديث عائشة وابن عباس وجابر وأبي بن كعب وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري كلهم روى عن النبي ﷺ تكرار الركوع في الركعة الواحدة فردت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: "كنت يوما أرمي بأسهم وأنا بالمدينة فانكسفت الشمس فجمعت أسهمي وقلت: لأنظرن ماذا أحدث رسول الله ﷺ في كسوف الشمس فكنت خلف ظهره فجعل يسبح ويكبر ويدعو حتى حسر عنها فصلى ركعتين وقرأ بسورتين" رواه مسلم في صحيحه وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة قال: انكسفت الشمس على عهد رسول الله ﷺ فصلى ركعتين وهذا لا يناقض رواية من روى أنه ركع في كل ركعة ركوعين فهي ركعتان وتعدد ركوعهما كما يسميان سجدتين مع تعدد سجودهما كما قال ابن عمر: حفظت عن رسول الله ﷺ سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعدها وكثيرا ما يجيء في السنن إطلاق السجدتين على الركعتين فسنة رسول الله ﷺ يصدق بعضها بعضا لا سيما والذين رووا تكرار الركوع أكثر عددا وأجل وأخص برسول الله ﷺ من الذين لم يذكروه. فإن قيل: ففي حديث أبي بكرة "فصلى ركعتين نحوا مما تصلون" وهذا صريح في إفراد الركوع. قيل: هذا الحديث رواه شعبة عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أبي بكرة دون الزيادة المذكورة وهو الذي رواه البخاري في صحيحه وزاد إسماعيل بن علية هذه الزيادة فإن رحجنا بالحفظ والإتقان فشعبة شعبة وإن قبلنا الزيادة فرواية من زاد في كل ركعة ركوعا آخر زائدة على رواية من روى ركوعا واحدا فتكون أولى. فإن قيل: فما تصنعون بالسنة المحكمة الصريحة من رواية سمرة بن جندب والنعمان بن بشير وعبد الله بن عمرو أنه صلاها ركعتين كل ركعة بركوع واحد وبحديث قبيصة الهلالي عنه ﷺ "وإذا رأيتم ذلك فصلوها كإحدى صلاة صليتموها من الكتوبة" وهذه الأحاديث في المسند وسنن النسائي وغيرهما. قيل الجواب من ثلاثة أوجه أحدها: أن أحاديث تكرار الركوع أصح إسنادا وأسلم من العلة والاضطراب لا سيما حديث عبد الله بن عمرو فإن الذي في الصحيحين عنه أنه قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله ﷺ فنودي أن الصلاة جامعة فركع النبي ﷺ ركعتين في سجدة ثم قام فركع ركعتين في سجدة ثم جلس حتى جلي عن الشمس" فهذا أصح وأصرح من حديث كل ركعة بركوع فلم يبق إلا حديث سمرة بن جندب والنعمان بن بشير وليس منهما شيء في الصحيح الثاني: أن رواتها من الصحابة أكبر وأكثر وأحفظ وأجل من سمرة والنعمان بن بشير فلا ترد روايتهم بها الثالث: أنها متضمنة لزيادة فيجب الأخذ بها وبالله التوفيق. المثال الحادي والخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الجهر في صلاة الكسوف كما في صحيح البخاري من حديث الأوزاعي عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة ان رسول الله ﷺ "قرأ قراءة طويلة يجهر بها في صلاة الكسوف" قال البخاري: تابعه سليمان بن كثير وسفيان ابن حسين عن الزهري. قلت: أما حديث سليمان بن كثير ففي مسند أبي داود الطيالسي حدثنا سليمان بن كثير عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي ﷺ جهر بالقراءة في صلاة الكسوف وقد تابعه عبد الرحمن بن نمر عن الزهري وهو في الصحيحين أنه سمع ابن شهاب يحدث عن عروة عن عائشة "كسفت الشمس على عهد رسول الله ﷺ فبعث رسول الله ﷺ مناديا ان الصلاة جامعة فاجتمع الناس فتقدم رسول الله ﷺ فكبر وافتتح القرآن وقرأ قراءة طويلة يجهر بها" فذكر الحديث. قال البخاري: حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة. قلت يريد قول سمرة: "صلى بنا رسول الله ﷺ في كسوف لم نسمع له صوتا" وهو أصرح منه بلا شك وقد تضمن زيادة الجهر فهذه ثلاث ترجيحات. والذي ردت به هذه السنة المحكمة هو المتشابه من قول ابن عباس: "إنه صلى الكسوف فقرأ نحوا من سورة البقرة" قالوا: فلو سمع ما قرأ لم يقدره بسورة البقرة وهذا يحتمل وجوها أحدها: أنه لم يجهر الثاني: أنه جهر ولم يسمعه ابن عباس الثالث: أنه سمع ولم يحفظ ما قرأ به فقدره بسورة البقرة فإن ابن عباس لم يجمع القرآن في حياة النبي ﷺ وإنما جمعه بعده الرابع: أن يكون نسي ما قرأ به وحفظ قدر قراءته فقدرها بالبقرة ونحن نرى الرجل ينسى ما قرأ به الإمام في صلاة يومه فكيف يقدم هذا اللفظ المجمل على الصريح المحكم الذي يحتمل إلا وجها واحدا؟ ومن العجب أن أنسا روى ترك جهر النبي ﷺ ببسم الله الرحمن الرحيم ولم يصح عن صحابي خلافه فقلتم كان صغيرا يصلي خلف الصفوف فلم يسمع البسملة وابن عباس أصغر سنا منه بلا شك وقدمتم عدم سماعه للجهر على من سمعه صريحا فهلا قلتم كان صغيرا فلعله صلى خلف الصف فلم يسمعه جهر. وأعجب من هذا قولكم: إن أنسا كان صغيرا لم يسمع تلبية رسول الله ﷺ "لبيك حجا وعمرة" وقدمتم قول ابن عمر عليه أنه أفرد الحج وأنس إذ ذاك له عشرون سنة وابن عمر لم يستكملها وهو بسن أنس وقوله: "أفرد الحج" مجمل وقول أنس سمعته يقول لبيك عمرة وحجا محكم مبين صريح لا يحتمل غير ما يدل عليه وقد قال ابن عمر: تمتع رسول الله ﷺ بالعمرة إلى الحج وبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فقدمتم على حديث أنس الصحيح الصريح المحكم الذي لم يختلف عليه فيه حديثا ليس مثله في الصراحة والبيان ولم يذكر رواية لفظ النبي ﷺ وقد اختلف عليه فيه. المثال الثاني والخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الاكتفاء في بول الغلام الذي لم يطعم بالنضج دون الغسل كما في الصحيحين عن أم قيس "أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام فأجلسه رسول الله ﷺ في حجره فبال عليه فدعا رسول الله ﷺ بماء فنضحه ولم يغسله". وفي الصحيحين أيضا عن عائشة أن رسول الله ﷺ "كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم فأتى بصبي فبال عليه فدعا بماء فأتبعه ولم يغسله" وفي سنن أبي داود عن أمامة بنت الحارث قالت: كان الحسين بن علي عليهما السلام في حجر النبي ﷺ فبال عليه فقالت البس ثوبا وأعطني إزارك حتى أغسله فقال: "إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر" وفي المسند غيره عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله ﷺ "بول الغلام الرضيع ينضح وبول الجارية يغسل" قال قتادة: هذا ما لم يطعما فإذا طعما غسلا جميعا قال الحاكم أبو عبد الله: هذا حديث صحيح الإسناد فإن أبا الأسود الدؤلي صح سماعه عن علي عليه السلام وقال الترمذي: حديث حسن وفي سنن أبي داود من حديث أبو السمح خادم النبي ﷺ قال قال رسول الله ﷺ: "يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام" وفي المسند من حديث أم كرز الخزاعية قالت: أتى النبي ﷺ بغلام فبال عليه فأمر به فنضح وأتى بجارية فبالت عليه فأمر به فغسل وعند ابن ماجه عن أم كرز الخزاعية أن النبي ﷺ قال: "بول الغلام ينضح وبول الجارية يغسل" وصح الإفتاء عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة وأم سلمة ولم يأت عن صحابي خلافهما فردت هذه السنن بقياس متشابه على بول الشيخ وبعموم لم يرد به هذا الخاص وهو قوله: "إنما يغسل الثوب من أربع من البول والغائط والمني والدم والقيء" والحديث لا يثبت فإنه من رواية علي بن زيد بن جدعان عن ثابت بن حماد قال ابن عدي: لا أعلم رواه عن علي بن زيد غير ثابت ابن حماد وأحاديثه مناكير معلومات ولو صح وجب العمل بالحديثين ولا يضرب أحدهما بالآخر ويكون البول فيه مخصوصا ببول الصبي كما خص منه بول ما يؤكل لحمه دون بأحديث هذه في الصحة والشهرة. المثال الثالث والخمسون: رد السنة الثابته الصحيحة الصريحة المحكمة في الوتر بواحدة مفصولة كما في الصحيحين عن ابن عمر أنه سأل رسول الله ﷺ عن صلاة الليل فقال: "مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى" وفي الصحيحين أيضا من حديث عائشة: "كان رسول الله ﷺ يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة" وفي صحيح مسلم عن أبي مجلز قال: سألت ابن عباس عن الوتر فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ركعة من آخر الليل" وقد قال النبي ﷺ "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم" فإذا صلى القاعد ركعتين وجب بهذا النص أن تعدل صلاة القائم ركعة فلو لم تصح لكانت صلاة القاعد أتم من صلاة القائم والاعتماد على الأحاديث المتقدمة وصح الوتر بواحدة مفصولة عن عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأبي أيوب ومعاوية بن أبي سفيان. وقال الحاكم أبو عبد الله: ثنا عبد الله بن سليمان ثنا أحمد بن صالح ثنا عبد الله ابن وهب عن سليمان بن بلال عن صالح بن كيسان عن عبد الله بن الفضل عن الأعرج عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب أوتروا بخمس أو سبع" رواه ابن حبان والحاكم في صحيحهيما وقال الحاكم: رواته كلهم ثقات وله شاهد آخر بإسناد صحيح: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا طاهر بن عمرو بن الربيع بن طارق ثنا ابن أبي الليث ثنا يزيد بن أبي حبيب عن عراك بن مالك عن أبي هريرة فذكر مثله سواء وزاد "أوتروا بخمس أو سبع أو تسع أو بإحدى عشرة ركعة أو أكثر من ذلك". فردت هذه السنن بحديثين باطلين وقياس فاسد أحدهما نهي عن البتراء وهذا لا يعرف له إسناد لا صحيح ولا ضعيف وليس في شيء من كتب الحديث المعتمد عليها ولو صح فالبتراء صفة للصلاة التي قد بتر ركوعها وسجودها فلم يطمئن فيها. الثاني: حديث يروى عن ابن مسعود مرفوعا "وتر الليل ثلاث كوتر النهار صلاة المغرب" وهذا الحديث وإن كان أصح من الأول فإنه في سنن الدارقطني فهو من رواية يحيى بن زكريا قال الدارقطني: يقال له ابن أبي الحواجب ضعيف ولم يروه عن الأعمش مرفوعا غيره ورواه الثوري في الجامع وغيره عن الأعمش موقوفا على ابن مسعود وهو الصواب. وأما القياس الفاسد فهو أن قالوا: رأينا المغرب وتر النهار وصلاة الوتر وتر الليل وقد شرع الله سبحانه وتر النهار موصولا فهكذا وتر الليل وقد صحت السنة بالفرق بين الوترين من وجوه كثيرة أحدها: الجمع بين الجهر والسر في وتر النهار دون وتر الليل الثاني: وجوب الجماعة أو مشروعيتها فيه دون وتر الليل الثالث: أنه ﷺ فعل وتر اليل على الراحلة دون وتر النهار الرابع: أنه قال في وتر الليل إنه ركعة واحدة دون وتر النهار الخامس: أنه أوتر بتسع وخمس موصولة دون وتر النهار السادس: أنه نهى عن تشبيه وتر الليل بوتر النهار كما تقدم السابع أن وتر الليل اسم للركعة وحدها ووتر النهار اسم لمجموع صلاة المغرب كما في صحيح مسلم من حديث ابن عمر وابن عباس أنهما سمعا رسول الله ﷺ يقول: "الوتر ركعة من آخر الليل" الثامن: أن وتر النهار فرض ووتر الليل ليس بفرض باتفاق الناس التاسع: أن وتر النهار يقضى بالاتفاق وأما وتر الليل فلم يقم على قضائه دليل فإن المقصود منه قد فات فهو كتحية المسجد ورفع اليدين في محل الرفع والقنوت إذا فات وقد توقف الإمام أحمد في قضاء الوتر وقال شيخنا: لا يقضى لفوات المقصود منه بفوات وقته قال: وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان إذا منعه من قيام الليل نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ولم يذكر الوتر العاشر: أن المقصود من وتر الليل جعل ما تقدمه من الأشفاع كلها وترا وليس المقصود منه إيتار الشفع الذي يليه خاصة وكان الأقيس ما جاءت به السنة أن يكون ركعة مفردة توتر جميع ما قبلها وبالله التوفيق. المثال الرابع والخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة أنه لا يجوز التنقل إذا أقيمت صلاة الفرض كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" وقال الإمام أحمد في روايته: "إلا التي أقيمت" وفي الصحيحين عن عبد الله بن مالك بن بحينة أن رسول الله ﷺ رأى رجلا وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين فلما انصرف رسول الله ﷺ لاث به الناس وقال له رسول الله ﷺ "الصبح أربعا؟ الصبح أربعا؟" وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن سرجس قال: دخل رجل المسجد ورسول الله ﷺ في صلاة الصبح فصلى ركعتين قبل أن يصل إلى الصف فلما انصرف رسول الله ﷺ قال له: "يا فلان بأي صلاتيك اعتددت؟ بالتي صليت وحدك أو بالتي صليت معنا" وفي الصحيحين أن رسول الله مر برجل فكلمه بشيء لا ندري ما هو فلما انصرف أحطنا به نقول ماذا قال لك رسول الله ﷺ قال: قال لي: "يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعا" وعند مسلم: أقيمت صلاة الصبح فرأى رسول الله ﷺ رجلا يصلي والمؤذن يقيم الصلاة فقال: "أتصلي الصبح أربعا؟" وقال أبو داود الطيالسي في مسنده ثنا أبو عامر الخراز عن ابن مليكة عن ابن عباس قال كنت أصلي وأخذ المؤذن في الإقامة فجذبني النبي ﷺ فقال: "أتصلي الصبح أربعا" وكان عمر بن الخطاب إذا رأى رجلا يصلي وهو يسمع الإقامة ضربه وقال حماد ابن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه أبصر رجلا يصلي الركعتين والمؤذن يقيم فحصبه وقال: أتصلي الصبح أربعا؟ فردت هذه السنن كلها بما رواه حجاج بن نصر المتروك عن عباد بن كثير الهالك عن ليث عن عاطاء عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" وزاد إلا ركعتي الصبح فهذه الزيادة كاسمها زيادة في الحديث لا أصل لها. فإن قيل: فقد كان أبو الدرداء يدخل المسجد والناس صفوف في صلاة الفجر فيصلي الركعتين في ناحية المسجد ثم يدخل مع القوم في الصلاة وكان ابن مسعود يخرج من داره لصلاة الفجر ثم يأتي فيصلي ركعتين في ناحية المسجد ثم يدخل معهم في الصلاة. قيل: عمر بن الخطاب وابنه عبد الله في مقابلة أبي الدرداء وابن مسعود والسنة سالمة لا معارض لها ومعها أصح قياس يكون فإن وقتها يضيق بالإقامة فلم يقبل غيرها بحيث لا يجوز لمن حضر أن يؤخرها ويصليها بعد ذلك والله الموفق. المثال الخامس والخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في استحباب صلاة النساء جماعة لا منفردات كما في المسند والسنن من حديث عبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث "أن رسول الله ﷺ كان يزورها في بيتها وجعل لها مؤذنا كان يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها" قال عبد الرحمن: فأنا رأيت مؤذنها شيخا كبيرا وقال الوليد بن جميل: حدثتني جدتي عن أم ورقة أن النبي ﷺ "أمرها أو أذن لها ان تؤم أهل دارها وكانت قد قرأت القرآن على عهد رسول الله ﷺ" وقال الإمام أحمد: ثنا وكيع ثنا سفيان عن ميسرة أبي حازم عن رائطة الحنفية ان عائشة امت نسوة في المكتوبة فأمتهن بينهن وسطا تابعه ليث عن عطاء عن عائشة وروى الشافعي عن أم سلمة أنها أمت نساء فقامت وسطهن ولو لم يكن في المسألة إلا عموم قوله ﷺ: "تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" لكفى وروى البيهقي من حديث يحيى بن يحيى أنا ابن لهيعة عن الوليد ابن أبي الوليد عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال: "لا خير في جماعة النساء إلا في صلاة أو جنازة" والاعتماد على ما تقدم فردت هذه السنن بالمتشابه من قوله ﷺ: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". وهذا إنما هو في الولاية والإمامة العظمى والقضاء وأما الرواية والشهادة والفتيا والإمامة فلا تدخل في هذا ومن العجب أن من خالف هذه السنة جوز للمرأة أن تكون قاضية تلي أمور المسلمين فكيف أفلحوا وهي حاكمة عليهم ولم يفلح أخواتها من النساء إذا أمتهن؟ المثال السادس والخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة عن النبي ﷺ التي رواها عنه خمسة عشر نفسا من الصحابة "أنه كان يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله" منهم عبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وجابر بن سمرة وأبو موسى الأشعري وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمر البراء بن عازب ووائل بن حجر وأبو مالك الأشعري وعدي بن عميرة الضمري وطلق بن علي وأوس بن أوس وأبو رمثة والأحاديث بذلك ما بين صحيح وحسن فرد ذلك بخمسة أحاديث مختلف في صحتها. أحدها: حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان يسلم تسليمه واحدة رواه الترمذي. والثاني: حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعد عن سعد أن رسول الله ﷺ "كان يسلم في آخر الصلاة تسليمة واحدة السلام عليكم". الثالث: حديث عبد المهيمن بن عباس عن أبيه عن جده "أنه سمع رسول الله ﷺ يسلم تسلمية واحدة لا يزيد عليها" رواه الدارقطني. الرابع: حديث عطاء بن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن عن سمرة بن جندب "كان رسول الله ﷺ يسلم مرة واحدة في الصلاة قبل وجهه فإذا سلم عن يمينه سلم عن يساره" رواه الدارقطني. الخامس: حديث يحيى بن راشد عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع قال رأيت رسول الله ﷺ يسشلم مرة واحدة وهذه الأحاديث لا تقاوم تلك ولا تقاربها حتى تعارض بها. أما حديث عائشة فحديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث قال البخاري: زهير بن محمد من أهل الشام يروي مناكير وقال يحيى: ضعيف والحديث من رواية عمرو بن أبي سلمة عنه قال الطحاوي: هو وإن كان ثقة فإن رواية عمرو ابن أبي سلمة عنه تضعف جدا وهكذا قال يحيى بن معين فيما حكي لي عنه غير واحد من أصحابنا منهم على بن عبد الرحمن بن المغيرة وزعم أن فيها تخليطا كثيرا قال والحديث أصله موقوف على عائشة هكذا رواه الحفاظ. فإن قيل: فإذا ثبت ذلك عن عائشة فبمن نعارضها في ذلك من أصحاب النبي ﷺ. قيل له: بأبي بكر وعمر وعلي بن أبي طالب عليهم السلام وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسهل بن سعد الساعدي وذكر الأسانيد عنهم بذلك ثم قال: فهؤلاء أصحاب رسول الله ﷺ أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعمار ومن ذكرنا معهم يسلمون عن أيمانهم وعن شمائلهم ولا ينكر ذلك عليهم غيرهم على قرب عهدهم برؤية رسول الله ﷺ وحفظهم لأفعاله فما ينبغي لأحد خلافه لو لم يكن روى في ذلك عن النبي ﷺ فكيف وقد روى عنه ما يوافق فعلهم. وأما حديث سعد بن أبي وقاص فحديث معلول بل باطل والدليل على بطلانه أن الذي رواه هكذا الراوردي خاصة وقد خالف في ذلك جميع من رواه عن مصعب بن ثابت كعبد الله بن المبارك ومحمد بن عمرو ثم قد رواه إسماعيل ابن محمد عن عامر بن سعد عن سعد كما رواه الناس "كان رسول الله ﷺ يسلم عن يمينه حتى يرى بياض خذه وعن يساره حتى يرى بياض خده" رواه مسلم في صحيحه فقد صح رواية سعد أن رسول الله ﷺ "سلم تسليمتين" ومعه من ذكرنا من الصحابة وبان بذلك بطلان رواية الدراوردي. وأما حديث عبد المهيمن بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده فقال الدارقطني: عبد المهيمن ليس بالقوي وقال ابن حبان: بطل الاحتجاج به. وأما حديث عطاء بن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن فمن رواية روح ابنه عنه قال الإمام أحمد: منكر الحديث وتركه يحيى. وأما حديث يحيى بن راشد عن يزيد مولى سلمة فقال يحيى بن معين: يحيى ابن راشد ليس بشيء وقال النسائي: ضعيف وقال أبو عمر بن عبد البر: روى عن النبي ﷺ أنه "كان يسلم تسليمة واحدة" من حديث سعد بن أبي وقاص ومن حديث عائشة ومن حديث أنس إلا أنها معلولة لا يصححها أهل العلم بالحديث لأن حديث سعد أخطأ فيه الدراوردي فرواه على غير ما رواه الناس بتسليمة واحدة وغيره يروي فيه بتسليمتين ثم ذكر حديثه عن مصعب بن ثابت أن رسول الله ﷺ "كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة" ثم قال: وهذا وهم عندهم وغلط وإنما الحديث كما رواه ابن المبارك وغيره عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعيد بن أبي وقاص عن أبيه "كان يسلم عن يمينه وعن يساره" وقد روى هذا الحديث بالتسليمتين من طريق مصعب ثم ساق طرقه بالتسليمتين عن سعد ثم ساق من طريق ابن المبارك عن مصعب عن إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعد عن أبيه قال: "رأيت رسول الله ﷺ يسلم عن يمينه وعن شماله وكأني أنظر إلى صفحة خده" فقال الزهري: ما سمعنا هذا من حديث رسول الله ﷺ فقال له إسماعيل بن محمد: أكل حديث رسول الله ﷺ سمعت قال: لا قال: فنصفه قال: لا قال: فاجعل هذا النصف الذي لم تسمع. قال: وأما حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ "كان يسلم تسليمة واحدة" فلم يرفعه أحد إلا زهير بن محمد وحده عن هشام بن عروة رواه عنه عمرو بن أبي سلمة وزهير بن محمد ضعيف عند الجميع كثير الخطأ لا يحتج به وذكر يحيى بن معين هذا الحديث فقال: عمرو بن أبي سلمة وزهير ضعيفان لا حجة فيهما. وأما حديث أنس فلم يأت إلا من طريق أيوب السختياني عن أنس ولم يسمع أيوب من أنس عندهم شيئا. قال: وقد روى عن الحسن مرسلا أن النبي ﷺ وأبا بكر وعمر "كانوا يسلمون تسليمة واحدة" ذكره وكيع عن الربيع عنه قال: والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابرا عن كابر ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مرارا. قلت: وهذا أصل قد نازعهم فيه الجمهور وقالوا: عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار ولا فرق بين عملهم وعمل أهل الحجاز والعراق والشام فمن كانت السنة معهم فهم أهل العمل المتبع وإذا اختلف علماء المسلمين لم يكن عمل بعضهم حجة على بعض وإنما الحجة اتباع السنة ولا تترك السنة لكون عمل بعض المسلمين على خلافها أو عمل بها غيرهم ولو ساغ ترك السنة لعمل بعض الأمة على خلافها لتركت السنن وصارت تبعا لغيرها فإن عمل بها ذلك الغير عمل بها وإلا فلا والسنة هي العيار على العمل وليس العمل عيارا على السنة ولم تضمن لنا العصمة قط في عمل مصر من الأمصار دون سائرها والجدران والمساكن والبقاع لا تأثير لها في ترجيح الأقوال وإنما التأثير لأهلها وسكانها ومعلوم أن أصحاب رسول الله ﷺ شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل وظفروا من العلم بما لم يظفر به من بعدهم فهم المقدمون في العلم على من سواهم كما هم المقدمون في الفضل والدين وعملهم هو العمل الذي لا يخالف وقد انتقل أكثرهم عن المدينة وتفرقوا في الأمصار بل أكثر علمائهم صاروا إلى الكوفة والبصرة والشام مثل علي بن أبي طالب كرم الله وأبي موسى وعبد الله بن مسعود وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وعمرو ابن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ومعاذ بن جبل وانتقل إلى الكوفة والبصرة نحو ثلاثمائة صحابي ونيف وإلى الشام ومصر نحوهم فكيف يكون عمل هؤلاء معتبرا ما داموا في المدينة فإذا خالفوا غيرهم لم يكن عمل من خالفوه معتبرا فإذا فارقوا جدران المدينة كان عمل من بقي فيها هو المعتبر ولم يكن خلاف ما انتقل عنها معتبرا هذا من الممتنع وليس جعل عمل الباقين معتبرا أولى من جعل عمل المفارقين معتبرا فإن الوحي قد انقطع بعد رسول الله ﷺ ولم يبق إلا كتاب الله وسنة رسوله فمن كانت السنة معه فعمله هو العمل المعتبر حقا فكيف تترك السنة المعصومة لعمل غير معصوم. ثم يقال: أرأيتم لو استمر عمل أهل مصر منالأمصار التي انتقل إليها الصحابة على ما أداه إليهم من صار إليهم من الصحابة ما الفرق بينه وبين عمل أهل المدينة المستمر على ما أداه إليهم من بها من الصحابة والعمل إنما استند إلى قول رسول الله ﷺ وفعله فكيف يكون قوله وفعله الذي أداه من بالمدينة موجبا للعمل دون قوله وفعله الذي أداه غيرهم هذا إذا كان النص مع عمل أهل المدينة فكيف إذا كان مع غيرهم النص وليس معهم نص يعارضه وليس معهم إلا مجرد العمل ومن المعلوم أن العمل لا يقابل النص بل يقابل العمل بالعمل ويسلم النص عن المعارض. وأيضا فنقول: هل يجوز أن يخفى على أهل المدينة بعد مفارقة جمهور الصحابة لها سنة من سنن رسول الله ﷺ ويكون علمها عند من فارقها أم لا فإن قلتم: "لا يجوز" أبطلتم أكثر السنن التي لم يروها أهل المدينة وإن كانت من رواية إبراهيم عن علمقة عن عبد الله ومن رواية أهل بيت علي عنه ومن رواية أصحاب معاذ عنه ومن رواية أصحاب أبي موسى عنه ومن رواية أصحاب عمرو بن العاص وابنه عبد الله وأبي الدرداء ومعاوية وأنس بن مالك وعمار بن ياسر وأضعاف هؤلاء وهذا مما لا سبيل إليه وإن قلتم: "يجوز أن يخفى على من بقي في المدينة بعض السنن ويكون علمها عند غيرهم" فكيف تترك السنن لعمل من قد اعترفتم بأن السنة قد تخفى عليهم. وأيضا فإن عمر بن الخطاب كان إذا كتب إليه بعض الأعراب بسنة عن رسول الله ﷺ عمل بها ولو لم يكن معمولا بها بالمدينة كما كتب إليه الضحاك بن سفيان الكلابي "أن رسول الله ﷺ ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها" فقضى به عمر. وأيضا فإن هذه السنة التي يعمل بها أهل المدينة لو جاء من رواها إلى المدينة وعمل بها لم يكن عمل من خالفه حجة عليه فكيف يكون حجة عليه إذا خرج من المدينة. وأيضا فإن هذا يوجب أن يكون جميع أهل الأمصار تبعا للمدينة فيما يعملون به وأنه لا يجوز لهم مخالفتهم في شيء فإن عملهم إذا قدم على السنة فلأن يقدم على عمل غيرهم أولى وإن قيل إن عملهم نفسه سنة لم يحل لأحد مخالفتهم ولكن عمر بن الخطاب ومن بعده من الخلفاء لم يأمر أحد منهم أهل الأمصار أن لا يعملوا بما عرفوه من السنة وعلمهم إياه الصحابة إذا خالف عمل أهل المدينة وأنهم لا يعملون إلا بعمل أهل المدينة بل مالك نفسه منع الرشيد من ذلك وقد عزم عليه وقال له: قد تفرق أصحاب رسول الله ﷺ في البلاد وصار عند كل طائفة منهم علم ليس عند غيرهم وهذا يدل على أن عمل أهل المدينة ليس عنده حجة لازمة لجميع الأمة وإنما هو اختيار منه لما رأى عليه العمل ولم يقل قط في موطئه ولا غيره لا يجوز العمل بغيره بل يخبر إخبارا مجردا أن هذا عمل أهل بلده فإنه رضي الله عنه وجزاه عن الإسلام خيرا ادعى إجماع أهل المدينة في نيف وأربعين مسألة ثم هي ثلاثة أنواع أحدها لا يعلم أن أهل المدينة خالفهم فيه غيرهم والثاني ما خالف فيه أهل المدينة غيرهم وإن لم يعلم اختلافهم فيه والثالث ما فيه الخلاف بين أهل المدينة أنفسهم ومن ورعه رضي الله عنه لم يقل إن هذا إجماع الأمة الذي لا يحل خلافه. وعند هذا فنقول: ما عليه العمل إما أن يراد به القسم الأول أو هو والثاني أو هما والثالث فإن أريد الأول فلا ريب أنه حجة يجب اتباعه وإن أريد الثاني والثالث فأين دليله وأيضا فأحق عمل أهل المدينة أن يكون حجة العمل القديم الذي كان في زمن رسول الله ﷺ وأصحابه وزمن خلفائه الراشدين وهذا كعملهم الذي كأنه مشاهد بالحس ورأى عين من إعطائهم أموالهم التي قسمها رسول الله ﷺ على من شهد معه خبير فأعطوها اليهود على أن يعلموها بأنفسهم وأموالهم والثمرة بينهم وبين المسلمين يقرونهم ما أقرهم الله ويخرجونهم متى شاءوا واستمر هذا العمل كذلك بلا ريب إلى أن استأثر الله بنبيه ﷺ مدة أربعة أعوام ثم استمر مدة خلافة الصديق وكلهم على ذلك ثم استمر مدة خلافة عمر رضي الله عنهم إلى أن أجلاهم قبل أن يستشهد بعام فهذا هو العمل حقا فكيف ساغ خلافه وتركه لعمل حادث. ومن ذلك عمل الصحابة مع نبيهم ﷺ على الاشتراك في الهدي البدنة عن عشرة والبقرة عن سبعة فياله من عمل ما ألحقه وأولاه بالاتباع فكيف يخالف إلى عمل حادث بعده مخالف له؟ ومن ذلك عمل أهل المدينة الذي كأنه رأى عين في سجودهم في "إذا السماء انشقت" مع نبيهم ﷺ ومعهم أبو هريرة وإنما صحب النبي ﷺ ثلاثة أعوام وبعض الرابع وقد أخبر عن عمل الصحابة مع نبيهم في آخر أمره فهذا والله هو العمل فكيف يقدم عليه عمل من بعدهم بما شاء الله من السنين ويقال: العمل على ترك السجود؟ ومن ذلك عمل الصحابة مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقد قرأ السجدة على المنبر في خطبته يوم الجمعة ثم نزل عن المنبر فسجد وسجد معه أهل المسجد ثم صعد فهذا العمل حق فكيف يقال العمل على خلافه ويقدم العمل الذي يخالف ذلك عليه. ومن ذلك عمل الصحابة مع النبي ﷺ في اقتدائهم به وهو جالس وهذا كأنه رأي عين سواء كانت صلاتهم خلفه قعودا أو قياما فهذا عمل في غاية الظهور والصحة فمن العجب ان يقدم عليه رواية جابر الجعفي عن الشعبي وهما كوفيان أن رسول الله ﷺ قال: "لا يؤمن أحد بعدي جالسا" وهذه من أسقط روايات أهل الكوفة. ومن ذلك أن سليمان بن عبد الملك عام حج جمع ناسا من أهل العلم فيهم عمر بن عبد العزيز وخارجة بن زيد بن ثابت والقاسم بن محمد وسالم وعبيد الله ابنا عبد الله بن عمر ومحمد بن شهاب الزهري وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة فكلهم أمره بالطيب وقال القاسم: أخبرتني عائشة أنها طيبت رسول الله ﷺ لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت ولم يختلف عليه أحد منهم إلا أن عبد الله بن عبيد الله قال: كان عبد الله رجلا جادا مجدا كان يرمي الجمرة ثم يذبح ثم يحلق ثم يركب فيفيض قبل أن يأتي منزله قال سالم صدق ذكره النسائي فهذا عمل أهل المدينة وفتياهم فأي عمل بعد ذلك يخالفه يستحق التقديم عليه؟ ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن قاسم بن مسلم عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع وزارع علي وسعد ابن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين وعامل عمر بن الخطاب الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا وكذا فهذا والله هو العمل الذي يستحق تقديمه على كل عمل خالفه والذي من جعله بينه وبين الله فقد استوثق. فيالله العجب أي عمل بعد هذا يقدم عليه وهل يكون عمل يمكن أن يقال إنه إجماع أظهر من هذا وأصح منه؟ وأيضا فالعمل نوعان: نوع لم يعارضه نص ولا عمل قبله ولا عمل مصر آخر غيره وعمل عارضه واحد من هذه الثلاثة فإن سويتم بين أقسام هذا العمل كلها فهي تسوية بين المختلفات التي فرق النص والعقل بينها وإن فرقتم بينها فلابد من دليل فارق بين ما هو معتبر منها وما هو غير معتبر ولا تذكرون دليلا قط إلا كان دليل من قدم النص أقوى وكان به أسعد. وأيضا فإنا نقسم عليكم هذا العمل من وجه آخر ليتبين به المقبول من المردود فنقول عمل أهل المدينة وإجماعهم نوعان أحدهما: ما كان من طريق النقل والحكاية والثاني: ما كان من طريق الاجتهاد والاستدلال فالأول على ثلاثة أضرب أحدها: نقل الشرع مبتدأ من جهة النبي ﷺ وهو أربعة أنواع أحدها نقل قوله والثاني: نقل فعله والثالث: نقل تقريره لهم على أمر شاهدهم عليه أو أخبرهم به الرابع: نقلهم لترك شيء قام سبب وجوده ولم يفعله الثاني: نقل العمل المتصل زمنا بعد زمن من عهده ﷺ والثالث: نقل لأماكن وأعيان ومقادير لم تتغير عن حالها. نقل قوله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر أمثلة هذه الأنواع فأما نقل قوله فظاهر وهو الأحاديث المدنية التي هي أم الأحاديث النبوية وهي أشرف أحاديث أهل الأمصار ومن تأمل أبواب البخاري وجده أول ما يبدأ في الباب بها ما وجدها ثم يتبعها بأحاديث أهل الأمصار وهذه كمالك عن نافع عن ابن عمر وابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وأبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وابن شهاب عن سالم عن أبيه وابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ويحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة وابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس ومالك عن موسى بن عقبة عن كريب عن أسامة بن زيد والزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب وأمثال ذلك. نقل فعله صلى الله عليه وسلم أما نقل فعله فكنقلهم أنه توضأ من بئر بضاعة وأنه كان يخرج كل عيد إلى المصلى فيصلي به العيد هو والناس وأنه كان يخطبهم قائما على المنبر وظهره إلى القبلة ووجهه إليهم وأنه كان يزور قباء كل سبت ما شيا وراكبا وأنه كان يزورهم في دورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم ونحو ذلك. نقل تقريره صلى الله عليه وسلم وأما نقل التقرير فكنقلهم إقراره لهم على تلقيح النخل وعلى تجاراتهم التي كانوا يتجرونها وهي على ثلاثة أنواع تجارة الضرب في الأرض وتجارة الإدارة وتجارة السلم فلم ينكر عليهم منها تجارة واحدة وإنما حرم عليهم فيها الربا الصريح ووسائله المفضية إليه أو التوسل بتلك المتاجر إلى الحرام كبيع السلاح لمن يقاتل به المسلم وبيع العصير لمن يعصره خمرا وبيع الحرير لمن يلبسه من الرجال ونحو ذلك مما هو معاونة على الإثم والعدوان وكإرارهم على صنائعهم المختلفة من تجارة وخياطة وصياغة وفلاحة وإنما حرم عليهم فيها الغش والتوسل بها إلى المحرمات وكإقرارهم على إنشاد الأشعار المباحة وذكر أيام الجاهلية والمسابقة على الأقدام وكإقرارهم علىالمهادنة في السفر وكإقرارهم على الخيلاء في الحرب ولبس الحرير فيه وإعلام الشجاع منهم بعينه بعلامة من ريشة أو غيرها وكإقرارهم على لبس ما نسجه الكفار من الثياب وعلى إنفاق ما ضربوه من الدراهم وربما كان عليها صور ملوكهم ولم يضرب رسول الله ﷺ ولا خلفاؤه مدة حياتهم دينارا ولا درهما وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار وكإقراره لهم بحضرته على المزاح المباح وعلى الشبع في الأكل وعلى النوم في المسجد وعلى شركة الأبدان وهذا كثير من أنواع السنن احتج به الصحابة وأئمة الإسلام كلهم وقد احتج به جابر في تقرير الرب في زمن الوحي كقوله: "كنا نعزل والقرآن ينزل فلو كان شيء ينهى عنه لنهي عنه القرآن" وهذا من كمال فقه الصحابة وعلمهم واستيلائهم على معرفة طرق الأحكام ومداركها وهو يدل على أمرين أحدهما: أن أصل الأفعال الإباحة ولا يحرم منها إلا ما حرمه الله على لسان رسوله الثاني: أن علم الرب تعالى بما يفعلون في زمن شرع الشرائع ونزل الوحي وإقراره لهم عليه دليل على عفوه عنه والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أنه في الوجه الأول يكون معفوا عنه استصحابا وفي الثاني يكون العفو عنه تقريرا لحكم الاستصحاب ومن هذا النوع تقريره لهم على أكل الزروع التي تداس بالبقر من غير أمر لهم بغسلها وقد علم ﷺ أنها لابد أن تبول وقت الدياس ومن ذلك تقريره لهم على الوقود في بيوتهم وعلى أطعمتهم بأرواث الإبل وأخثاء البقر وأنعار الغنم وقد علم أن دخانها ورمادها يصيب ثيابهم وأوانيهم ولم يأمرهم باجتناب ذلك وهو دليل على أحد أمرين ولابد طهارة ذلك أو أن دخان النجاسة ورمادها ليس بنجس ومن ذلك تقريرهم على سجود أحدهم على ثوبه إذا اشتد الحر ولا يقال في ذلك إنه ربما لم يعلمه لأن الله قد علمه وأقرهم عليه ولم يأمر رسوله بإنكاره عليهم فتأمل هذا الموضع ومن ذلك تقريرهم على الأنكحة التي غقدوها في حال الشرك ولم يتعرض لكيفية وقوعها وإنما أنكر منها ما لا مساغ له في الإسلام حين الدخول فيه ومن ذلك تقريرهم على ما بأيديهم من الأموال التي اكتسبوها قبل الإسلام بربا أو غيره ولم يأمر بردها بل جعل لهم بالتوبة ما سلف من ذلك ومنه تقرير الحبشة باللعب في المسجد بالحراب وتقريره عائشة على النظر إليهم وهو كتقريره النساء على الخروج والمشي في الطرقات وحضور المساجد وسماع الخطب التي كان ينادى بالاجتماع لها وتقريره الرجال على استخدامهن في الطحن والغسل والطبخ والعجن وعلف الفرس والقيام بمصالح البيت ولم يقل للرجال قط لا يحل لكم ذلك إلا بمعاوضتهن أو استرضائهن حتى يتركن الأجرة وتقريره لهم على الإنفاق عليهن بالمعروف من غير تقدير فرض ولا حب ولا خبز ولم يقل لهم لا تبرأ ذممكم من الأنفاق الواجب إلا بمعاوضة الزوجات من ذلك على الحب الواجب لهن مع فساد المعاوضة من وجوه عديدة أو بإسقاط الزوجات حقهن من الحب بل أقرهم على ما كانوا يعتادون نفقته قبل الإسلام وبعده وقرر وجوبه بالمعروف وجعله نظير نفقة الرقيق في ذلك ومنه تقريرهم على التطوع بين أذان المغرب والصلاة وهو يراهم ولا ينهاهم ومنه تقريرهم على بقاء الوضوء وقد خفقت رؤوسهم من النوم في انتظار الصلاة ولم يأمرهم بإعادته وتطرق احتمال كونه لم يعلم ذلك مردود بعلم الله به وبأن القوم أجل وأعرف بالله ورسوله أن لا يخبروه بذلك وبأن خفاء مثل ذلك على رسول الله ﷺ وهو يراهم ويشاهدهم خارجا إلى الصلاة ممتنع ومنه تقريرهم على جلوسهم في المسجد وهو مجنبون إذا توضئوا ومنه تقريرهم على مبايعة عميانهم على مبايعتهم وشرائهم بأنقسهم من غير نهي لهم عن ذلك يوما ما وهو يعلم أن حاجة الأعمى إلى ذلك كحاجة البصير ومنه تقريرهم على قبول الهدية التي يخبرهم بها الصبي والعبد والأمة وتقريرهم على الدخول بالمرأة التي يخبرهم بها النساء أنها امرأته بل الاكتفاء بمجرد الإهداء من غير إخبار ومنه تقريرهم على قول الشعر وإن تغزل أحدهم فيه بمحبوته وإن قال فيه ما لو أقر به في غيره لأخذ به كتغزل كعب بن زهير بسعاد وتغزل حسان في شعره وقوله فيه: كأن خبيئة من بيت رأس ** يكون مزاجها عسل وماء. ثم ذكر وصف الشراب إلى أن قال: ونشربها فتتركنا ملوكا ** وأسدا لا ينهنهنا اللقاء. فأقرهم على قول ذلك وسماعه لعلمه ببر قلوبهم ونزاهتهم وبعدهم عن كل دنس وعيب وأن هذا إذا وقد مقدمة بين يدي ما يحبه الله ورسوله من مدح الإسلام وأهله وذم الشرك وأهله والتحريض على الجهاد والكرم والشجاعة فمفسدته مغمورة جدا في جنب هذه المصلحة مه ما فيه من مصلحة هز النفوس واستمالة إصغائها وإقبالها على المقصود بعده وعلى هذا جرت عادة الشعراء بالتغزل بين يدي الأغراض التي يريدونها بالقصيد ومنه تقريرهم على رفع الصوت بالذكر بعد السلام بحيث كان من هو خارج المسجد يعرف انقضاء الصلاة بذلك ولا ينكره عليهم. فصل نقل الصحابة ما تركه صلى الله عليه وسلم وأما نقلهم لتركه ﷺ فهو نوعان وكلاهما سنة أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله كقوله في شهداء أحد: "ولم يغسلهم ولم يصل عليهم" وقوله في صلاة العيد: "لم يكن أذان ولا إقامة ولا نداء" وقوله في جمعه بين الصلاتين: "ولم يسبح بينهما ولا على أثر واحدة منهما" ونظائره والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله فحيث لم ينقله واحد منهم البتة ولا حدث به في مجمع أبدا علم أنه لم يكن وهذا كتركه التلفظ بالبته عند دخوله في الصلاة وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يؤمنون على دعائه دائما بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات وتركه رفع يديه كل يوم في صلاة الصبح بعد رفع رأسه من ركوع الثانية وقوله: "اللهم اهدينا فيمن هديت" يجهر بها ويقول المأمومين كلهم: "آمين" ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغير ولا كبير ولا رجل ولا امرأة البتة وهو مواظب عليه هذه المواظبة لا يخل به يوما واحدا وتركه الاغتسال للمبيت بمزدلفة ولرمي الجمار ولطواف الزيارة ولصلاة الاستسقاء والكسوف ومن ههنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة فإن تركه ﷺ سنة كما أن فعله سنة فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ولا فرق. فإن قيل: من أين لكم أنه لم يفعله وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟ فهذا سؤال بعيد جدا عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه ولو صح هذا السؤال وقبل لاستحب لنا مستحب الأذان للتراويح وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا مستحب آخر الغسل لكل صلاة وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا مستحب آخر النداء بعد الأذان للصلاة يرحمكم الله ورفع بها صوته وقال من أين لكم أنه لم ينقل واستحب لنا آخر لبس السواد والطرحة للخطيب وخروجه بالشاويش يصيح بين يديه ورفع المؤذنين أصواتهم كلما ذكر الله واسم رسوله جماعة وفرادى وقال: من أين لكم أن هذا لم ينقل واستحب لنا آخر صلاة ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب وقال من أين لكم أن إحياءهما لم ينقل وانفتح باب البدعة وقال كل من دعا إلى بدعة من أين لكم أن هذا لم ينقل ومن هذا تركه أخذ الزكاة من الخضروات والمباطخ وهم يزرعونها بجواره بالمدينة كل سنة فلا يطالبهم بزكاة ولا هم يؤدونها إليه. فصل نقل الصحابة الأعيان وتعيين الأماكن وأما نقل الأعيان وتعيين الأماكن فكنقلهم الصاع والمد وتعيين موضع المنبر وموقفه للصلاة والقبر والحجرة ومسجد قباء وتعيين الروضة والبقيع والمصلى ونحو ذلك ونقل هذا جار مجرى نقل مواضع المناسك كالصفا والمروة ومنى ومواضع الجمرات ومزدلفة وعرفة ومواضع الإحرام كذي الحليفة والجحفة وغيرهما. فصل نقل الصحابة العمل المستمر وأما نقل العمل المستمر فكنقل الوقوف والمزارعة والأذان على المكان المرتفع والأذان للصبح قبل الفجر وتثنية الأذان وإفراد الإقامة والخطبة بالقرآن وبالسنن دون الخطبة الصناعية بالتسجيع والترجيع التي لا تسمن ولا تغني من جوع فهذا النقل وهذا العمل حجة يجب اتباعها وسنة متلقاة بالقبول على الرأس والعينين وإذا ظفر العالم بذلك قرت به عينه واطمأنت إليه نفسه. فصل الاختلاف في العمل الذي طريقه الاجتهاد وأما العمل الذي طريقه الاجتهاد والاستدلال فهو معترك النزال ومحل الجدال قال القاضي عبد الوهاب وقد اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ليس بحجة أصلا وأن الحجة هي إجماع أهل المدينة من طريق النقل ولا يرجح به أيضا أحد الاجتهادين على الآخر وهذا قول أبي بكر وأبي يعقوب الرازي والقاضي أبي بكر بن منتاب والطيالسي والقاضي أبي الفرج والشيخ أبي بكر الأبهري وأنكروا أن يكون هذا مذهبا لمالك أو لأحد من معتمدي أصحابه. والوجه الثاني: أنه وإن لم يكن حجة فإنه يرجح به اجتهادهم على اجتهاد غيرهم وبه قال بعض أصحاب الشافعي. والثالث: أن إجماعهم من طريق الاجتهاد حجة وإن لم يحرم خلافه كإجماعهم من طريق النقل وهذا مذهب قوم من أصحابنا وهو الذي عليه كلام أحمد بن المعدل وأبي بكر وغيرهما وذكر الشيخ أن في رسالة مالك إلى الليث بن سعيد ما يدل عليه وقد ذكر أبو مصعب في مختصره مثل ذلك والذي صرح به القاضي أبو الحسين بن أبي عمر في مسألته التي صنفها على أبي بكر الصيرفي نقضا لكلامه على أصحابنا في إجماع أهل المدينة وإلى هذا يذهب جل أصحابنا المغاربة أو جميعهم. فأما حال الأخبار من طريق الآحاد فلا تخلو من ثلاثة أمور: إما أن يكون صحبها عمل أهل المدينة مطابقا لها أو أن يكون عملهم بخلافها أو أن لا يكون منهم عمل أصلا لا بخلاف ولا بوفاق فإن كان عملهم موافقا لها كان ذلك آكد في صحتها ووجوب العمل بها إذا كان العمل من طريق النقل وإن كان من طريق الاجتهاد كان مرجحا للخبر على ما ذكرنا من الخلاف وإن كان عملهم بخلافه نظر فإن كان العمل المذكور على الصفة التي ذكرناها فإن الخبر يترك للعمل عندنا لا خلاف بين أصحابنا في ذلك وهذا أكبر الغرض بالكلام في هذه المسألة وهذا كما نقوله في الصاع والمد وزكاة الخضروات وغير ذلك وإن كان العمل منهم اجتهادا فالخبر أولى منه عند جمهور أصحابنا إلا من قال منهم: إن الإجماع من طريق الاجتهاد حجة وإن لم يكن بالمدينة عمل يوافق موجب الخبر أو يخالفه فالواجب المصير إلى الخبر فإنه دليل مفرد عن مسقط أو معارض. هذا جملة قول أصحابنا في هذه المسألة وقد تضمن ما حكاه أن عملهم الجاري مجرى النقل حجة فإذا أجمعوا عليه فهو مقدم على غيره من أخبار الآحاد وعلى هذا الحرف بنى المسألة وقررها وقال: والذي يدل على ما قلناه أنهم إذا أجمعوا على شيء نقلا أو عملا متصلا فإن ذلك الأمر معلوم بالنقل المتواتر الذي يحصل العلم به وينقطع العذر فيه ويجب ترك أخبار الآحاد له لأن المدينة بلدة جمعت من الصحابة من يقع العلم بخبرهم فيما أجمعوا على نقله فما هذا سبيله إذا ورد خبر واحد بخلافه كان حجة على ذلك الخبر وترك له كما لو روى لنا خبر واحد فيما تواتر به نقل جميع الأمة لوجب ترك الخبر للنقل المتواتر من جميعهم فيقال: من المحال عادة أن يجمعوا على شيء نقلا أو عملا متصلا من عندهم إلى زمن رسول الله ﷺ وأصحابه وتكون السنة الصحيحة الثابتة قد خالفته هذا من أبين الباطل وإن وقع ذلك فيما أجمعوا عليه من طريق الاجتهاد فإن العصمة لم تضمن لاجتهادهم فلم يجمعوا من طريق النقل ولا العمل المستمر على هذه الشريطة على بطلان خيار المجلس ولا على التسليمة الواحدة ولا على القنوت في الفجر قبل الركوع ولا على ترك الرفع عند الركوع والرفع منه ولا على ترك السجود في المفصل ولا على ترك الاستفتاح والاستعاذة قبل الفاتحة ونظائر ذلك كيف وقدماؤهم الذين نقلوا العلم الصحيح الثابت الذي كأنه رأي عين عن النبي ﷺ وأصحابه بخلاف ذلك فكيف يقال إن تركه عمل مستمر من عهد رسول الله ﷺ إلى الآن هذا من المحال بل نقلهم للصاع والمد الوقوف والأخاير وترك زكاة الخضروات حق ولم يأت عن رسول الله ﷺ سنة تخالفه البتة ولهذا رجع أبو يوسف إلى ذلك كله بحضرة الرشيد لما ناظره مالك وتبين له الحق فلا يلحق بهذا عملهم من طريق الاجتهاد ويجعل ذلك نقلا متصلا عن رسول الله ﷺ وتترك له السنن الثابتة فهذا لون وذلك لون وبهذا التمييز والتفصيل يزول الاشتباه ويظهر الصواب. ومن المعلوم أن العمل بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين والصحابة بالمدينة كان بحسب من فيها من المفتين والأمراء والمحتسبين على الأسواق ولم تكن الرعية تخالف هؤلاء فإذا أفتى المفتون نفذه الوالي وعمل به المحتسب وصار عملا فهذا هو الذي لا يلتفت إليه في مخالفة السنن لا عمل رسول الله ﷺ وخلفائه والصحابة فذاك هو السنة فلا يخلط أحدهما بالآخر فنحن لهذا العمل أشد تحكيما وللعمل الآخر إذا خالف السنة أشد تركا وبالله التوفيق. وقد كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يفتي وسليمان بن بلال المحتسب ينفذ فتواه فتعمل الرعية بفتوى هذا وتنفيذ هذا كما يطرد العمل في بلد أو إقليم ليس فيه إلا قول مالك على قوله وفتواه ولا يجوزن العمل هناك بقول غيره من أئمة الإسلام فلو عمل به أحد لاشتد نكيرهم عليه وكذلك كل بلد أو إقليم لم يظهر فيه إلا مذهب أبي حنيفة فإن العمل المستمر عندهم على قوله وكل طائفة اطرد عندهم عمل من وصل إليهم قوله ومذهبه ولم يألفوا غيره ولا فرق في هذا العمل بين بلد وبلد العمل الصحيح ما وافق السنة وإذا أردت وضوح ذلك فانظر العمل في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جهره بالاستفتاح في الفرض في مصلى النبي ﷺ وعمل الصحابة به ثم العمل في زمن مالك بوصل التكبير بالقراءة من غير استفتاح ولا تعوذ وانظر العمل في زمن الصحابة كعبد الله بن عمر في اعتبار خيار المجلس ومفارقته لمكان التبايع ليلزم العقد ولا يخالفه في ذلك صحابي ثم العمل به في زمن التابعين وإمامهم وعالمهم سعيد بن المسيب يعمل به ويفتي به ولا ينكره عليه منكر ثم صار العمل في زمن ربيعة وسليمان بن بلال بخلاف ذلك وانظر إلى العمل في زمن رسول الله ﷺ والصحابة خلفه وهم يرفعون أيديهم في الصلاة في الركوع والرفع منه ثم العمل في زمن الصحابة بعده حتى كان عبد الله بن عمر إذا رأى من لا يرفع يديه حصبه وهو عمل كان رأي عين وجمهور التابعين يعمل به بالمدينة وغيرها من الأمصار كما حكاه البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما عنهم ثم صار العمل بخلافه وانظر إلى العمل الذي كأنه رأي عين من صلاة رسول الله ﷺ على ابني بيضاء سهيل وأخيه في المسجد والصحابة معه وصلت عائشة على سعد بن أبي وقاص في المسجد وصلى على عمر بن الخطاب في المسجد ذكره مالك عن نافع عن عبد الله قال الشافعي: ولا نرى أحدا من الصحابة حضر موته فتخلف عن جنازته فهذا عمل مجمع عليه عندكم قاله لبعض المالكية وروى هشام عن أبيه أن أبا بكر صلى عليه في المسجد فهذا العمل حق ولو تركت السنن للعمل لتعطلت سنن رسول الله ﷺ ودرست رسومها وعفت آثارها وكم من عمل قد اطرد بخلاف السنة الصريحة على تقادم الزمان وإلى الآن وكل وقت تترك سنة ويعمل بخلافها ويستمر عليها العمل فتجد يسيرا من السنة معمولا به على نوع تقصير وخذ بلا حساب ما شاء الله من سنن قد أهملت وعطل العمل بها جملة فلو عمل بها من يعرفها لقال الناس: تركت السنة فقد تقرر أن كل عمل خالف السنة الصحيحة لم يقع من طريق النقل البتة وإنما يقع من طريق الاجتهاد إذا خالف السنة كان مردودا وكل عمل طريقه النقل فإنه لا يخالف سنة صحيحة البتة. فلنرجع إلى الأمثلة التي ترك فيها المحكم للمتشابه فنقول: المثال السابع والخمسون: ترك السنة المحكمة الصحيحة في الجهر بآمين في الصلاة كقوله في الصحيحين: "إذا أمن الأمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" ولولا جهره بالتأمين لما أمكن المأموم أن يؤمن معه ويوافقه في التأمين وأصرح من هذا حديث سفيان الثوري عن سلمة ابن كهيل عن حجر عن عنبس عن وائل بن حجر قال: "كان رسول الله ﷺ إذا قال {وَلا الضَّالِّينَ} قال آمين ورفع بها صوته" وفي لفظ وطول بها رواه الترمذي وغيره وإسناده صحيح وقد خالف شعبة سفيان في هذا الحديث فقال: "وخفض بها صوته" وحكم أئمة الحديث وحفاظه في هذا لسفيان فقال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث سفيان الثوري عن سلمة ابن كهيل في هذا الباب أصح من حديث شعبة أخطأ شعبة في هذا الحديث في مواضع فقال: عن حجر أبي العنبس وإنما كنيته أبو السكن وزاد فيه علقمة بن وائل وإنما هو حجر بن عنبس عن وائل بن حجر ليس فيه علقمة وقال وخفض بها صوته والصحيح أنه جهر بها قال الترمذي: وسألت أبا زرعة عن حديث سفيان وشعبة هذا فقال: حديث سفيان أصح من حديث شعبة وقد روى العلاء بن صالح عن سلمة بن كهيل نحو رواية سفيان وقال الدارقطني: كذا قال شعبة "وأخفى بها صوته" ويقال: إنه وهم فيه لأن سفيان الثوري ومحمد بن سلمة كهيل وغيرهما رووه عن سلمة فقالوا: "ورفع صوته بآمين" وهو الصواب وقال البيهقي: لا أعلم اختلافا بين أهل العلم بالحديث أن سفيان وشعبة إذا اختلفا فالقول قول سفيان وقال يحيى بن سعيد: ليس أحد أحب إلي من شعبة ولا يعدله عندي أحد وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان وقال شعبة: سفيان أحفظ مني فهذا ترجيح لرواية سفيان وترجيح ثان وهو متابعة العلاء ابن صالح ومحمد بن سلمة بن كهيل له وترجيح ثالث وهو أن أبا الوليد الطيالسي وحسبك به رواه عن شعبة بوفاق الثوري في متنه فقد اختلف على شعبة كما ترى قال البيهقي: فيحتمل أن يكون تنبه لذلك فعاد إلى الصواب في متنه وترك ذكر ذلك علقمة في إسناده وترجيح رابع وهو أن الروايتين لو تقاومتا لكانت رواية الرفع متضمنه لزيادة وكانت أولى بالقبول وترجيح خامس وهو موافقتها وتفسيرها لحديث أبي هريرة "وإذا أمن الإمام فأمنوا فإن الإمام يقول آمين والملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له" وترجيح سادس وهو ما رواه الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله ﷺ إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته بآمين" ولأبي داود بمعناه وزاد بيانا فقال: "قال آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول" وفي رواية عنه "كان النبي ﷺ إذا قال {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال آمين يرفع بها صوته ويأمر بذلك" وذكر البيهقي عن علي كرم الله وجهه قال: "سمعت رسول الله ﷺ يقول آمين إذا قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}" وعنه أيضا رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان إذا قرأ {وَلا الضَّالِّينَ} رفع صوته بآمين وعند أبي داود عن بلال أنه قال للنبي ﷺ "لا تسبقني بآمين" قال الربيع: سئل الشافعي عن الإمام: هل يرفع صوته بآمين؟ قال: نعم ويرفع بها من خلفه أصواتهم فقلت: وما الحجة؟ فقال: أنبأنا مالك وذكر حديث أبي هريرة المتفق على صحته ثم قال: ففي قول رسول الله ﷺ: "إذا أمن الإمام فأمنوا" دلالة على أنه أمر الإمام أن يجهر بآمين لأن من خلفه لا يعرفون وقت تأمينه إلا بأن يسمع تأمينه ثم بينه ابن شهاب فقال: كان رسول الله ﷺ يقول آمين فقلت للشافعي: فإنا نكره الإمام أن يرفع صوته بآمين فقال: هذا خلاف ما روى صاحبنا وصاحبكم عن رسول الله ﷺ ولو لم يكن عندنا وعندهم علم إلا هذا الحديث الذي ذكرناه عن مالك فينبغي أن يستدل بأن النبي ﷺ كان يجهر بآمين وأنه أمر الإمام أن يجهر بها فكيف ولم يزل أهل العلم عليه وروى وائل بن حجر أن النبي ﷺ "كان يقول آمين يرفع بها صوته" ويحكي مدة إياها وكان أبو هريرة يقول للإمام: "لا تسبقني بآمين" وكان يؤذن له أنبأنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن عطاء: كنت أسمع الأئمة ابن الزبير ومن بعده يقولون آمين ومن خلفهم آمين حتى إن للمسجد للجة وقوله: "كان أبو هريرة يقول للإمام لا تسبقني بآمين" يريد ما ذكره البيهقي بإسناده عن أبي رافع أن أبا هريرة كان يؤذن لمروان بن الحكم فاشترط عليه أن لايسبقه بالضالين حتى يعلم أنه قد وصل إلى الصف فكان مروان إذا قال {وَلا الضَّالِّينَ} قال أبو هريرة: "آمين "يمد بها صوته وقال: إذا وافق تأمين أهل الأرض تأمين أهل السماء غفر لهم وقال عطاء: أدركت مائتين من أصحاب رسول الله ﷺ في هذا المسجد إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} سمعت لهم رجة بآمين. فرد هذا كله بقوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} والذي أنزلت عليه هذه الآية هو الذي رفع صوته بالتأمين والذين أمروا بها رفعوا به أصواتهم ولا معارضة بين الآية والسنة بوجه ما. المثال الثامن والخمسون: ترك القول بالسنة الصحيحة الصريحة المحكمة في أن الصلاة الوسطى صلاة العصر بالمتشابه من قوله {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وهذا عجب من العجب وأعجب منه تركها بأن في مصحف عائشة: "وصلاة العصر". وأعجب منهما تركها بأن صلاة الظهر تقام في شدة الحر وهي في وسط النهار فأكدها الله تعالى بقوله {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وأعجب من ذلك تركها بأن المغرب الوسطى بين الثنائية والرباعية فهي أحق بهذا الاسم من غيرها وأعجب منه تركها بأن صلاة العشاء قبلها صلاة آخر النهار وبعدها صلاة أول النهار وهي وسطى بينهما فهي أحق بهذا الاسم من غيرها وقول رسول الله ﷺ ونصه الصريح المحكم الذي لا يحتمل إلا ما دل عليه أولى بالاتباع والله الموفق. المثال التاسع والخمسون: ترك السنة الصحيحة الصريحة في قول الإمام ربنا ولك الحمد كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "كان رسول الله ﷺ إذا قال سمع الله لمن حمده قال اللهم ربنا ولك الحمد" وفيهما أيضا عنه "كان رسول الله ﷺ يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد" وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن النبي ﷺ "كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض ملء ما شئت من شيء بعد" وعن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ "كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ملءالسماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" فردت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله: "إذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد". المثال الستون: رد السنة الصحيحة المحكمة في إشارة المصلى في التشهد بأصبعه كقول ابن عمر "كان رسول الله ﷺ إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام" رواه مسلم وعنده أيضا عنه "أن رسول الله ﷺ كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ووضع أصبعه التي تلي الإبهام فدعا بها" وعنده أيضا عن عبد الله بن الزبير "أن رسول الله ﷺ كان إذا قعد في الصلاة وضع يديه على ركبتيه وأشار بأصبعه" ورواه خفاف ابن إيماء بن رحضة ووائل بن حجر وعبادة بن الصامت ومالك بن بهز الخزاعي عن أبيه كلهم عن النبي ﷺ أنه فعل ذلك وسئل ابن عباس عنه فقال: هو الإخلاص فردوا ذلك كله بحديث لا يصح وهو ما رواه محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن أبي غطفان المري عن أبي هريرة مرفوعا "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء ومن أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعدها" قال الدارقطني: قال لنا ابن أبي داود: أبو غطفان هذا مجهول وآخر الحديث زيادة في الحديث ولعله من قول ابن إسحاق والصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يشير في الصلاة. المثال الحادي والستون: رد السنة الصحيحة الصلريحة في ضفر رأس المرأة الميتة ثلاث ضفائر كقوله في الصحيحين في غسل ابنته: "اجعلن رأسها ثلاثة قرون" قالت أم عطية: ضفرنا رأسها وناصيتها وقرنيها ثلاثة قرون وألقيناه من خلفها فدر ذلك بأنه يشبه زينة الدنيا وإنما يرسل شعرها شقين على ثدييها وسنة رسول الله ﷺ أحق بالاتباع. المثال الثاني والستون: ترك السنة الصحيحة الصريحة التي رواها الجماعة عن سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال: "صليت مع رسول الله ﷺ فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره" ولم يقل على صدره غير مؤمل بن إسماعيل وفي صحيح مسلم عنه أنه "رأى النبي ﷺ رفع يديه حين دخل في الصلاة ثم كبر ثم التحف بثوبه ثم وضع يده اليمنى على اليسرى فلما أراد أن يركع أخرج يديه ثم رفعهما وكبر فرفع فلما قال سمع الله لمن حمده رفع يديه فلما سجد سجد بين كفيه" وزاد أحمد وأبو داود: "ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد" وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة" قال أبو حازم: ولا أعلمه إلا ينهي ذلك إلى النبي ﷺ وفي السنن عن ابن مسعود أنه كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي ﷺ فوضع يده اليمنى على اليسرى وقال علي: "من السنة في الصلاة وضع الكف على الكف تحت السرة" رواه أحمد وقال مالك في موطئه وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة ثم ذكر حديث سهل بن سعد وذكر عن عبد الكريم ابن أبي المخارق البصري أنه قال من كلام النبوة "إذا لم تستح فافعل ما شئت" ووضع إحدى اليدين على الأخرى في الصلاة يضع اليمنى على اليسرى ةتعجيل الفطر والاستيناء بالسحور. وذكر أبو عمر في كتابه من حديث الحارث بن غطيف أو غطيف بن الحارث قال: مهما رأيت شيئا فنسيته فإني لم أنس أني رأيت رسول الله ﷺ واضعا يده اليمنى على اليسرى في الصلاة وعن قبيصة بن ثابت عن أبيه قال: رأيت رسول الله ﷺ واضعا يمينه على شماله في الصلاة وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من السنة وضع اليمين على الشمال في الصلاة وعنه أيضا أنه كان إذا قام إلى الصلاة وضع يمينه على رسغه فلا يزال كذلك حتى يركع إلا أن يصلح ثوبه أو يحك جسده وقال علي عليه السلام في قوله تعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أنه وضع اليمين على الشمال في الصلاة تحت صدره وذكر ابن أبي شيبة عن أبي بكر الصديق أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال هكذا ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة. وقال أبو الدرداء: من أخلاق النبيين وضع اليمين على الشمال في الصلاة وقال ابن الزبير: صف القدمين ووضع اليد على اليد من السنة ذكر هذه الآثار أبوعمر بأسانيدها وقال: هي آثار ثابتة وقال وهب بن بقية: ثنا محمد بن المطلب عن أبان بن بشير المعلم ثنا يحيى بن أبي كثير ثنا أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "ثلاث من النبوة: تعجيل الفطر وتأخير السحور ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة" وقال سعيد بن منصور: ثنا هشيم أنا منصور بن زاذان عن محمد بن أبان الأنصاري عن عائشة قالت: "ثلاث من النبوة تعجيل الإفطار وتأخير السحور ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة" فردت هذه الآثار برواية ابن القاسم عن مالك قال تركه أحب إلى ولا أعلم شيئا قط ردت به سواه. المثال الثالث والستون: رد السنة المحكمة الصريحة في تعجيل الفجر وأن النبي ﷺ "كان يقرأ فيها بالستين إلى المائة ثم ينصرف منها والنساء لا يعرفن من الغلس وإن صلاته كانت التغليس حتى توفاه الله وإنه إنما أسفر بها مرة واحدة وكان بين سحوره وصلاته قدر خمسين آية" فرد ذلك بمجمل حديث رافع بن خديج "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" وهذا بعد ثبوته إنما المراد به الإسفار بها دواما لا ابتداء فيدخل فيها مغلسا ويخرج منها مسفرا كما كان يفعله ﷺ فقوله موافق لفعله لا مناقض له وكيف يظن به المواظبة على فعل ما الأجر الأعظم في خلافه. المثال الرابع والستون: رد السنة الثابتة المحكمة الصريحة في امتداد وقت المغرب إلى سقوط الشفق كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ قال: "وقت صلاة الظهر ما لم تحضر صلاة العصر ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط نور الشفق ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس". وفي صحيحه أيضا عن أبي موسى أن سائلا سأل رسول الله ﷺ عن المواقيت فذكر الحديث وفيه "ثم أمره فأقام المغرب حين وجبت الشمس فلما كان في اليوم الثاني قال: ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق وفي لفظ: فصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق ثم قال: الوقت ما بين هذين" وهذا متأخر عن حديث جبريل لأنه كان بمكة وهذا قول وذلك فعل وهذا يدل على الجواز وذلك يدل على الاستحباب وهذا في الصحيح وذلك في السنن وهذا يوافق قوله ﷺ "وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي بعدها" وإنما خص منه الفجر بالإجماع فما عداها من الصلوات داخل في عمومه والفعل إنما يدل على الاستحباب فلا يعارض العام ولا الخاص. المثال الخامس والستون: رد السنة الصريحة المحكمة الثابتة في وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله وأنهم كانوا يصلونها مع النبي ﷺ ثم يذهب أحدهم إلى العوالي قدر أربعة أميال والشمس مرتفعة وقال أنس: صلى بنا رسول الله ﷺ العصر فأتاه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله إنا نريد أن ننحر جزورا لنا وإنا نحب أن تحضرها قال: نعم فانطلق وانطلقنا معه فوجد الجزور لم تنحر فنحرت ثم قطعت ثم طبخ منها ثم أكلنا منها قبل أن تغيب الشمس ومحال أن كون هذا بعد المثلين وفي صحيح مسلم عنه "وقت صلاة الظهر ما لم تحضر العصر" ولا معارض لهذه السنن لا في الصحة ولا في الصراحة والبيان فردت هذه السنن بالمجمل من قوله ﷺ "مثلكم ومثل أهل الكتاب قبلكم كمثل رجل استأجر أجراء فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط فعملت اليهود ثم قال: من يعمل لي إلى صلاة العصر على قيراط فعملت النصارى ثم قال: من يعمل لي إلى أن تغيب الشمس على قيراطين فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل أجرا فقال: هل ظلمتم من أجركم شيئا قالوا: لا قال: فذلكم فضلي أوتيه من أشاء" ويالله العجب أي دلالة في هذا على أنه لا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل مثلين بنوع من أنواع الدلالة وإنما يدل على أن صلاة العصر إلى غروب الشمس أقصر من نصف النهار إلى وقت العصر وهذا لا ريب فيه. المثال السادس والستون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في المنع من تخليل الخمر كما في صحيح مسلم عن أنس "سئل رسول الله ﷺ عن الخمر تتخذ خلا قال: لا" وفي المسند وغيره من حديث أنس قال: "جاء رجل إلى النبي ﷺ وفي حجره يتيم وكان عنده خمر حين حرمت الخمر فقال: يا رسول الله أصنعها خلا؟ قال: لا فصبها حتى سال الوادي" وقال أحمد: ثنا وكيع ثنا سفيان عن السدي عن أبي هريرة عن انس "أن أبا طلحة سأل النبي ﷺ عن أيتام ورثوا خمرا فقال: أهرقها فقال: أفلا نجعلها خلا؟ قال: لا" وروى الحاكم والبيهقي من حديث أنس أيضا قال: "كان في حجر أبي طلحة يتامى فاشترى لهم خمرا فلما أنزل الله تحريم الخمر أتى النبي ﷺ فذكر ذلك له فقال: أأجعله خلا؟ قال: لا قال: فأهرقه" وفي الباب عن أبي الزبير عن جابر وصح ذلك عن عمر ابن الخطاب ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف فردت بحديث مجمل لا يثبت وهو ما رواه الفرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن أم سلمة أنها كانت لها شاة تحلبها ففقدها النبي ﷺ فقال؛: ما فعلت بشاتك فقلت: ماتت قال: أفلا انتفعتم بإهابها قلت: إنها ميتة قال: فإن دباغها يحل كما يحل الخل الخمر قال: الحاكم تفرد به الفرج بن فضالة عن يحيى والفرج ممن لا يحتج بحديثه ولم يصح تحليل خل الخمر من وجه وقد فسر رواية الفرج فقال: يعني أن الخمر إذا تغيرت فصارت خلا حلت فعلى هذا التفسير الذي فسره راوي الحديث يرتفع الخلاف وقد قال الدارقطني: كان عبد الرحمن ابن مهدي لا يحدث عن فرج بن فضالة ويقول: حدث عن يحيى بن سعد الأنصاري أحاديث مقلوبة منكرة وقال البخاري: الفرج بن فضالة منكر الحديث. وردت بحديث واه من رواية مغيرة بن زياد عن أبي الزبير عن جابر يرفعه "خير خلكم خل خمركم" ومغيرة هذا يقال له أبو هشام المكفوف صاحب مناكير عندهم ويقال: إنه حدث عن عطاء بن أبي رباح وأبي الزبير بجملة من المناكير وقد حدث عن عبادة بن نسي بحديث غريب موضوع فكيف يعارض بمثل هذه الرواية الأحاديث الصحيحة المحفوظة عن رسول الله ﷺ في النهي عن تخليل الخمر ولم يزل أهل مدينة رسول الله ﷺ ينكرون ذلك قال الحاكم: سمعت أبا الحسن علي بن عيسى الحيري يقول: سمعت محمد بن إسحاق يقول: سمعت قتيبة بن سعيد يقول قدمت المدينة أيام مالك فتقدمت إلى قاض فقلت: عندك خل خمر فقال سبحان الله في حرم رسول الله ﷺ قال ثم قدمت بعد موت مالك فذكرت ذلك لهم فلم ينكر علي وأما ما روى عن علي من اصطباغه بخل الخمر وعن عائشة أنه لا بأس به فهو خل الخمر الذي تخللت بنفسها لا باتخاذها. المثال السابع والستون: رد السنة الصحيحة الصريحة في تسبيح المصلى إذا نابه شيء في صلاته كما في الصحيحين من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "التسبيح في الصلاة للرجال والتصفيق للنساء" وفي الصحيحين أيضا عن سهل بن سعد الساعدي "أن النبي ﷺ ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم" فذكر الحديث وقال في آخره: فقال النبي ﷺ: "مالي أراكم أكثرتم التصفيق؟ من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه وإنما التصفيق للنساء" وذكر البيهقي من حديث إبراهيم بن طهمان عن الأعمش عن ذكوان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "إذا استؤذن على الرجل وهو يصلي فإذنه التسبيح وإذا استؤذن على المرأة وهي تصلي فإذنها التصفيق" قال البيهقي: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات فردت هذه السنن بأنها معارضة لأحاديث تحريم الكلام في الصلاة وقد تعارض مبيح وحاظر فيقدم الحاظر والصواب أنه لا تعارض بين سنن رسول الله ﷺ بوجه وكل منها له وجه والذي حرم الكلام في الصلاة ومنع منه هو الذي شرع التسبيح المذكور وتحريم الكلام كان قبل الهجرة وأحاديث التسبيح بعد ذلك فدعوى نسخها بأحاديث تحريم الكلام محال ولا تعارض بينهما بوجه ما فإن "سبحان الله" ليس من الكلام الذي منع منه المصلي بل هو مما أمر به أمر إيجاب أو استحباب فكيف يسوى بين المأمور والمحظور وهل هذا إلا من أفسد قياس واعتبار. المثال الثامن والستون: رد السنة في إثبات سجدات المفصل والسجدة الأخيرة من سورة الحج كما روى أبو داود في السنن: حدثنا محمد بن عبد الرحيم البرقي ثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا نافع بن يزيدعن الحارث بن سعيد العتقي عن عبج الله بن منير عن عمرو بن العاص "أن النبي ﷺ أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان" تابعه محمد بن إسماعيل السلمي عن سعيد بن أبي مريم وقال ابن وهب: أنا ابن لهيعة عن مشرح بن عاهان عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ "فضلت سورة الحج بسجدتين فمن لم يسجد فيهما فلا يقرأهما" وحديث ابن لهيعة يحتج منه بما رواه عنه العبأدلة كعبد الله بن وهب وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن يزيد المقرى قال أبو زرعة: ابن لهيعة كان ابن المبارك وابن وهب يتبعان أصوله وقال عمرو بن علي: من كتب عنه قبل احتراق كتبه مثل ابن المبارك وابن المقرى أصح ممن كتب عنه بعد احتراقها وقال ابن وهب: كان ابن لهيعة صادقا وقد انتقى النسائي هذا الحديث من جملة حديثه وأخرجه واعتمده وقال: ما أخرجت من حديث ابن لهيعة قط إلا حديثا واحدا أخبرناه هلال ابن العلاء ثنا معافي بن سليمان عن موسى بن أعين عن عمرو بن الحارث عن ابن لهيعة فذكره. وقال ابن وهب: حدثني الصادق البار والله عبد الله بن لهيعة وقال الإمام حمد من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه وقال ابن عيينة: كان عند ابن لهيعة الأصول وعندنا الفروع وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: "ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة" وقال أحمد بن صالح الحافظ: "كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طالبا للعلم". وقال ابن حبان: كان صالحا لكنه يدلس عن الضعفاء ثم احترقت كتبه وكان أصحابنا يقولون: سماع من سمع منه قبل احتراق كتبه مثل العبأدلة ابن وهب وابن المبارك والمقرى والقعنبي فسماعهم صحيح وقد صح عن أبي هريرة أنه سجد مع النبي ﷺ في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وصح عنه ﷺ أنه سجد في النجم ذكره البخاري. فردت هذه السنن برأي فاسد وحديث ضعيف: أما الرأي فهو أن آخر الحج السجود فيها سجود الصلاة لاقتدانه بالركوع بخلاف الأولى فإن السجود فيها مجرد عن ذكر الركوع ولهذا لم يكن قوله تعالى يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين من مواضع السجدات بالاتفاق وأما الحديث الضعيف فما رواه أبو داود: ثنا محمد بن رافع ثنا أزهر بن القاسم ثنا أبو قدامة عن مطر الوراق عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي ﷺ "لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة". فأما الرأي فيدل على فساده وجوه: منها أنه مردود بالنص ومنها أن اقتران الركوع بالسجود في هذا الموضع لا يخرجه عن كونه موضع سجدة كما أن اقترانه بالعبادة التي هي أعم من الركوع لا يخرجه عن كونه سجدة وقد صح سجوده ﷺ في النجم وقد قرن السجود فيها بالعبادة كما قرنه بالعبادة في سورة الحج والركوع لم يزده إلا تأكيدا ومنها أكثر السجدات المذكورة في القرآن متناولة لسجود الصلاة فإن قوله تعالى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} يدخل فيه سجود المصلين قطعا وكيف لا وهو أجل السجود وأفرضه وكيف لا يدخل هو في قوله {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} وفي قوله {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وقد قال قبل {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى} ثم قال {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} فأمره بأن يفعل هذا الذي نهاه عنه عدو الله فإرادة سجود الصلاة بآية السجدة لا تمنع كونها سجدة بل تؤكدها وتقويها يوضحه أن مواضع السجدات في القرآن نوعان إخبار وأمر فالإخبار خبر من الله تعالى عن سجود مخلوقاته له عموما أو خصوصا فسن للتالي والسامع وجوبا أو استحبابا أن يتشبه بهم عند تلاوة آية السجدة أو سماعها وآيات الأوامر بطريق الأولى وهذا لا فرق فيه بين أمر وأمر فكيف يكون الأمر بقوله {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} مقتضيا للسجود دون الأمر بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} فالساجد إما متشبه بمن أخبر عنه أو ممتثل لما أمر به وعلى التقديرين يسن له السجود في آخر الحج كما يسن له السجود في أولها فلما سوت السنة بينهما سوى القياسالصحيح والاعتبار الحق بينهما وهذا السجود شرعه الله ورسوله عبودية عند تلاوة هذه الآيات واستماعها وقربة إليه وخضوعا لعظمته وتذللا بين يديه واقتران الركوع ببعض آياته مما يؤكد ذلك ويقويه لا يضعفه ويوهيه والله المستعان. وأما قوله تعالى {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} فإنما لم يكن موضع سجدة لأنه خبر خاص عن قول الملائكة لامرأة بعينها أن تديم العبادة لربها بالقنوت وتصلي له بالركوع والسجود فهو خبر عن قول الملائكة لها ذلك وإعلام من الله تعالى لنا أن الملائكة قالت ذلك لمريم فسياق ذلك غير سياق آيات السجدات. وأما الحديث الضعيف فإنه من رواية أبي قدامة واسمه الحارث بن عبيد قال الإمام أحمد رضي الله عنه: هو مضطرب الحديث وقال يحيى: ليس بشيء وقال النسائي: ليس بالقوي وقال الأزدي: ضعيف وقال ابن حبان: لا يحتج به إذا انفرد قلت: وقد أنكر عليه هذا الحديث وهو موضع الإنكار فإن أبا هريرة رضي الله عنه شهد سجوده ﷺ في المفصل في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ذكره مسلم في صحيحه وسجد معه حتى لو صح خبر أبي قدامة هذا لوجب تقديم خبر أبي هريرة عليه لأنه مثبت فمعه زيادة علم والله أعلم. المثال التاسع والستون: رد السنة الثابتة الصحيحة في سجود الشكر كحديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ "خرج نحو أحد فخر ساجدا فأطال السجود ثم قال: إن جبريل أتاني وبشرني فقال: إن الله تعالى يقول لك: من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه فسجدت لله تعالى شاكرا" وكحديث سعد بن أبي وقاص في سجوده ﷺ شاكرا لربه لما أعطاه ثلث أمته ثم سجد ثانية فأعطاه الثلث الآخر ثم سجد ثالثة فأعطاه الثلث الباقي وكحديث أبي بكر أن رسول الله ﷺ "كان إذا جاءه أمر يسر به خر ساجدا شكرا لله تعالى وأتاه بشير يبشره بظفر جند لهم على عدوهم فقام وخر ساجدا" وسجد كعب بن مالك لما بشر بتوبة الله عليه وسجد أبو بكر حين جاءه قتل مسيلمة الكذاب وسجد علي كرم الله وجهه حين وجد ذا الثدية في الخوارج الذين قتلهم ولا أعلم شيئا يدفع هذه السنن والآثار مع صحتها وكثرتها غير رأي فاسد وهو أن نعم الله سبحانه وتعالى لا تزال واصلة إلى عبده فلا معنى لتخصيص بعضها بالسجود وهذا من أفسد رأي وأبطله فإن النعم نوعان: مستمرة ومتجددة فالمستمرة شكرها بالعبادات والطاعات والمتجددة شرع شرع لها سجود الشكر شكرا لله عليها وخضوعا له وذلا في مقابلة فرحة النعم وانبساط النفس لها وذلك من أكبر أدوائها فإن الله سبحانه لا يحب الفرحين ولا الأشرين فكان دواء هذا الداء الخضوع والذل والانكسار لرب العالمين وكان سجود الشكر من تحصيل هذا المقصود ما ليس في غيره ونظير هذا السجود عند الآيات التي يخوف الله بها عباده كما في الحديث "إذا رأيتم آية فاسجدوا" وقد فزع النبي ﷺ عند رؤية انكساف الشمس إلى الصلاة وأمر بالفزع إلى ذكره ومعلوم أن آياته تعالى لم تزل مشاهدة معلومة بالحس والعقل ولكن تجددها يحدث للنفس من الرهبة والفزع إلى الله ما لا تحدثه الآيات المستمرة فتجدد هذه النعم في اقتضائها لسجود كتجدد تلك الآيات في اقتضائها للفزع إلى السجود والصلوات ولهذا لما بلغ فقيه الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس موت ميمونة زوج النبي ﷺ خر ساجدا فقيل له أتسجد لذلك فقال: قال رسول الله ﷺ "إذا رأيتم آية فاسجدوا" وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي ﷺ من بين أظهرنا فلو لم تأت النصوص بالسجود عند تجدد النعم لكان هو محض القياس ومقتضى عبودية الرغبة كما أن السجود عند الآيات مقتضى عبودية الرهبة وقد أثنى الله سبحانه على الذين يسارعون في الخيرات ويدعونه رغبا ورهبا ولهذا فرق الفقهاء بين صلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء بأن هذه الصلاة رهبة وهذه صلاة رغبة فصلوات الله وسلامه على من جاءت سنته وشريعته بأكمل ما جاءت به شرائع الرسل وسننهم وعلى آله. المثال السبعون: رد السنة الثابتة الصحيحة بجواز ركوب المرتهن للدابة المرهونة وشربه لبنها بنفقته عليها كما روى البخاري في صحيحه: ثنا محمد بن مقاتل أنا عبد الله أنا زكريا عن الشعبي عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته" إذا كان مرهونا وعن الذي يركب ويشرب النفقة وهذا الحكم من أحسن الأحاكم وأعدلها ولا أصلح للراهن منه وما عداه ففساده ظاهر فإن الراهن قد يغيب ويتعذر على المرتهن مطالبته بالنفقة التي تحفظ الرهن ويشق عليه أو يتعذر رفعه إلى الحاكم وإثبات غيبة الراهن وإثبات أن قدر نفقته عليه هي قدر حلبه وركوبه وطلبه منه الحكم له بذلك وفي هذا من العسر والحرج والمشقة ما ينافي الحنيفية السمحة فشرع الشارع الحكيم القيم بمصالح العبادللمرتهن أن يشرب لبن الرهن ويركب ظهره وعليه نفقته وهذا محض القياس لو لم تأت به السنة الصحيحة وهو يخرج على أصلين أحدهما: أنه إذا أنفق على الرهن صارت النفقة دينا على الراهن لأنه واجب أداه عنه ويتعسر عليه الإشهاد على ذلك كل وقت واستئذان الحاكم فجوز له الشارع استيفاء دينه من ظهر الرهن ودره وهذا مصلحة محضة لهما وهي بلا شك أولى من تعطيل منفعة ظهره وإراقة لبنه أو تركه يفسد في الحيوان أو يفسده حيث يتعذر الرفع إلى الحاكم لا سيما ورهن الشاة ونحوها إنما يقع غالبا بين أهل البوادي حيث لا حاكم ولو كان فلم يول الله ولا رسوله الحاكم هذا الأمر الأصل الثاني: أن ذلك معاوضة في غيبة أحد المعاوضين للحاجة المصلحة الراجحة وذلك أولى من الأخذ بالشفعة بغير رضا المشتري لأن الضرر في ترك هذه المعاوضة أعظم من الضرر في ترك الأخذ بالشفعة وأيضا فإن المرتهن يريد حفظ الوثيقة لئلا يذهب ماله وذلك إنما يحصل ببقاء الحيوان والطريق إلى ذلك إما النفقة عليها وذلك مأذون فيه عرفا كما هو مأذون فيه شرعا. وقد أجرى العرف مجرى النطق في أكثر من مائة موضع منها نقد البلد في المعاملات وتقديم الطعام إلى الضيف وجواز تناول اليسير مما يسقط من الناس من مأكول وغيره والشرب من خوابي السيل ومصانعه في الطرق ودخول الحمام وإن لم يعقد عقد الإجارة مع المحامي لفظا وضرب الدابة المستأجرة إذا حرنت في السير وإيداعها في الخان إذا قدم بلدة أو ذهب في حاجة ودفع الوديعة إلى من جرت العادة بدفعها إليه من امرأة أو خادم أو ولد وتوكيل الوكيل لما لا يباشره مثله بنفسه وجواز التخلي في دار من أذن له بالدخول إلى داره والشرب من مائه والاتكاء على الوسادة المنصوبة وأكل الثمرة الساقطة من الغصن الذي على الطريق وإذن المستأجر للدار لمن شاء من أصحابه أو أضيافه في الدخول والمبيت والثوى عنده والانتفاع بالدار وإن لم يتضمنهم عقد الإجارة لفظا اعتمادا على الإذن العرفي وغسل القميص الذي استأجره للبس مدة يحتاج فيها إلى الغسل ولو وكل غائبا أو حاضرا في بيع شيء والعرف قبض ثمنه ملك ذلك ولو اجتاز بحرث غيره في الطريق ودعته الحاجة إلى التخلي فيه فله ذلك إن لم يجد موضعا سواه إما لضيق الطريق أو لتتابع المارين فيها فكيف بالصلاة فيه والتيمم بترابه ومنها لو رأى شاة غيره تموت فذبحها حفظا لماليتها عليه كان ذلك أولى من تركها تذهب ضياعا وإن كان من جامدي الفقهاء من يمنع من ذلك ويقول هذا تصرف في ملك الغير ولم يعلم هذا اليابس أن التصرف في ملك الغير إنما حرمه الله لما فيه من الإضرار به وترك التصرف ههنا هو الإضرار. ومنها لو استأجر غلاما فوقعت الأكلة في طرفه فتيقن أنه إن لم يقطعه سرت إلى نفسه فمات جاز له قطعه ولا ضمان عليه ومنها لو رأى السيل يمر بدار جاره فبادر ونقب حائطه وأخرج متاعه فحفظه عليه جاز ذلك ولم يضمن نقب الحائط ومنها لو قصد العدو مال جاره فصالحه ببعضه دفعا عن بقيته جاز له ولم يضمن ما دفعه إليه ومنها لو وقعت في النار في دار جاره فهدم جانبا منها على النار لئلا تسري إلى بقيتها لم يضمن ومنها لو باعه صبرة عظيمة أو حطبا أو حجارة ونحو ذلك جاز له أن يدخل ملكه من الدواب والرجال ما ينقلها به وإن لم يأذن له في ذلك لفظا ومنها لو جذ ثماره أو حصد زرعه ثم بقي من ذلك ما يرغب عنه عادة جاز لغيره التقاطه وأخذه وإن لم يأذن فيه لفظا ومنها لو وجد هديا مشعرا منحورا ليس عنده أحد جاز له أن يقتطع منه ويأكل منه ومنها لو أتى إلى دار رجل جاز له طرق حلقه الباب عليه وإن كان تصرفا في بابه لم يأذن فيه لفظا ومنها الاستناد إلى جداره والاستظلال به ومنها الاستمداد من محبرته وقد أنكر الإمام أحمد على من استأذنه في ذلك. وهذا أكثر من أن يحصر وعليه يخرج حديث عروة بن الجعد البارقي حيث أعطاه النبي ﷺ دينارا يشتري له به شاة فاشترى شاتين بدينار فباع إحداهما بدينار وجاءه بالدينار والشاة الأخرى فباع وأقبض وقبض بغير إذن لفظي اعتماد امنه على الإذن العرفي الذي هو أقوى من اللفظي في أكثر المواضع ولا إشكال بحمد الله في هذا الحديث بوجه ما وإنما الإشكال في استشكاله فإنه جاز على محض القواعد كما عرفته. فصل الشرط العرفي كاللفظي ومن هذا الشرط العرفي كاللفظي وذلك كوجوب نقد البلد عند الإطلاق ووجوب الحلول حتى كأنه مشترط لفظا فانرف العقد بإطلاقه إليه وإن لم يقتضه لفظه ومنها السلامة من العيوب حتى يسوغ له الرد بوجود العيب تنزيلا لاشتراط سلامة المبيع عرفا منزلة اشتراطها لفظا ومنها وجوب وفاء المسلم في مكان العقد وإن لم يشترطه لفظا بناء على الشرط العرفي ومنها لو دفع ثوبه إلى من يعرف أنه يغسل أو يخيط بالأجرة أو عجينة لمن يخبزه أو لحما لمن يطبخه أو حبا لمن يطحنه أو متاعا لمن يحمله ونحو ذلك ممن نصب نفسه للأجرة على ذلك وجب له أجرة مثله وإن لم يشترط معه ذلك لفظا عند جمهور أهل العلم حتى عند المنكرين لذلك فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به بل ليس يقف الإذن فيما يفعله الواحد من هؤلاء وغيرهم على صاحب المال خاصة لأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض في الشفقة والنصيحة والحفظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولهذا جاز لأحدهم ضم اللقطة ورد الآبق وحفظ الضالة حتى إنه يحسب ما ينفقه على الضالة والآبق واللقطة وينزل إنفاقهعليها فنزله إنفاقه لحاجة نفسه لما كان حفظا لمال أخيه وإحسانا إليه فلو علم المتصرف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع وأن إحسانه يذهب باطلا في حكم الشرع لما أقدم على ذلك ولضاعت مصالح الناس ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضا وتعطلت حقوق كثيرة وفسدت أموال عظيمة ومعلوم أن شريعة من بهرت شريعته العقول وفاقت كل شريعة واشتملت على كل مصلحة وعطلت كل مفسدة تأبى ذلك كل الإباء وأين هذا من إجازة أبي حنيفة تصرف الفضولي ووقف العقود تحصيلا لمصلحة المالك ومنع المرتهن من الركوب والحلب بنفقته فيالله العجب يكون هذا الإحسان للراهن وللحيوان ولنفسه بحفظ الرهن حراما لا اعتبار به شرعا مع إذن الشارع فيه لفظا وإذن المالك عرفا وتصرف الفضولي معتبرا مرتبا عليه حكمه. هذا ومن المعلوم أنا في إبراء الذمم أحوج منا إلى العقود على أولاد الناس وبناتهم وإمائهم وعبيدهم ودورهم وأموالهم فالمرتهن محسن بإبراء ذمة المالك من الإنفاق على الحيوان مؤد لحق الله فيه ولحق مالكه ولحق الحيوان ولحق نفسه متناول ما أذن له فيه الشارع من العوض بالدر والظهر وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على الآباء إيتاء المراضع أجرهن بمجرد الإرضاع وإن لم يعقدوا معهن عقد إجارة فقال تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}. فإن قيل: فهذا ينتقص عليكم بما لو كان الرهن دارا فخرب بعضها فعمرها ليحفظ الرهن فإنه لا يستحق السكنى عندكم بهذه العمارة ولا يرجع بها. قيل: ليس كذلك بل يحتسب له بما أنفقه لأن فيه إصلاح الرهن ذكره القاضي وابنه وغيرهما وقد نص الإمام أحمد في رواية أبي حرب الجرجاني في رجل عمل في قناة رجل بغير إذنه فاستخرج الماء لهذا الذي عمل أجر في نفقته إذا عمل ما يكون منفعة لصاحب القناة هذا مع أن الفرق بين الحيوان والدار ظاهر لحاجة الحيوان إلى الإنفاق ووجوبه على مالكه بخلاف عمارة الدار فإن صح الفرق بطل السؤال وإن بطل الفرق ثبت الاستواء في الحكم. فإن قيل: في هذا مخالفة للأصول من وجهين أحدهما: أنه إذا أدى عن غيره واجبا بغير إذنه كان متبرعا ولم يلزمه القيام له بما أداه عنه الثاني: أنه لو لزمه عوضه فإنما يلزمه نظير ما أداه فأما ان يعاوض عليه بغير جنس ما أداه بغير اختياره فأصول الشرع تأبى ذلك. قيل: هذا هو الذي ردت به هذه السنة ولأجله تأولها من تأولها على أن المراد بها أن النفقة على المالك فإنه الذي يركب ويشرب وجعل الحديث دليلا على جواز تصرف الراهن في الرهن بالركوب والحلب وغيره ونحن نبين ما في هذين الأصلين من حق وباطل. فأما الأصل الأول فقد دل على فساده القرآن والسنة وآثار الصحابة والقياس الصحيح ومصالح العباد أما القرآن فقوله تعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقد تقدم تقرير الدلالة منه وقد اعترض بعضهم على هذا الاستدلال بأن المراد به أجورهن المستماه فإنه أمر لهم بوفائها لا أمر لهم بإيتاء ما لم يسموه من الأجرة ويدل عليه قوله تعالى {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} وهذا التعاسر إنما يكون حال العقد بسبب طلبها الشطط من الأجر أو حطها عن أجر المثل وهذا اعتراض فاسد فإنه ليس في الآية ذكر التسمية ولا يدل عليها بدلالة من الدلالات الثلاث أما اللفظيتان فظاهر وأما اللزومية فلانفكاك التلازم بين الأمر بإيتاء الأجر وبين تقدم تسميته وقد سمى الله سبحانه وتعالى ما يؤتيه العامل على عمله أجرا وإن لم يتقدم له تسمية كما قال تعالى عن خليله عليه السلام {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} وقال تعالى {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} ومعلوم أن الأجر ما يعود إلى العامل عوضا عن عمله فهو كالثواب الذي يثوب إليه أي يرجع من عمله وهذا ثابت سواء سمي أو لم يسم وقد نص الإمام أحمد رضي الله عنه على أنه إذا افتدى الأسير رجع عليه بما غرمه عليه ولم يختلف قوله فيه واختلف قوله فيمن أدى دين غيره عنه بغير إذنه فنص في موضع على أنه يرجع عليه فقيل له هو متبرع بالضمان فقال وإن كان متبرعا بالضمان ونص في موضع آخر على أنه لا يرجع فإنه قال: إذا لم يقل اقض عني ديني كان متبرعا ونص على أنه يرجع على السيد بنفقة عبده الآبق إذا رده وقد كتب عمر بن الخطاب إلى عامله في سبي العرب ورقيقهم وقد كان التجار اشتروه فكتب إليه أيما حر اشتراه التجار فاردد عليهم رءوس أموالهم وقد قيل إن جميع الفرق تقول بهذه المسألة وإن تناقضوا ولم يطردوها. فأبو حنيفة يقول: إذا قضي بعض الورثة دين الميت ليتوصل بذلك إلى أخذ حقه من التركة بالقسمة فإنه يرجع على التركة بما قضاه وهذا واجب قد أداه عن غيره بغير إذنه وقد رجع به ويقول إذا بنى صاحب العلو السفل بغير إذن المالك لزم الآخر غرامة ما يخصه وإذا أنفق المرتهن على الرهن في غيبة الراهن رجع بما أنفق وإذا اشترى اثنان من واحد عبدا بألف فغاب أحدهما فأدى الحاضر جميع الثمن ليستلم العبد كان له الرجوع. والشافعي يقول: إذا أعار عبد الرجل ليرهنه فرهنه ثم إن صاحب الرهن قضى الدين بغير إذن المستعير وافتك الرهن رجع الحق وإذا استاجر جمالا ليركبها فهرب الجمال فأنفق المستأجر على الجمال رجع بما أنفق وإذا ساقى رجلا على نخله فهرب العامل فاستأجر صاحب النخل من يقوم مقامه رجع عليه به واللقيط إذا أنفق عليه أهل المحلة ثم استفاد مالا رجعوا عليه وإن أذن له في الضمان فضمن ثم أدى الحق بغير إذنه رجع عليه. وأما المالكية والحنابلة فهم أعظم الناس قولا بهذا الأصل والمالكية أشد قولا به ومما يوضح ذلك أن الحنفية قالوا في هذه المسائل: إن هذه الصور كلها أحوجته إل استيفاء حقه أو حفظ ماله فلولا عمارة السفل لم يثبت العلو ولو لم يقض الوارث الغرماء لم يتمكن من أخذ حقه من التركة بالقسمة ولو لم يحفظ الرهن بالعلف لتلف محل الوثيقة ولو لم يستأجر على الشجر من يقوم مقام العامل لتعطلت الثمرة وحقه متعلق بذلك كله فإذا أنفق كانت نفقته ليتوصل إلى حقه بخلاف من أدى دين غيره فإنه لا حق له هناك يتوصل إلى استيفائه بالأداء فافترقا وتبين أن هذه القاعدة لا تلزمنا وأن من أدى عن غيره واجبا من دين أو نفقة على قريب أو زوجة فهو إما فضولي وهو جدير بأن يفوت عليه ما فوته على نفسه أو متفضل فحوالته على الله دون من تفضل عليه فلا يستحق مطالبته وزادت الشافعية وقالت: لما ضمن له المؤجر تحصيل منافع الجمال ومعلوم أنه لا يمكنه استيفاء تلك المنافع إلا بالعلف دخل في ضمانه لتلك المنافع إذنه له في تحصيلها بالإنفاق عليها ضمنا وتبعا فصار ذلك مستحقا عليه بحكم ضمانه عن نفسه لا بحكم ضمان الغير عنه. يوضحه أن المؤجر والمساقي قد علما أنه لا بد للحي من قوام ولا بد للنخيل من سقي وعمل عليها فكأنه قد حصل الإذن فيها في الإنفاق عرفا والإذن العرفي يجري مجرى الإذن اللفظي وشاهده ما ذكرتم من المسائل فيقال هذا من أقوى الحجج عليكم في مسألة علف المرتهن للرهن واستحقاقه للرجوع بما غرمه وهذا نصف المسافة وبقي نصفها الثاني وهو المعاوضة عليها بركوبه وشربه وهي أسهل المسافتين وأقربهما إذ غايتها تسليط الشارع له على هذه المعاوضة التي هي من مصلحة الراهن والمرتهن والحيوان وهي أولى من تسليط الشفيع على المعاوضة عن الشقص المشفوع لتكميل ملكه وانفراده به وهي أولى من المعاوضة في مسألة الظفر بغير اختيار من عليه الحق فإن سبب الحق فيها ليس ثابتا والآخذ ظالم في الظاهر ولهذا منعه النبي ﷺ من الأخذ وسماه خائنا بقوله "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" وأما ههنا فسبب الحق ظاهر وقد أذن في المعاوضة للمصلحة التي فيها فكيف تمنع هذه المعاوضة التي سبب الحق فيها ظاهر وقد أذن فيها الشارع وتجوز تلك المعاوضة التي سبب الحق فيها غير ظاهر وقد منع منها الشارع فلا نص ولا قياس. ومما يدل على أن من أدى عن غيره واجبا أنه يرجع عليه به قوله تعالى {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} وليس من جزاء هذا المحسن بتخليص من أحسن إليه بأداء دينه وفك أسره منه وحل وثاقه أن يضيع عليه معروفه وإحسانه وأن يكون جزاؤه منه بإضاعة ماله ومكافأته وقد قال النبي ﷺ: "من أسدى إليكم معروفا فكافئوه" وأي معروف فوق معروف هذا الذي افتك أخاه من أسر الدين وأي مكافأة أقبح من إضاعة ماله عليه وذهابه وإذا كانت الهدية التي هي تبرع محض قد شرعت المكافأة عليها وهي من أخلاق المؤمنين فكيف يشرع جواز ترك المكافآت على ما هو من أعظم المعروف وقد عقد الله سبحانه وتعالى الموالاة بين المؤمنين وجعل بعضهم أولياء بعض فمن أدى عن وليه واجبا كان نائبه فيه بمنزلة وكيله وولي من أقامه الشرع للنظر في مصالحه لضعفه أو عجزه. ومما يوضح ذلك أن الأجنبي لو أقرض رب الدين قدر دينه وأحاله به على المدين ملك ذلك وأي فرق شرعي أو معنوي بين أن يوفيه ويرجع به على المدين أو يقرضه ويحتال على المدين وهل تفرق الشريعة المشتملة على مصالح العباد بين الأمرين ولو تعين عليه ذبح هدي أو ضحية فذبحها عنه أجنبي بغير إذنه أجزأت وتأدي الواجب بذلك لم تكن ذبيحة غاصب وما ذاك إلا لكون الذبح قد وجب عليه هذا الواجب غيره وقام مقام تاديته هو بحكم النيابة عنه شرعا وليس الشأن في هذه المسألة لوضوحها واقتضاء أصول الشرع وفروعه لها وإنما الشأن فيمن عمل في مال غيره عملا بغير إذنه ليتوصل بذلك العمل إلى حقه أو فعله حفظا لمال المالك واحترازا له من الضياع فالصواب أنه يرجع عليه بأجرة عمله وقد نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه في عدة مواضع منها أنه إذا حصد زرعه في غيبته فإنه نص على أنه يرجع عليه بالأجرة وهذا من أحسن الفقه فإنه إذا مرض أو حبس أو غاب فلو ترك زرعه بلا حصاد لهلك وضاع فإذا علم من يحصده له أنه يذهب عليه عمله ونفقته ضياعا لم يقدم على ذلك وفي ذلك من إضاعة المال وإلحاق الضرر بالمالك ما تأباه الشريعة الكاملة فكان من أعظم محاسنها أن أذنت للأجنبي في حصاده والرجوع على مالكه بما أنفق عليه حفظا لما له ومال المحسن إليه وفي خلاف ذلك إضاعة لماليهما أو مال أحدهما ومنا ما نص عليه فيمن عمل في قناة رجل بغير إذنه فاستخرج الماء قال هذا الذي عمل نفقته ومنها لو انكسرت سفينته فوقع متاعه في البحر فخلصه رجل فإنه لصاحبه وله عليه أجرة مثله وهذا أحسن من أن يقال: لا أجرة له فلا تطيب نفسه بالتعرض للتلف والمشقة الشديدة ويذهب عمله باطلا أو يذهب مال الآخر ضائعا وكل منهما فساد محض والمصلحة في خلافه ظاهرة والمؤمنون يرون قبيحا أن يذهب عمل مثل هذا ضائعا ومال هذا ضائعا ويرون من أحسن الحسن أن يسلم مال هذا وينجح سعي هذا والله الموفق. المثال الحادي والسبعون: رد السنة الثابتة الصريحة المحكمة في صحة ضمان دين الميت الذي لم يخلف وفاء كما في الصحيحين عن أبي قتادة قال: "أتى رسول الله ﷺ بجنازة ليصلى عليها فقال: أعليه دين فقالوا: نعم ديناران فقال: أترك لهما وفاء؟ قالوا: لا قال: صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله فصلى عليه" فردت هذه السنة برأي لا يقاومها وهو أن الميت قد خربت ذمته فلا يصح ضمان شيء خراب في محل خراب بخلاف الحي القادر فإن ذمته بصدد العمارة فيصح ضمان دينه وإن لم يكن له وفاء في الحال وأما إذا خلف وفاء فإنه يصح الضمان في الحال تنزيلا لذمته بما خلفه من الوفاء منزلة الحي القادر قالوا: وأما الحديث فإنما هو إخبار عن ضمان متقدم على الموت فهو إخبار منه بالتزام سابق لا إنشاء للالتزام حينئذ وليس في ذلك ما ترد به السنة الصريحة ولا يصح حملها على الإخبار لوجوه أحدها أن في بعض ألفاظ الحديث "فقال أبو قتادة: أنا الكفيل به يا رسول الله فصلى عليه رسول الله ﷺ" رواه النسائي بإسناد صحيح. الثاني: أن في بعض طرق البخاري "فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعلي دينه" فقوله: "وعلي دينه" كالصريح في الالتزام أو صريح فيه فإن هذه الواو للاستئناف وليس قبلها ما يصح أن يعطف ما بعدها عليه كما لو قال صل عليه وأنا ألتزم ما عليه أو وأنا ملتزم ما عليه الثالث: أن الحكم لو اختلف لقال له النبي ﷺ هل ضمنت ذلك في حياته أو بعد موته ولا سيما فإن الظاهر منه الإنشاء وأدنى الأحوال أن يحتملهما على السواء فإن كان أحدهما باطلا في الشرع والآخر صحيحا فكيف يقره على قول محتمل لحق وباطل ولم يستفصله عن مراده به الرابع: أن القياس يقتضي صحة الضمان وإن لم يخلف وفاء فإن من صح ضمان دينه إذا خلف وفاء صح ضمانه وإن لم يكن له مال كالحي وأيضا فمن صح ضمان دينه حيا صح ضمان دينه ميتا وأيضا فإن الضمان لا يوجب الرجوع وإنما يوجب مطالبة رب الدين للضامن فلا فرق بين أن يخلف الميت وفاء أو لم يخلفه وأيضا فالميت أحوج إلى ضمان دينه من الحي لحاجته إلى تبريد جلده ببراءة ذمته وتخليصه من ارتهانه بالدين وأيضا فإن ذمة الميت وإن خربت من وجه وهو تعذر مطالبته لم تخرب من جهة بقاء الحق فيها وقد قال النبي ﷺ ليس من ميت يموت إلا وهو مرتهن بدينه ولا يكون مرتهنا وقد خربت ذمته وأيضا فإنه لو خربت ذمته لبطل الضمان بموته فإن الضامن فرعه وقد خربت ذمة الأصل فلما استديم الضمان ولم يبطل بالموت علم أن الضمان لا ينافي الموت فإنه لو نافاه ابتداء لنافاه استدامة فإن هذا من الأحاكم التي لا يفرق فيها بين الدوام والابتداء لا تحاد سبب الابتداء والدوام فيها فظهر أن القياس المحض مع السنة الصحيحة والله الموفق. المثال الثاني والسبعون: ترك السنة الثابتة الصحيحة الصريحة المحكمة في جمع التقديم والتأخير بين الصلاتين للعذر كحديث أنس كان رسول الله ﷺ إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما" وفي لفظ له "كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل وقت العصر ثم يجمع بينهما" وهو في الصحيحين وكقول معاذ بن جبل: "كان رسول الله ﷺ في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها مع العصر فيصليهما جميعا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب" وهو في السنن والمسند وإسناده صحيح وعلته واهية وكقول ابن عباس: "كان النبي ﷺ إذا زاغت الشمس وهو في منزلة جمع بين الظهر والعصر قبل ان يركب وإذا لم تزغ في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينه وبين العشاء وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كان العشاء نزل فجمع بينهما" وهذا متابع لحديث معاذ وفي بعض طرق هذا الحديث "وإذا سافر قبل أن تزول الشمس أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر" وكقول ابن عمر وقد أخر المغرب حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما ثم أخبر أن رسول الله ﷺ "كان يفعل ذلك إذ جد به السير". كل هذه سنن في غاية الصحة والصراحة ولا معارض لها فردت بأنها أخبار آحاد وأوقات الصلاة ثابتة بالتواتر كحديث إمامة جبريل للنبي ﷺ وصلاته به كل صلاة في وقتها ثم قال: "الوقت ما بين هذين" فهذا في أول الأمر بمكة وهكذا فعل النبي ﷺ بالسائل في المدينة سواء صلى به كل صلاة في أول وقتها وآخره وقال: "الوقت ما بين هذين" وقال في حديث عبد الله بن عمرو "وقت صلاة الظهر ما لم تحضر العصر ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط نور الشفق ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل" وقال "وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي تليها" ويكفي للسائل وقد سأله عن المواقيت ثم بينها له بفعله "الوقت فيما بين هذين" فهذا بيان بالقول والفعل وهذه أحاديث محكمة صحيحة صريحة في تفصيل الأوقات مجمع عليها بين الأمة وجميعهم احتجوا بها في أوقات الصلاة فقدمتم عليها أحاديث مجملة محتملة في الجمع غير صريحة فيه لجواز أن يكون المراد بها الجمع في الفعل وأن يراد بها الجمع في الوقت فكيف يترك الصريح المبين للمجمل المحتمل وهل هذا إلا ترك للمحكم وأخذ بالمتشابه وهو عين ما أنكرتموه في هذه الأمثلة. فالجواب أن يقال: الجميع حق فإنه من عند الله وما كان من عند الله فإنه لا يختلف فالذي وقت هذه المواقيت وبينها بقوله وفعله هو الذي شرع الجمع بقوله وفعله فلا يؤخذ ببعض السنة ويترك بعضها والأوقات التي بينها النبي ﷺ بقوله وفعله نوعان بحسب حال أربابها أوقات السعة والرفاهية وأوقات العذر والضرورة ولكل منها أحكام تخصها وكما أن واجبات الصلاة وشروطها تختلف باختلاف القدرة والعجز فهكذا أوقاتها وقد جعل النبي ﷺ وقت النائم والذاكر حين يستيقظ ويذكر أي وقت كان وهذا غير الأوقات الخمسة وكذلك جعل أوقات المعذورين ثلاثة وقتين مشتركين ووقتا مختصا فالوقتان المشتركان لأرباب الأعذار هما أربعة لأرباب الرفاهية ولهذا جاءت الأوقات في كتاب الله نوعين خمسة وثلاثة في نحو عشر آيات من القرآن فالخمسة لأهل الرفاهية والسعة والثلاثة لأرباب الأعذار وجاءت السنة بتفصيل ذلك وبيانه وبيان أسبابه فتوافقت دلالة القرآن والسنة والاعتبار الصحيح الذي هو مقتضى حكمة الشريعة وما اشتملت عليه من المصالح فأحاديث الجمع مع أحاديث الإفراد بمنزلة أحاديث الأعذار والضرورات مع أحاديث الشروط والواجبات فالسنة يبين بعضها بعضا لا يرد بعضها ببعض ومن تأمل أحاديث الجمع وجدها كلها صريحة في جمع الوقت لا في جمع الفعل وعلم أن جمع الفعل اشق وأصعب من الإفراد بكثير فإنه ينتظر بالرخصة أن يبقى من وقت الأولى قدر فعلها فقط بحيث إذا سلم منها دخل وقت الثانية فأوقع كل واحدة منهما في وقتها وهذا أمر في غاية العسر والحرج والمشقة وهو مناف لمقصود الجمع وألفاظ السنة الصحيحة الصريحة ترده كما تقدم وبالله التوفيق. المثال الثالث والسبعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الوتر بخمس متصلة وسبع متصلة محديث أم سلمة "كان رسول الله ﷺ يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام" رواه الإمام أحمد وكقول عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله ﷺ يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس إلا في آخرهن" متفق عليه وكحديث عائشة رضي الله عنها أنه ﷺ "كان يصلي من الليل تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعناه ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة فلما أسن رسول الله ﷺ وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنعه في الأولى" وفي لفظ عنها "فلما أسن رسول الله ﷺ وأخذه اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة" وفي لفظ صلى "سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن" وكلها أحاديث صحاح صريحة لا معارض لها فردت هذه بقوله ﷺ "صلاة الليل مثنى مثنى" وهو حديث صحيح ولكن الذي قاله هو الذي أوتر بالتسع والسبع والخمس وسننه كلها حق يصدق بعضها بعضا فالنبي ﷺ أجاب السائل له عن صلاة الليل بأنها مثنى مثنى ولم يسأله عن الوتر وأما السبع والخمس والتسع والواحدة فهي صلاة الوتر والوتر اسم للواحدة المنفصلة مما قبلها وللخمس والسبع والتسع والتسع المتصلة كالمغرب اسم للثلاث المتصلة فإن انفصلت الخمس والسبع بسلامين كالإحدى عشرة كان الوتر اسما للركعة المفصولة وحدها كما قال النبي ﷺ "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشى الصبح أوتر بواحدة توتر له ما صلى" فاتفق فعله ﷺ وقوله وصدق بعضه بعضا وكذلك يكون ليس إلا وإن حصل تناقض فلابد من أحد أمرين: إما أن يكون أحد الحديثين ناسخا للآخر أو ليس من كلام رسول الله ﷺ فإن كان الحديثان من كلامه وليس أحدهما منسوخا فلا تناقض ولا تضاد هناك البتة وإنما يؤتى من يؤتى هناك من قبل فهمه وتحكيمه آراء الرجال وقواعد المذهب على السنة فيقع الاضطراب والتناقض والاختلاف والله المستعان. في تغير الفتوى واختلافها يحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله ص أتم دلالة وأصدقها وهي نوره الذي به أبصر المبصرون وهداه الذي به اهتدى المهتدون وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل فهي قرة العيون وحياة القلوب ولذة الأرواح فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم وهي العصمة للناس وقوام العالم وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقى من رسومها فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة. الإنكار له شروط المثال الأول أن النبي ﷺ شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وان كان الله يبغضه ويمقت أهله وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر وقد استأذن الصحابة رسول الله ﷺ في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا أفلا نقاتلهم فقال: "لا ما أقاموا الصلاة" وقال: "من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدا من طاعته" ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو اكبر منه فقد كان رسول الله ﷺ يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء. أربع درجات للإنكار فإنكار المنكر أربع درجات الأولى أن يزول ويخلفه ضده الثانية أن يقل وإن لم يزل بجملته الثالثة أن يخلفه ما هو مثله الرابعة أن يخلفه ما هو شر منه فالدرجتان الأوليان مشروعتان والثالثة موضع اجتهاد والرابعة محرمة. فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد وإلا كان تركهم على ذلك خيرا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك فكان ما هم فيه شاغلا لهم عن ذلك وكما إذا كان الرجل مشتغلا بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى وهذا باب واسع. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه وقلت له إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم. فصل النهي عن قطع الأيدي في الغزو المثال الثاني أن النبي ﷺ: "نهى أن تقطع الأيدي في الغزو" رواه أبو داود فهذا حد من حدود الله تعالى وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عله ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبا كما قاله عمرو أبو الدرداء وحذيفة وغيرهم وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام على ارض العدو وذكرها أبو القاسم الخرقي في مختصره فقال لا يقام الحد على مسلم في أرض العدو وقد أتى بشر بن أرطاة برجل من الغزاة قد سرق مجنة فقال لولا أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لا تقطع الأيدي في الغزو لقطعت يدك"رواه أبو داود وقال أبو محمد المقدسي وهو إجماع الصحابة. روى سعيد بن منصور في سننه بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار وعن أبي الدرداء مثل ذلك. وقال علقمة: كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان وعلينا الوليد بن عقبة فشرب الخمر فأردنا أن نحده فقال حذيفة أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم. وأتى سعد بن أبي وقاص بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر فأمر به إلى القيد فلما التقى الناس قال أبو محجن. كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنا ** وأترك مشدودا علي وثاقيا. فقال لابنة حفصة امرأة سعد أطلقيني ولك والله على إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد فإن قتلت استرحتم مني قال فحلته حتى التقى الناس وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس قال وصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى الناس واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء ثم أخذ رمحا ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم وجعل الناس يقولون هذا ملك لما يرونه يصنع وجعل سعد يقول الصبر صبر البلقاء والظفر ظفر أبي محجن وأبو محجن في القيد فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد فأخبرت ابنة حفصة سعدا بما كان من أمره فقال سعد لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلاهم فخلى سبيله فقال أبو محجن قد كنت أشربها إذ يقام على الحد وأطهر منها فأما إذ بهرجتني فوالله لا أشربها أبدا وقوله إذ بهرجتني أي أهدرتني بإسقاط الحد عني ومنه بهرج دم ابن الحارث أي أبطله وليس في هذا ما يخالف نصا ولا قياسا ولا قاعدة من قواعد الشرع ولا إجماعا بل لو ادعى انه إجماع الصحابة كان أصوب. قال الشيخ في المغني: وهذا اتفاق لم يظهر خلافه. قلت وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة إما من حاجة المسلمين إليه أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة كما يؤخر عن الحامل والمرضع وعن وقت الحر والبرد والمرض فهذا تأخير لمصلحة المحدود فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى. فإن قيل فما تصنعون بقول سعد والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلاهم فأسقط عنه الحد؟ قيل قد يتمسك بهذا من يقول لا حد على مسلم في دار الحرب كما يقوله أبو حنيفة ولا حجة فيه والظاهر أن سعدا رضي الله عنه اتبع في ذلك سنة الله تعالى فإنه لما رأى من تأثير أبي محجن في الدين وجهاده وبذله نفسه لله ما رأى درأ عنه الحد لأن ما أتى به من الحسنات غمرت هذه السيئة الواحدة وجعلتها كقطرة نجاسة وقعت في بحر ولا سيما وقد شام منه مخايل التوبة النصوح وقت القتال إذ لا يظن مسلم إصراره في ذلك الوقت الذي هو مظنة القدوم على الله وهو يرى الموت وأيضا فإنه بتسليمه نفسه ووضع رجله في القيد اختيارا قد استحق أن يوهب له حده كما قال النبي ﷺ للرجل الذي قال له يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي فقال هل صليت معنا هذه الصلاة قال نعم قال اذهب فإن الله قد غفر لك حدك وظهرت بركة هذا العفو. والإسقاط في صدق توبته فقال والله لا أشربها أبدا وفي رواية أبد الأبد وفي رواية قد كنت آنف أن اتركها من أجل جلداتكم فأما إذا تركتموني فوالله لا أشربها أبدا وقد يريء النبي ﷺ مما صنع خالد ببني جذيمة وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" ولم يؤاخذه به لحسن بلائه ونصره للإسلام. التائب يسقط عنه الحد ومن تأمل المطابقة بين الأمر والنهي والثواب والعقاب وارتباط أحدهما بالآخر علم فقه هذا الباب وإذا كان الله لا يعذب تائبا فهكذا الحدود لا تقام على تائب وقد نص الله على سقوط الحد عن المحاربين بالتوبة التي وقعت قبل القدرة عليهم مع عظيم جرمهم وذلك تنبيه على سقوط ما دون الحراب بالتوبة الصحيحة بطريق الأولى وقد روينا في سنن النسائي من حديث سماك عن علقمة ابن وائل عن أبيه أن امرأة وقع عليها في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها ثم مر عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه وسبقهم الآخر فجاءوا به يقودونه إليها فقال: أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر قال: فأتوا به نبي الله ﷺ فأخبرته انه الذي وقع عليها وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد فقال: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني فقالت: كذب هو الذي وقع علي قال النبي صلى اله عليه وآله وسلم: "نطلقوا به فارجموه" فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل فاعترف فاجتمع ثلاثة عند رسول الله ﷺ الذي وقع عليها والذي أغاثها والمرأة فقال: "أما أنت فقد غفر لك وقال للذي أغاثها قولا حسنا" فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنى فأبى رسول الله ﷺ فقال: "لأنه قد تاب إلى الله" رواه عن محمد ابن يحيى بن كثير الحراني ثنا عمر بن حماد بن طلحة حدثنا أسباط بن نصر عن سماك وليس فيه بحمد الله إشكال. الأخذ بالقرائن وشواهد الأحوال فإن قيل فكيف أمر رسول الله ﷺ برجم المغيث من غير بينة ولا إقرار؟ قيل هذا من أدل الدلائل على اعتبار القرائن والأخد بشواهد الأحوال في التهم وهذا يشبه إقامة الحدود بالرائحة والقيء كما اتفق عليه الصحابة وإقامة حد الزنا بالحبل كما نص عليه عمر وذهب إليه فقهاء أهل المدينة وأحمد في ظاهر مذهبه وكذلك الصحيح أنه يقام الحد على المتهم بالسرقة إذا وجد المسروق عنده فهذا الرجل لما أدرك وهو يشتد هربا وقالت المرأة هذا هو الذي فعل بي وقد اعترف بأنه دنا منها وأتى إليها وادعى أنه كان مغيثا لأمريبا ولم ير أولئك الجماعة غيره كان في هذا أظهر الأدلة على أنه صاحبها وكان الظن المستفاد من ذلك لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البينة واحتمال الغلط وعداوة الشهود كاحتمال الغلط أو عداوة المرأة ههنا بل ظن عداوة المرأة في هذا الوضع في غاية الاستبعاد فنهاية الأمر أن هذا لوث ظاهر لا يستبعد ثبوت الحد بمثله شرعا كما يقتل في القسامة باللوث الذي لعله دون هذا في كثير من المواضع فهذا الحكم من أحسن الأحكام وأجراها على قواعد الشرع والأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينات والاقارير وشواهد الأحوال وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة ولا تنضبط أمر لا يقدح في كونها طرقا وأسبابا للأحكام والبينة لم تكن موجبة بذاتها للحد وإنما ارتباط الحد بها ارتباط المدلول بدليله فإن كان هناك دليل يقاومها أو أقوى منها لم يلغه الشارع وظهور الأمر بخلافه لا يقدح في كونه دليلا كالبينة والإقرار وأما سقوط الحد عن المعترف فإذا لم يتسع له نطاق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأحرى أن لا يتسع له نطاق كثير من الفقهاء ولكن اتسع له نطاق الرءوف الرحيم فقال إنه قد تاب إلى الله وأبى أن يحده ولا ريب أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعا واختيارا خشية من الله وحده وإنقاذا لرجل مسلم من الهلاك وتقديم حياة أخيه على حياته واستسلامه للقتل اكبر من السيئة التي فعلها فقاوم هذا الدواء لذلك الداء وكانت القوة صالحة فزال المرض وعاد القلب إلى حال الصحة فقيل لا حاجة لنا بحدك وإنما جعلناه طهرة ودواء فإذا تطهرت بغيره فعفونا يسعك فأي حكم أحسن من هذا الحكم وأشد مطابقة للرحمة والحكمة والمصلحة وبالله التوفيق. وقد روينا في سنن النسائي من حديث الأوزاعي ثنا أبو عمار شداد قال حدثني أبو أمامة أن رجلا أتى النبي ﷺ فقال يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي فأعرض عنه ثم قال إني أصبت حدا فأقمه علي فأعرض عنه ثم قال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي فأعرض عنه فأقيمت الصلاة فلما سلم رسول الله ﷺ قال يا رسول الله إنى أصبت حدا فأقمه علي قال: "هل توضأت حين أقبلت" قال: نعم قال: "هل صليت معنا حين صلينا" قال: نعم قال: "اذهب فإن الله قد عفا عنك" وفي لفظ إن الله قد غفر لك ذنبك أو حدك ومن تراجم النسائي على هذا الحديث من اعترف بحد ولم يسمه وللناس فيه ثلاث مسالك هذا أحدها والثاني أنه خاص بذلك الرجل والثالث سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة عليه وهذا أصح المسالك. فصل سقوط حد السرقة أيام المجاعة المثال الثالث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسقط القطع عن السارق في عام المجاعة قال السعدي حدثنا هارون بن إسماعيل الخراز ثنا علي بن المبارك ثنا يحيى بن أبي كثير حدثني حسان بن زاهر أن ابن حدير حدثه عن عمر قال لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة قال السعدي سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال العذق النخلة وعام سنة المجاعة فقلت لأحمد تقول به فقال إي لعمري قلت إن سرق في مجاعة لا تقطعه فقال لا إذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة. قال السعدي وهذا على نحو قضية عمر في غلمان حاطب ثنا أبو النعمان عارم ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن حاطب أن غلمة لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة فأتى بهم عمر فأقروا فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال له إن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة وأقروا على أنفسهم فقال عمر يا كثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم فلما ولي بهم ردهم عمر ثم قال أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم وايم الله إذ لم أفعل لاغرمنك غرامة توجعك ثم قال يا مزني بكم أريدت منك ناقتك قال بأربعمائة قال عمر اذهب فأعطه ثمانمائة. وذهب أحمد إلى موافقة عمر في الفصلين جميعا ففي مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها السعدي بكتاب سماه المترجم قال سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يحمل الثمر من أكمامه فقال فيه الثمن مرتين وضرب نكال وقال وكل من درأنا عنه الحد والقود أضعفنا عليه الغرم وقد وافق أحمد على سقوط القطع في المجاعة الأوزاعي وهذا محض القياس ومقتضي قواعد الشرع فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه ويجب على صاحب المال بذل ذلك له إما بالثمن أو مجانا على الخلاف في ذلك والصحيح وجوب بذله مجانا لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء بل إذا وازنت بين هذه الشبهة وبين ما يذكرونه ظهر لك التفاوت فأين شبهة كون المسروق مما يسرع إليه الفساد وكون أصله على الإباحة كالماء وشبهة القطع به مرة وشبهة دعوى ملكه بلا بينة وشبهة إتلافه في الحرز بأكل أو احتلاب من الضرع وشبهة نقصان ماليته في الحرز بذبح أو تحريق ثم إخراجه وغير ذلك من الشبه الضعيفة جدا إلى هذه الشبهة القوية لاسيما وهو مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون ولا يتميز المستغنى منهم والسارق لغير حاجة من غيره فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه فدرئ نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغن عن السرقة قطع. فصل صدقة الفطر حسب قوت المخرجين المثال الرابع أن النبي ﷺ فرض صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب أو صاعا من أقط وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك فإنما عليهم صاع من قوتهم كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين أو غير ذلك من الحبوب فإن كان قوتهم من غير الحبوب كاللبن واللحم والسمك أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنا ما كان هذا قول جمهور العلماء وهو الصواب الذي لا يقال بغيره إذ المقصود سد خلة المساكين يوم العيد ومواساتهم من جنس ما يقتاته أهل بلدهم وعلى هذا فيجزئ إخراج الدقيق وان لم يصح فيه الحديث وأما إخراج الخبز والطعام فإنه وإن كان أنفع للمساكين لقلة المؤنة والكلفة فيه فقد يكون الحب أنفع لهم لطول بقائه وأنه يتأتى منه مالا يتأتى من الخبز والطعام ولا سيما إذا كثر الخبز والطعام عند المسكين فإن يفسد ولا يمكنه حفظه وقد يقال لا اعتبار بهذا فإن المقصود إغناؤهم في ذلك اليوم العظيم عن التعرض للسؤال كما قال النبي ﷺ: "أغنوهم في هذا اليوم عن المسألة" وإنما نص على الأنواع المخرجة لأن القوم لم يكونوا يعتادون اتخاذ الأطعمة يوم العيد بل كان قوتهم يوم العيد كقوتهم سائر السنة ولهذا لما كان قوتهم يوم عيد النحر من لحوم الأضاحي أمروا أن يطعموا منها القانع والمعتر فإذا كان أهل بلد أو محلة عادتهم اتخاذ الأطعمة يوم العيد جاز لهم بل يشرع لهم أن يواسوا المساكين من أطعمتهم فهذا محتمل يسوغ القول به والله أعلم. فصل لا يتعين في المصراة رد صاع من تمر المثال الخامس: أن النبي ﷺ نص في المصراة على رد صاع من تمر بدل اللبن فقيل هذا حكم عام في جميع الأمصار حتى في المصر الذي لم يسمع أهله بالتمر قط ولا رأوه فيجب إخراج قيمة الصاع في موضع التمر ولا يجزئهم إخراج صاع من قوتهم وهذا قول أكثر الشافعية والحنابلة وجعل هؤلاء التمر في المصراة كالتمر في زكاة التمر لا يجزى سواه فجعلوه تعبدا فعينوه اتباعا للفظ النص وخالفهم آخرون فقالوا بل يخرج في كل موضع صاعا من قوت ذلك البلد الغالب فيخرج في البلاد التي قوتهم البر صاعا من بر وإن كان قوتهم الأرز فصاعا من أرز وإن كان الزبيب والتين عندهم كالتمر في موضعه أجزأ صاع منه وهذا هو الصحيح وهو اختيار أبي المحاسن الروياني وبعض أصحاب أحمد وهو الذي ذكره أصحاب مالك قال القاضي أبو الوليد روى ابن القاسم أن الصاع يكون من غالب قوت البلد قال صاحب الجواهر بعد حكاية ذلك ووجهه انه ورد في ألفاظ هذا الحديث صاعا من طعام فيحمل تعيين صاع التمر في الروايه المشهورة على أنه غالب قوت ذلك البلد انتهى. ولا ريب أن هذا أقرب إلى مقصود الشارع ومصلحة المتعاقدين من إيجاب قيمة صاع من التمر في موضعه والله أعلم. وكذلك حكم ما نص عليه الشارع من الأعيان التي يقوم غيرها مقامها من كل وجه أو يكون أولى منها كنصه على الأحجار في الاستجمار ومن المعلوم أن الخرق والقطن والصوف أولى منها بالجواز وكذلك نصه على التراب في الغسل من ولوغ الكلب والاشنان أولى منه. هذا فيما علم مقصود الشارع منه وحصول ذلك المقصود على أتم الوجوه بنظيره وما هو أولى منه فصل طواف الحائض بالبيت المثال السادس أن النبي ﷺ منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهر وقال اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت فظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان ولم يفرق بين حال القدرة والعجز ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك وتمسك بظاهر النص ورأى منافاة الحيض للطواف كمنافاته للصلاة والصيام إذ نهى الحائض عن الجميع سواء ومنافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاته لعبادة الصلاة ونازعهم في ذلك فريقان أحدهما صحح الطواف مع الحيض ولم يجعلوا الحيض مانعا من صحته بل جعلوا الطهارة واجبة تجبر بالدم ويصح الطواف بدونها كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أنصهما عنه وهؤلاء لم يجعلوا ارتباط الطهارة بالطواف كارتباطها بالصلاة ارتباط الشرط بالمشروط بل جعلوها واجبة من واجباته وارتباطها به كارتباط واجبات الحج به يصح فعله مع الإخلال بها ويجبرها الدم والفريق الثاني جعلوا وجوب الطهارة للطواف واشتراطها بمنزلة وجوب السترة واشتراطها بل بمنزلة سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز قالوا وليس اشتراط الطهارة للطواف أو وجوبها له بأعظم من اشتراطها للصلاة فإذا سقطت بالعجز عنها فسقوطها في الطواف بالعجز عنها أولى وأحرى. قالوا: وقد كان في زمن النبي ﷺ وخلفائه الراشدين تحتبس أمراء الحج للحيض حتى يطهرن ويطفن ولهذا قال الني ﷺ في شأن صفية وقد حاضت أحابستنا هي قالوا إنها قد أفاضت قال فلتنفر إذا وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها يمكنها الطواف بها فأما في هذه الأزمان التي يتعذر إقامة الركب لآجل الحيض فلا تخلو من ثمانية أقسام أحدها أن يقال لها أقيمي بمكة وإن رحل الركب حتى تطهري وتطوفي وفي هذا من الفساد وتعريضها للمقام وحدها في بلد الغربة مع لحوق غاية الضرر لها ما فيه الثاني أن يقال يسقط طواف الإفاضة للعجز عن شرطه الثالث أن يقال إذا علمت أو خشيت مجئ الحيض في وقته جاز لها تقديمه على وقته الرابع أن يقال إذا كانت تعلم بالعادة أن حيضها يأتي في أيام الحج وأنها إذا حجت أصابها الحيض هناك سقط عنها فرضه حتى تصير آيسة وينقطع حيضها بالكلية الخامس أن يقال بل تحج فإذا حاضت ولم يمكنها الطواف ولا المقام رجعت وهي على إحرامها تمتنع من النكاح ووطء الزوج حتى تعود إلى البيت فتطوف وهي طاهرة ولو كان بينها وبينه مسافة سنين ثم إذا أصابها الحيض في سنة العود رجعت كما هي ولا تزال كذلك كل عام حتى يصادفها عام تطهر فيه السادس أن يقال بل تتحلل إذا عجزت عن المقام حتى تطهر كما يتحلل المحصر مع بقاء الحج في ذمتها فمتى قدرت على الحج لزمها ثم إذا أصابها ذلك أيضا تحللت وهكذا أبدا حتى يمكنها الطواف طاهرا السابع أن يقال يجب عليها أن تستنيب من يحج عنها كالمعضوب وقد أجزأ عنها الحج وإن انقطع بعد ذلك الثامن أن يقال بل تفعل ما تقدر عليه من مناسك الحج ويسقط عنها ما تعجز عنه من الشروط والواجبات كما يسقط عنها طواف الوداع بالنص وكما يسقط عنها فرض السترة إذا شلحتها العبيد أو غيرهم وكما يسقط عنها فرض طهارة الجنب إذا عجزت عنها لعدم الماء أو مرض بها وكما يسقط فرض اشتراط طهارة مكان الطواف والسعي إذا عرض فيه نجاسة تتعذر إزالتها وكما يسقط شرط استقبال القبلة في الصلاة إذا عجز عنه وكما يسقط فرض القيام والقراءة والركوع والسجود إذا عجز عنه المصلي وكما يسقط فرض الصوم عن العاجز عنه إلى بدله وهو الإطعام ونظائر ذلك من الواجبات والشروط التي تسقط بالعجز عنها إما إلى بدل أو مطلقا فهذه ثمانية أقسام لا مزيد عليها ومن المعلوم أن الشريعة لا تأتي بسوى هذا القسم الثامن. التقدير الأول فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة فإن القسم الأول وإن قاله من قال من الفقهاء فلا يتوجه ههنا لأن هذا الذي قالوه متوجه فيمن أمكنها الطواف ولم تطف والكلام في امرأة لا يمكنها الطواف ولا المقام لأجله وكلام الأئمة والفقهاء هو مطلق كما يتكلمون في نظائره ولم يتعرضوا لمثل هذه الصور التي عمت بها البلوى ولم يكن ذلك في زمن الأئمة بل قد ذكروا أن المكرى يلزمه المقام والاحتباس عليها لتطهر ثم تطوف فإنه كان ممكنا بل واقعا في زمنهم فأفتوا بأنها لا تطوف حتى تطهر لتمكنها من ذلك وهذا لا نزاع فيه ولا إشكال فأما في هذه الأزمان فغير ممكن وإيجاب سفرين كاملين في الحج من غير تفريط من الحاج ولا سبب صدر منه يتضمن إيجاب حجتين إلى البيت والله تعالى إنما أوجب حجة واحدة بخلاف من أفسد الحج فإنه قد فرط بفعل المحظور وبخلاف من ترك طواف الزيارة أو الوقوف بعرفة فإنه لم يفعل ما يتم حجته وأما هذه فلم تفرط ولم تترك ما أمرت به فإنها لم تؤمر بما لا تقدر عليه وقد فعلت ما تقدر عليه فهي بمنزلة الجنب إذا عجز عن الطهارة الأصلية والبدلية وصلى حسب حاله فإنه لا اعادة عليه في أصح الأقوال وأيضا فهذه قد لا يمكنها السفر مرة ثانية فإذا قيل إنها تبقي محرمة إلى أن تموت فهذا ضرر لا يكون مثله في دين الإسلام بل يعلم بالضرورة أن الشريعة لا تأتي به. فصل التقدير الثاني فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة وأما التقدير الثاني وهو سقوط طواف الإفاضة فهذا مع أنه لا قائل به فلا يمكن القول به فإنه ركن الحج الأعظم وهو الركن المقصود لذاته والوقوف بعرفة وتوابعه مقدمات له. فصل التقدير الثالث فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة وأما التقدير الثالث وهو أن تقدم طواف الإفاضة على وقته إذا خشيت لحيض في وقته فهذا لا يعلم به قائل والقول به كالقول بتقديم الوقوف بعرفة على يوم عرفة وكلاهما مما لا سبيل إليه. فصل التقدير الرابع فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة وأما التقدير الرابع وهو أن يقال يسقط عنها فرض الحج إذا خشيت ذلك فهذا وإن كان أفقه مما قبله من التقديرات فإن الحج يسقط لما هو دون هذا من الضرر كما لو كان بالطريق أو بمكة خوف أو أخذ خفارة مجحفة أو غير مجحفة على أحد القولين أو لم يكن لها محرم ولكنه ممتنع لوجهين أحدهما أن لازمه سقوط الحج عن كثير من النساء أو أكثرهن فإنهن يخفن من الحيض وخروج الركب قبل الطهر وهذا باطل فإن العبادات لا تسقط بالعجز عن بعض شرائطها ولا عن بعض أركانها وغاية هذه أن تكون عجزت عن شرط أو ركن وهذا لا يسقط المقدور عليه قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال ﷺ: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ولهذا وجبت الصلاة بحسب الإمكان وما عجز عنه من فروضها أو شروطها سقط عنه والطواف والسعي إذا عجز عنه ماشيا فعله راكبا اتفاقا والصبي يفعل عنه وليه ما يعجز عنه الوجه الثاني أن يقال في الكلام فيمن تكلفت وحجت وأصابها هذا العذر فما يقول صاحب هذا التقدير حينئذ فإما أن يقول تبقى محرمة حتى تعود إلى البيت أو يقول تتحلل كالمحصر وبالجملة فالقول بعدم وجوب الحج على من تخاف الحيض لا يعلم به قائل ولا تقتضيه الشريعة فإنها لا تسقط مصلحة الحج التي هي من أعظم المصالح لأجل العجز عن أمر غايته أن يكون واجبا في الحج أو شرطا فيه فأصول الشريعة تبطل هذا القول. فصل التقدير الخامس فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة وأما التقدير الخامس وهي أن ترجع وهي على إحرامها ممتنعة من النكاح والوطء إلى أن تعود في العام المقبل ثم إذا أصابها الحيض رجعت كذلك وهكذا كل عام فمما ترده أصول الشريعة وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة والإحسان فإن الله لم يجعل على الأمة مثل هذا الحرج ولا ما هو قريب منه. فصل التقدير السادس فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة وأما التقدير السادس وهو أنها تتحلل كما يتحلل المحصر فهذا أفقه من التقدير الذي قبله فإن هذه منعها خوف المقام من إتمام النسك فهى كمن منعها عدو عن الطواف بالبيت بعد التعريف ولكن هذا التقدير ضعيف فإن الإحصار أمر عارض للحاج يمنعه من الوصول إلى البيت في وقت الحج وهذه متمكنة من البيت ومن الحج من غير عدو ولا مرض ولا ذهاب نفقة وإذا جعلت هذه كالمحصر أوجبنا عليها الحج مرة ثانية مع خوف وقوع الحيض منها والعذر الموجب للتحلل بالإحصار إذا كان قائما به منع من فرض الحج ابتداء كإحاطة العدو بالبيت وتعذر النفقة وهذه عذرها لا يسقط فرض الحج عليها ابتداء فلا يكون عروضه موجبا للتحلل كالإحصار فلازم هذا التقدير أنها إذا علمت أن هذا العذر يصيبها أو غلب على ظنها أن يسقط عنها فرض الحج فهو رجوع إلى التقدير الرابع. فصل التقدير السابع فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة وأما التقدير السابع وهو أن يقال يجب عليها أن تستنيب من يحج عنها إذا خافت الحيض وتكون كالمعضوب العاجز عن الحج بنفسه فما أحسنه من تقدير لو عرف به قائل فإن هذه عاجزة عن إتمام نسكها ولكن هو باطل أيضا فإن المعضوب الذي يجب عليه الاستنابة هو الذي يكون آيسا من زوال عذره فلو كان يرجو زوال عذره كالمرض العارض والحبس لم يكن له أن يستنيب وهذه لا تيأس من زوال عذرها لجواز أن تبقى إلى زمن اليأس وانقطاع الدم أو أن دمها ينقطع قبل سن اليأس لعارض بفعلها أو بغير فعلها فليست كالمعضوب حقيقة ولا حكما. فصل أصح التقديرات فيمن حاضت قبل طواف الإفاضة فإذا بطلت هذه التقديرات تعين التقدير الثامن وهو أن يقال تطوف بالبيت والحالة هذه وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف معه وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة بل يوافقها كما تقدم إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه ولا واجب في الشريعة مع عجز ولا حرام مع ضرورة. فإن قيل في ذلك محذوران. المحذور الأول أحدهما: دخول الحائض المسجد وقد قال النبي ﷺ: "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" فكيف بأفضل المساجد الثاني طوافها في حال الحيض وقد منعها الشارع منه كما منعها من الصلاة فقال اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت فالذي منعها من الصلاة مع الحيض هو الذي منعها من الطواف معه. فالجواب عن الأول من أربعة أوجه: أحدها أن الضرورة تبيح دخول المسجد للحائض والجنب فإنها لو خافت العدو أو من يستكرهها على الفاحشة أو أخذ مالها ولم تجد ملجأ إلا دخول المسجد جاز لها دخوله مع الحيض وهذه تخاف ما هو قريب من ذلك فإنها تخاف إن أقامت بمكة أن يؤخذ مالها إن كان لها مال وإلا أقامت بغربة ضرورة وقد تخاف في إقامتها ممن يتعرض لها وليس لها من يدفع عنها. الجواب الثاني: أن طوافها بمنزلة مرورها في المسجد ويجوز للحائض المرور فيه إذا أمنت التلويث وهي في دورانها حول البيت بمنزله مرورها ودخولها من باب وخروجها من آخر فإذا جاز مرورها للحاجة فطوافها للحاجة التي هي أعظم من حاجة المرور أولى بالجواز. يوضحه الوجه الثالث: أن دم الحيض في تلويثه المسجد كدم الاستحاضة والمستحاضة يجوز لها دخول المسجد للطواف إذا تلجمت اتفاقا وذلك لأجل الحاجة وحاجة هذه أولى. يوضحه الوجه الرابع: أن منعها من دخول المسجد للطواف كمنع الجنب فإن النبي ﷺ بينهما في تحريم المسجد عليهما وكلاهما يجوز له الدخول عند الحاجة وسر المسألة أن قول النبي ﷺ لا تطوفي بالبيت هل ذلك لأن الحائض ممنوعة من المسجد والطواف لا يكون إلا في المسجد أو أن عبادة الطواف لا تصح مع الحيض كالصلاة أو لمجموع الأمرين أو لكل واحد من الأمرين فهذه أربعة تقادير فإن قيل بالمعنى الأول لم يمنع صحة الطواف مع الحيض كما قاله أو حنيفة ومن وافقه وكما هو إحدى الروايتين عن أحمد وعلى هذا فلا يمتنع الإذن لها في دخول المسجد لهذه الحاجة التي تلتحق بالضرورة ويقيد بها مطلق نهى النبي ﷺ وليس بأول مطلق قيد بأصول الشريعة وقواعدها وإن قيل بالمعنى الثاني فغايته أن تكون الطهارة شرطا من شروط الطواف فإذا عجزت عنها سقط اشتراطها كما لو انقطع دمها وتعذر عليها الاغتسال والتيمم فإنها تطوف على حسب حالها كما تصلي بغير طهور. فصل المحذور الثاني وأما المحذور الثاني وهو طوافها مع الحيض والطواف كالصلاة فجوابه من وجوه أحدها أن يقال لا ريب أن الطواف تجب فيه الطهارة وستر العورة كما ثبت عن النبي ﷺ انه قال: "لا يطوف بالبيت عريان" وقال الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وفي السنن مرفوعا وموقوفا: الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير ولا ريب أن وجوب الطهارة وستر العورة في الصلاة آكد من وجوبها في الطواف فإن الصلاة بلا طهارة مع القدرة باطلة بالاتفاق وكذلك صلاة العريان وأما طواف الجنب والحائض والمحدث والعريان بغير عذر ففي صحته قولان مشهوران وإن حصل الاتفاق على أنه منهى عنه في هذا الحال بل وكذلك أركان الصلاة وواجباتها آكد من أركان الحج وواجباته فإن واجبات الحج إذا تركها عمدا لم يبطل حجه وواجبات الصلاة إذا تركها عمدا بطلت صلاته وإذا نقص من الصلاة ركعة عمدا لم تصح ولو طاف ستة أشواط صح ووجب عليه دم عند أبي حنيفة وغيره ولو نكس الصلاة لم تصح ولو نكس الطواف ففيه خلاف ولو صلى محدثا لم تصح صلاته ولو طاف محدثا أو جنبا صح في أحد القولين وغاية الطواف أن يشبه بالصلاة وإذا تبين هذا فغاية هذه إذا طافت مع الحيض للضرورة أن تكون بمنزلة من طافت عريانة للضرورة فإن نهى الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله عن الأمرين واحد بل الستارة في الطواف آكد من وجوه أحدها أن طواف العريان منهى عنه بالقرآن والسنة وطواف الحائض منهى عنه بالسنة وحدها الثاني أن كشف العورة حرام في الطواف وخارجه الثالث أن طواف العريان أقبح شرعا وعقلا وفطرة من طواف الحائض والجنب فإذا صح طوافها مع العري للحاجة فصحة طوافها مع الحيض للحاجة أولى وأحرى ولا يقال فيلزمكم على هذا أن تصح صلاتها وصومها مع الحيض للحاجة لأنا نقول هذا سؤال فاسد فإن الحاجة لا تدعوها إلى ذلك بوجه من الوجوه وقد جعل الله سبحانه صلاتها زمن الطهر مغنية لها عن صلاتها في الحيض وكذلك صيامها وهذه لا يمكنها التعويض في حال طهرها بغير البيت وهذا يبين سر المسألة وفقهها وهو أن الشارع قسم العبادات بالنسبة إلى الحائض إلى قسمين قسم يمكنها التعوض عنه في زمن الطهر فلم يوجبه عليها في الحيض بل أسقطه إما مطلقا كالصلاة وإما إلى بدله زمن الطهر كالصوم وقسم لا يمكنها التعوض عنه ولا تأخيره إلى زمن الطهر فشرعه لها مع الحيض أيضا كالإحرام والوقوف بعرفة وتوابعه ومن هذا جواز قراءة القرآن لها وهي حائض إذ لا يمكنها التعوض عنها زمن الطهر لأن الحيض قد يمتد بها غالبه أو أكثره فلو منعت من القراءة لفاتت عليها مصلحتها وربما نسيت ما حفظته زمن طهرها وهذا مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد وأحد قولى الشافعي والنبي ﷺ لم يمنع الحائض من قراءة القرآن وحديث لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن لم يصح فإنه حديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث فإنه من رواية إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال الترمذي لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة وسمعت محمد بن إسماعيل يقول إن إسماعيل بن عياش يروى عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديث مناكير كأنه يضعف روايته عنهم فيما ينفرد به وقال إنما هو حديث إسماعيل بن عياش عن أهل الشام انتهى وقال البخاري أيضا إذا حدث عن أهل بلده فصحيح وإذا حدث عن غيرهم ففيه نظر وقال على بن المديني ما كان أحد أعلم بحديث أهل الشام من إسماعيل بن عياش لو ثبت في حديث أهل الشام ولكنه خلط في حديث أهل العراق وحدثنا عنه عبد الرحمن ثم ضرب على حديثه فإسماعيل عندي ضعيف وقال عبد الله بن أحمد عرضت على أبي حديثا حدثناه الفضل بن زياد الضبى حدثنا ابن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر مرفوعا لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن فقال أبي هذا باطل يعنى أن إسماعيل وهم وإذا لم يصح الحديث لم يبق مع المانعين حجة إلا القياس على الجنب والفرق الصحيح بينها وبين الجنب مانع من الإلحاق وذلك من وجوه أحدها أن الجنب يمكنه التطهر متى شاء بالماء أو بالتراب فليس له عذر في القراءة مع الجنابة بخلاف الحائض والثاني أن الحائض يشرع لها الإحرام والوقوف بعرفة وتوابعه مع الحيض بخلاف الجنب الثالث أن الحائض يشرع لها أن تشهد العيد مع المسلمين وتعتزل المصلي بخلاف الجنب وقد تنازع من حرم عليها القراءة هل يباح لها أن تقرأ بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال على ثلاثة أقوال أحدها المنع مطلقا وهو المشهور من مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد لأنها بعد انقطاع الدم تصير كالجنب الثاني الجواز مطلقا وهو اختيار القاضي أبي يعلى قال وهو ظاهر كلام أحمد والثالث إباحته للنفساء وتحريمه على الحائض وهو اختيار الخلال فالأقوال الثلاثة في مذهب أحمد فإذا لم تمنع الحائض من قراءة القرآن لحاجتها إليه فعدم منعها في هذه الصورة عن الطواف الذي هي أشد حاجة إليه بطريق الأولى والأحرى. فصل مناقشة أدلة المانعين هذا إذا كان المنع من طوافها لأجل المنع من دخول المسجد أو لأجل الحيض ومنافاته للطواف فإن قيل بالتقدير الثالث وهو أنه لمجموع الأمرين بحيث إذا انفرد أحدهما لم يستقل بالتحريم أو بالتقدير الرابع وهو أن كلا منهما علة مستقلة كان الكلام على هذين التقديرين كالكلام على التقديرين الأولين وبالجملة فلا يمتنع تخصيص العلة لفوات شرط أو لقيام مانع وسواء قيل إن وجود الشرط وعدم المانع من أجزاء العلة أو هو أمر خارج عنها فالنزاع لفظي فإن أريد بالعلة التامة فهما من أجزائها وإن أريد بها المقتضية كانا خارجين عنها. فإن قيل الطواف كالصلاة ولهذا تشترط له الطهارة من الحدث وقد أشار إلى هذا بقوله في الحديث الطواف بالبيت صلاة والصلاة لا تشرع ولا تصح مع الحيض فهكذا شقيقها ومشبهها ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فلم تصح مع الحيض كالصلاة وعكسه الوقوف بعرفة وتوابعه. فالجواب: أن القول باشتراط طهارة الحدث للطواف لم يدل عليه نص ولا إجماع بل فيه النزاع قديما وحديثا فأبو حنيفة وأصحابه لا يشترطون ذلك وكذلك أحمد في إحدى الروايتين عنه قال أبو بكر في الشافي باب في الطواف بالبيت غير طاهر قال أبو عبد الله في رواية أبي طالب لا يطوف أحد بالبيت إلا طاهرا والتطوع أيسر ولا يقف مشاهد الحج إلا طاهرا وقال في رواية محمد بن الحكم إذا طاف طواف الزيارة وهو ناس لطهارته حتى رجع فإنه لا شيء عليه واختار له أن يطوف وهو طاهر وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه على أن الرجل إذا طاف جنبا ناسيا صح طوافه ولا دم عليه وعنه رواية أخرى عليه دم وثالثه أنه لا يجزيه الطواف وقد ظن بعض أصحابه أن هذا الخلاف عنه إنما هو في المحدث والجنب فأما الحائض فلا يصح طوافها قولا واحدا قال شيخنا وليس كذلك بل صرح غير واحد من أصحابنا بأن الخلاف عنه في الحيض والجنابة وقال وكلام أحمد يدل على ذلك ويبين انه كان متوقفا في طواف الحائض وفي طواف الجنب قال عبد الملك الميموني في مسائله قلت لأحمد من طاف طواف الواجب على غير وضوء وهو ناس ثم واقع أهله قال أخبرك مسألة فيها وهم مختلفون وذكر قول عطاء والحسن قلت ما تقول أنت قال دعها أو كلمة تشبهها وقال الميموني في مسائله أيضا قلت له من سعى وطاف على غير طهارة ثم واقع أهله فقال لي مسألة الناس فيها مختلفون وذكر قول ابن عمر وما يقول عطاء مما يسهل فيها وما يقول الحسن وان عائشة قال لها النبي ﷺ حين حاضت: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" ثم قال لي ألا إن هذا أمر بليت به نزل عليها ليس من قبلها قلت فمن الناس من يقول عليها الحج من قابل فقال لي نعم كذا اكبر علمي قلت ومنهم من يذهب إلى أن عليها دما فذكر تسهيل عطاء فيها خاصة قال لي أبو عبد الله أولا وآخرا هي مسألة مشتبهة فيها موضع نظر فدعني حتى انظر فيها قال ذلك غير مرة ومن الناس من يقول وان رجع إلى بلده يرجع حتى يطوف قلت والنسيان قال والنسيان أهون حكما بكثير يريد أهون ممن يطوف على غير طهارة متعمدا هذا لفظ الميموني قلت وأشار أحمد إلى تسهيل عطاء إلى فتواه أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها وهذا تصريح منه أن الطهارة ليست شرطا في صحة الطواف وقد قال إسماعيل بن منصور ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن عطاء قال حاضت امرأة وهي تطوف مع عائشة أم المؤمنين فحاضت في الطواف فأتمت بها عائشة بقية طوافها هذا والناس إنما تلقوا منع الحائض من الطواف من حديث عائشة وقد دلت أحكام الشريعة على أن الحائض أولى بالعذر وتحصيل مصلحة العبادة التي تفوتها إذا تركتها مع الحيض من الجنب وهكذا إذا حاضت في صوم شهري التتابع لم ينقطع تتابعها بالاتفاق وكذلك تقضي المناسك كلها من أولها إلى آخرها مع الحيض بلا كراهة بالاتفاق سوى الطواف وكذلك تشهد العيد مع المسلمين بلا كراهة بالنص وكذلك تقرأ القرآن إما مطلقا وإما عند خوف النسيان وإذا حاضت وهي معتكفة لم يبطل اعتكافها بل تتمه في رحبة المسجد. وسر المسألة ما أشار إليه صاحب الشرع بقوله إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم وكذلك قال الإمام أحمد: هذا أمر بليت به نزل عليها ليس من قبلها والشريعة قد فرقت بينها وبين الجنب كما ذكرناه فهي أحق بأن تعذر من الجنب الذي طاف مع الجنابة ناسيا أو ذاكرا فإذا كان فيه النزاع المذكور فهى أحق بالجواز منه فإن الجنب يمكنه الطهارة وهي لا يمكنها فعذرها بالعجز والضرورة أولى من عذره بالنسيان فإن الناسي لما أمر به من الطهارة والصلاة يؤمر بفعله إذا ذكره بخلاف العاجز عن الشرط أو الركن فإنه لا يؤمر بإعادة العبادة معه إذا قدر عليه فهذه إذا لم يمكنها إلا الطواف على غير طهارة وجب عليها ما تقدر عليه وسقط عنها ما تعجز عنه كما قال تعالى فاتقوا الله ما استطعتم وقال النبي ﷺ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وهذه لا تستطيع إلا هذا وقد أتقت الله ما استطاعت فليس عليها غير ذلك بالنص وقواعد الشريعة والمطلق يقيد بدون هذا بكثير ونصوص أحمد وغيره من العلماء صريحة في أن الطواف ليس كالصلاة في اشتراط الطهارة وقد ذكرنا نصه في رواية محمد بن الحكم إذا طاف طواف الزيارة وهو ناس لطهارته حتى رجع فلا شيء عليه واختار له أن يطوف وهو طاهر وإن وطئ فحجه ماض ولا شيء عليه وقد تقدم قول عطاء ومذهب أبي حنيفة صحية الطواف بلا طهارة. وأيضا فإن الفوارق بين الطواف والصلاة أكثر من الجوامع فإنه يباح فيه الكلام والأكل والشرب والعمل الكثير وليس فيه تحريم ولا تحليل ولا ركوع ولا سجود ولا قراءة ولا تشهد ولا تجب له جماعة وإنما اجتمع هو والصلاة في عموم كونه طاعة وقربة وخصوص كونه متعلقا بالبيت وهذا لا يعطيه شروط الصلاة كما لا يعطيه واجباتها وأركانها. وأيضا فيقال لا نسلم أن العلة في الأصل كونها عبادة متعلقة بالبيت ولم يذكروا على ذلك حجة واحدة والقياس الصحيح ما تبين فيه أن الوصف المشترك بين الأصل والفرع وهو علة الحكم في الأصل أو دليل العلة فالأول قياس العلة والثاني قياس الدلالة. وأيضا فالطهارة إنما وجبت لكونها صلاة سواء تعلقت بالبيت أو لم تتعلق ولهذا وجبت النافلة في السفر إلى غير القبلة ووجبت حين كانت مشروعة إلى بيت المقدس ووجبت لصلاة الخوف إذا لم يمكن الاستقبال. وأيضا فهذا القياس ينتقض بالنظر إلى البيت فإنه عبادة متعلقة بالبيت وأيضا فهذا قياس معارض بمثله وهو أن يقال عبادة من شرطها المسجد فلم تكن الطهارة شرطا فيها كالاعتكاف وقد قال الله تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وليس إلحاق الطائفين بالركع السجود أولى من إلحاقهم بالعاكفين بل إلحاقهم بالعاكفين أشبه فإن المسجد شرط في كل منهما بخلاف الركع السجود. فإن قيل الطائف لا بد أن يصلي ركعتي الطواف والصلاة لا تكون إلا بطهارة قيل وجوب ركعتى الطواف فيه نزاع وإذا قيل بوجوبهما لم تجب الموالاة بينهما وبين الطواف وليس اتصالهما بأعظم من اتصال الصلاة بالخطبة يوم الجمعة ولو خطب محدثا ثم توضأ وصلى الجمعة جاز فجواز طوافه محدثا ثم يتوضأ ويصلى ركعتي الطواف أولى بالجواز وقد نص أحمد على أنه إذا خطب جنبا جاز. فصل الواجب على من طاف غير طاهر وإذا ظهر أن الطهارة ليست شرطا في الطواف فإما أن تكون واجبة وإما أن تكون سنة وهما قولان للسلف والخلف ولكن من يقول هي سنة من أصحاب أبي حنيفة يقول عليها دم وأحمد يقول: ليس عليها دم ولا غيره كما صرح به فيمن طاف جنبا هو ناس قال شيخنا فإذا طافت حائضا مع عدم العذر توجه القول بوجوب الدم عليها وأما مع العجز فهنا غاية ما يقال عليها دم والأشبه انه لا يجب الدم لأن الطهارة واجب يؤمر به مع القدرة لا مع العجز فإن لزوم الدم إنما يكون مع ترك المأمور أو مع فعل المحظور وهذه لم تترك مأمورا في هذه الحال ولا فعلت محظورا فإنها إذا رمت الجمرة وقصرت حل لها ما كان محظورا عليها بالإحرام عير النكاح فلم يبق بعد التحلل الأول محظور يجب بفعله دم وليست الطهارة مأمورا بها مع العجز فيجب بتركها دم. فإن قيل لو كان طوافها مع الحيض ممكنا أمرت بطواف القدوم وطواف الوداع فلما سقط عنها طواف القدوم والوداع علم أن طوافها مع الحيض غير ممكن. قيل: لا ريب أن النبي ﷺ أسقط طواف القدوم عن الحائض وأمر عائشة لما قدمت وهي متمتعة فحاضت أن تدع أفعال العمرة وتحرم بالحج فعلم أن الطواف مع الحيض محظور لحرمة المسجد أو للطواف أو لها والمحظورات لا تباح إلا في حالة الضرورة ولا ضرورة بها إلى طواف القدوم لأنه سنة بمنزلة تحية المسجد ولا إلى طواف الوادع فإنه ليس من تمام الحج ولهذا لا يودع المقيم بمكة وإنما يودع المسافر عنها فيكون آخر عهده في البيت فهذان الطوافان أمر بهما القادر عليهما إما أمر إيجاب فيهما أو في إحداهما أو استحباب كما هي أقوال معروفة وليس واحد منهما ركنا يقف صحة الحج عليه بخلاف طواف الفرض فإنها مضطرة إليه وهذا كما يباح لها الدخول إلى المسجد واللبث فيه للضرورة ولا يباح لها الصلاة ولا الاعتكاف فيه وان كان منذورا ولو حاضت المعتكفة خرجت من المسجد إلى فنائه فأتمت اعتكافها ولم يبطل وهذا يدل على أن منع الحائض من الطواف كمنعها من الاعتكاف وإنما هو لحرمة المسجد لا لمنافاة الحيض لعبادة الطواف والاعتكاف ولما كان الاعتكاف يمكن أن يفعل في رحبة المسجد وفنائه جوز لها إتمامه فيها لحاجتها. والطواف لا يمكن إلا في المسجد وحاجتها في هذه الصورة إليه أعظم من حاجتها إلى الاعتكاف بل لعل حاجتها لي ذلك اعظم من حاجتها إلى دخول المسجد واللبث فيه لبرد أو مطر أو نحوه. وبالجملة فالكلام في هذه الحادثة في فصلين أحدهما في اقتضاء قواعد الشريعة لها لا لمنافاتها وقد تبين ذلك بما فيه كفاية والثاني في أن كلام الأئمة وفتاويهم في الاشتراط والوجوب إنما هو في حال القدرة والسعة لا في حال الضرورة والعجز فالإفتاء بها لا ينافي نص الشارع ولا قول الأئمة وغاية المفتى بها انه يقيد مطلق كلام الشارع بقواعد شريعته وأصولها ومطلق كلام الأئمة بقواعدهم وأصولهم فالمفتى بها موافق لأصول الشرع وقواعده ولقواعد الأئمة وبالله التوفيق. فصل حكم جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد المثال السابع أن المطلق في زمن النبي ﷺ وزمن خليفته أبي بكر وصدرا من خلافة عمر كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة كما ثبت ذلك في الصحيح عن ابن عباس فروى مسلم في صحيحه عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: "كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضناه عليهم" وفي صحيحه أيضا عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: "ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله ﷺ وأبى بكر وثلاثا من إمارة عمر فقال ابن عباس نعم" وفي صحيحه أيضا عنه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر واحدة فقال: "قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم" وفي سنن أبي داود عن طاوس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس فقال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنه قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأة ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله ﷺ وأبى بكر وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال أجيزوهن عليهم وفي مستدرك الحاكم من حديث عبد الله بن المؤمل عن ابن أبى ملكية أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال أتعلم أن الثلاث كن يرددن على عهد رسول الله ﷺ إلى واحدة قال نعم قال الحاكم هذا حديث صحيح وهذه غير طريق طاوس عن أبي الصهباء وقال الإمام أحمد في مسنده ثنا سعد بن إبراهيم ثنا أبي محمد بن إسحاق قال حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا قال: فسأله رسول الله ﷺ: "كيف طلقتها" قال: طلقتها ثلاثا قال: فقال: "في مجلس واحد" قال: نعم قالك "فإنما تملك واحدة فأرجعها إن شئت" قال فراجعها فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه فقال في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن النبي ﷺ رد ابنته على ابن أبي العاص بمهر جديد ونكاح جديد هذا" حديث ضعيف أو قال واه لم يسمعه الحجاج من عمر بن شعيب وإنما سمعه من محمد بن عبد الله العزرمي والعزرمي لا يساوي حديثه شيئا والحديث الذي رواه أن النبي ﷺ أقرهما على النكاح الأول وإسناده عنده هو إسناد حديث ركانة بن عبد يزيد هذا وقد قال الترمذي فيه ليس بإسناده بأس فهذا إسناد صحيح عند أحمد وليس به بأس عند الترمذي فهو حجة ما لم يعارضه ما هو أقوى منه فكيف إذا عضده ما هو نظيره أو أقوى منه وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح ثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي ﷺ عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت إلى النبي ﷺ فقالت: ما يغنى عني إلا كما تغنى هذ الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي ﷺ حمية: فدعا بركانة وإخوته ثم قال لجلسائه: "أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا منه كذا وكذا" قالوا: نعم فقال النبي ﷺ لعبد يزيد: "طلقها" ففعل فقال: "راجع امرأتك أم ركانة وإخوته" فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله قال: "قد علمت راجعها وتلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ}" وقال أبو داود حديث نافع بن جبير وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده: أن ركانة طلق امرأته فردها إليه النبي ﷺ أصح لأنهم ولد الرجل وأهله أعلم به وأن ركانة إنما طلق امرأته البتة فجعلها النبي ﷺ واحدة قال شيخنا رضي الله عنه: وأبو داود لما لم يرو في سننه الحديث الذي في مسند أحمد يعني الذي ذكرناه آنفا فقال حديث ألبتة أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثا لأنهم أهل بيته ولكن الأئمة الأكابر العارفون بعلل الحديث والفقه كالإمام أحمد وأبي عبيد والبخاري ضعفوا حديث البتة وبينوا أنه رواية قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم وأحمد أثبت حديث الثلاث وبين انه الصواب وقال حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة وفي رواية عنه حديث ركانه في البتة ليس بشيء لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن ركانة طلق امرأته ثلاثا وأهل المدينة يسمون الثلاث ألبتة قال الأثرم قلت لأحمد حديث ركانة في ألبتة فضعفه. والمقصود أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يخف عليه أن هذا هو السنة وأنه توسعة من الله لعباده إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاع امرأته كلها جملة واحدة كاللعان فإنه لو قال أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين كان مرة واحدة ولو حلف في القسامة وقال أقسم بالله خمسين يمينا أن هذا قاتله كان ذلك يمينا واحدة ولو قال المقر بالزنا أنا أقر أربع مرات أني زنيت كان مرة واحدة فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إلا إقرارا واحدا وقال النبي ﷺ: "من قال في يومه سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر" فلو قال سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة وكذلك قوله: "من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمده ثلاثا وثلاثين وكبره ثلاثا وثلاثين" الحديث لا يكون عاملا به حتى يقول ذلك مرة بعد مرة ولا يجمع الكل بلفظ واحد وكذلك قوله: "من قال في يومه لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد هو على كل شيء قدير مائة مرة كانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسى" لا يحصل هذا إلا بقولها مرة بعد مرة وهكذا قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} وهكذا قوله في الحديث: "الاستئذان ثلاث مرات فإن أذن ذلك وإلا فارجع" لو قال الرجل ثلاث مرات هكذا كانت مرة واحدة حتى يستأذن مرة بعد مرة وهذا كما أنه في الأقوال والألفاظ فكذلك هو في الأفعال سواء كقوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} إنما هو مرة بعد مرة وكذلك قول ابن عباس رأى محمد ربه بفؤاده مرتين إنما هو مرة بعد مرة وكذلك قول النبي ﷺ لا يلدغ المؤمن من ججر مرتين فهذا المعقول من اللغة والعرف في الأحاديث المذكورة وهذه النصوص المذكورة وقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} كلها من باب واحد ومشكاة واحدة والأحاديث المذكورة تفسر المراد من قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} كما أن حديث اللعان تفسير لقوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ}. فهذا كتاب الله وهذه سنة رسول الله ﷺ وهذه لغة العرب وهذا عرف التخاطب وهذا خليفة رسول الله ﷺ والصحابة كلهم معه في عصره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب فلو عدهم العاد بأسمائهم واحدا واحدا لوجد أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة إما بفتوى وإما بإقرار عليها ولو فرض فيهم من لم يكن يرى ذلك فإنه لم يكن منكرا للفتوى به بل كانوا ما بين مفت ومقر بفتيا وساكت غير منكر وهذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر وهم يزيدون على الألف قطعا كما ذكره يونس بن بكير عن أبى إسحاق قال حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير قال استشهد من المسلمين في وقعة اليمامة ألف ومائتا رجل منهم سبعون من القراء كلهم قد قرءوا القرآن وتوفي في خلافة الصديق فاطمة بنت رسول الله ﷺ وعبد الله بن أبي بكر قال محمد بن إسحاق فلما أصيب المسلمون من المهاجرين والأنصار باليمامة وأصيب فيهم عامة فقهاء المسلمين وقرائهم فزع أبو بكر إلى القرآن وخاف أن يهلك منه طائفة وكل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة فتوى أو إقرارا أو سكوتا ولهذا ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم ولم تجمع الأمة ولله الحمد على خلافه بل لم يزل فيهم من يفتى به قرنا بعد قرن والى يومنا هذا فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة وأفتى أيضا بالثلاث أفتى بهذا وهذا وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام وعبد الرحمن ابن عوف حكاه عنهما ابن وضاح وعن علي كرم الله وجهه وابن مسعود روايتان كما عن ابن عباس وأما التابعون فأفتى به عكرمة رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه وأفتى به طاوس وأما تابعو التابعين فأفتى به محمد ابن إسحاق حكاه الإمام أحمد وغيره عنه وأفتى به خلاس بن عمرو والحارث العكلي وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه حكاه عنهم أبو المفلس وابن حزم وغيرهما وأفتى به بعض أصحاب مالك حكاه التلمساني في شرح تفريع ابن الجلاب قولا لبعض الماليكة وأفتى به بعض الحنفية حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل وأفتى به بعض أصحاب أحمد حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه قال قال وكان الجد يفتى به أحيانا وأما الإمام أحمد نفسه فقد قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر واحدة بأي شيء تدفعه قال براوية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث فقد صرح بأنه إنما ترك القول به لمخالفة رواية له وأصل مذهبه وقاعدته التي بنى عليها أن الحديث إذا صح لم يرده لمخالفة رواية له بل الأخذ عنده بما رواه كما فعل في رواية ابن عباس وفتواه في بيع الأمة فأخذ بروايته أنه لا يكون طلاقا وترك رأيه وعلى أصله يخرج له قول إن الثلاث واحدة فإنه إذا صرح بأنه إنما ترك الحديث لمخالفة الراوي وصرح في عدة مواضع أن مخالفة الراوي لا توجب ترك الحديث خرج له في المسألة قولان وأصحابه يخرجون على مذهبه أقوالا دون ذلك بكثير. والمقصود أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم ولم يأت بعده إجماع يبطله ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل فإنه كان من أشد الناس فيه فإذا علموا ذلك كفوا عن الطرق المحرم فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي ﷺ وعهد الصديق وصدرا من خلافته كان الأليق بهم لأنهم لم يتتابعوا فيه وكانوا يتقون الله في الطلاق وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم فإن الله تعالى إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة ولم يشرعه كله مرة واحدة فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله وظلم نفسه ولعب بكتاب الله فهو حقيق أن يعاقب ويلزم بما التزمه ولا يقر على رخصة الله وسعته وقد صعبها على نفسه ولم يتق الله ولم يطلق كما أمره الله وشرعه له بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه رحمة منه وإحسانا ولبس على نفسه واختار الأغلظ والأشد فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان وعلم الصحابة رضي الله عنهم حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما ألزم به وصرحوا لمن استفتاهم بذلك فقال عبد الله بن مسعود من أتى الأمر على وجهه فقد بين له ومن لبس على نفسه جعلنا عليه لبسه والله لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله منكم هو كما تقولون فلو كان وقوع الثلاث ثلاثا في كتاب الله وسنة رسوله لكان المطلق قد أتى الأمر على وجهه ولما كان قد لبس على نفسه ولما قال النبي ﷺ لمن فعل ذلك تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ولما توقف عبد الله بن الزبير في الإيقاع وقال للسائل إن هذا الأمر مالنا فيه قول فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة فلما جاء إليهما قال ابن عباس لأبي هريرة أفته فقد جدءتك معضلة ثم أفتياه بالوقوع فالصحابة رضي الله عنهم ومقدمهم عمر بن الخطاب لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وأرسلوا ما بأيديهم منه ولبسوا على أنفسهم ولم يتقوا الله في التطليق الذي شرعه لهم وأخذوا بالتشديد على أنفسهم ولم يقفوا على ما حد لهم ألزموهم بما التزموه وأمضوا عليهم ما اختاروه لأنفسهم من التشديد الذي وسع الله عليهم ما شرعه لهم بخلافه ولا ريب أن من فعل هذا حقيق بالعقوبة بأن ينفذ عليه ما أنفذه على نفسه إذ لم يقبل رخصة الله وتيسيره ومهلته ولهذا قال ابن عباس لمن طلق مائة عصيت ربك وبانت منك امرأتك إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا ومن يتق الله يجعل له مخرجا وأتاه رجل فقال إن عمي طلق ثلاثا فقال إن عمك عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا فقال أفلا تحللها له فقال من يخادع الله يخدعه. فليتدبر العالم الذي قصده معرفة الحق واتباعه من الشرع والقدر في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول الله ﷺ وتقواهم ربهم تبارك وتعالى في التطليق فجرت عليهم رخصة الله وتيسيره شرعا وقدرا فلما ركب الناس الأحموقة وتركوا تقوى الله ولبسوا على أنفسهم وطلقوا على غير ما شرعه الله لهم أجرى الله على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه شرعا وقدرا إلزامهم بذلك وإنفاذه عليهم وإبقاء الإصر الذي جعلوه هم في أعناقهم كما جعلوه وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تناسب عقول أبناء الزمن فجاء أئمة الإسلام فمضوا على آثار الصحابة سالكين مسلكهم قاصدين رضاء الله ورسوله وإنفاذ دينه. فمنهم من ترك القول بحديث ابن عباس لظنه أنه منسوخ وهذه طريقة الشافعي قال فإن كان معنى قول ابن عباس إن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله ﷺ واحدة بمعنى أنه أمر النبي ﷺ فالذي يشبه أن يكون ابن عباس قد علم شيئا فنسخ. فإن قيل فما دل على ما وصفت؟ قيل لا يشبه أن يكون ابن عباس قد يروي عن النبي ﷺ شيئا ثم يخالفه بشيء ولم يعلمه كان من النبي ﷺ فيه خلاف. فإن قيل هذا شيء روى عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر قيل قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة وبيع الدينار بالدينار وبيع أمهات الأولاد فكيف يوافقه في شيء روى عن النبي ﷺ خلافه الأخذ برواية الراوي دون رأيه قال المانعون من لزوم الثلاث النسخ لا يثبت بالاحتمال ولا ترك الحديث الصحيح المعصوم لمخالفة رواية له فإن مخالفته ليست معصومة وقد قدم الشافعي رواية ابن عباس في شأن بريرة على فتواه التي تخالفها في كون بيع الأمة طلاقها وأخذ هو وأحمد وغيرهما بحديث أبي هريرة من استقاء فعليه القضاء وقد خالفة أبو هريرة وأفتى بأنه لا قضاء عليه وأخذوا برواية ابن عباس: "أن النبي ﷺ أمر أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا بين الركنين" وصح عنه أنه قال ليس الرمل بسنة وأخذوا برواية عائشة في منع الحائض من الطواف وقد صح عنها أن امرأة حاضت وهي تطوف معها فأتمت بها عائشة بقية طوافها رواه سعيد بن منصور ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن عطاء فذكره وأخذوا برواية ابن عباس في تقديم الرمي والحلق والنحر بعضها البعض وأنه لا حرج في ذلك وقد أفتى أبن عباس أن فيه وما فلم يلتفتوا إلى قوله وأخذوا بروايته وأخذت الحنفية بحديث أبن عباس كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه قالوا وهذا صريح في طلاق المكره وقد صح عن ابن عباس ليس لمكره ولا لمضطهد طلاق وأخذوا هم والناس بحديث ابن عمر أنه أشترى جملا شاردا بأصح سند يكون وأخذ الحنفية والحنابلة بحديث علي كرم الله وجهه وابن عباس صلاة الوسطى صلاة العصر وقد ثبت عن علي كرم الله وجهه وابن عباس صلاة الصبح واخذ الأئمة الأربعة وغيرهم بخبر عائشة في التحريم بلبن الفحل وقد صح عنها خلافه وأنه كان يدخل عليها من أرضعته بنات إخوتها ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها وأخذ الحنفية برواية عائشة فرضت الصلاة ركعتين ركعتين وصح عنها أنها أتمت الصلاة في السفر فلم يدعوا روايتها لرأيها واحتجوا بحديث جابر وأبي موسى في الأمر بالوضوء من الضحك في الصلاة وقد صح عنهما أنهما قالا لا وضوء من ذلك وأخذ الناس بحديث عائشة في ترك إيجاب الوضوء مما مست النار وقد صح عن عائشة بأصح إسناد إيجاب الوضوء للصلاة من أكل كل ما مست النار وأخذ الناس بأحاديث عائشة وابن عباس وأبي هريرة في المسح على الخفين وقد صح عن ثلاثتهم المنع من المسح جملة فأخذوا بروايتهم وتركوا رأيهم واحتجوا في إسقاط القصاص عن الأب بحديث عمر لا يقتص لولد من والده وقد قال عمر: لأقصن للولد من الوالد" فلم يأخذوا برأيه بل بروايته واحتجت الحنفية والمالكية في أن الخلع طلاق بحديثين لا يصحان عن ابن عباس وقد صح عن ابن عباس بأصح إسناد يكون أن الخلع فسخ لا طلاق وأخذت الحنفية بحديث لا يصح بل هو وضع حزام بن عثمان ومبشر بن عبيد الحلبي وهو حديث جابر لا يكون صداق أقل من عشرة دراهم وقد صح عن جابر جواز النكاح بما قل أو كثر واحتجوا هم وغيرهم على المنع من بيع أمهات الأولاد بحديث ابن عباس المرفوع وقد صح عنه جواز بيعهن فقدموا روايته التي لم تثبت على فتواه الصحيحة عنه وأخذت الحنابلة وغيرهم بخبر سعيد بن المسيب عن عمر أنه الحق الولد بأبوين وقد خالفه سعيد بن المسيب فلم يعتدوا بخلافه وقد صح عن عمر وعثمان ومعاوية أن رسول الله ﷺ تمتع بالعمرة إلى الحج وصح عنهم النهي عن التمتع فأخذ الناس بروايتهم وتركوا رأيهم وأخذ الناس بحديث أبي هريرة في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وقد روى سعيد بن منصور في سننه عن أبي هريرة أنه قال: ماءان لا يجزئان في غسل الجنابة ماء البحر وماء الحمام وأخذت الحنابلة والشافعية بحديث أبي هريرة في الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب وقد صح عن أبي هريرة ما رواه سعيد بن منصور في سننه أن أبا هريرة سئل عن الحوض يلغ فيه الكلب ويشرب منه الحمار فقال لا يحرم الماء شيء وأخذت الحنفية بحديث علي كرم الله وجهه لا زكاة فيما زاد على المائتي درهم حتى يبلغ أربعين درهما مع ضعف الحديث بالحسن بن عمارة وقد صح عن علي كرم الله وجهه أن ما زاد على المائتين ففيه الزكاة بحسابه رواه عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عنه. وهذا باب يطول تتبعه وترى كثيرا من الناس إذا جاء الحديث يوافق قول من قلده وقد خالفه راويه يقول الحجة فيما روى لا في قوله فإذا جاء قول الراوي موافقا لقول من قلده والحديث بخلافه قال لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا وقد صح عنده نسخه وإلا كان قدحا في عدالته فيجمعون في كلامهم بين هذا وهذا بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد وهذا من أقبح التناقض والذي ندين الله به ولا يسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول الله ﷺ ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنا من كان لا راوية ولا غيره إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث أو لا يحضره وقت الفتيا أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه ولو قدر انتفاء ذلك كله ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه لم يكن الراوي معصوما ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك. الحكمة في تغير الفتوى بتغير الأحوال إذا عرف هذا فهذه المسألة مما تغيرت الفتوى بها بحسب الأزمنة كما عرفت لما رأته الصحابة من المصلحة لأنهم رأوا مفسدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلا بإمضائها عليهم فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع ولم يكن باب التحليل الذي لعن رسول الله ﷺ فاعله مفتوحا بوجه ما بل كانوا أشد خلق الله في المنع منه وتوعد عمر فاعله بالرجم وكانوا عالمين بالطلاق المأذون فيه وغيره وأما في هذه الأزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رمد بل عمى في عين الدين وشجى في حلوق المؤمنين من قبائح تشمت أعداء الدين به وتمنع كثيرا ممن يريد الدخول فيه بسببه بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب ولا يحصرها كتاب يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح ويعدونها من أعظم الفضائح قد قلبت من الدين رسمه وغيرت منه اسمه وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل وقد زعم أنه قد طيبها للحليل فيا لله العجب أي طيب اعارها هذا التيس الملعون وأي مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدون اترى وقوف الزوج المطلق أو الولي على الباب والتيس الملعون قد حل إزارها وكشف النقاب واخذ في ذلك المرتع والزوج أو الولي يناديه لم يقدم إليك هذا الطعام لتشبع فقد علمت أنت والزوجة ونحن والشهود والحاضرون والملائكة الكاتبون ورب العالمين أنك لست معدودا من الأزواج ولا للمرأة أو أوليائها بك رضا ولا فرح ولا ابتهاج وإنما أنت بمنزلة التيس المستعار للضراب الذي لولا هذه البلوي لما رضينا وقوفك على الباب فالناس يظهرون النكاح ويعلنونه فرحا وسرورا ونحن نتواصى بكتمان هذا الداء العضال ونجعله أمرا مستورا بلا نثار ولا دف ولا خوان ولا إعلان بل التواصي بهس ومس والإخفاء والكتمان فالمرأة تنكح لدينها وحسبها ومالها وجمالها والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك فإنه لا يمسك بعصمتها بل قد دخل على زوالها والله تعالى قد جعل كل واحد من الزوجين سكنا لصاحبه وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصود هذا العقد العظيم وتتم بذلك المصلحة التي شرعه لأجلها العزيز الحكيم فسل التيس المستعار هل له من ذلك نصيب أو من حكمة هذا العقد ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب وسله هل اتخذ هذه المصابة حليلة وفراشا يأوى إليه ثم سلها هل رضيت به قط زوجا وبعلا تعول في نوائبها عليه وسل أولى التمييز والعقول هل تزوجت فلانة بفلان وهل يعد هذا نكاحا في شرع أو عقل أو فطرة إنسان وكيف يلعن رسول الله ﷺ رجلا من أمته نكح نكاحا شرعيا صحيحا ولم يرتكب في عقده محرما ولا قبيحا وكيف يشبهه بالتيس المستعار وهو من جملة المحسنين الأبرار وكيف تعير به المرأة طول دهرها بين أهلها والجيران وتظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك التيس بين النسوان وسل التيس المستعار هل حدث نفسه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق بنفقة أو كسوة أو وزن صداق وهل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك أو حدثت نفسها به هنالك وهل طلب منها ولدا نجيبا واتخذته عشيرا وحبيبا وسل عقول العالمين وفطرهم هل كان خير هذه الامه أكثرهم تحليلا وكان المحلل الذي لعنه الله ورسوله أهداهم سبيلا وسل التيس المستعار ومن بتليت به هل تجمل أحد منهما بصاحبه كما يتجمل الرجال بالنساء والنساء بالرجال أو كان لأحدهما رغبه في صاحبه بحسب أو مال أو جمال وسل المرأة هل تكره أن يتزوج عليها هذا التيس المستعار أو يتسرى أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أخرى أو تسأله عن ماله وصنعته أو حسن عشرته وسعة نفقته وسل التيس المستعار هل سأل قط عما يسأله عنه من قصد حقيقة النكاح أو يتوسل إلى بيت أحمائه بالهدية والحمولة والنقد الذي يتوسل به خاطب الملاح وسله هل أبو يأخذ أو أبو يعطى وهل قوله عند قراءة أبي جاد هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطي وسله هل تحمل من كلفة هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطى وسله عن وليمة عرسه هل أولم ولو بشاة وهل دعا إليها أحدا من أصحابه فقضى حقه وأتاه وسله هل تحمل من كلفة هذا العقد ما يتحمله المتزوجون أم جاءه كما جرت به عادة الناس الأصحاب والمهنئون وهل قيل له بارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما في خير وعافية أم لعن الله المحلل والمحلل له لعنة تامة وافية. فصل مساوئ التحليل والتشنيع على فاعله ثم سل من له أدنى اطلاع على أحوال الناس كم من حرة مصونة أنشب فيها المحلل مخالب إرادته فصارت له بعد الطلاق من الأخدان وكان بعلها منفردا بوطئها فإذا هو والمحلل فيها ببركه التحليل شريكان فلعمر الله كم أخرج التحليل مخدرة من سترها إلى البغاء وألقاها بين براثن العشراء والحرفاء ولولا التحليل لكان منال الثريا دون منالها والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها وعناق القنا دون عناقها والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها وسل أهل الخبرة كم عقد المحلل على أم وابنتها وكم جمع ماءه في أرحام ما زاد على الأربع وفي رحم الأختين وذلك محرم باطل في المذهبين وهذه المفسدة في كتب مفاسد التحليل لا ينبغي أن تفرد بالذكر وهي كموجة واحدة من الأمواج ومن يستطيع عد أمواج البحر وكم من امرأة كانت قاصرة الطرف على بعلها فلما ذاقت عسيلة المحلل خرجت على وجهها فلم يجتمع شمل الإحصان والعفة بعد ذلك بشملها وما كان هذا سبيله فكيف يحتمل أكمل الشرائع واحكمها تحليله فصلوات الله وسلاما على من صرح بلعنته وسماه بالتيس المستعار من بين فساق أمته كما شهد به علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعبد الله بن مسعود وأبو هريرة وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر وعبد الله بن عباس وأخبر عبد الله بن عمر أنهم كانوا يعدونه على عهد رسول الله ﷺ سفاحا أما ابن مسعود ففي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وجامع الترمذي عنه قال لعن رسول الله ﷺ المحلل والمحلل له قال الترمذي حديث حسن صحيح وقال سفيان الثوري حدثني أبو قيس الاودي عن هزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود قال: "لعن رسول الله ﷺ الواشمة والمستوشمة والواصلة والموصولة والمحلل والمحلل له وآكل الربا وموكله" ورواه النسائي والإمام أحمد وروى الترمذي عنه لعن المحلل وصححه ثم قال والعمل عليه عنه أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وهو قول الفقهاء من التابعين ورواة الإمام أحمد من حديث أبي الواصل عن ابن مسعود عن النبي ﷺ: "لعن المحلل والمحلل له" وفي مسند الإمام أحمد والنسائي من حديث الأعمش عن عبد الله بن مرة عن الحارث عن ابن مسعود قال: "آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا به والواصلة والمستوصلة ولاوي الصدقة والمعتدى فيها والمرتد على عقبيه أعرابيا بعد هجرته ملعونون على لسان محمد ﷺ يوم القيامة" وأما حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ففي المسند وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجة من حديث الشعبي عن الحارث عن علي عن النبي ﷺ أنه لعن المحلل والمحلل له وأما حديث أبي هريرة ففي المسند للإمام أحمد ومسند أبي بكر بن أبي شيبة من حديث عثمان بن الأخنس عن المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "لعن الله المحلل والمحلل له" قال يحيى بن معين عثمان بن الأخنس ثقة والذي رواه عنه عبد الله بن جعفر المخرمي ثقة من رجال مسلم وثقه أحمد ويحيى وعلى غيرهم فالإسناد جيد وفي كتاب ألعلل للترمذي ثنا محمد بن يحيى ثنا معلى بن منصور عن عبد الله بن جعفر المخرمي عن عثمان بن محمد الأخنس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة: "أن رسول الله ﷺ لعن المحلل والمحلل له" قال الترمذي سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقا هو حديث حسن وعبد الله بن جعفر الخرمي صدوق وعثمان بن محمد الأخنس ثقة وكنت أظن أن عثمان لم يسمع من سعيد المقبري وقال شيخ الإسلام ابن تيمية هذا إسناد جيد وأما حديث جابر بن عبد الله ففي جامع الترمذي من حديث مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ: "لعن المحلل والمحلل له" ومجالد وإن كان غيره أقوى منه فحديثه شاهد ومقو وأما حديث عقبة بن عامر ففي سنن ابن ماجة عنه قال قال رسول الله ﷺ: "ألا أخبركم بالتيس المستعار" قالوا: بلى يا رسول الله قال: "هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له" رواه الحاكم في صحيحه من حديث الليث بن سعد عن مشرح بن عاهان عن عقبة بن عامر فذكره وقد أعل هذا الحديث بثلاث علل إحداها ان أبا حاتم البستي ضعف مشرح بن عاهان والعلة الثانية ما حكاه الترمذي في كتاب العلل عن البخاري فقال سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن حديث عبد الله بن صالح حدثني الليث عن مشرح بن عاهان عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله ﷺ: "ألا أخبركم بالتيس المستعار هو المحلل والمحلل له ولعن الله المحلل والمحلل له" فقال عبد الله بن صالح لم يكن أخرجه في أيامنا ما أرى الليث سمعه من مشرح بن عاهان لأن حيوة يروى عن بكر بن عمرو عن مشرح والعلة الثالثة ما ذكرها الجوزجاني في ترجمته فقال كانوا ينكرون على عثمان هذا الحديث إنكارا شديدا فأما العلة الأولى فقال محمد بن عبد الواحد المقدسي مشرح قد وثقه يحيى بن معين في رواية عثمان بن سعيد وابن معين أعلم بالرجال من ابن حبان قلت وهو صدوق عند الحفاظ لم يتهمه أحد ألبتة ولا أطلق عليه أحد من أهل الحديث قط أنه ضعيف ولا ضعفه ابن حبان وإنما يقال يروى عن عقبة بن عامر مناكير لا يتابع عليها فالصواب ترك ما انفرد به وانفرد ابن حبان من بين أهل الحديث بهذا القول فيه وأما العلة الثانية فعبد الله ابن صالح قد صرح بأنه سمعه من الليث وكونه لم يخرجه وقت اجتماع البخاري به لا يضره شيئا وأما قوله إن حيوة يروى عن بكر بن عمرو بن شريح المصري عن مشرح فإنه يريد به أن حيوة من أقران الليث أو اكبر منه وإنما روى عن بكر بن عمرو عن مشرح وهذا تعليل قوى ويؤكده أن الليث قال قال مشرح ولم يقل حدثنا وليس بلازم فإن الليث كان معاصرا لمشرح في بلده وطلب الليث العلم وجمعه لم يمنعه أن لا يسمع من مشرح حديثه عن عقبة بن عامر وهو معه في البلد وأما التعليل الثالث فقال شيخ الإسلام إنكار من أنكر هذا الحديث على عثمان غير جيد وإنما هو لتوهم انفراده به عن الليث وظنهم أنه لعله أخطأ فيه حيث لم يبلغهم عن غيره من أصحاب الليث كما قد يتوهم بعض من يكتب الحديث أن الحديث إذا انفرد به عن الرجل من ليس بالمشهور من أصحابه كان ذلك شذوذا فيه وعلة قادحة وهذا لا يتوجه ههنا لوجهين أحدهما أنه قد تابعه عليه أبو صالح كاتب الليث عنه رويناه من حديث أبي بكر القطيعي ثنا جعفر بن محمد الفريابي حدثني العباس المعروف بأبي فريق ثنا أبو صالح حدثني الليث به فذكره ورواه أيضا الدارقطني في سننه ثنا أبو بكر الشافعي ثنا إبراهيم بن الهيثم أخبرنا أبو صالح فذكره الثاني أن عثمان بن صالح هذا المصري نفسه روى عنه البخاري في صحيحه وروى عنه ابن معين وأبو حاتم الرازي وقال هو شيح صالح سليم التأدية قيل له كان يلقن قال لا ومن كان بهذه المثابة كان ما ينفرد به حجة وإنما الشاذ ما خالف به الثقاب لا ما انفرد به عنهم فكيف إذا تابعة مثل أبي صالح وهو كاتب الليث وأكثر الناس حديثا عنه وهو ثقة أيضا وان كان قد وقع في بعض حديثه غلط ومشرح بن عاهان قال فيه ابن معين ثقة وقال فيه الإمام أحمد هو معروف فثبت أن هذا الحديث حديث جيد وإسناده حسن انتهى وقال الشافعي ليس الشاذ أن ينفرد الثقة عن الناس بحديث إنما الشاذ أن يخالف ما رواه الثقات وأما حديث عبد الله بن عباس فرواه ابن ماجة في سننه عنه قال: "لعن رسول الله ﷺ المحلل والمحلل له" وفي إسناده زمعة بن صالح وقد ضعفه قوم ووثقة آخرون وأخرج له مسلم في صحيحه مقرونا بآخر وعن ابن معين فيه روايتان وأما حديث عبد الله بن عمر ففي صحيح الحاكم من حديث ابن أبي مريم حدثنا أبو غسان عن عمرو بن نافع عن أبيه قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة بينه ليحلها لأخيه هل تحل للأول قال لا إلا نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله ﷺ قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال سعيد في سننه ثنا محمد بن نشيط البصري قال قال بكر بن عبد الله المزني لعن المحلل والمحلل له وكان يسمى في الجاهلية التيس المستعار وعن الحسن البصري قال كان المسلمون يقولون هذا التيس المستعار. فصل رأي الإسلام في التحليل فسل هذا التيس هل دخل في قوله تعالى ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة وهل دخل في قوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله وهل دخل في قوله ﷺ من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج وهل دخل في قوله ﷺ تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة وهل دخل في قوله ﷺ: "أربع من سنن المرسلين النكاح والتعطر والختان" وذكر الرابعة وهل دخل في قوله ﷺ النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني وهل دخل في قول ابن عباس خير هذه الأمة أكثرها نساء وهل له نصيب من قوله ﷺ: "ثلاثة حق على الله عونهم الناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء وذكر الثالث أم حق على الله لعنته تصديقا لرسوله فيما أخبر عنه وسله هل يلعن الله ورسوله من يفعل مستحبا أو جائزا أو مكروها أو صغيرة أم لعنته مختصة بمن ارتكب كبيرة أو ما هو أعظم منها كما قال ابن عباس كل ذنب ختم بلعنة أو غضب أو عذاب أو نار فهو كبيرة وسله هل كان في الصحابة محلل واحد أو أقر رجل منهم على التحليل وسله لأي شيء قال عمر بن الخطاب لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما وسله كيف تكون المتعة حراما نصا مع أن المستمتع له غرض في نكاح الزوجة إلى وقت لكن لما كان غير داخل على النكاح المؤبد كان مرتكبا للحرم فكيف يكون نكاح المحلل الذي إنما قصده أن يمسكها ساعة من زمان أو دونها ولاغرض له في النكاح ألبتة بل قد شرط انقطاعه وزواله إذا أخبثها بالتحليل فكيف يجتمع في عقل أو شرع تحليل هذا وتحريم المتعة هذا مع أن المتعة أبيحت في أول الإسلام وفعلها الصحابة وأفتى بها بعضهم بعد موت النبي ﷺ ونكاح المحلل لم يبح في ملة من الملل قط ولم يفعله أحد من الصحابة ولا أفتى به واحد منهم. الحكمة في جعل الطلقات الثلاث المجموعة طلقة واحدة وليس الغرض بيان تحريم هذا العقد وبطلانه وذكر مفاسده وشره فإنه يستدعي سفرا ضخما نختصر فيه الكلام وإنما المقصود أن هذا شأن التحليل عند الله ورسوله وأصحاب رسوله فألزمهم عمر بالطلاق الثلاث إذا جمعوها ليكفوا عنه إذا علموا أن المرأة تحرم به وأنه لا سبيل إلى عودها بالتحليل فلما تغير الزمان وبعد العهد بالسنة وآثار القوم وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس فالواجب أن يرد الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبي ﷺ وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل أو يقللها ويخفف شرها وإذا عرض على من وفقه الله وبصره بالهدى وفقهه في دينه مسألة كون الثلاث واحدة ومسألة التحليل ووازن بينهما تبين له التفاوت وعلم أي المسألتين أولى بالدين وأصلح للمسلمين فهذه حجج المسألتين قد عرضت عليك وقد أهديت إن قبلتها إليك وما أظن عمى التقليد إلا يزيد الأمر على ما هو عليه ولا يدع التوفيق يقودك اختيارا إليه وإنما اشرنا إلى المسألتين إشارة تطلع العالم على ما وراءها وبالله التوفيق. فصل منع التحليل بما هو أخف منه ضررا فقد تبين لك أمر مسألة من المسائل التي تمنع التحليل أفتى بها المفتي وقد قال بها بعض أهل العلم فهي خير من التحليل حتى لو أفتى المفتي بحلها بمجرد العقد من غير وطء لكان أعذر عند الله من أصحاب التحليل وإن اشترك كل منهما في مخالفة النص فإن النصوص المانعة من التحليل المصرحة بلعن فاعله كثيرة جدا والصحابة والسلف مجمعون عليها والنصوص المشترطة للدخول لا تبلغ مبلغها وقد اختلف فيها التابعون فمخالفتها أسهل من مخالفة أحاديث التحليل والحق موافقة جميع النصوص وأن لا يترك منها شيء وتأمل كيف كان الأمر على عهد رسول الله ﷺ وعهد أبي بكر الصديق من كون الثلاث واحدة والتحليل ممنوع منه ثم صار في بقية خلافة عمر الثلاث ثلاث والتحليل ممنوع منه وعمر من أشد الصحابة فيه وكلهم على مثل قوله فيه ثم صار في هذه الأزمنة التحليل كثيرا مشهورا والثلاث ثلاثا وعلى هذا فيمتنع في هذه الأزمنة معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر من وجهين أحدهما أن أكثرهم لا يعلم أن جمع الثلاث حرام لا سيما وكثير من الفقهاء لا يرى تحريمه فكيف يعاقب من لم يرتكب محرما عند نفسه. الثاني أن عقوبتهم بذلك تفتح عليهم باب التحليل الذي كان مسدودا على عهد الصحابة والعقوبة إذا تضمنت مفسدة أكثر من الفعل المعاقب عليه كان تركها أحب إلى الله ورسوله ولو فرضنا أن التحليل مما أباحته الشريعة ومعاذ الله لكان المنع منه إذا وصل إلى هذا الحد الذي قد تفاحش قبحه من باب سد الذرائع وتعين على المفتين والقضاة المنع منه جملة وإن فرض أن بعض أفراده جائز إذ لا يستريب أحد في أن الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة في عهد النبي ﷺ وأبي بكر الصديق وصدر من خلافه عمر أولى من الرجوع إلى التحليل والله الموفق. فصل موجبات الأيمان والأقارير والنذور المثال الثامن مما تتغير به الفتوى لتغير العرف والعادة موجبات الأيمان والإقرار والنذور وغيرها فمن ذلك أن الحالف إذا حلف لا ركبت دابة وكان في بلد عرفهم في لفظ الدابة الحمار خاصة اختصت يمينه به ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل وإن كان عرفهم في لفظ الدابة الفرس خاصة حملت يمينه عليها دون الحمار وكذلك إن كان الحالف ممن عادته ركوب نوع خاص من الدواب كالأمراء ومن جرى مجراهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدواب فيفتي في كل بلد بحسب عرف أهله ويفتي كل أحد بحسب عادته وكذلك إذا حلف لا أكلت رأسا في بلد عادتهم أكل رؤوس الضأن خاصة لم يحنث بأكل رؤوس الطير والسمك ونحوها وإن كان عادتهم أكل رؤوس السمك حنث بأكل رؤوسها وكذلك إذا حلف لا اشتريت كذا ولا بعته ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها ونحو ذلك وعادته أن لا يباشر ذلك بنفسه كالملوك حنث قطعا بالإذن والتوكيل فيه فإنه نفس ما حلف عليه وإن كان عادته مباشرة ذلك بنفسه كآحاد الناس فان قصد منع نفسه من المباشرة لم يحنث بالتوكيل وان قصد عدم الفعل والمنع منه جملة حنث بالتوكيل وإن أطلق اعتبر سبب اليمين وبساطها وماهيجها وعلى هذا إذا أقر الملك أو أغنى أهل البلد لرجل بمال كثير لم يقبل تفسيره بالدرهم والرغيف ونحوه مما يتمول فإن أقر به فقير يعد عنده الدرهم والرغيف كثيرا قبل منه وعلى هذا إذا قيل له جاريتك أو عبدك يرتكبان الفاحشة فقال ليس كذلك بل هما حران لا أعلم عليهما فاحشة فالحق المقطوع به أنهما لا يعتقان بذلك لا في الحكم ولا فيما بينه وبين الله تعالى فإنه لم يرد ذلك قطعا واللفظ مع القرائن المذكورة ليس صريحا في العتق ولا ظاهرا فيه ولا محتملا له فإخراج عبده أو أمته عن ملكه بذلك غير جائز ومن ذلك ما أخبرني به بعض أصحابنا انه قال لامرأته إن أذنت لك في الخروج إلى الحمام فأنت طالق فتهيأت للخروج إلى الحمام فقال لها أخرجي وابصري فاستفتى بعض الناس فأفتوه بأنها قد طلقت منه فقال للمفتي بأي شيء أوقعت على الطلاق قال بقولك لها أخرجي فقال إني لم أقل لها ذلك إذنا وإنما قلته تهديدا أي إنك لا يمكنك الخروج وهذا كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فهل هذا إذن لهم أن يعملوا ما شاءوا فقال لا أدري أنت لفظت بالإذن فقال له ما أردت الإذن فلم يفقه المفتي هذا وغلظ حجابه عن إدراكه وفرق بينه وبين امرأته بما لم يأذن به الله ورسوله ولا أحد من أئمة الإسلام وليت شعري هل يقول هذا المفتى إن قوله تعالى فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إذن له في الكفر وهؤلاء أبعد الناس عن الفهم عن الله ورسوله وعن المطلقين مقاصدهم ومن هذا إذا قال العبد لسيده وقد استعمله في عمل يشق عليه أعتقني من هذا العمل فقال أعتقتك ولم ينو إزالة ملكه عنه لم يعتق بذلك وكذلك إذا قال عن امرأته هذه أختي ونوى أختى في الدين لم تحرم بذلك ولم يكن مظاهرا والصريح لم يكن موجبا لحكمه لذاته وإنما أوجبه لأنا نستدل على قصد المتكلم به لمعناه لجريان اللفظ على لسانه اختيارا فإذا ظهر قصده بخلاف معناه لم يجز ان يلزم بما لم يرده ولا التزمه ولا خطر بباله بل إلزامه بذلك جناية على الشرع وعلى المكلف والله سبحانه وتعالى رفع المؤاخذة عن المتكلم بكلمة الكفر مكرها لما لم يقصد معناها ولا نواها فكذلك المتكلم بالطلاق والعتاق والوقف واليمين والنذر مكرها لا يلزمه شيء من ذلك لعدم نيته وقصده وقد أتى باللفظ الصريح فعلم أن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم به والله تعالى رفع المؤاخذة عمن حدث نفسه بأمر بغير تلفظ أو عمل كما دفعها عمن تلفظ باللفظ من غير قصد لمعناه ولا إرادة ولهذا لا يكفر من جرى على لسانه لفظ الكفر سبقا من غير قصد لفرح أو دهش وغير ذلك كما في حديث الفرح الإلهي بتوبة العبد وضرب مثل ذلك بمن فقد راحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة فأيس منها ثم وجدها فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ولم يؤاخذ بذلك وكذلك إذا أخطأ من شدة الغضب لم يؤاخذ بذلك ومن هذا قوله تعالى ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم قال السلف هو دعاء الإنسان على نفسه وولده وأهله في حال الغضب ولو استجابه الله تعالى لأهلكه وأهلك من يدعو عليه ولكنه لا يستجيبه لعلمه بأن الداعي لم يقصده لا طلاق لغضبان ومن هذا رفعه ﷺ حكم الطلاق عمن طلق في إغلاق وقال الإمام أحمد في رواية حنبل هو الغضب وكذلك فسره أبو داود وهو قول القاضي إسماعيل بن إسحاق أحد أئمة الماليكة ومقدم فقهاء أهل العراق منهم وهي عنده من لغو اليمين أيضا فأدخل يمين الغضبان في لغو اليمين وفي يمين الإغلاق وحكاه شارح أحكام عبد الحق عنه وهو ابن بزيزة الأندلسي قال وهذا قول على وابن عباس وغيرهما من الصحابة إن الأيمان المنعقدة كلها في حال الغضب لا تلزم وفي سنن الدارقطني بإسناد فيه لين من حديث ابن عباس يرفعه لا يمين في غضب ولا عتاق فيما لا يملك وهو وإن لم يثبت رفعه فهو قول ابن عباس وقد فسر الشافعي لاطلاق في اغلاق بالغضب وفسره به مسروق فهذا مسروق والشافعي وأحمد وأبو داود والقاضي إسماعيل كلهم فسروا الإغلاق بالغضب وهو من أحسن التفسير لأن الغضبان غلق عليه باب القصد بشدة غضبه وهو كالمكره بل الغضبان أولى بالإغلاق من المكره لأن المكره قد قصد رفع الشر الكثير بالشر القليل الذي هو دونه فهو قاصد حقيقة ومن هنا أوقع عليه الطلاق من أوقعه وأما الغضبان فإن انغلاق باب القصد والعلم عنه كانغلاقه عن السكران والمجنون فإن الغضب غول العقل يغتاله كما يغتال الخمر بل أشد وهو شعبة من الجنون ولا يشك فقيه النفس في أن هذا لا يقع طلاقه ولهذا قال حبر الأمة الذي دعا له رسول الله ﷺ بالفقه في الدين إنما الطلاق عن وطر ذكره البخاري في صحيحه أي عن غرض من المطلق في وقوعه وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه وإجابة الله دعاء رسوله له إذا الألفاظ إنما يترتب عليها موجباتها لقصد اللافظ بها ولهذا لم يؤاخذنا الله باللغو في أيماننا ومن اللغو ما قالته أم المؤمنين عائشة وجمهور السلف انه قول الحالف لا والله وبلى والله في عرض كلامه من غير عقد اليمين وكذلك لا يؤاخذ الله باللغو في أيمان الطلاق كقول الحالف في عرض كلامه على الطلاق لا أفعل والطلاق يلزمني لا أفعل من غير قصد لعقد اليمين بل إذا كان اسم الرب جل جلاله لا ينعقد به يمين اللغو فيمين الطلاق أولى ألا ينعقد ولا يكون أعظم حرمة من الحلف بالله وهذا أحد القولين من مذهب أحمد وهو الصواب وتخريجه على نص أحمد صحيح فإنه نص على اعتبار الاستثناء في يمين الطلاق لأنها عنده يمين ونص على أن اللغو ان يقول لا والله وبلى والله من غير قصد لعقد اليمين وقد قال النبي ﷺ: "إن الله ينهاكم ان تحلفوا بآبائكم" وصح عنه أنه قال: "أفلح وأبيه إن صدق" ولا تعارض بينهما ولم يعقد النبي ﷺ اليمين بغير الله قط وقد قال حمزة للنبي ﷺ هل أنتم إلا عبيد لأبي وكان نشوانا من الخمر فلم يكفره بذلك وكذلك الصحابي الذي قرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون وكان ذلك قبل تحريم الخمر ولم يعد بذلك كافرا لعدم القصد وجريان اللفظ على اللسان من غير إرادة لمعناه فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه فتجنى عليه وعلى الشريعة وتنسب إليها ما هي بريئة منه وتلزم الحالف والمقر والناذر والعاقد ما لم يلزمه الله ورسوله به ففقيه النفس يقول ما أردت ونصف الفقيه يقول ما قلت فاللغو في الأقوال نظير الخطأ والنسيان في الأفعال وقد رفع الله المؤاخذة بهذا وهذا كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فقال ربهم تبارك وتعالى: قد فعلت. فصل كيف يقع الطلاق ومن هذا الباب اليمين بالطلاق والعتاق فإن إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعتق عبده مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبدا وإنما المحفوظ إلزام الطلاق بصيغة الشرط والجزاء الذي قصد به الطلاق عند وجود الشرط كما في صحيح البخاري عن نافع قال طلق رجل امرأته ألبتة إن خرجت فقال ابن عمر إن خرجت فقد بانت منه وإن لم تخرج فليس بشيء فهذا لا ينازع فيه إلا من يمنع وقوع الطلاق المعلق بالشرط مطلقا وأما من يفصل بين القسم المحض والتعليق الذي يقصد به الوقوع فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب فإنهم صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صور وصح عنهم عدم الوقوع في صور والصواب ما أفتوا به في النوعين ولا يؤخذ ببعض فتاويهم ويترك بعضها فأما الوقوع فالمحفوظ عنهم ما ذكره البخاري عن ابن عمر وما رواه الثوري عن الزبير بن عربي عن إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله عنه في رجل قال لامرأته إن فعلت كذا وكذا فهى طالق ففعلته قال هي واحدة وهو أحق بها على أنه منقطع وكذلك ما ذكره البيهقي وغيره عن ابن عباس في رجل قال لامرأته هي طالق إلى سنة قال يستمتع بها إلى سنة ومن هذا قول أبي ذر لامرأته وقد ألحت عليه في سؤاله عن ليلة القدر فقال إن عدت سألتني فأنت طالق. وههنا نكتة لطيفة يحسن التنبيه عليها وهى أن أبا ذر سأل النبي ﷺ عن ليلة القدر وألح عليه حتى قال له النبي ﷺ: في آخر مسألته: "التمسوها في العشر الأواخر ولا تسألني عن شيء بعد هذا" ثم حدث النبي ﷺ وحدث قال فاهتبلت غفلته فقلت أقسمت عليك يا رسول الله بحقي عليك لتحدثني في أي العشر هي قال فغضب علي غضبا ما غضب على من قبل ولا من بعد ثم قال: "التمسوها في السبع الأواخر ولا تسألني عن شيء بعد" ذكره النسائي والبيهقي فأصاب أبا ذر من امرأته وإلحاحها عليه ما أوجب غضبه وقال إن عدت سألتني فأنت طالق فهذه جميع الآثار المحفوظة عن الصحابة في وقوع الطلاق المعلق. وأما الآثار عنهم في خلافه فصح عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة فيمن حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته أنها تكفر عن يمينها ولا تفرق بينهما قال الأثرم في سننه ثنا عارم بن الفضل ثنا معمر بن سليمان قال قال أبي ثنا بكر بن عبد الله قال أخبرني أبو رافع قال قالت مولاتي ليلى بنت العجماء كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدى وهي يهودية وهي نصرانية إن لم تطلق امرأتك أو تفرق بينك وبين امرأتك قال فأتيت زينب بنت أم سلمة كانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب قال فأتيتها فجاءت معي إليها فقالت في البيت هاروت وماروت فقالت يا زينب جعلني الله فداك إنها قالت إن كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدى وهي يهودية وهي نصرانية فقالت يهودية ونصرانية خل بين الرجل وامرأته فأتيت حفصة أم المؤمنين فارسلت إليها فأتتها فقالت يا أم المؤمنين جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدى وهي يهودية ونصرانية فقالت يهودية ونصرانية خل بين الرجل وامرأته قالت فأتيت عبد الله بن عمر فجاء معي إليها فقام معي على الباب فسلم فقالت بيبى أنت وبيبى أبوك فقال أمن حجارة أنت أم من حديد أنت أم أي شيء أنت أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي فتياهما فقالت يا أبا عبد الرحمن جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهي يهودية وهي نصرانية فقال يهودية ونصرانية كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وامرأته وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في المترجم له ثنا صفوان بن صالح ثنا عمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي قال حدثنى حسن بن الحسن قال حدثني بكر بن عبد الله المزني قال حدثني رفيع قال كنت أنا وامرأتي مملوكين لامرأة من الانصار فحلفت بالهدى والعتاقة أن تفرق بيننا فأتيت امرأة من أزواج النبي ﷺ فذكرت لها ذلك فأرسلت إليها أن كفري عن يمينك فأبت ثم أتيت زينب وأم سلمة فذكرت ذلك لهما فأرسلتا إليها أن كفري عن يمينك فأبت فأتيت ابن عمر فذكرت له فأرسل إليها ابن عمر أن كفري عن يمينك فأبت فقام ابن عمر فأتاها فقال أرسلت إليك فلانة زوجة النبي ﷺ وزينب أن تكفري عن يمينك فأبيت قالت يا أبا عبد الرحمن إني حلفت بالهدى والعتاقة قال وإن كنت قد حلفت بهما وقال الدارقطني ثنا أبو بكر النيسابوري ثنا محمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري ثنا أشعث ثنا بكر بن عبد الله المزني عن أبي رافع أن مولاة له أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت هي يوما يهودية ويوما نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تفرق بينهما فسألت عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة رضي الله عنهم فكلهم قالوا لها أتريدين ان تكفري مثل هاروت وماروت فأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلى بينهما. وقد رواه البيهقي من طريق الانصاري ثنا أشعث ثنا بكر عن أبي رافع ان مولاته أرادت ان تفرق بينه وبين امرأته فقالت هي يوما يهودية ويوما نصرانية وكل مملوك لها حر وكل مال لها في سبيل الله وعليها المشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما فسألت عائشة وابن عمر وابن عباس وحفصة وام سلمة فكلهم قالوا لها أتريدين تكفري مثل هاروت وماروت وامروها ان تكفر عن يمينها وتخلى بينهما رواه روح والأنصاري واللفظ له وحديث روح مختصر وقال النضر بن شميل ثنا أشعث عن بكر بن عبد الله عن أبي رافع عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة في هذه القصة قالوا تكفر يمينها وقال يحيى بن سعيد القطان عن سليمان التيمي ثنا بكر بن عبد الله عن أبي رافع: أن ليلى بنت العجماء مولاته قالت هي يهودية وهي نصرانية وكل مملوك لها حر وكل مال لها هدى إن لم يطلق امرأته إن لم تفرق بينهما فذكر القصة وقال فأتيت ابن عمر فجاء معي فقام بالباب فلما سلم قالت بأبي أنت وابوك فقال أمن حجارة أنت أم من حديد أتتك زينب وأرسلت إليك حفصة قالت وقد حلفت بكذا وكذا قال كفري عن يمينك وخلى بين الرجل وامرأته. فقد تبين بسياق هذه الطرق انتفاء العلة التي أعل بها حديث ليلى هذا وهي تفرد التيمي فيه بذكر العتق كذا قال الإمام أحمد: لم يقل وكل مملوك لها حر الا التيمى وبريء التيمي من عهدة التفرد وقاعدة الإمام أحمد أن ما أفتى به الصحابة لا يخرج عنه إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه فعلى أصله الذي بني مذهبه عليه يلزمه القول بهذا الأثر لصحته وانتفاء علته. فإن قيل للحديث علة أخرى وهي التي منعت الإمام أحمد من القول به وقد أشار اليها في رواية الأثرم فقال الاثرم سمعت أبا عبد الله يقول في حديث ليلى بنت العجماء حين حلفت بكذا وكذا وكل مملوك لها حر فأفتيت بكفارة يمين فاحتج بحديث ابن عمر وابن عباس حين افتيا فيمن حلف بعتق جاريته وأيمان فقال أما الجارية فتعتق. قلت: يريد بهما ما رواه معمر عن إسماعيل بن امية عن عثمان بن أبي حاضر قال حلفت امرأة من آل ذي أصبح فقالت مالها في سبيل الله وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا لشيء يكرهه زوجها فحلف زوجها أن لا تفعله فسأل عن ذلك ابن عباس وابن عمر فقالا أما الجارية فتعتق وأما قولها مالي في سبيل الله فتتصدق بزكاة مالها فقيل لا ريب أنه قد روى عن ابن عمر وابن عباس ذلك ولكنه أثر معلول تفرد به عثمان هذا وحديث ليلى بنت العجماء أشهر إسنادا وأصح من حديث عثمان فإن رواته حفاظ أئمة وقد خالفوا عثمان وأما ابن عباس فقد روى عنه خلاف ما رواه عثمان فيمن حلف بصدقة ماله قال يكفر يمينه وغاية هذا الأثر إن صح أن يكون عن ابن عمر روايتان ولم يختلف على عائشة وزينب وحفصة وأم سلمة قال أبو محمد بن حزم وصح عن ابن عمر وعائشة وام سلمة امي المؤمنين وعن ابن عمر أنهم جعلوا في قول ليلى بنت العجماء كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق امرأتك كفارة يمين واحدة فإذا صح هذا عن الصحابة ولم يعلم لهم مخالف سوى هذا الأثر المعلول أثر عثمان بن أبي حاضر في قول الحالف عبده حر إن فعل انه يجزيه كفارة يمين وإن لم يلزموه بالعتق المحبوب إلى الله تعالى فإن لا يلزموه بالطلاق البغيض إلى الله أولى وأحرى كيف وقد أفتى أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام الحالف بالطلاق أنه لا شيء عليه ولم يعرف له في الصحابة مخالف قاله عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التيمي المعروف بابن بزيزة في شرحه لأحكام عبد الحق. الباب الثالث: في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمشي وغير ذلك هل يلزم أم لا فقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه وشريح وطاوس لا يلزم من ذلك شيء ولا يقضى بالطلاق على من حلف به بحنث ولا يعرف لعلى في ذلك مخالف من الصحابة هذا لفظه بعينه فهذه فتوى أصحاب رسول الله ﷺ في الحلف بالعتق والطلاق وقد قدمنا فتاويهم في وقوع الطلاق المعلق بالشرط ولا تعارض بين ذلك فإن الحالف لم يقصد وقوع الطلاق وإنما قصد منع نفسه بالحلف مما لا يريد وقوعه فهو كما لو خص منع نفسه بالتزام التطليق والاعتاق والحج والصوم وصدقة المال وكما لو قصد منع نفسه بالتزام ما يكرهه من الكفر فإن كراهته لذلك كله وإخراجه مخرج اليمين بما لا يريد وقوعه منع من ثبوت حكمة وهذه علة صحيحة فيجب طردها في الحلف بالعتق والطلاق إذ لا فرق ألبتة والعلة متى تخصصت بدون فوات شرط أو وجود مانع دل ذلك على فسادها كيف والمعنى الذي منع لزوم الحج والصدقة والصوم بل لزوم الإعتاق والتطليق بل لزوم اليهودية والنصرانية هو في الحلف بالطلاق أولى أما العبادات المالية والبدنية فإذا منع لزومها قصد اليمين وعدم قصد وقوعها فالطلاق أولى وكل ما يقال في الطلاق فهو بعينه في صور الإلزام سواء بسواء وأما الحلف بالتزام التطليق والاعتاق فإذا كان قصد اليمين قد منع ثلاثة أشياء وهي وجوب التطليق وفعله وحصول أثره وهو الطلاق فلأن يقوى على منع واحد من الثلاثة وهو وقوع الطلاق وحده أولى وأحرى وأما الحلف بالتزام الكفر الذي يحصل بالنية تارة وبالفعل تارة وبالقول تارة وبالشك تارة ومع هذا فقصد اليمين منع من وقوعه فلأن يمنع من وقوع الطلاق أولى وأحرى وإذا كان العتق الذي هو أحب الأشياء إلى الله ويسرى في ملك الغير وله من القوة وسرعة النفوذ ما ليس لغيره ويحصل بالملك والفعل قد منع قصد اليمين من وقوعه كما فتى به الصحابة فالطلاق أولى وأحرى بعدم الوقوع وإذا كانت اليمين بالطلاق قد دخلت في قول الملكف أيمان المسلمين تلزمني عند من ألزمه بالطلاق فدخولها في قول رب العالمين قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم أولى وأحرى وإذا دخلت في قول الحالف إن حلفت يمينا فعبدي حر فدخولها في قول النبي ﷺ: "من حلف علي يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير" أولى وأحرى وإذا دخلت في قول النبي ﷺ: "من حلف فقال إن شاء الله فأن شاء فعل وإن شاء ترك" فدخولها في قوله من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه أولى وأحرى فإن الحديث أصح وأصرح وإذا دخلت في قوله من حلف على يمين فأجره يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان. فدخولها في قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} أولى وأحرى بالدخول أو مثله وإذا دخلت في قوله تعالى للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فلو حلف بالطلاق كان موليا فدخولها في نصوص الأيمان أولى وأحرى لأن الإيلاء نوع من اليمين فإذا دخل الحلف بالطلاق في النوع فدخوله في الجنس سابق عليه فإن النوع مستلزم الجنس ولا ينعكس وإذا دخلت في قوله يمينك على ما يصدقك به صاحبك فكيف لا يدخل في بقية نصوص الأيمان وما الذي أوجب هذا التخصيص من غير مخصص وإذا دخلت في قوله إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفق ثم يمحق فهلا دخلت في غيره من نصوص اليمين وما الفرق المؤثر شرعا أو عقلا أو لغة وإذا دخلت في قوله واحفظوا أيمانكم فهلا دخلت في قوله ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وإذا دخلت في قول الحالف أيمان البيعة تلزمني وهي الأيمان التي رتبها الحجاج فلم لا تكون أولى بالدخول في لفظ الايمان في كلام الله تعالى ورسوله فإن كانت يمين الطلاق يمينا شرعية بمعنى ان الشرع اعتبرها وجب أن تعطى حكم الايمان وان لم تكن يمينا شرعية كانت باطلة في الشرع فلا يلزم الحالف بها شيء كما صح عن طاوس من رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عنه ليس الحلف بالطلاق شيئا وصح عن عكرمة من رواية سنيد بن داود بن علي في تفسيره عنه أنها من خطوات الشيطان لا يلزم بها شيء وصح عن شريح قاضي أمير المؤمنين علي وابن مسعود أنها لا يلزم بها طلاق وهو مذهب داود ابن علي وجميع أصحابه وهو قول بعض أصحاب مالك في بعض الصور فيما إذا حلف عليها بالطلاق على شيء لا تفعله هي كقوله إن كلمت فلانا فأنت طالق فقال لا تطلق إن كلمته لأن الطلاق لا يكون بيدها إن شاءت طلقت وإن شاءت أمسكت وهو قول بعض الشافعية في بعض الصور كقوله الطلاق يلزمني أو لازم لي لا أفعل كذا وكذا فإن لهم فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه إن نوى وقوع الطلاق بذلك لزمه وإلا فلا يلزمه وجعله هؤلاء كناية والطلاق يقع بالكناية مع النية الوجه الثاني أنه صريح فلا يحتاج إلى نيته وهذا اختيار الروياني ووجهه أن هذا اللفظ قد غلب في إرادة الطلاق فلا يحتاج إلى نية الوجه الثالث أنه ليس بصريح ولا كناية ولا يقع به طلاق وإن نواه وهذا اختيار القفال في فتاويه ووجهه ان الطلاق لا بد فيه من إضافته إلى المرأة كقوله أنت طالق أو طلقتك أو قد طلقتك أو يقول امرأتي طالق أو فلانه طالق ونحو هذا ولم توجد هذه الإضافة في قوله الطلاق يلزمني ولهذا قال ابن عباس فيمن قال لامرأته طلقي نفسك فقالت أنت طالق فإنه لا يقع بذلك طلاق وقال خطأ الله نوأها وتبعه على ذلك الأئمة فإذا قال الطلاق يلزمني لم يكن لازما له إلا أن يضيفه إلى محله ولم يضفه فلا يقع والموقعون يقولون إذا التزمه فقد لزمه ومن ضرورة لزومه إضافته إلى المحل فجاءت الإضافة من ضرورة اللزوم ولمن نصر قول القفال ان يقول إما أن يكون قائل هذا اللفظ قد التزم التطليق أو وقوع الطلاق الذي هو أثره فإن كان الأول لم يلزمه لأنه نذر ان يطلق ولا تطلق المرأة بذلك وان كان قد التزم الوقوع فالتزامه بدون سبب الوقوع ممتنع وقوله الطلاق يلزمني التزام لحكمه عند وقوع سببه وهذا حق فأين في هذا اللفظ وجود سبب الطلاق وقوله الطلاق يلزمني لا يصلح أن يكون سببا إذ لم يضف فيه الطلاق إلى محله فهو كما لو قال العتق يلزمني ولم يضف فيه العتق إلى محله بوجه ونظير هذا ان يقول له بعنى أو آجرني فيقول البيع يلزمني أو الإجارة تلزمني فإنه لا يكون بذلك موجبا لعقد البيع أو الاجارة حتى يضيفهما إلى محلهما وكذلك لو قال الظهار يلزمني لم يكن بذلك مظاهرا حتى يضيفه إلى محله وهذا بخلاف ما لو قال الصوم يلزمني أو الحج أو الصدقة فإن محله الذمة وقد أضافه إليها. فإن قيل وههنا محل الطلاق والعتاق الذمة. محل الطلاق الزوجة ومحل العتاق العبد قيل هذا غلط بل محل الطلاق والعتاق نفس الزوجة والعبد وإنما الذمة محل وجوب ذلك وهو التطليق والاعتاق وحيئذ فيعود الالتزام إلى التطليق والإعتاق وذلك لا يوجب الوقوع والذي يوضح هذا أنه لو قال أنا منك طالق لم تطلق بذلك لإضافة الطلاق إلى غير محله وقيل تطلق إذا نوى طلاقها هي بذلك تنزيلا لهذا اللفظ منزلة الكنايات فهذا كشف سر هذه المسألة وممن ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو القاسم بن يونس في شرح التنبيه وأكثر أيمان الطلاق بهذه الصيغة فكيف يحل لمن يؤمن بأنه موقوف بين يدى الله ومسئول أن يكفر أو يجهل من يفتى بهذه المسألة ويسعى في قتله وحبسه ويلبس على الملوك والأمراء والعامة أن المسألة مسألة إجماع ولم يخالف فيها أحد من المسلمين وهذه أقوال أئمة المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وقد علم الله ورسوله وملائكته وعباده أن هذه المسألة لم ترد بغير الشكاوي إلى الملوك ودعوى الإجماع الكاذب والله المستعان وهو عند كل لسان قائل وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون. اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ وهذا الذي قلناه من اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ وانها لا تلزم بها أحكامها حتى يكون المتكلم بها قاصدا لها مريدا لموجباتها كما أنه لا بد أن يكون قاصدا للتكلم باللفظ مريدا له فلا بد من إرادتين إرادة التكلم باللفظ اختيارا وإرادة موجبه ومقتضاه بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ فإنه المقصود واللفظ وسيلة هو قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام وقال مالك وأحمد فيمن قال أنت طالق ألبتة وهو يريد أن يحلف على شيء ثم بدا له فترك اليمين لا يلزمه شيء لأنه لم يرد ان يطلقها وكذلك قال أصحاب أحمد وقال أبو حنيفة من أراد أن يقول كلاما فسبق لسانه فقال أنت حرة لم تكن بذلك حرة وقال أصحاب أحمد لو قال الأعجمي لامرأته أنت طالق وهو لا يفهم معنى هذه اللفظة لم تطلق لأنه ليس مختارا للطلاق فلم يقع طلاقه كالمكره قالوا فلو نوى موجبه عند أهل العربية لم يقع أيضا لأنه لا يصح منه اختيار مالا يعلمه وكذلك لو نطق بكلمة الكفر من لا يعلم معناها لم يكفر وفي مصنف وكيع ان عمر بن الخطاب قضى في امرأة قالت لزوجها سمني فسماها الطيبة فقالت لا فقال لها ما تريدين ان اسميك قالت سمني خلية طالق فقال لها فأنت خلية طالق فأتت عمر بن الخطاب فقالت إن زوجي طلقني فجاء زوجها فقص عليه القصة فأوجع عمر رأسها وقال لزوجها خذ بيدها وأوجع رأسها وهذا هو الفقه الحي الذي يدخل على القلوب بغير استئذان وإن تلفظ بصريح الطلاق وقد تقدم أن الذي قال لما وجد راحلته اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح لم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر لكونه لم يرده والمكره على كلمة الكفر أتى بصريح كلمته ولم يكفر لعدم إرادته بخلاف المستهزئ والهازل فإنه يلزمه الطلاق والكفر وإن كان هازلا لأنه قاصد للتكلم باللفظ وهزله لا يكون عذرا له بخلاف المكره والمخطئ والناسي فإنه معذور مأمور بما يقوله أو مأذون له فيه والهازل غير مأذون له في الهزل بكلمة الكفر والعقود فهو متكلم باللفظ مريد له ولم يصرفه عن معناه إكراه ولا خطأ ولا نسيان ولا جهل والهزل لم يجعله الله ورسوله عذرا صارفا بل صاحبه أحق بالعقوبة ألا ترى أن الله تعالى عذر المكره في تكلمه بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان ولم يعذر الهازل بل قال ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم وكذلك رفع المؤاخذة على المخطئ والناسي. فصل تعليق الطلاق بالشرط المنوي ومن ذلك أنه لو قال أنت طالق وقال أردت إن كلمت رجلا أو خرجت من داري لم يقع به الطلاق في أحد الوجهين لأصحاب أحمد والشافعي وكذلك لو قال أردت إن شاء الله ففيه وجهان لهم ونص الشافعي فيما لو قال إن كلمت زيدا فأنت طالق ثم قال أردت به إلى شهر فكلمة بعد شهر لم تطلق باطنا وفرق بين هذه الصورة والصورتين اللتين قبلها فإن التقييد بالغاية المنوية كالتقييد بالمشيئة المنوية وهو أولى بالجواز من تخصيص العام بالنية كما إذا قال نسائي طوالق واستثنى بقلبه واحدة منهن فإنه إذا صح الاستثناء بالنية في إخراج ما يتناوله اللفظ صح التقييد بالنية بطريق الأولى فإن اللفظ لا دلالة له بوضعه على عموم الأحوال والأزمان ولو دل عليها بعمومه فإخراج بعضها تخصيص للعام وهذا ظاهر جدا وغايته استعمال العام في الخاص أو المطلق في المقيد وذلك غير بدع لغة وشرعا وعرفا وقد قال النبي ﷺ أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه فالصواب قبول مثل هذا فيما بينه وبين الله وفي الحكم أيضا. فصل الحلف بالطلاق وبالحرام له صيغتان قد عرف أن الحلف بالطلاق له صيغتان إحداهما إن فعلت كذا وكذا فأنت طالق والثانية الطلاق يلزمني لا أفعل كذا وأن الخلاف في الصيغتين قديما وحديثا وهكذا الحلف بالحرام له صيغتان إحداهما إن فعلت كذا فأنت علي حرام أو ما أحل الله على حرام والثانية الحرام يلزمني لا أفعل كذا فمن قال في الطلاق يلزمني إنه ليس بصريح ولا كناية ولا يقع به شيء ففي قوله الحرام يلزمني أولى ومن قال إنه كناية إن نوى به الطلاق كان طلاقا وإلا فلا فهكذا يقول في الحرام يلزمني ان نوى به التحريم كان كما لو نوى بالطلاق التطليق فكأنه التزم ان يحرم كما التزم ذلك أن يطلق فهذا التزام للتحريم وذاك التزام للتطليق وان نوى به ما حرم الله على يلزمني تحريمه لم يكن يمينا ولا تحريما ولا طلاقا ولا ظهارا ولا يجوز ان يفرق بين المسلم وبين امرأته بغير لفظ لم يوضع للطلاق ولا نواه وتلزمه كفارة يمين حرمة لشدة اليمين إذ ليست كالحلف بالمخلوق التي لا تنعقد ولا هي من لغو اليمين وهي يمين منعقدة ففيها كفارة يمين. وبهذا أفتى ابن عباس ورفعه إلى النبي ﷺ فصح عنه بأصح إسناد الحرام يمين يكفرها ثم قال لقد كان لكم في رسول الله ﷺ أسوة حسنة. وهكذا حكم قوله إن فعلت كذا فأنت على حرام وهذا أولى بكفارة يمين من قوله أنت علي حرام وفي قوله أنت على حرام أو ما أحل الله على حرام أو أنت على حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير مذاهب. المذهب الأول فيمن قال لزوجته أنت علي حرام أحدها أنه لغو وباطل ولا يترتب عليه شيء وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس وبه قال مسروق وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعطاء والشعبي وداود وجميع أهل الظاهر وأكثر أصحاب الحديث وهو أحد قولى المالكية اختاره اصبغ ابن الفرج. وفي الصحيح عن سعيد بن جبير انه سمع ابن عباس يقول إذا حرم امرأته فليس بشيء لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وصح عن مسروق أنه قال ما أبالي أحرمت امرأتي أو قصعة من ثريد وصح عن الشعبي في تحريم المرأة لهو أهون على من نعلى وقال أبو سلمة ما أبالي أحرمت امرأتي أو حرمت ماء النهر. وقال الحجاج بن منهال إن رجلا جعل امرأته عليه حراما فسأل عن ذلك حميد بن عبد الرحمن فقال له حميد قال الله تعالى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب وأنت رجل تلعب فاذهب فالعب. فصل المذهب الثاني المذهب الثاني أنها ثلاث تطليقات وهو قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزيد بن ثابت وابن عمر والحسن البصري ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى وقضى فيها أمير المؤمنين على بالثلاث في عدي بن قيس الكلابي وقال له والذي نفسي بيده لئن مسستها قبل ان تتزوج غيرك لأرجمنك وحجة هذا القول أنها لا تحرم عليها إلا بالثلاث فكان وقوع الثلاث من ضرورة كونها حراما عليه. المذهب الثالث المذهب الثالث أنها بهذا القول حرام عليه صح أيضا عن أبي هريرة والحسن وخلاس بن عمرو وجابر بن زيد وقتادة ولم يذكر هؤلاء طلاقا بل أمروه باجتنابها فقط وصح ذلك أيضا عن علي عليه السلام فإما أن يكون عنه روايتان أو يكون أراد تحريم الثلاث وحجة هذا القول أن لفظه إنما اقتضى التحريم ولم يتعرض لعدد الطلاق فحرمت عليه بمقتضى تحريمه. المذهب الرابع المذهب الرابع الوقف فيها صح ذلك عن أمير المؤمنين على أيضا وهو قول الشعبي قال يقول رجال في الحلال حرام إنها حرام حتى تنكح زوجا غيره وينسبونه إلى علي والله ما قال ذلك علي إنما قال ما أنا بمحلها ولا بمحرمها عليك إن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر وحجة هؤلاء أن التحريم ليس بطلاق وهو لا يملك تحريم الحلال وإنما يملك إنشاء السبب الذي يحرم به وهو الطلاق وهذا ليس بصريح في الطلاق ولا هو مما ثبت له عرف الشرع في تحريم الزوجة فاشتبه الأمر فيه. المذهب الخامس المذهب الخامس إن نوى به الطلاق فهو طلاق وإلا فهو يمين وهذا قول طاوس والزهري والشافعي ورواية عن الحسن وحجة هذا القول أنه كناية في الطلاق فإن نواه به كان طلاقا وإن لم ينوه كان يمينا لقوله تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}. المذهب السادس المذهب السادس أنه إن نوى بها الثلاث فثلاث وإن نوى واحدة فواحدة بائنة وإن نوى يمينا فهو يمين وإن لم ينو شيئا فهي كذبة لا شيء فيها قاله سفيان وحكاه النخعي عن أصحابه وحجة هذا القول ان اللفظ يحتمل لما نواه من ذلك فيتبع نيته. المذهب السابع المذهب السابع مثل هذا إلا أنه إن لم ينو شيئا فهو يمين يكفرها وهو قول الأوزاعي وحجة هذا القول ظاهر قوله تعالى قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فإذا نوى به الطلاق لم يكن يمينا فإذا طلق ولم ينو الطلاق كان يمينا. المذهب الثامن المذهب الثامن مثل هذا أيضا إلا أنه إن لم ينو شيئا فواحدة بائنة إعمالا للفظ التحريم. المذهب التاسع المذهب التاسع: أن فيه كفارة الظهار وصح ذلك عن ابن عباس أيضا وأبي قلابة وسعيد بن جبير ووهب بن منبة وعثمان التيمي وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد وحجة هذا القول إن الله تعالى جعل تشبيه المرأة بأمه المحرمة عليه ظهارا وجعله منكرا من القول وزورا فإن كان التشبيه بالمحرمة يجعله مظاهرا فإذا صرح بتحريمها كان أولى بالظهار. وهذا أقيس الأقوال وأفقهها ويؤيده أن الله لم يجعل للمكلف التحريم والتحليل وإنما ذلك إليه تعالى وإنما جعل له مباشرة الأفعال والأقوال التي يترتب عليها التحريم والتحليل فالسبب إلى العبد وحكمه إلى الله تعالى فإذا قال أنت على كظهر أمي أو قال أنت على حرام فقد قال المنكر من القول والزور وكذب فإن الله لم يجعلها كظهر أمه ولا جعلها عليه حراما فأوجب عليه بهذا القول من المنكر والزور أغلظ الكفارتين وهي كفارة الظهار. المذهب العاشر المذهب العاشر أنها تطليقة واحدة وهي أحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب وقول حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة وحجة هذا القول أن تطليق التحريم لا يقتضى التحريم بالثلاث بل يصدق بأقله والواحدة متيقنة فحمل اللفظ عليها لأنها اليقين فهو نظير التحريم بانقضاء العدة. المذهب الحادي عشر المذهب الحادي عشر: أنه ينوي ما أراده من ذلك في إرادة أصل الطلاق وعدده وإن نوى تحريما بغير طلاق فيمين مكفرة وهو قول الشافعي وحجة هذا القول أن اللفظ صالح لذلك كله فلا يتعين واحد منها إلا بالنية فإن نوى تحريما مجردا كان امتناعا منها بالتحريم كامتناعه باليمين ولا تحرم عليه في الموضعين. المذهب الثاني عشر المذهب الثاني عشر انه ينوي أيضا في أصل الطلاق وعدده إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة وإن لم ينو طلاقا فهو مول وإن نوى الكذب فليس بشيء وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وحجة هذا القول احتمال اللفظ لما ذكره إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة لاقتضاء التحريم للبينونة وهي صغرى وكبرى والصغرى هي المتحققة فأعتبرت دون الكبرى وعنه رواية أخرى إن نوى الكذب دين ولم يقبل في الحكم بل يكون موليا ولا يكون مظاهرا عنده نواه أو لم ينوه ولو صرح به فقال أعنى به الظهار لم يكن مظاهرا. المذهب الثالث عشر المذهب الثالث عشر: أنه يمين يكفره ما يكفر اليمين على كل حال صح ذلك أيضا عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابث وابن مسعود وعبد الله بن عمر وعكرمة وعطاء ومكحول وقتادة والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وجابر بن زيد وسعيد بن جبير ونافع والأوزاعي وأبي ثور وخلق سواهم وحجة هذا القول ظاهر القرآن فإن الله تعالى ذكر فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال فلا بد ان يتناوله يقينا فلا يجوز جعل تحلة الأيمان لغير المذكور قبلها ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله. المذهب الرابع عشر المذهب الرابع عشر أنه يمين مغلظة يتعين فيها عتق رقبة صح ذلك أيضا عن ابن عباس وأبي بكر وعمر وابن مسعود وجماعة من التابعين وحجة هذا القول أنه لما كان يمينا مغلظة غلظت كفارتها بتحتم العتق ووجه تغليظها تضمنها تحريم ما أحل الله وليس إلى العبد وقول المنكر والزور ان أراد الخبر فهو كاذب في إخباره معتد في إقسامه فغلظت كفارته بتحتم العتق كما غلظت كفارة الظهار به أو بصيام شهرين أو بإطعام ستين مسكينا. المذهب الخامس عشر المذهب الخامس عشر أنه طلاق ثم إنها إن كانت غير مدخول بها فهو مانواه من الواحدة وما فوقها وان كانت مدخولا بها فهو ثلاث وان نوى أقل منها وهو إحدى الروايتين عن مالك وحجة هذا القول ان اللفظ لما اقتضى التحريم وجب أن يترتب عليه حكمه وغير المدخول بها تحرم بواحدة والمدخول بها لا تحرم إلا بالثلاث. خمسة أقوال للمالكية في هذه المسألة وبعد ففي مذهب مالك خمسة أقوال هذا أحدها وهو مشهورها. والثاني أنه ثلاث بكل حال نوى الثلاث أو لم ينوها اختارها عبد الملك في مبسوطه والثالث أنه واحدة بائنة مطلقا حكاه ابن خويز منداذ رواية عن مالك الرابع انه واحدة رجعية وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة الخامس أنه ما نواه من ذلك مطلقا سواء قبل الدخول وبعده وقد عرفت توجيه هذه الأقوال. فصل مذهب الشافعية وأما تحرير مذهب الشافعي فإنه إن نوى به الظهار كان ظهارا وإن نوى به التحريم كان تحريما لا يترتب عليه إلا تقدم الكفارة وإن نوى الطلاق كان طلاقا وكان ما نواه وإن أطلق فلأصحابه فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه صريح في إيجاب الكفارة والثاني لا يتعلق به شيء والثالث أنه في حق الأمة صريح في التحريم الموجب للكفارة وفي حق الحرة كناية قالوا لأن أصل الآية إنما وردت في الأمة قالوا فلو قال أنت علي حرام وقال أردت بها الظهار والطلاق فقال ابن الحداد يقال له عين أحد الأمرين لأن اللفظة الواحدة لا تصلح للظهار والطلاق معا وقيل يلزمه ما بدأ به منهما قالوا ولو ادعى رجل على رجل حقا فأنكره فقال الحل عليك حرام والنية نيتي لا نيتك مالي عليك شيء فقال الحل على حرام والنية في ذلك نيتك مالك عندي شيء كانت النية نية الحالف لا المحلف لأن النية إنما تكون ممن إليه الإيقاع. فصل مذهب الحنابلة وأما تحرير مذهب الإمام أحمد فهو أنه ظهار بمطلقه وإن لم ينوه إلا أن ينوي به الطلاق أو اليمين فيلزمه ما نواه وعنه رواية ثانية أنه يمين بمطلقه إلا أن ينوي به الطلاق أو الظهار فيلزمه ما نواه وعنه رواية ثالثه أنه ظهار بكل حال ولو نوى به الطلاق أو اليمين لم يكن يمينا ولا طلاقا كما لو نوى الطلاق أو اليمين بقوله أنت علي كظهر امي فإن اللفظين صريحان في الظهار فعلى هذه الرواية لو وصله بقوله أعنى به الطلاق فهل يكون طلاقا أو ظهارا على روايتين إحداهما يكون ظهارا كما لو قال أنت على كظهر امي أعني به الطلاق أو التحريم إذ التحريم صريح في الظهار والثانيه انه طلاق لأنه قد صرح بإرادته بلفظ يحتمله وغايته انه كناية فيه فعلى هذه الرواية ان قال أعني به طلاقا طلقت واحدة وان قال أعني به الطلاق فهل تطلق ثلاثا أو واحدة على روايتين مأخذهما حمل اللام على الجنس أو العموم هذا تحرير مذهبه وتقريره. مذهب ابن تيمية وفي المسألة مذهب آخر وراء هذا كله وهو أنه إن أوقع التحريم كان ظهارا ولو نوى به الطلاق وإن حلف به كان يمينا مكفرة وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وعليه يدل النص والقياس فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكرا من القول وزورا وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرمة وإذا حلف به كان يمينا من الأيمان كما لو حلف بالتزام العتق والحج والصدقة وهذا محض القياس والفقه ألا ترى أنه إذا قال لله على أن أعتق أو أحج أو اصوم لزمه ولو قال إن كلمت فلانا فالله على ذلك على وجه اليمين فهو يمين وكذلك لو قال هو يهودي أو نصراني كفر بذلك ولو قال إن فعلت كذلك فهو يهودي أو نصراني كان يمينا وطرد هذا بل نظيره من كل وجه أنه إذا قال أنت على كظهر امي كان ظهارا فلو قال ان فعلت كذا فأنت على كظهر امي كان يمينا وطرد هذا أيضا إذا قال أنت طالق كان طلاقا وان قال ان فعلت كذا فانت طالق كان يمينا. فهذه هي الأصول الصحيحة المطردة المأخوذة من الكتاب والسنة والميزان وبالله التوقيق. فصل أيمان البيعة ومن هذه الالتزامات التي لم يلزم بها الله ولا رسوله لمن حلف بها الأيمان التي رتبها الفاجر الظالم الحجاج بن يوسف وهي أيمان البيعة. بيعة النبي ﷺ للناس وكانت البيعة على عهد رسول الله ﷺ بالمصافحة وبيعة النساء بالكلام وما مست يده الكريمة ﷺ يد امرأة لا يملكها فيقول لمن يبايعه بايعتك أو أبايعك على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره كما في الصحيحين عن ابن عمر كنا نبايع رسول الله ﷺ على السمع والطاعة فيقول فيما استطعت وفي صحيح مسلم عن جابر: "كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة بايعناه على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت". وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا تأخذنا في الله لومة لائم". وفي الصحيحين أيضا عن جنادة بن أبي أمية قال دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض فقلنا حدثنا أصلحك الله بحديث ننتفع به سمعته من رسول الله ﷺ قال: "دعانا رسول الله ﷺ فبايعناه وكان فيما أخذ علينا ان بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان". وفي الصحيحين عن عائشة قالت: كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله ﷺ يمتحنهن بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} إلى آخر الآية قالت عائشة: فمن أقرت بهذا من المؤمنات فقد أقرت بالمحنة وكان رسول الله ﷺ إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله ﷺ: "انطلقن فقد بايعتكن" ولا والله ما مست يد رسول الله ﷺ يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام. قالت عائشة: والله ما أخذ رسول الله ﷺ على النساء قط إلا بما أمره الله وما مست كف رسول الله ﷺ كف امرأة قط وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن قد بايعتكن كلاما. فهذه هي البيعة النبوية التي قال الله عز وجل فيها: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وقال فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}. الحجاج الثقفي وأيمان البيعة فأحدث الحجاج في الإسلام بيعة غير هذه تتضمن اليمين بالله تعالى والطلاق والعتاق وصدقة المال والحج فاختلف علماء الإسلام في ذلك على عدة أقوال ونحن نذكر تحرير هذه المسألة وكشفها فإن كان مراد الحالف بقوله: "أيمان البيعة تلزمني البيعة النبوية التي كان رسول الله ﷺ يبايع عليها أصحابه لم يلزمه الطلاق والإعتاق ولا شيء مما رتبه الحجاج وإن لم ينو تلك البيعة ونوى البيعة الحجاجية فلا يخلو إما ان يذكر في لفظه طلاقا أو عتاقا أو حجا أو صدقة أو يمينا بالله أو لا يذكر شيئا من ذلك فإن لم يذكر في لفظه شيئا فلا يخلو إما أن يكون عارفا بمضمونها أولا وعلى التقديرين فإما ان ينوي مضمونها كله أو بعض ما فيها أو لا ينوى شيئا من ذلك تقاسيم هذه المسألة. مذهب الشافعية فقال الشافعي وأصحابه ان لم يذكر في لفظه طلاقها أو عتاقها أو حجها أو صدقتها لم يلزمه شيء نواه أو لم ينوه إلا أن ينوى طلاقها أو عتاقها فاختلف أصحابه فقال العراقيون يلزمه الطلاق والعتاق فإن اليمين بهما تنعقد بالكناية مع النية وقال صاحب التتمة لا يلزمه ذلك وإن نواه مالم يتلفظ به لأن الصريح لم يوجد والكناية إنما يترتب عليها الحكم فيما يتضمن الإيقاع فأما الالتزام فلا ولهذا لم يجعل الشافعي الإقرار بالكناية مع النية إقرارا لأنه التزام ومن ههنا قال من قال من الفقهاء كالقفال وغيره إذا قال الطلاق يلزمني لا أفعل لم يقع به الطلاق وان نواه لأنه كناية والكناية إنما يترتب عليها الحكم في غير الالتزامات ولهذا لا تنعقد اليمين بالله بالكناية مع النية. مذهب الحنابلة وأما أصحاب أحمد فقد قال أبو عبد الله بن بطة كنت عند أبي القاسم الخرقي وقد سأله رجل عن أيمان البيعة فقال لست أفتي فيها بشيء ولا رأيت أحدا من شيوخنا يفتي فيها بشيء قال وكان أبي رحمه الله يعني أبا على يهاب الكلام فيها ثم قال أبو القاسم إلا أن يلتزم الحالف بها جميع ما فيها من الايمان فقال له السائل عرفها أم لم يعرفها قال نعم ووجه هذا القول أنه بالتزامه لموجبها صار ناويا له مع التلفظ وذلك مقتضى اللزوم ومتى وجد سبب اللزوم والوجوب ثبت موجبه وان لم يعرفه كما لو قال ان شفى الله مريضى فثلث مالى صدقة أو أوصى به ولم يعرفه أو قال انا مقر بما في هذا الكتاب وإن لم يعرفه أو قال ما أعطيت فلانا فأنا ضامن له أو مالك عليه فأنا ضامنه صح ولزمه وان لم يعرفه أو قال ضمان عهدة هذا المبيع على صح ولزمه وان لم يعرفه. وقال أكثر أصحابنا منهم صاحب المغني وغيره إن لم يعرفها لم تنعقد يمينه بشيء مما فيها لأنها لسيت بصريحة في القسم والكناية لا يترتب عليها مقتضاها إلا بالنية فمن لم يعرف شيئا لم يصح ان ينويه قالوا وإن عرفها ولم ينو عقد اليمين بما فيها لم تصح أيضا لأنها كناية فلا يلزم حكمها إلا بالنية وان عرفها ونوى اليمين بما فيها صح في الطلاق والعتاق لأن اليمين بهما تنعقد بالكناية دون غيرهما لأنها لا تنعقد بالكناية. وقال طائفة من أصحابنا تنعقد في الطلاق والعتاق وصدقة المال دون اليمين بالله تعالى فإن الكفارة إنما وجبت فيها لما اشتملت عليه من حرمة الاسم المعظم الذي تعظيمه من لوازم الايمان وهذا لا يوجد فيما عداه من الايمان. فصل مذهب المالكية وأما أصحاب مالك فليس عن مالك ولا عن أحد من قدماء أصحابه فيها قول واختلف المتأخرون فقال أبو بكر بن العربي أجمع هؤلاء المتأخرون على أنه يحنث فيها بالطلاق في جميع نسائه والعتق في جميع عبيده وإن لم يكن له رقيق فعليه عتق رقبة واحدة والمشي إلى مكة والحج ولو من أقصى المغرب والتصدق بثلث جميع أمواله وصيام شهرين متتابعين ثم قال جل الاندلسيين إن كل امرأة له تطلق ثلاثا ثلاثا وقال القرويون إنما تطلق واحدة واحدة وألزمه بعضهم صوم سنة إذا كان معتادا للحلف بذلك فتأمل هذا التفاوت العظيم بين هذا القول وقول أصحاب الشافعي. فصل الحلف بأيمان المسلمين والأيمان اللازمة وهكذا اختلافهم فيما لو حلف بأيمان المسلمين أو بالأيمان اللازمة أو قال جميع الأيمان تلزمني أو حلف بأشد ما أخذ أحد على أحد قالت المالكية أنما ألزمناه بهذه المذكورات دون غيرها من كسوة العريان وإطعام الجياع والاعتكاف وبناء الثغور ونحوها ملاحظة لما غلب الحلف به عرفا فألزمناه به لأنه المسمى العرفي فيقدم على المسمى اللغوي واختص حلفه بهذه المذكورات دون غيرها لأنها هي المشتهرة ولفظ الحلف واليمين إنما يستعمل فيها دون غيرها وليس المدرك أن عادتهم أنهم يفعلون مسمياتها وأنهم يصومون شهرين متتابعين أو يحجون بل غلبة استعمال الألفاظ في هذه المعاني دون غيرها قالوا وقد صرح الأصحاب بأنه من كثرت عادته بالحلف بصوم سنة لزمه صوم سنة فجعلوا المدرك الحلف اللفظي دون العرفي النقلى قالوا وعلى هذا لو اتفق في وقت آخر انه اشتهر حلفهم ونذرهم بالاعتكاف والرباط واطعام الجائع وكسوة العريان وبناء المساجد دون هذه الحقائق المتقدم ذكرها لكان اللازم لهذا الحالف إذا حنث الاعتكاف وما ذكر معه دون ما هو مذكور قبلها لأن الأحكام المترتبة على القرائن تدور معها كيفما دارت وتبطل معها إذا بطلت كالعقود في المعاملات والعيوب في الاعواض في المبايعات ونحو ذلك فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في المبيع عند الاطلاق على السكة والنقد المتجدد دون ما قبله كذلك إذا كان الشيء عيبا في العادة رد به المبيع فإن تغيرت العادة بحيث لم يعد عيبا لم يرد به المبيع قالوا وبهذا تعتبر جميع الأحكام المترتبة على العوائد وهذا مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه وان وقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا قالوا وعلى هذا فليس في عرفنا اليوم الحلف بصوم شهرين متتابعين فلا تكاد تجد أحدا يحلف به فلا تسوغ الفتيا بإلزامه قالوا وعلى هذا أبدا تجيء الفتاوي في طول الأيام فمهما تجدد في العرف فاعتبره ومهما سقط فألغه ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك وسله عن عرف بلده فأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمذكور في كتبك قالوا فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين قالوا وعلى هذه القاعدة تخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية وقد تصير الكناية صريحا تستغنى عن النية قالوا وعلى هذه القاعدة فإذا قال ايمان البيعة تلزمني خرج ما يلزمه على ذلك وما جرت به العادة في الحلف عند الملوك المعاصرة إذا لم يكن له نية فأي شيء جرت به عادة ملوك الوقت في التحليف به في بيعتهم واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عرفا متبادرا إلى الذهن من غير قرينة حملت يمينه عليه فإن لم يكن شيء من ذلك اعتبرت نيته أو بساط يمينه فإن لم يكن شيء من ذلك فلا شيء عليه انتهى. وهذا محض الفقه ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل اضر ما على أديان الناس وابدانهم والله المستعان. آراء أخر في الحلف بالأيمان اللازمة ولم يكن الحلف بالايمان معتادا على عهد السلف الطيب بل هي من الأيمان الحادثة المبتدعة التي أحدثها الجهلة الأول ولهذا قال جماعة من أهل العلم إنها من الأيمان اللاغية التي لا يلزم بها شيء ألبتة أفتى بذلك جماعة من العلماء ومن متأخري من أفتى بها تاج الدين أبو عبد الله الارموي صاحب كتاب الحاصل قال ابن بزيزة في شرح الأحكام سأله عنها بعض أصحابنا فكتب له بخطه تحت الاستفتاء هذه يمين لاغية لا يلزم فيها شيء ألبتة وكتب محمد الارموي قال ابن بزيزة وقفت على ذلك بخطه وثبت عندي انه خطه ثم قال وقال جماعة من العلماء لا يلزم فيها شيء سوى كفارة اليمين بالله تعالى بناء على أن لفظ اليمين لا ينطلق إلا على اليمين بالله تعالى وما عداه التزامات لا أيمان قال والدليل عليه قوله ﷺ: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" والقائلون بأن فيها كفارة يمين اختلفوا هل تتعدد فيها كفارة اليمين بناء على أقل الجمع أو ليس عليه إلا كفارة واحدة لأنها إنما خرجت مخرج اليمين الواحدة كما أفتى به أبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم وقد كان أبو عمر يفتى بأنه لا شيء فيها ألبتة حكاه عنه القاضي أبو الوليد الباجي وعاب عليه ذلك قال ومن العلماء من رأى أنه يختلف بحسب اختلاف الأحوال والمقاصد والبلاد فمن حلف بها قاصدا للطلاق اوالعتاق لزمه ما ألزمه نفسه ومن لم يعلم بمقتضى ذلك ولم يقصده ولم يقيده العرف الغالب الجاري لزمه فيها كفارة ثلاثة أيمان بالله بناء على أن أقل الجمع ثلاثة وبه كان يفتى أبو بكر الطرطوشي ومن بعده من شيوخنا الذين حملنا عنهم ومن شيوخ عصرنا من كان يفتى بها بالطلاق الثلاث بناء على أنه العرف المستمر الجاري الذي حصل علمه والقصد إليه عند كل حالف بها ثم ذكر اختلاف المغاربة هل يلزم فيها الطلاق الثلاث أو الواحدة ثم قال والمعتمد عليه فيها الرجوع إلى عرف الناس وما هو المعلوم عندهم في هذه الايمان فإذا ثبت فيها عندهم شيء وقصدوه وعرفوه واشتهر بينهم وجب أن يحملوه عليه ومع الاحتمال يرجع إلى الأصل الذي هو اليمين بالله إذ لا يسمى غير ذلك يمينا فيلزم الحالف بها كفارة ثلاثة أيمان قال وعلى هذا كان يقول أهل التحقيق والإنصاف من شيوخنا. قلت ولإجزاء الكفارة الواحدة فيها مدرك آخر أفقه من هذا وعليه تدل فتاوي الصحابة رضي الله عنهم صريحا في حديث ليلى بنت العجماء المتقدم وهذه الالتزامات الخارجة مخرج اليمين إنما فيها كفارة يمين بالنص والقياس واتفاق الصحابة كما تقدم فموجبها كلها شيء واحد ولو تعدد المحلوف به وصار هذا نظير ما لو حلف بكل سورة من القرآن على شيء واحد فعليه كفارة يمين لاتحاد الموجب وإن تعدد السبب ونظيره ما لو حلف بأسماء الرب تعالى وصفاته فكفارة واحدة فإذا حلف بأيمان المسلمين أو الايمان كلها أو الأيمان اللازمة أو أيمان البيعة أو بما يحلف به المسلمون لم يكن ذلك بأعظم مما لو حلف بكل كتاب أنزله الله أو بكل اسم من أسماء الله أو صفة من صفات الله فإذا أجزأ في هذه كفارة يمين مع حرمة هذه اليمين وتأكدها فلان تجزيء الكفارة في هذه الايمان بطريق الأولى والأحرى ولا يليق بهذة الشريعة الكاملة الحكيمة التي لم يطرق العالم شريعة اكمل منها غير ذلك وكذلك أفتى به أفقه الأمة وأعلمهم بمقاصد الرسول ودينه وهم الصحابة واختلف الفقهاء بعدهم فمنهم من يلزم الحالف بما التزمه من جميع الالتزامات كائنا ما كان ومنهم من لا يلزمه بشئ منها ألبتة لأنها أيمان غير شرعية ومنهم من يلزمه الطلاق والعتاق ويخيره في الباقي بين التكفير والالتزام ومنهم من يحتم عليه التكفير ومنهم من يلزمه بالطلاق وحده دون ما عداه ومنهم من يلزمه بشرط كون الصيغة شرطا فإن كانت صيغة التزام فيمين كقوله الطلاق يلزمني لم يلزمه بذلك ومنهم من يتوقف في ذلك ولا يفتى فيه بشيء فالأول قول مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة والثاني قول أهل الظاهر وجماعة من السلف والثالث قول أحمد بن حنبل والشافعي في ظاهر مذهبه وأبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه ومحمد بن الحسن والرابع قول بعض أصحاب الشافعي ويذكر قولا له ورواية عن أحمد والخامس قول أبي ثور وإبراهيم بن خالد والسادس قول القفال من الشافعية وبعض أصحاب أبي حنيفة ويحكى عنه نفسه والسابع قول جماعة من أهل الحديث وقول أصحاب رسول الله ﷺ أصح وافقه وأقرب هذه الأقوال إلى الكتاب والسنة وبالله التوفيق. فصل تأجيل جزء من المهر وحكم المؤجل المثال التاسع: الإلزام بالصداق الذي اتفق الزوجان على تأخير المطالبة به وان لم يسميا أجلا بل قال الزوج مائة مقدمة ومائة مؤخرة فان المؤخر لا يستحق المطالبة به إلا بموت أو فرقة هذا هو الصحيح وهو منصوص أحمد فإنه قال في رواية جماعة من أصحابه إذا تزوجها على العاجل والآجل لا يحل الآجل إلا بموت أو فرقة واختاره قدماء شيوخ المذهب والقاضي أبو يعلى وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول النخعي والشعبي والليث بن سعد وله فيه رسالة كتبها إلى مالك ينكر عليه خلاف هذا القول سنذكرها بإسنادها ولفظها وقال الحسن وحماد ابن أبي سليمان وأبو حنيفة وسفيان الثوري وأبو عبيدة يبطل الآجل لجهالة محله ويكون حالا وقال إياس بن معاوية يصح الأجل ولا يحل الصداق إلا أن يفارقها أو يتزوج عليها أو يخرجها من بلدها فلها حينئذ المطالبة به وقال مكحول والأوزاعي يحل بعد سنة من وقت الدخول وقال الشافعي وأبو الخطاب تفسد التسمية ويجب مهر المثل لجهالة العوض بجهالة اجله فترجع إلى مهر المثل وأما مذهب مالك فقال عبد الملك كان مالك وأصحابه يكرهون أن يكون شيء من المهر مؤخرا وكان مالك يقول انما الصداق فيما مضى ناجز كله فإن وقع منه شيء مؤخرا فلا أحب أن يطول الأجل في ذلك وحكى عن ابن القاسم تأخيره إلى السنتين والأربع وعن ابن وهب إلى السنة وعنه ان زاد الأجل على أكثر من عشرين سنة فسخ وعن ابن القاسم إذا جاوز الأربعين فسخ وعنه إلى الخمسين والستين حكى ذلك كله فضل بن سلمة عن ابن المواز ثم قال لأن الأجل الطويل مثل ما لو تزوجها إلى موت أو فراق قال عبد الملك وقد أخبرني اصبغ انه شهد ابن وهب وابن القاسم تذاكرا الأجل في ذلك فقال ابن وهب أرى فيه العشرين فدون فما جاوز ذلك فمفسوخ فقال له ابن القاسم وأنا معك على هذا فأقام ابن وهب على رأيه ورجع ابن القاسم فقال لا أفسخه إلى أربعين وأفسخه فيما فوق ذلك فقال أصبغ وبه آخذ ولا أحب ذلك ندبا إلى العشر ونحوها وقد شهدت أشهب زوج ابنته وجعل مؤخر مهرها إلى اثنتي عشرة سنة قال عبد الملك وما قصر من الأجل فهو أفضل وان بعد لم أفسخه إلا أن يجاوز ما قال ابن القاسم وان كانت الأربعون في ذلك كثيرة جدا قال عبد الملك وان كان بعض الصداق مؤخرا إلى غير أجل فإن مالكا كان يفسخه قبل البناء ويمضيه بعده ويرد المرأة إلى صداق مثلها معجلا كله إلا أن يكون صداق مثلها أقل من المعجل فلا ينقص منه أو أكثر من المعجل والمؤجل فيوفى تمام ذلك إلا أن يرضى الناكح بأن يجعل المؤخر معجلا كله مع النقد فيمضى النكاح ولا يفسخ لا قبل البناء ولا بعده ولا ترد المرأة إلى صداق مثلها ثم أطالوا بذكر فروع تتعلق بذلك. بعض فتاوى الصحابة في هذه المسألة والصحيح ما عليه أصحاب رسول الله ﷺ من صحة التسمية وعدم تمكين المرأة من المطالبة به إلا بموت أو فوقة حكاه الليث إجماعا منهم وهو محض القياس والفقه فإن المطلق من العقود ينصرف إلى العرف والعادة عند المتعاقدين كما في النقد والسكة والصفة والوزن والعادة جارية بين الازواج بترك المطالبة بالصداق إلا بالموت أو الفراق فجرت العادة مجرى الشرط كما تقدم ذكر الأمثلة بذلك وأيضا فإن عقد النكاح يخالف سائر العقود ولهذا نافاه التوقيت المشترط في غيره من العقود على المنافع بل كانت جهالة مدة بقائه غير مؤثرة في صحته والصداق عوضه ومقابله فكانت جهالة مدته غير مؤثرة في صحته فهذا محض القياس ونظير هذا لو اجره كل شهر بدرهم فإنه يصح وان كانت جملة الأجرة غير معلومة تبعا لمدة الإجارة فقد صح عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنه انه اجر نفسه كل دلو بتمرة واكل النبي ﷺ من ذلك التمر وقد قال النبي ﷺ: "المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا" وهذا لا يتضمن واحدا من الأمرين فإن ما أحل الحرام وحرم الحلال لو فعلاه بدون الشرط لما جاز وقال النبي ﷺ: "إن أحق الشرط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" وأما تلك التقديرات ألمذكورة فيكفي في عدم اعتبارها عدم دليل واحد يدل عليها ثم ليس تقدير منها بأولى من تقدير أزيد عليه أو أنقص منه وما كان هذا سبيله فهو غير معتبر. وقال الحافظ أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي في كتاب التاريخ والمعرفة له وهو كتاب جليل غزير العلم جم الفوائد حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي قال هذه رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس: رسالة الليث إلى مالك سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد عافانا الله وإياك وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني فأدام الله ذلك لكم وأتمه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه وذكرت نظرك في الكتب التي بعثت بها إليك وإقامتك وإياها وختمك عليها بخاتمك وقد أتتنا فجزاك الله عما قدمت منها خيرا فإنها كتب انتهت إلينا عنك فأحببت أن أبلغ حقيقتها بنظرك فيها وذكرت أنه قد أنشطك ما كتبت إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة ورجوت أن يكون لها عندي موضع وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيك فينا جميلا إلا لاني لم أذاكرك مثل هذا وأنه بلغك أني أفتى بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم وأني يحق على الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به وأن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن وقد أصبت بالذى كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى ووقع منى بالموقع الذي تحب وما أجد أحدا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني والحمد لله رب العالمين لا شريك له وأما ما ذكرت من مقام رسول الله ﷺ بالمدينة ونزول القرآن بها عليه بين ظهري أصحابه وما علمهم الله منه وأن الناس صاروا به تبعا لهم فيه فكما ذكرت وأما ما ذكرت من قول الله تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فإن كثيرا من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله فجندوا الأجناد واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه ولم يكتموهم شيئا علموه وكان في كل جند منهم طائفة يعلمون كتاب الله وسنة نبيه ويجتهدون برأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة وتقدمهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لا جناد المسلمين ولا غافلين عنهم بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لاقامة الدين والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه فلم يتركوا أمرا فسره القرآن أو عمل به النبي ﷺ أو ائتمروا فيه بعده إلا علمو هموه فإذا جاء أمر عمل فيه أصحاب رسول الله ﷺ بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان ولم يزالوا عليه حتى قبضوا لم يأمروهم بغيره فلا نراه يجوز لاجناد المسلمين ان يحدثوا اليوم أمرا لم يعمل به سلفهم من أصحاب رسول الله ﷺ والتابعين لهم مع ان أصحاب رسول الله ﷺ قد اختلفوا بعد في الفتيا في أشياء كثيرة ولولا أني قد عرفت ان قد علمتها كتبت بها إليك ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله ﷺ سعيد بن المسيب ونظراؤه أشد الاختلاف ثم اختلف الذين كانوا بعدهم فحضرتهم بالمدينة وغيرها ورأسهم يومئذ ابن شهاب وربيعة بن أبي عبد الرحمن وكان من خلاف ربيعة لبعض ما قد مضى ما قد عرفت وحضرت وسمعت قولك فيه وقول ذوي الرأي من أهل المدينة يحيى بن سعيد وعبيدالله ابن عمر وكثير بن فرقد وغير كثير ممن هو أسن منه حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه وذاكرتك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك فكنتما من الموافقين فيما أنكرت تكرهان منه ما أكرهه ومع ذلك بحمد الله عند ربيعه خير كثير وعقل أصيل ولسان بليغ وفضل مستبين وطريقة حسنة في الإسلام ومودة لإخوانه عامة ولنا خاصة رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن من عمله وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه وإذا كاتبه بعضنا فربما كتب إليه في الشيء الواحد على فضل رأيه وعلمه بثلاثة أنواع ينقض بعضها بعضا ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك فهذا الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرت تركي إياه وقد عرفت أيضا عيب إنكاري إياه أن يجمع أحد من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر ومطر الشام أكثر من مطر المدينة بما لا يعلمه الا الله لم يجمع منهم إمام قط في ليلة مطر وفيهم أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد ويزيد ابن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومعاذ بن جبل وقد بلغنا ان رسول الله ﷺ قال أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وقال يأتى معاذ يوم القيامة بين يدى العلماء برتوة وشرحبيل بن حسنة وأبو الدرداء وبلال بن رباح وكان أبو ذر بمصر والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وبحمص سبعون من أهل بدر وبأجناد المسلمين كلها وبالعراق ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعمران بن حصين ونزلها أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة سنين وكان معه من أصحاب رسول الله ﷺ فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط. ومن ذلك القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق وقد عرفت انه لم يزل يقضي بالمدينة به ولم يقض به أصحاب رسول الله ﷺ بالشام وبحمص ولا بمصر ولا بالعراق ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ثم ولي عمر بن عبد العزيز وكان كما قد علمت في إحياء السنن والجد في إقامة الدين والاصابة في الرأي والعلم بما مضى من أمر الناس فكتب إليه رزيق بن الحكم إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد ويمين صاحب الحق فكتب إليه عمر بن عبد العزيز إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة فوجدنا أهل الشام على غير ذلك فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين ولم يجمع بين العشاء والمغرب قط ليلة المطر والمطر يسكب عليه في منزله الذي كان فيه بخناصرة ساكنا. ومن ذلك أن أهل المدينة يقضون في صدقات النساء أنها متى شاءت أن تتكلم في مؤخر صداقها تكلمت فدفع إليها وقد وافق أهل العراق أهل المدينة على ذلك وأهل الشام وأهل مصر ولم يقض أحد من أصحاب رسول الله ﷺ ولا من بعدهم لامرأة بصداقها المؤخر إلا أن يفرق بينهما موت أو طلاق فتقوم على حقها. ومن ذلك قولهم في الايلاء إنه لا يكون عليه طلاق حتى يوقف وان مرت أربعة الاشهر وقد حدثني نافع عن عبد الله بن عمر وهو الذي كان يروي عنه ذلك التوقيف بعد الاشهر انه كان يقول في الايلاء الذي ذكر الله في كتابه لا يحل للمولي إذا بلغ الاجل الا ان يفئ كما أمر الله أو يعزم الطلاق وانتم تقولون إن لبث بعد أربعة الاشهر التي سمى الله في كتابه ولم يوقف لم يكن عليه طلاق وقد بلغنا ان عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وقبيصة بن ذؤيب وابا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قالوا في الايلاء إذا مضت أربعة الاشهر فهى تطليقة بائنة وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابن شهاب إذا مضت أربعة الأشهر فهي تطليقة وله الرجعة في العدة. ومن ذلك أن زيد بن ثابت كان يقول إذا ملك الرجل امرأته فأختارت زوجها فهي تطليقة وان طلقت نفسها ثلاث فهي تطليقة وقضى بذلك عبد الملك بن مروان وكان ربيعه بن عبد الرحمن يقوله وقد كاد الناس يجتمون على انها ان اختارت زوجها لم يكن فيه طلاق وان اختارت نفسها واحدة أو اثنتين كانت له عليها الرجعة وان طلقت نفسها ثلاثا بانت منه ولم تحل له حتى تنكح زوجا غيره فيدخل بها ثم يموت أو يطلقها إلا أن يرد عليها في مجلسه فيقول انما ملكتك واحدة فيستحلف ويخلى بينه وبين امرأته. ومن ذلك أن عبد الله بن مسعود كان يقول ايما رجل تزوج أمة ثم اشتراها زوجها فاشتراؤه إياها ثلاث تطليقات وكان ربيعة يقول ذلك وان تزوجت المرأة الحرة عبدا فاشترته فمثل ذلك. وقد بلغنا عنكم شيئا من الفتيا مستكرها وقد كنت كتبت إليك في بعضها فلم تجبني في كتابي فتخوفت ان تكون استثقلت ذلك فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكره وفيما أوردت فيه على رأيك وذلك انه بلغني انك امرت زفر بن عاصم الهلالي حين أراد أن يستسقي أن يقدم الصلاة قبل الخطبة فأعظمت ذلك لأن الخطبة والاستسقاء كهيئة يوم الجمعة إلا أن الإمام إذا دنا من فراغه من الخطبة فدعا حول رداءه ثم نزل فصلى وقد استسقى عمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهما فكلهم يقدم الخطبة والدعاء قبل الصلاة فاستهتر الناس كلهم فعل زفر بن عاصم من ذلك واستنكروه. ومن ذلك انه بلغني انك تقول في الخليطين في المال إنه لا تجب عليهما الصدقة حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة وفي كتاب عمر بن الخطاب انه يجب عليهما الصدقة ويترادان بالسوية وقد كان ذلك يعمل به في ولاية عمر بن عبد العزيز قبلكم وغيره والذي حدثنا به يحيى بن سعيد ولم يكن بدون افاضل العلماء في زمانه فرحمه الله وغفر له وجعل الجنة مصيره. ومن ذلك انه بلغني انك تقول إذا افلس الرجل وقد باعه الرجل سلعة فتقاضى طائفة من ثمنها أو أنفق المشتري طائفة منها أنه يأخذ ما وجد من متاعه وكان الناس على أن البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئا أو أنفق المشتري منها شيئا فليست بعينها. ومن ذلك انك تذكر أن النبي ﷺ لم يعط الزبير بن العوام إلا لفرس واحد والناس كلهم يحدثون انه أعطاه أربعة أسهم لفرسين ومنعه الفرس الثالث والأمة كلهم على هذا الحديث أهل الشام وأهل مصر وأهل العراق وأهل إفريقية لا يختلف فيه اثنان فلم يكن ينبغي لك وان كنت سمعته من رجل مرضي أن تخالف الأمة أجمعين. وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذا وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك مع استئناسي بمكانك وإن نأت الدار فهذه منزلتك عندي ورأي فيك فاستيقنه ولا تترك الكتاب إلي بخبرك وحالك وحال ولدك واهلك وحاجة ان كانت لك أو لأحد يوصل بك فإني اسر بذلك كتبت إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله نسأل الله ان يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا وتمام ما انعم به علينا والسلام عليك ورحمة الله. مهر السر ومهر العلانية فإن قيل فما تقولون فيما لو تجملوا وجعلوه حالا وقد اتفقوا في الباطن على تآخيره كصدقات النساء في هذه الأزمنة في الغالب هل للمرأة أن تطالب به قبل الفرقة أو الموت؟ قيل هذا ينبني على أصل وهو إذا اتفقا في السر على مهر وسموا في العلانية أكثر منه هل يؤخذ بالسر أو بالعلانية فهذه المسألة مما اضطربت فيها أقوال المتأخرين لعدم أحاطتهم بمقاصد الأئمة ولا بد من كشف غطائها ولها في الأصل صورتان: إحداهما أن يعقدوه في العلانية بألفين مثلا وقد اتفقوا قبل ذلك ان المهر ألف وان الزيادة سمعة من غير ان يعقدوه في العلانية بالأقل فالذي عليه القاضي ومن بعده من أصحاب أحمد ان المهر هو المسمى في العقد ولا اعتبار بما اتفقوا عليه ذلك وان قامت به البينة أو تصادقوا عليه وسواء كان مهر العلانية من جنس مهر السر أو من جنس غيره أو أقل منه أو أكثر قالوا وهو ظاهر كلام أحمد في مواضع قال في رواية ابن بدينا في الرجل يصدق صداقا في السر وفي العلانيه شيئا آخر يؤخذ بالعلانية وقال في رواية ابن الحرث إذا تزوجها في العلانية على شيء واسر غير ذلك أخذنا بالعلانية وان كان قد اشهد في السر بغير ذلك وقال في رواية الأثرم في رجل أصدق صداقا سرا وصداقا علانيه يؤخذ بالعلانية إذا كان قد اقر به قيل له فقد اشهد شهودا في السر بغيره قال وان اليس قد اقر بهذا عند شهود يؤخذ بالعلانية قال شيخنا ومعنى قوله اقر به أي رضى به والتزمه لقوله تعالى أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري وهذا يعمم التسمية في العقد والاعتراف بعده ويقال اقر بالجزية واقر للسلطان بالطاعة وهذا كثير في كلامهم وقال في رواية صالح في الرجل يعلن مهرا ويخفي آخر آخذ بما يعلن لأن العلانية قد أشهد على نفسه بها وينبغي لهم ان يفوا له بما كان اسره وقال في رواية ابن منصور إذا تزوج امرأة في السر بمهر وأعلنوا مهرا آخر ينبغي لهم ان يفوا واما هو فيؤخذ بالعلانية قال القاضي وغيره فقد أطلق القول بمهر العلانية وإنما قال ينبغي لكم ان يفوا بما اسروا على طريق الاختيار لئلا يحصل منهم غرور له في ذلك وهذا القول هو قول الشعبي وأبي قلابة وابن أبي ليلى وابن شبرمة والأوزاعي وهو قول الشافعي المشهور عنه وقد نص في موضع آخر انه يؤخذ بمهر السر فقيل في هذه المسألة قولان وقيل بل ذلك في الصورة الثانية كما سيأتي وقال كثير من أهل العلم أو أكثرهم إذا علم الشهود ان المهر الذي يظهره سمعة وان أصل المهر كذا وكذا ثم تزوج واعلن الذي قال فالمهر هو السر والسمعة باطلة وهذا هو قول الزهري والحكم بن عتيبة ومالك والثوري والليث وأبي حنيفة وأصحابه وإسحاق وعن شريح والحسن كالقولين وذكر القاضي عن أبي حنيفة انه يبطل المهر ويجب مهر المثل وهو خلاف ما حكاه عنه أصحابه وغيرهم وقد نقل عن أحمد ما يقتضي ان الاعتبار بالسر إذا ثبت ان العلانية تلجئة فقال إذا كان رجل قد أظهر صداقا واسر غير ذلك نظر في البينات والشهود وكان الظاهر أوكد إلا أن تقوم بينة تدفع العلانيه قال القاضي وقد تأول أبو حفص العكبري هذا على أن بينة السر عدول وبينة العلانية غير عدول فحكم بالعدول قال القاضي وظاهر هذا انه يحكم بمهر السر إذا لم تقم بينة عأدلة بمهر العلانية وقال أبو حفص إذا تكافأت البينات وقد شرطوا في السر ان الذي يظهر في العلانية الرياء والسمعة فينبغي لهم ان يفوا له بهذا الشرط ولا يطالبوه بالظاهر لقول النبي ﷺ: "المؤمنون على شروطهم" قال القاضي: وظاهر هذا الكلام من أبي حفص انه قد جعل السر حكما قال والمذهب على ما ذكرناه قال شيخنا كلام أبي حفص الأول فيما إذا قامت البينة بأن النكاح عقد في السر بالمهر القليل ولم يثبت نكاح العلانية وكلامه الثاني فيما إذا ثبت نكاح العلانية ولكن تشارطوا ان ما يظهرون من الزيادة على ما اتفقوا عليه للرياء والسمعة قال شيخنا وهذا الذي ذكره أبو حفص اشبه بكلام الإمام أحمد وأصوله فأن عامة كلامه في هذه المسألة إنما هو إذا اختلف الزوج والمرأة ولم تثبت بينة ولا اعتراف ان مهر العلانية سمعة بل شهدت البينة انه تزوجها بالا كثر وادعى عليه ذلك فانه يجب ان يؤخذ بما اقر به إنشاء أو إخبارا فإذا أقام شهودا يشهدون أنهم تراضوا بدون ذلك عمل على البينة الأولى لأن التراضي بالأقل في وقت لا يمنع التراضي بما زاد عليه في وقت آخر ألا ترى انه قال آخذ بالعلانية لأنه قد اشهد على نفسه وينبغي لهم ان يفوا بما كان اسره فقوله لأنه قد اشهد على نفسه دليل على أنه انما يلزمه في الحكم فقط والا فما يجب بينه وبين الله لا يعلل بالإشهاد وكذلك قوله ينبغي لهم ان يفوا له واما هو فيؤخذ بالعلانية دليل على أنه يحكم عليه به وان أولئك يجب عليهم الوفاء وقوله ينبغي يستعمل في الواجب أكثر مما يستعمل في المستحب ويدل على ذلك انه قد قال أيضا في امرأة تزوجت في العلانية على ألف وفي السر على خمسمائة فاختلفوا في ذلك فان كانت البينة في السر والعلانية سواء أخذ بالعلانية لأنه أحوط وهو فرج يؤخذ بالأكثر وقيدت المسألة بانهم اختلفوا وان كليهما قامت به بينة عأدلة. وإنما يظهر ذلك بالكلام في الصورة الثانية وهو ما إذا تزوجها في السر بألف ثم تزوجها في العلانية بألفين مع بقاء النكاح الأول فهنا قال القاضي في المجرد والجامع إن تصادقا على نكاح السر لزم نكاح السر بمهر السر لأن النكاح المتقدم قد صح ولزم والنكاح المتأخر عنه لا يتعلق به حكم ويحمل مطلق كلام أحمد والخرقي على مثل هذه الصورة وهذا مذهب الشافعي وقال الخرقي: إذا تزوجها على صداقين سر وعلانية أخذ بالعلانية وإن كان السر قد انعقد النكاح به وهذا منصوص كلام أحمد في قوله ان تزوجت في العلانية على ألف وفي السر على خمسمائة وعموم كلامه المتقدم يشمل هذه الصورة والتي قبلها وهذا هو الذي ذكره القاضي في خلافه وعليه أكثر الأصحاب ثم طريقته وطريقة جماعة في ذلك أن ما أظهراه زيادة في المهر والزيادة فيه بعد لزومه لازمة وعلى هذا فلو كان السر هو الأكثر أخذ به أيضا وهو معنى قول الإمام أحمد آخذ بالعلانية أي يؤخذ بالأكثر ولهذا القول طريقة ثانية وهو ان نكاح السر إنما يصح إذا لم يكتموه على احدى الروايتين بل انصهما فإذا تواصوا بكتمان النكاح الأول كانت العبرة انما هي بالنكاح الثاني. هذا كلام شيخ الإسلام في مسألة مهر السر والعلانية في كتاب إبطال التحليل نقلته بلفظه. ولهذه المسألة عدة صور هذه إحداها. الثانية أن يتفقا في السر على أن ثمن المبيع ألف ويظهرا في العلانية أن ثمنه ألفان فقال القاضي في التعليق القديم والشريف أبو جعفر وغيرهما الثمن ما أظهراه على قياس المشهور عنه في المهر أن العبرة بما أظهراه وهو الأكثر وقال القاضي في التعليق الجديد وأبو الخطاب وأبو الحسين وغيرهم من أصحاب القاضي الثمن ما أسراه والزيادة سمعة ورياء بخلاف المهر وإلحاقا للعوض في البيع بنفس البيع وإلحاقا للمهر بالنكاح وجعلا الزيادة فيه بمنزلة الزيادة بعد العقد وهي غير لاحقة وقال أبو حنيفة عكس هذا بناء على أن تسمية العوض شرط في صحة البيع دون النكاح وقال صاحباه العبرة في الجميع بما أسراه. الصورة الثالثة ان يتفقا في عقد البيع على أن يتبايعا شيئا بثمن ذكراه على نه بيع تلجئه لا حقيقة له تخلصا من ظالم يريد أخذه فهذا عقد باطل وإن لم يقولا في صلب العقد قد تبايعناه تلجئه قال القاضي هذا قياس قول أحمد لأنه قال فيمن تزوج امرأة واعتقد انه يحلها للأول لم يصح هذا النكاح وكذلك إذا باع عنبا ممن يعتقد انه يعصره خمرا قال وقد قال أحمد في رواية ابن منصور إنه إذا أقر لامرأة بدين في مرضه ثم تزوجها ومات وهي وارثة فهذه قد أقر لها وليست بزوجة يجوز ذلك إلا أن يكون أراد تلجئة فيرد ونحو هذا نقل إسحاق بن إبراهيم والمروزي وهذا قول أبي يوسف ومحمد وهو قياس قول مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي لا يكون تلجئه حتى يقولا في العقد قد تبايعنا هذا العقد تلجئة ومأخذ من أبطله انهما لم يقصدا العقد حقيقه والقصد معتبر في صحته ومأخذ من يصححه أن هذا شرط مقدم على العقد والمؤثر في العقد انما هو الشرط المقارن والأولون منهم من يمنع المقدمة الأولى ويقول لا فرق بين الشرط المتقدم والمقارن ومنهم من يقول انما ذلك في الشرط الزائد على العقد بخلاف الرافع له فان الشارط هنا يجعل العقد غير مقصود وهناك هو مقصود وقد أطلق عن شرط مقارن. الصورة الرابعة أن يظهرا نكاحا تلجئة لا حقيقة له فاختلف الفقهاء في ذلك فقال القاضي وغيره من الأصحاب إنه صحيح كنكاح الهازل لأن أكثر ما فيه انه غير قاصد للعقد بل هازل به ونكاح الهازل صحيح قال شيخنا ويؤيد هذا المشهور عندنا انه لو شرط في العقد رفع موجبه مثل أن يشترط أنه لا يطأها أو أنها لا تحل له أو أنه لا ينفق عليها ونحو ذلك صح العقد دون الشرط فالاتفاق على التلجئة حقيقته أنهما اتفقا على أن يعقدا عقدا لا يقتضى موجبه وهذا لا يبطله قال شيخنا ويتخرج في نكاح التلجئة انه باطل لأن الاتفاق الموجود قبل العقد بمنزلة المشروط في العقد في أظهر الطريقين لأصحابنا ولو شرطا في العقد انه نكاح تلجئة لا حقيقة لكان نكاحا باطلا وإن قيل ان فيه خلافا فإن أسوأ الأحوال أن يكون كما لو شرطا انها لا تحل له وهذا الشرط يفسد العقد على الخلاف المشهور. الصورة الخامسة أن يتفقا على أن العقد عقد تحليل لانكاح رغبة وانه متى دخل بها طلقها أو فهى طالق أو أنها متى اعترفت بأنه وصل إليها فهي طالق ثم يعقداه مطلقا وهو في الباطن نكاح تحليل لانكاح رغبة فهذا محرم باطل لا تحل به الزوجة للمطلق وهو داخل تحت اللعنة مع تضمن زيادة الخداع كما سماه السلف بذلك وجعلوا فاعله مخادعا الله وقالوا من يخادع الله يخدعه وعلى بطلان هذا النكاح نحو ستين دليلا. والمقصود أن المتعاقدين وان أظهرا خلاف ما اتفقا عليه في الباطن فالعبرة لما أضمراه واتفقا عليه وقصداه بالعقد وقد أشهد الله على ما في قلوبهما فلا ينفعهما ترك التكلم به حالة العقد وهو مطلوبهما ومقصودهما. الصورة السادسة أن يحلف الرجل في شيء في الظاهر وقصده ونيته خلاف ما حلف عليه وهو غير مظلوم فهذا لا ينفعه ظاهر لفظه ويكون يمينه على ما يصدقه عليه صاحبه اعتبارا بمقصده ونيته. الصورة السابعة إذا اشترى أو استأجر مكرها لم يصح وان كان في الظاهر قد حصل صورة العقد لعدم قصده وإرادته فدل على أن القصد روح العقد ومصححه ومبطله فاعتبار القصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ فإن الألفاظ مقصودة لغيرها ومقاصد العقود هي التي تراد لأجلها فإذا ألغيت واعتبرت الألفاظ التي لا تراد لنفسها كان هذا إلغاء لما يجب اعتباره واعتبارا لما قد يسوغ إلغاؤه وكيف يقدم اعتبار اللفظ الذي قد ظهر كل الظهور ان المراد خلافه بل قد يقطع بذلك على المعنى الذي قد ظهر بل قد يتيقن انه المراد وكيف ينكر على أهل الظاهر من يسلك هذا وهل ذلك إلا من ايراد الظاهرية فإن أهل الظاهر تمسكوا بألفاظ النصوص وأجروها على ظواهرها حيث لا يحصل القطع بأن المراد خلافها وأنتم تمسكتم بظواهر ألفاظ غير المعصومين حيث يقع القطع بأن المراد خلافها فأهل الظاهر أعذر منكم بكثير وكل شبهة تمسكتم بها في تسويغ ذلك فأدلة الظاهرية في تمسكهم بظواهر النصوص أقوى واصح والله تعالى يحب الانصاف بل هو أفضل حلية تحلى بها الرجل خصوصا من نصب نفسه حكما بين الأقوال والمذاهب وقد قال الله تعالى لرسوله وأمرت لأعدل بينكم فورثة الرسول منصبهم العدل بين الطوائف وألا يميل احدهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه بل يكون الحق مطلوبه يسير بسيره وينزل ينزوله يدين بدين العدل والإنصاف ويحكم الحجة وما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه فهو العلم الذي قد شمر إليه ومطلوبه الذي يحوم بطلبه عليه لا يثنى عنانه عنه عذل عاذل ولا تأخذه فيه لومة لائم ولا يصده عنه قول قائل. ومن تدبر مصادر الشرع وموارده تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها بل جرت على غير قصد منه كالنائم والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطيء من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم ولم يكفر من قال من شدة فرحه براحلته بعد يأسه منها اللهم أنت عبدي وأنا ربك فكيف يعتبر الألفاظ التي يقطع بأن مراد قائلها خلافها ولهذا المعنى رد شهادة المنافقين ووصفهم بالخداع والكذب والاستهزاء وذمهم على أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم وان بواطنهم تخالف ظواهرهم وذم تعالى من يقول مالا يفعل وأخبر أن ذلك من أكبر المقت عنده ولعن اليهود إذ توسلوا بصورة عقد البيع على ما حرمه عليهم إلى أكل ثمنه وجعل أكل ثمنه لما كان هو المقصود بمنزلة أكله في نفسه وقد لعن رسول الله ﷺ في الخمر عاصرها ومعتصرها ومن المعلوم ان العاصر إنما عصر عنبا ولكن لما كانت إنما نيته هي تحصيل الخمر لم ينفعه ظاهر عصره ولم يعصمه من اللعنة لباطن قصده ومراده فعلم أن الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها ومن لم يراع القصود في العقود وجرى مع ظواهرها يلزمه أن لا يلعن العاصر وان يجوز له عصر العنب لكل أحد وإن ظهر له أن قصده الخمر وان يقضى له بالأجرة لعدم تأثير القصد في العقد عنده ولقد صرحوا بذلك وجوزوا له العصر وقضوا له بالأجرة وقد روى في اثر مرفوع من حديث ابن بريده عن أبيه من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو من يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة ذكره عبد الله بن بطة ومن لم يراع القصد في العقد لم ير بذلك بأسا وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها ان المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات كما هي معتبره في التقربات والعبادات فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالا أو حراما وصحيحا أو فاسدا وطاعة أو معصية كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة أو مستحبة أو محرمة أو صحيحة أو فاسدة ودلائل هذه القاعدة تفوت الحصر فمنها قوله تعالى في حق الأزواج إذا طلقوا أزواجهم طلاقا رجعيا {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} وقوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} وذلك نص في أن الرجعة انما ملكها الله تعالى لمن قصد الصلاح دون من قصد الضرار وقوله في الخلع: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فبين تعالى أن الخلع المأذون فيه والنكاح المأذون فيه إنما يباح إذا ظنا أن يقيما حدود الله وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ} فإنما قدم الله الوصية على الميراث إذا لم يقصد بها الموصي الضرار فإن قصده فللورثة إبطالها وعدم تنفيذها وكذلك قوله فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه فرفع الإثم عليه فرفع الإثم عمن أبطل الجنف الإثم من وصية الموصي ولم يجعلها بمنزلة نص الشارع الذي تحرم مخالفته. شرط الواقف ليس بمنزلة نص الشارع وكذلك الإثم مرفوع عمن أبطل من شروط الواقفين ما لم يكن إصلاحا وما كان فيه جنف أو إثم ولا يحل لأحد ان يجعل هذا الشرط الباطل المخالف لكتاب الله بمنزلة نص الشارع ولم يقل هذا أحد من أئمة الإسلام بل قد قال إمام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق فإنما ينفذ من شروط الواقفين ما كان لله طاعة وللمكلف مصلحة وأما ما كان بضد ذلك فلا حرمة له كشرط التعزب والترهب المضاد لشرع الله ودينه فإنه تعالى فتح للامة باب النكاح بكل طريق وسد عنهم باب السفاح بكل طريق وهذا الشرط باطل مضاد لذلك فإنه يسد على من التزمه باب النكاح ويفتح له باب الفجور فإن لوازم البشرية تتقضاها الطباع أتم تقاض فإذا سد عنها مشروعها فتحت له ممنوعها ولا بد. والمقصود أن الله تعالى رفع الإثم عمن أبطل الوصية الجانفة الإثمة وكذلك هو مرفوع عمن أبطل شروط الواقفين التي هي كذلك فإذا شرط الواقف القراءة على القبر كانت القراءة في المسجد أولى وأحب إلى الله ورسوله وأنفع للميت فلا يجوز تعطيل الاحب إلى الله الانفع لعبده واعتبار ضده وقد رام بعضهم الانفصال عن هذا بأنه قد يكون قصد الواقف حصول الاجر له باستماعه للقرآن في قبره وهذا غلط فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة فإنه عمل اختياري وقد انقطع بموته ومن ذلك اشتراطه ان يصلى الصلوات الخمس في المسجد الذي بناه على قبره فإنه شرط باطل لا يجب بل لا يحل الوفاء به وصلاته في المسجد الذي لم يوضع على قبره أحب إلى الله ورسوله فكيف يفتى أو يقضى بتعطيل الاحب إلى الله والقيام بالإكراه إليه اتباعا لشرط الواقف الجانف الإثم ومن ذلك أن يشرط عليه ايقاد قنديل على قبره أو بناء مسجد عليه فإنه لا يحل تنفيذ هذا الشرط ولا العمل به فكيف ينقله شرط لعن رسول الله ﷺ فاعله. أقسام شروط الواقفين وحكمها وبالجملة فشروط الواقفين أربعة أقسام شروط محرمة في الشرع وشروط مكروهة لله تعالى ورسوله ﷺ وشروط تتضمن ترك ما هو أحب إلى الله ورسوله وشروط تتضمن فعل ما هو أحب إلى الله ورسوله فالأقسام الثلاثة الأول لا حرمة لها ولا اعتبار والقسم الرابع هو الشرط المتبع الواجب الاعتبار وبالله التوفيق. وقد أبطل النبي ﷺ هذه الشروط كلها بقوله: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وما رده رسول الله ﷺ لم يجز لأحد اعتباره ولا الإلزام به وتنفيذه ومن تفطن لتفاصيل هذه الجملة التي هي من لوازم الإيمان تخلص بها من آصار وأغلال في الدنيا وإثم وعقوبة ونقص ثواب في الآخرة وبالله التوفيق. فصل المقاصد تغير أحكام التصرفات وتأمل قول النبي ﷺ: "صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم" كيف حرم على المحرم الأكل مما صاده الحلال إذا كان قد صاده لأجله فانظر كيف أثر القصد في التحريم ولم يرفعه ظاهر الفعل ومن ذلك الأثر المرفوع من حديث أبي هريرة من تزوج امرأة بصداق ينوي ان لا يؤديه اليها فهو زان ومن أدان دينا ينوى ان لا يقضيه فهو سارق ذكره أبو حفص بإسناده فجعل المشتري والناكح إذا قصد ان لا يؤديا العوض بمنزلة من استحل الفرج والمال بغير عوض فيكون كالزاني والسارق في المعنى وإن خالفهما في الصورة ويؤيد ذلك ما في صحيح البخاري مرفوعا: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله". فهذه النصوص وأضعافها تدل على أن المقاصد تغير أحكام التصرفات من العقود وغيرها وأحكام الشريعة تقتضي ذلك أيضا فإن الرجل إذا اشترى أو استأجر أو اقترض أو نكح ونوى أن ذلك لموكله أو لموليه كان له وان لم يتكلم به في العقد وان لم ينوه له وقع الملك للعاقد وكذلك لو تملك المباحات من الصيد والحشيش وغيرها ونواه لموكله وقع الملك له عند جمهور الفقهاء نعم لا بد في النكاح من تسمية الموكل لأنه مقعود عليه فهو بمنزلة السلعة في البيع فافتقر العقد إلى تعيينه لذلك لا انه معقود له وإذا كان القول والفعل الواحد يوجب الملك لمالكين مختلفين عند تغير النية ثبت أن للنية تأثيرا في العقود والتصرفات ومن ذلك أنه لو قضى عن غيره دينا أو أنفق عليه نفقة واجبة أو نحو ذلك ينوي التبرع والهبة لم يملك الرجوع بالبدل وإن لم ينو فله الرجوع ان كان بإذنه اتفاقا وإن كان بغير إذنه ففيه النزاع المعروف فصورة العقد واحدة وإنما اختلف الحكم بالنية والقصد ومن ذلك أن الله تعالى حرم ان يدفع الرجل إلى غيره مالا ربويا بمثله على وجه البيع إلا أن يتقابضا وجوز دفعه بمثله على وجه القرض وقد اشتركا في أن كلا منهما يدفع ربويا ويأخذ نظيره وإنما فرق بينهما القصد فإن مقصود المقرض إرفاق المقترض ونفعه وليس مقصوده المعارضة والربح ولهذا كان القرض شقيق العارية كما سماه النبي ﷺ منيحة الورق فكأنه أعاره الدراهم ثم استرجعها منه لكن لم يمكن استرجاع العين فاسترجع المثل وكذلك لو باعه درهما بدرهمين كان ربا صريحا ولو باعه إياه بدرهم ثم وهبه درهما آخر جاز والصورة واحدة وإنما فرق بينهما القصد فكيف يمكن أحدا أن يلغي القصود في العقود ولا يجعل لها اعتبارا. الأحكام لا تجري على الظواهر فإن قيل قد أطلتم الكلام في مسألة القصود في العقود ونحن نحاكمكم إلى القرآن والسنة وأقوال الأئمة قال الله تعالى حكاية عن نبيه نوح: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} فرتب الحكم على ظاهر إيمانهم ورد علم ما في أنفسهم إلى العالم بالسرائر تعالى المنفرد بعلم ذات الصدور وعلم ما في النفوس من علم الغيب وقد قال تعالى لرسوله: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} وقد قال ﷺ: "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" وقد قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله فأكتفى منهم بالظاهر ووكل سرائرهم إلى الله" وكذلك فعل بالذين فعل بالذين تخلفوا عنه واعتذروا إليه فيل منهم علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل وكذلك كانت سيرته في المنافقين قبول ظاهر إسلامهم ويكل سرائرهم إلى الله عزوجل وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ولم يجعل لنا علما بالنيات والمقاصد تتعلق الأحكام الدنيوية بها فقولنا لا علم لنا به قال الشافعي فرض الله تعالى على خلقه طاعة نبيه ولم يجعل لهم من الأمر شيئا فأولى ألا يتعاطوا حكما على غيب أحد بدلالة ولا ظن لقصور علمهم عن علوم أنبيائه الذين فرض عليهم الوقوف عما ورد عليهم حتى يأتيهم أمره فإنه تعالى ظاهر عليهم الحجج فما جعل إليهم الحكم في الدنيا إلا بما ظهر من المحكوم عليه ففرض على نبيه ان يقاتل أهل الأوثان حتى يسلموا فتحقن دماؤهم إذا أظهروا الإسلام واعلم انه لا يعلم صدقهم بالإسلام إلا الله ثم اطلع الله رسوله على قوم يظهرون الإسلام ويسرون غيره فلم يجعل له أن يحكم عليهم بخلاف حكم الإسلام ولم يجعل له أن يقضى عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا فقال لنبيه قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا يعني أسلمنا بالقول مخافة القتل والسبي ثم أخبرهم انه يجزيهم إن أطاعوا الله ورسوله يعني إن أحدثوا طاعة الله ورسوله وقال في المنافقين وهم صنف ثان {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُون} إلى قوله {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يعني جنة من القتل وقال سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم فأمر بقبول ما أظهروا ولم يجعل لنبيه أن يحكم عليهم بخلاف حكم الأيمان وقد اعلم الله نبيه أنهم في الدرك الأسفل من النار فجعل حكمه تعالى عليهم على سرائرهم وحكم نبيه عليهم في الدنيا على علانيتهم باظهار التوبة وما قامت عليه بينة من المسلمين وبما أقروا بقوله وما جحدوا من قول الكفر ما لم يقروا به ولم يقم به بينة عليهم وقد كذبهم في قولهم في كل ذلك وكذلك أخبرنا النبي ﷺ عن الله أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد عن عبيد الله بن يزيد عن عدي ابن الخيار ان رجلا سار النبي ﷺ فلم يدر ما ساره حتى جهر رسول الله ﷺ فإذا هو يشاوره في قتل رجل من المنافقين فقال النبي ﷺ: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله" قال: بلى ولا شهادة له فقال: "أليس يصلى قال بلى ولا صلاة له" فقال النبي ﷺ: "أولئك الذين نهانى الله عن قتلهم" ثم ذكر حديث: "أمرت أن أقاتل الناس" ثم قال: "فحسابهم على الله بصدقهم وكذبهم وسرائرهم إلى الله العالم بسرائرهم المتولى الحكم عليهم دون أنبيائه وحكام خلقه". وبذلك مضت أحكام رسول الله ﷺ فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق أعلمهم أن جميع أحكامه على ما يظهرون والله يدين بالسرائر ثم ذكر حديث عويمر العجلاني في لعانه امرأته ثم قال فقال النبي ﷺ: "فيما بلغنا لولا ما قضى الله لكان لي فيها قضاء غيره" يعنى لولا ما قضى الله من ألا يحكم على أحد إلا باعتراف على نفسه أو بينة ولم يعرض لشريك ولا للمرأة وأنفذ الحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب ثم علم بعد أن الزوج هو الصادق. ثم ذكر حديث ركانة أنه طلق امرأته ألبتة وان النبي ﷺ استحلفه ما أردت إلا واحدة فحلف له فردها إليه قال وفي ذلك وغيره دليل على أن حراما على الحاكم ان يقضي ابدا على أحد من عباد الله إلا بأحسن ما يظهر وإن احتمل ما يظهر غير أحسنه وكانت عليه دلالة على ما يخالف أحسنه ومن قوله بلى لما حكم الله الاعراب الذين قالوا آمنا وعلم الله ان الايمان لم يدخل في قلوبهم لما أظهروا من الإسلام ولما حكم في المنافقين الذين علم أنهم آمنوا ثم كفروا وانهم كاذبون بما أظهروا من الايمان بحكم الإسلام وقال في المتلاعنين: "أبصروها فإن جاءت به كذا وكذا فلا أراه إلا وقد صدق عليها فجاءت به كذلك ولم يجعل له إليها سبيلا" إذ لم تقر ولم تقم عليها بينة وأبطل في حكم الدنيا عنهما استعمال الدلالة التي لا توجد في الدنيا بعد دلالة الله على المنافقين والأعراب أقوى مما أخبر به رسول الله ﷺ في قوله في امرأة العجلاني على أن يكون ثم كان كما أخبر به النبي ﷺ والأغلب على من سمع الفزازي يقول للنبي ﷺ ان امرأتي ولدت غلاما أسود وعرض بالقذف انه يريد القذف ثم لم يحده النبي ﷺ اذ لم يكن التعريض ظاهرا قذف فلم يحكم النبي ﷺ بحكم القذف والأغلب على من سمع قول ركانة لامرأته أنت طالق ألبتة انه قد أوقع الطلاق بقوله أنت طالق وان ألبتة إرادة شيء غير الأول انه أراد الابتات بثلاث ولكنه لما كان ظاهرا في قوله واحتمل غيره لم يحكم النبي ﷺ الا بظاهر الطلاق واحدة فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم استدلالا على أن ما أظهروا خلاف ما ابطنوا بدلالة منهم أو غير دلالة لم يسلم عندي من خلاف التنزيل والسنة وذلك مثل أن يقول قائل من رجع عن الإسلام ممن ولد عليه قتلته ولم استتبه ومن رجع عنه ممن لم يولد عليه استتبه ولم يحكم الله على عباده الا حكما واحدا ومثله ان يقول من رجع عن الإسلام ممن أظهر نصرانية أو يهودية أو دينا يظهره كالمجوسية أستتبه فإن أظهر التوبة قبلت منه ومن رجع إلى دين خفية لم أستتبه وكل قد بدل دين الحق ورجع إلى الكفر فكيف يستتاب بعضهم ولا يستتاب بعض فإن قال لا أعرف توبة الذي يسر دينه قيل ولا يعرفها إلا الله وهذا مع خلافه حكم الله ثم رسوله كلام محال يسأل من قال هذا هل تدري لعل الذي كان أخفى الشرك يصدق بالتوبة والذي كان أظهر الشرك يكذب بالتوبة فإن قال نعم قيل فتدرى لعلك قتلت المؤمن الصادق الإيمان واستحييت الكاذب بإظهار الايمان فإن قال ليس علي إلا الظاهر قيل فالظاهر فيهما واحد وقد جعلته اثنين بعلة محالة والمنافقون على عهد رسول الله ﷺ لم يظهروا يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية بل كانوا يستسرون بدينهم فيقبل منهم ما يظهرون من الايمان فلو كان قائل هذا القول حين خالف السنة أحسن أن يقول شيئا له وجه ولكنه يخالفها ويعتل بما لا وجه له كأنه يرى أن اليهودية والنصرانية لا تكون إلا بإتيان الكنائس أرأيت إن كانوا ببلاد لا كنائس فيها أما يصلون في بيوتهم فتخفى صلاتهم على غيرهم قال وما وصفت من حكم الله ثم حكم رسوله في المتلاعنين يبطل حكم الدلالة التي هي أقوى من الذرائع وإذا بطل الأقوى من الدلائل بطل الأضعف من الذارئع كلها وبطل الحد في التعريض بالقذف فإن من الناس من يقول إذا تشاتم الرجلان فقال أحدهما ما أنا بزان ولا أمي بزانية حد لأنه إذا قاله على المشاتمة فالأغلب أنه إنما يريد به قذف الذي يشاتم وأمه وإن قاله على غير المشاتمة لم أحده إذا قال لم أرد القذف مع إبطال رسول الله ﷺ حكم التعريض في حديث الفزاري الذي ولدت امرأته غلاما أسود فإن قال قائل فإن عمر حد في التعريض في مثل هذا قيل استشار أصحابه فخالفه بعضهم ومع من خالفه ما وصفنا من الدلالة ويبطل مثله قول الرجل لامرأته أنت طالق ألبتة لأن الطلاق إيقاع طلاق ظاهر والبتة تحتمل زيادة في عدد الطلاق وغير زيادة والقول قوله في الذي يحتمل غير الظاهر حتى لا يحكم عليه أبدا إلا بظاهر ويجعل القول قوله في الذي يحتمل غير الظاهر فهذا يدل على أنه لا يفسد عقد إلا بالعقد نفسه ولا يفسد بشيء تقدمه ولا تأخره ولا بتوهم ولا بالأغلب وكذلك كل شيء لا يفسد إلا بعقده ولا يفسد البيوع بأن يقول هذه ذربعة وهذه نية سوء ولو كان أن يبطل البيوع بأن تكون ذريعة إلى الربا كان اليقين في البيوع بعقد ما لا يحل أولى أن يريد به من الظن ألا ترى أن رجلا لو اشترى سيفا ونوى بشرائه أن يقتل به مسلما كان الشراء حلالا وكانت النية بالقتل غير جائزة ولم يبطل بها البيع وكذلك لو باع سيفا من رجل يريد أن يقتل به رجلا كان هذا هكذا ولو أن رجلا شريفا نكح دنية أعجمية أو شريفة نكحت دنيا أعجميا فتصادقا في الوجهين على أن لم ينو واحد منهما أن يثبت على النكاح أكثر من ليلة لم يحرم النكاح بهذه النية لأن ظاهر عقده كان صحيحا إن شاء الزوج حبسها وإن شاء طلقها فإذا دل الكتاب ثم السنة ثم عامة حكم الإسلام على أن العقود إنما تثبت بظاهر عقدها لا تفسدها نية العاقدين كانت العقود إذا عقدت في الظاهر صحيحة ولا تفسد بتوهم غير عاقدها على عاقدها ولا سيما إذا كان توهما ضعيفا انتهى كلام الشافعي. وقد جعل النبي ﷺ الهازل بالنكاح والطلاق والرجعة كالجاد بها مع انه لم يقصد حقائق هذه العقود وابلغ من هذا قوله ﷺ إنما أقضى بنحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فأخبر النبي ﷺ أنه يحكم بالظاهر وإن كان في نفس الأمر لا يحل للمحكوم له ما حكم له به وفي هذا كله دلالة على إلغاء المقاصد والنيات في العقود وإبطال سد الذرائع واتباع ظواهر عقود الناس وألفاظهم وبالله التوفيق. فانظر ملتقى البحرين ومعترك الفريقين فقد أبرز كل منهما حجته وخاض بحر العلم فبلغ منه لجته وأدلى من الحجج والبراهين بما لا يدفع وقال ما هو حقيق بأن يقول له أهل العلم قل يسمع وحجج الله لا تتعارض وأدلة الشرع لا تتناقض والحق يصدق بعضه بعضا ولا يقبل معارضة ولا نقضا وحرام على المقلد المتعصب أن يكون من أهل هذا الطراز الأول أو يكون على قوله وبحثه إذا حقت الحقائق المعول فليجرب المدعى ما ليس له والمدعى في قوم ليس منهم نفسه وعلمه وما حصله في الحكم بين الفريقين والقضاء للفصل بين المتغالبين وليبطل الحجج والأدلة من أحد الجانبين ليسلم له قول إحدى الطائفتين وإلا فيلزم حده ولا يتعدى طوره ولا يمد إلى العلم الموروث عن رسول الله ﷺ باعا يقصر عن الوصول إليه ولا يتجر بنقد زائف لا يروج عليه ولا يتمكن من الفصل بين المقالين إلا من تجرد لله مسافرا بعزمه وهمته إلى مطلع الوحي منزلا نفسه منزلة من يتلقاه غضا طريا من في رسول الله ﷺ يعرض عليه آراء الرجال ولا يعرضه عليها ويحاكمها إليه ولا يحاكمه إليها فنقول وبالله التوفيق. الألفاظ موضوعة للدلالة على ما في النفس إن الله تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفا ودلالة على ما في نفوسهم فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئا عرفه بمراده وما في نفسه بلفظه ورتب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الألفاظ ولم يرتب تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول ولا على مجرد ألفاظ مع العلم بأن المتكلم بها لم يرد معانيها ولم يحط بها علما بل تجاوز للأمة عما حدثت به انفسها ما لم تعمل به أو تكلم به وتجاوز لها عما تكلمت به مخطئة أو ناسية أو مكرهة أو غير عالمة به إذا لم تكن مريدة لمعنى ما تكلمت به أو قاصدة إليه فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتب الحكم هذه قاعدة الشريعة وهي من مقتضيات عدل الله وحكمته ورحمته فإن خواطر القلوب وإرادة النفوس لا تدخل تحت الاختيار فلو ترتبت عليها الاحكام لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة ورحمة الله تعالى وحمكته تأبى ذلك والغلط والنسيان والسهو وسبق اللسان بما لا يريده العبد بل يريد خلافه والتكلم به مكرها وغير عارف لمقتضاه من لوازم البشرية لا يكاد ينفك الإنسان من شيء منه فلو رتب عليه الحكم لحرجت الأمة واصابها غاية التعب والمشقة فرفع عنها المؤاخذة بذلك كله حتى الخطأ في اللفظ من شدة الفرح والغضب والسكر كما تقدمت شواهده وكذلك الخطأ والنسيان والإكراه والجهل بالمعنى وسبق اللسان بما لم يرده والتكلم في الإغلاق ولغو اليمين فهذه عشرة اشياء لا يؤاخذ الله بها عبده بالتكلم في حال منها لعدم قصده وعقد قلبه الذي يؤاخذه به. أما الخطأ من شدة الفرح فكما في الحديث الصحيح حديث فرح الرب بتوبة عبده وقول الرجل أنت عبدى وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح. وأما الخطأ من شدة الغضب فكما في قوله تعالى ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم قال السلف هو دعاء الإنسان على نفسه وولده وأهله حال الغضب لو أجابه الله تعالى لأهلك الداعي ومن دعى عليه فقضى إليهم أجلهم وقد قال جماعة من الآئمة الإغلاق الذي منع النبي ﷺ من وقوع الطلاق والعتاق فيه هو الغضب وهذا كما قالوه فإن للغضب سكرا كسكر الخمر أو أشد. وأما السكران فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فلم يرتب على كلام السكران حكما حتى يكون عالما بما يقول ولذلك أمر النبي ﷺ رجلا يشكك المقر بالزنا ليعلم هل هو عالم بما يقول أو غير عالم بما يقول ولم يؤاخذ حمزة بقوله في حال السكر هل أنتم إلا لأبي ولم يكفر من قرأ في حال سكره في الصلاة أعد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون وأما الخطأ والنيسان فقد قال تعالى حكاية عن المؤمنين ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وقال الله تعالى قد فعلت وقال النبي ﷺ: "إن الله قد تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وأما المكره فقد قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ} والإكراه داخل في حكم الإغلاق. وأما اللغو فقد رفع الله تعالى المؤاخذة به حتى يحصل عقد القلب وأما سبق اللسان بما لم يرده المتكلم فهو دائر بين الخطأ في اللفظ والخطأ في القصد فهو أولى أن لا يؤاخذ به من لغو اليمين وقد نص الأئمة على مسائل من ذلك تقدم ذكر بعضها. وأما الاغلاق فقد نص عليه صاحب الشرع والواجب حمل كلامه فيه على عمومه اللفظي والمعنوي فكل من أغلق عليه باب قصده وعلمه كالمجنون والسكران والمكره والغضبان فقد تكلم في الاغلاق ومن فسره بالجنون أو بالسكر أو بالغصب أو بالإكراه فإنما قصد التمثيل لا التخصيص ولو قدر ان اللفظ يختص بنوع من هذه الأنواع لوجب تعميم الحكم بعموم العلة فإن الحكم إذا ثبت لعلة تعدى بتعديها وانتفى بانتفائها. فصل أقسام الألفاظ الثلاثة فإذا تمهدت هذه القاعدة فنقول الالفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلمين ونياتهم وإراداتهم لمعانيها ثلاثة أقسام. القسم الأول من أقسام الألفاظ أحدها أن تظهر مطابقة القصد للفظ وللظهور مراتب تنتهي إلى اليقين والقطع بمراد المتكلم بحسب الكلام في نفسه وما يقترن به من القرائن الحالية واللفظية وحال المتكلم به وغير ذلك كما إذا سمع العاقل والعارف باللغة قوله ﷺ إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب لا تضارون في رؤيته إلا كما تضارون في رؤيتها فإنه لا يستريب ولا يشك في مراد المتكلم وأنه رؤية البصر حقيقة وليس في الممكن عبارة أوضح ولا أنص من هذه ولو اقترح على أبلغ الناس أن يعبر عن هذا المعنى بعبارة لا تحتمل غيره لم يقدر على عبارة أوضح ولا أنص من هذه وعامة كلام الله ورسوله من هذا القبيل فإنه مستول على الأمد الأقصى من البيان. فصل القسم الثاني من أقسام الألفاظ القسم الثاني: ما يظهر بأن المتكلم لم يرد معناه وقد ينتهي هذا الظهور إلى حد اليقين بحيث لا يشك السامع فيه وهذا القسم نوعان أحدهما أن لا يكون مريدا لمقتضاه ولا لغيره والثاني أن يكون مريدا لمعنى يخالفه فالأول كالمكره والنائم والمجنون ومن اشتد به الغضب والسكران والثاني كالمعرض والمورى والملغز والمتأول. فصل القسم الثالث من أقسام الألفاظ القسم الثالث ما هو ظاهر في معناه ويحتمل إرادة المتكلم له ويحتمل إرادته غيره ولا دلالة على واحد من الأمرين واللفظ دال على المعنى الموضوع له وقد أتى به اختيارا. متى يحمل الكلام على ظاهره فهذه أقسام الألفاظ بالنسبة إلى إرادة معانيها ومقاصد المتكلم بها وعند هذا يقال إذا ظهر قصد المتكلم لمعنى الكلام أو لم يظهر قصد يخالف كلامه وجب حمل كلامه على ظاهره والأدلة التي ذكرها الشافعي رضي الله عنه وأضعافها كلها إنما تدل على ذلك وهذا حق لا ينازع فيه عالم والنزاع إنما هو في غيره. إذا عرف هذا فالواجب حمل كلام الله تعالى ورسوله وحمل كلام المكلف على ظاهره الذي هو ظاهره وهو الذي يقصد من اللفظ عند التخاظب ولا يتم التفهيم والفهم إلا بذلك ومدعي غير ذلك على المتكلم القاصد للبيان والتفهيم كاذب عليه. قال الشافعي: وحديث رسول الله ﷺ على ظاهره بت ومن ادعى أنه لا طريق لنا إلى اليقين بمراد المتكلم لأن العلم بمراده موقوف على العلم بانتفاء عشرة أشياء فهو ملبوس عليه ملبس على الناس فإن هذا لو صح لم يحصل لأحد العلم بكلام المتكلم قط وبطلت فائدة التخاطب وانتفت خاصية الإنسان وصار الناس كالبهائم بل أسوأ حالا ولما علم غرض هذا المصنف من تصنيفه وهذا باطل بضرورة الحس والعقل وبطلانه من أكثر من ثلاثين وجها مذكورة في غير هذا الموضع ولكن حمل كلام المتكلمين على ظاهره لا ينبغي صرفه عن ذلك لدلالة تدل عليه كالتعريض ولحن الخطاب والتورية وغير ذلك وهذا أيضا مما لا ينازع فيه العقلاء. متى يحمل الكلام على غير ظاهره وإنما النزاع في الحمل على الظاهر حكما بعد ظهور مراد المتكلم والفاعل بخلاف ما أظهره فهذا هو الذي وقع فيه النزاع وهو هل الاعتبار بظواهر الألفاظ والعقود وإن ظهرت المقاصد والنيات بخلافها أم للقصود والنيات تأثير يوجب الالتفات إليها ومراعاة جانبها وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده وفي حله وحرمته بل أبلغ من ذلك وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقد تحليلا وتحريما فيصير حلالا تارة وحراما تارة أخرى باختلاف النية والقصد كما يصير صحيحا تارة وفاسدا تارة باختلافها وهذا كالذبح فإن الحيوان يحل إذا ذبح لأجل الأكل ويحرم إذ ذبح لغير الله وكذلك الحلال يصيد الصيد للمحرم فيحرم عليه ويصيده للحلال فلا يحرم على المحرم وكذلك الرجل يشتري الجارية ينوى أن تكون لموكله فتحرم على المشتري وينوى أنها له فتحل له وصورة العقد واحدة وإنما اختلفت النية والقصد وكذلك صورة القرض وبيع الدرهم بالدرهم إلى اجل صورتهما واحدة وهذا قربة صحيحة وهذا معصية باطلة بالقصد وكذلك عصر العنب بنية أن يكون خمرا معصية ملعون فاعله على لسان رسول الله ﷺ وعصره بنية أن يكون خلا أو دبسا جائز وصورة الفعل واحدة وكذلك السلاح يبيعه الرجل لمن يعرف انه يقتل به مسلما حرام باطل لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان وإذا باعه لمن يعرف انه يجاهد به في سبيل الله فهو طاعة وقربة وكذلك عقد النذر المعلق على شرط ينوي به التقرب والطاعة فيلزمه الوفاء بما نذره وينوي به الحلف والامتناع فيكون يمينا مكفرة وكذلك تعليق الكفر بالشرط ينوي به اليمين والامتناع فلا يكفر بذلك وينوي به وقوع الشرط فيكفر عند وجود الشرط ولا يكفر إن نوى به اليمين وصورة اللفظ واحدة وكذلك ألفاظ الطلاق صريحها وكنايتها ينوى بها الطلاق فيكون ما نواه وينوى به غيره فلا تطلق وكذلك قوله أنت عندي مثل أمي ينوي بها الظهار فتحرم عليه وينوي به أنها مثلها في الكرامة فلا تحرم عليه وكذلك من أدى عن غيره واجبا ينوي به الرجوع ملكه وإن نوى به التبرع لم يرجع. وهذه كما أنها أحكام الرب تعالى في العقود فهي أحكامه تعالى في العبادات والمثوبات والعقوبات فقد اطردت سنته بذلك في شرعه وقدره أما العبادات فتأثير النيات في صحتها وفسادها أظهر من أن يحتاج إلى ذكره فإن القربات كلها مبناها على النيات ولا يكون الفعل عبادة إلا بالنية والقصد ولهذا لو وقع في الماء ولم ينو الغسل أو دخل الحمام للتنظيف أو سبح للتبرد لم يكن غسله قربة ولا عبادة بالاتفاق فإنه لم ينو العبادة فلم تحصل له وإنما لامرئ ما نوى ولو امسك عن المفطرات عادة واشتغالا ولم ينو القربة لم يكن صائما ولو دار حول البيت يلتمس شيئا سقط منه لم يكن طائفا ولو أعطى الفقير هبة أو هدية ولم ينو الزكاة لم يحسب زكاة ولو جلس في المسجد ولم ينو الاعتكاف لم يحصل له وهذا كما أنه ثابت في الإجزاء والامتثال فهو ثابت في الثواب والعقاب ولهذا لو جامع أجنبية يظنها زوجته أو أمته لم يأثم بذلك وقد يثاب بنيته ولو جامع في ظلمة من يظنها أجنبية فبانت زوجته أو أمته أثم على ذلك بقصده ونيته للحرام ولو أكل طعاما حراما يظنه حلالا لم يأثم به ولو أكله وهو حلال يظنه حراما وقد أقدم عليه أثم بنيته وكذلك لو قتل من يظنه مسلما معصوما فبان كافرا حربيا أثم بنيته ولو رمى صيدا فأصاب معصوما لم يأثم ولو رمى معصوما فأخطأه وأصاب صيدا أثم ولهذا كان القاتل والمقتول من المسلمين في النار لنية كل واحد منهما قتل صاحبه. العمل تابع للنية فالنية روح العمل ولبه وقوامه وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها والنبي ﷺ قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم وهما قوله إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية ولهذا لا يكون عمل إلا بنية ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا ولا يعصمه من ذلك صورة البيع وأن من نوى بعقد النكاح التحليل كان محللا ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح لأنه قد نوى ذلك وإنما لامريء ما نوى فالمقدمة الأولى معلومة بالوجدان والثانية معلومة بالنص وعلى هذا فإذا نوى بالعصر حصول الخمر كان له ما نواه ولذلك استحق اللعنة وإذا نوى بالفعل التحيل على ما حرمه الله ورسوله كان له ما نواه فإنه قصد المحرم وفعل مقدوره في تحصيله ولا فرق في التحيل على المحرم بين الفعل الموضوع له وبين الفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له لا في عقل ولا في شرع ولهذا لو نهى الطبيب المريض عما يؤذيه وحماه منه فتحيل على تناوله عد متناولا لنفس ما نهى عنه ولهذا مسخ الله اليهود قردة لما تحيلوا على فعل ما حرمه الله ولم يعصمهم من عقوبته إظهار الفعل المباح لما توسلوا به إلى ارتكاب محارمه ولهذا عاقب أصحاب الجنة بأن حرمهم ثمارها لما توسلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين ولهذا لعن اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله ولم يعصمهم التوصل إلى ذلك بصورة البيع وأيضا فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم وتنتقل إلى اسم الودك فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك بطلان الحيل والدلالة على تحريمها: قال الخطابي في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوسل إلى المحرم فإنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه. قال شيخنا رضي الله عنه: ووجه الدلالة ما أشار إليه أحمد أن اليهود لما حرم الله عليهم الشحوم أرادوا الاحتيال على الانتفاع بها على وجه لا يقال في الطاهر إنهم انتفعوا بالشحم فجملوه وقصدوا بذلك ان يزول عنه اسم الشحم ثم انتفعو بثمنه بعد ذلك لئلا يكون الانتفاع في الظاهر بعين المحرم ثم مع كونهم احتالوا بحيلة خرجوا بها في زعمهم من ظاهر التحريم من هذين الوجهين لعنهم الله على لسان رسول الله ﷺ على هذا الاستحلال نظرا إلى المقصود وان حكمة التحريم لا تختلف سواء كان جامدا أو مائعا وبذل الشيء يقوم مقامه ويسد مسده فإذا حرم الله الانتفاع بشيء حرم الاعتياض عن تلك المنفعة واما ما ابيح الانتفاع به من وجه دون وجه كالخمر مثلا فإنه يجوز بيعها لمنفعة الظهر المباحة لا لمنفعة اللحم المحرمة وهذا معنى حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود وصححه الحاكم وغيره لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه يعنى ثمنه المقابل لمنفعة الأكل فإذا كان فيه منفعة أخرى وكان الثمن في مقابلتها لم يدخل في هذا. إذا تبين هذا فمعلوم أنه لو كان التحريم معلقا بمجرد اللفظ وبظاهر من القول دون مراعاة المقصود للشيء المحرم ومعناه وكيفيته لم يستحقوا اللعنة لوجهين: أحدهما أن الشحم خرج بجملة عن أن يكون شحما وصار ودكا كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى أن يصير بيعا عند من يستحل ذلك فإن من أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى اجل فأعطى سلعة بالثمن المؤجل ثم اشتراها بالثمن الحال ولا غرض لواحد منهما في السلعة بوجه ما وإنما هي كما قال فقيه الأمة دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة فلا فرق بين ذلك وبين مائة بمائة وعشرين درهما بلا حيلة ألبتة لا في شرع ولا في عقل ولا عرف بل المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قأئمة مع الاحتيال أو أزيد منها فإنها تضاعفت بالاحتيال لم تذهب ولم تنقص فمن المستحيل على شريعة أحكم الحاكمين أن يحرم ما فيه مفسدة ويلعن فاعله ويؤذنه بحرب منه ورسوله ويوعده أشد الوعيد ثم يبيح التحيل على حصول ذلك بعينه سواء مع قيام تلك المفسدة وزيادتها بتعب الاحتيال في معصية ومخادعة الله ورسوله هذا لا يأتي به شرع فإن الربا على الأرض أسهل وأقل مفسدة من الربا بسلم طويل صعب التراقي يترابى المترابيان على رأسه. فيالله العجب أي مفسدة من مفاسد الربا زالت بهذا الاحتيال والخداع فهل صار هذا الذنب العظيم عند الله الذي هو من اكبر الكبائر حسنة وطاعة بالخداع والاحتيال ويالله كيف قلب الخداع والاحتيال حقيقته من الخبيث إلى الطيب ومن المفسدة إلى المصلحة وجعله محبوبا للرب تعالى بعد أن كان مسخوطا له ولئن كان هذا الاحتيال يبلغ هذا المبلغ فإنه عند الله ورسوله بمكان ومنزلة عظيمة وإنه من أقوى دعائم الدين وأوثق عراه وأجل أصوله. ويالله العجب كيف تزول مفسدة التحليل الذي أشار رسول الله ﷺ بلعن فاعله مرة بعد أخرى بتسبيق شرطه وتقديمه على صلب العقد وخلاء صلب العقد من لفظه وقد وقع التواطؤ والتوافق عليه واي غرض للشارع وأي حكمة في تقديم الشرط وتسبيقه حتى تزول به اللعنة وتنقلب به خمرة هذا العقد خلا وهل كان عقد التحليل مسخوطا لله ورسوله لحقيقته ومعناه أم لعدم مقارنة الشرط له وحصول صورة نكاح الرغبة مع القطع بانتفاء حقيقته وحصول حقيقة نكاح التحليل وهكذا الحيل الربوية فإن الربا لم يكن حراما لصورته ولفظة وإنما كان حراما لحقيقته التي أمتاز بها عن حقيقة البيع فتلك الحقيقة حيث وجدت وجد التحريم في أي صورة ركبت وبأي لفظ عبر عنها فليس الشأن في الأسماء وصور العقود وإنما الشأن في حقائقها ومقاصدها وما عقدت له. الوجه الثاني أن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم وإنما انتفعوا بثمنه ويلزم من راعى الصور والظواهر والألفاظ دون الحقائق والمقاصد أن يحرم ذلك فلما لعنوا على استحلال الثمن وإن لم ينص لهم على تحريمه علم أن الواجب النظر إلى الحقيقة والمقصود لا إلى مجرد الصورة ونظير هذا أن يقال لرجل لا تقرب مال اليتيم فيبيعه ويأخذ عوضه ويقول لم أقرب ماله وكمن يقول لرجل لا تشرب من هذا النهر فيأخذ بيديه ويشرب بكفيه ويقول لم أشرب منه وبمنزلة من يقول لا تضرب زيدا فيضربه فوق ثيابه ويقول إنما ضربت ثيابه وبمنزلة من يقول لا تأكل مال هذا الرجل فإنه حرام فيشتري به سلعة ولا يعينه ثم ينقده للبائع ويقول لم آكل ماله إنما أكلت ما اشتريته وقد ملكت ظاهرا وباطنا وأمثال هذه الأمور التي لو استعملها الطبيب في معالجة المرضى لزاد مرضهم ولو استعملها المريض لكان مرتكبا لنفس ما نهاه عنه الطبيب كمن يقول له الطبيب: لا تأكل اللحم فإنه يزيد في مواد المرض فيدقه ويعمل منه هريسة ويقول لم آكل اللحم وهذا المثال مطابق لعامة الحيل الباطلة في الدين. ويالله العجب أي فرق بين بيع مائة بمائة وعشرين درهما صريحا وبين إدخال سلعة لم تقصد أصلا بل دخولها كخروجها ولهذا لا يسأل العاقد عن جنسها ولا صفتها ولا قيمتها ولا عيب فيها ولا يبالي بذلك ألبتة حتى لو كانت خرقة مقطعة أو أذن شاة أو عودا من حطب ادخلوه محللا للربا ولما تفطن المحتالون أن هذه السلعة لا اعتبار بها في نفس الأمر وانها ليست مقصودة بوجه وأن دخولها كخروجها تهاونوا بها ولم يبالوا بكونها مما يتمول عادة أولا يتمول ولم يبال بعضهم بكونها مملوكة للبائع أو غير مملوكة بل لم يبال بعضهم بكونها مما يباع أو مما لا يباع كالمسجد والمنارة والقلعة وكل هذا وقع من أرباب الحيل وهذا لما علموا أن المشتري لاغرض له في السلعة فقالوا أي سلعة اتفق حضورها حصل بها التحليل كأي تيس اتفق في باب محلل النكاح. مثل من وقف مع الظواهر ولم يراع الحقائق وما مثل من وقف مع الظواهر والألفاظ ولم يراع المقاصد والمعاني إلا كمثل رجل قيل له لا تسلم على صاحب بدعة فقبل يده ورجله ولم يسلم عليه أو قيل له اذهب فاملأ هذه الجرة فذهب فملأها ثم تركها على الحوض وقال لم تقل ايتني بها وكمن قال لوكيله بع هذه السلعة فباعها بدرهم وهي تساوي مائة ويلزم من وقف مع الظواهر أن يصحح هذا البيع ويلزم به الموكل وإن نظر إلى المقاصد تناقض حيث ألقاها في غير موضع وكمن أعطاه رجل ثوبا فقال والله لا ألبسه لما له فيه من المئة فباعه وأعطاه ثمنه فقبله وكمن قال والله لا أشرب هذا الشراب فجعله عقيدا أو ثرد فيه خبزا وأكله ويلزم من وقف مع الظواهر والألفاظ أن لا يحد من فعل ذلك بالخمر وقد أشار النبي ﷺ إلى أن من الأمة من يتناول المحرم ويسميه بغير اسمه فقال: "ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير" رواه أحمد وأبو داود وفي مسند الإمام أحمد مرفوعا يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها وفيه عن عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ: "يشرب ناس من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه" وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي امامة يرفعه: "لا تذهب الليالي والأيام حتى بشرب طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها" قال شيخنا رضي الله عنه وقد جاء حديث آخر يوافق هذا مرفوعا وموقوفا من حديث ابن عباس يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء يستحلون الخمر باسم يسمونها إياه والسحت بالهدية والقتل بالرهبة والزنا بالنكاح والربا بالبيع وهذا حق فان استحلال الربا باسم البيع ظاهر كالحيل الربوية التي صورتها صورة البيع وحقيقتها حقيقة الربا ومعلوم ان الربا إنما حرم لحقيقته ومفسدته لا لصورته واسمه فهب ان المرابي لم يسمه ربا وسماه بيعا فذلك لا يخرج حقيقته وماهيته عن نفسها وأما استحلال الخمر باسم آخر فكما استحل المسكر من غير عصير العنب وقال لا أسميه خمرا وإنما هو نبيذ وكما يستحلها طائفة من المجان إذا مزجت ويقولون خرجت عن اسم الخمر كما يخرج الماء بمخالطة غيره له عن اسم الماء المطلق وكما يستحلها من يستحلها إذا اتخذت عقيدا ويقول هذه عقيد لا خمر ومعلوم ان التحريم تابع للحقيقة والمفسدة لا للاسم والصورة فإن إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة لا تزول بتبديل الأسماء والصور عن ذلك وهل هذا إلا من سوء الفهم وعدم الفقه عن الله ورسوله وأما استحلال السحت باسم الهدية وهو أظهر من ان يذكر كرشوة الحاكم والوالي وغيرهما فإن المرتشي ملعون هو والراشي لما في ذلك من المفسدة ومعلوم قطعا انهما لا يخرجان عن الحقيقة وحقيقة الرشوة بمجرد اسم الهدية وقد علمنا وعلم الله وملائكته ومن له إطلاع على الحيل أنها رشوة وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي تسميه ولاة الجور سياسة وهيبة وناموسا وحرمة للملك فهو أظهر من أن يذكر وأما استحلال الزنا باسم النكاح فهو الزنا بالمرأة التي لا غرض له أن يقم معها ولا أن تكون زوجته وإنما غرضه أن يقضي منها وطره أو بأخذ جعلا على الفساد بها ويتوصل إلى ذلك باسم النكاح وإظهار صورته وقد علم الله ورسوله والملائكة والزوج والمرأة انه محلل لا ناكح وانه ليس بزوج وإنما هو تيس مستعار للضراب بمنزلة حمار العشريين. أسماء ما أنزل الله بها من سلطان فيالله العجب اى فرق في نفس الأمر بين الزنا وبين هذا نعم هذا زنا بشهود من البشر وذلك زنا بشهود من الكرام الكاتبن كما صرح به أصحاب رسول الله ﷺ وقالوا: "لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة" إذا علم الله انه إنما يريد أن يحللها والمقصود أن هذا المحلل إذا قيل: له هذا زنا قال: ليس بزنا بل نكاح كما أن المرابي إذا قيل: له هذا ربا قال: بل هو بيع وكذلك كل من استحل محرما بتغيير اسمه وصورته كمن يستحل الحشيشة باسم لقيمة الراحة ويستحل المعازف كالطنبور والعود والبربط باسم يسميها به وكما يسمى بعضهم المغني بالحادي والمطرب والقوال وكما يسمي الديوث بالمصلح والموفق والمحسن ورأيت من يسجد لغير الله من الأحياء والأموات ويسمى ذلك وضع الرأس للشيخ قال: ولا أقوال هذا سجود وهكذا الحيل سواء فإن أصحابها يعمدون إلى الأحكام فيعقلونها بمجرد اللفظ ويزعمون ان الذي يستحلونه ليس بداخل في لفظ الشيء المحرم مع القطع بأن معناها معنى الشيء المحرم فإن الرجل إذا قال: لمن له عليه ألف اجعلها ألفا ومائة إلى سنة بإدخال هذه الخرقة وإخراجها صورة لا معنى لم يكن فرق بين توسطها وعدمه وكذلك إذا قال: مكنيني من نفسك اقض منك وطرا يوما أو ساعة بكذا وكذا لم يكن فرق بين إدخال شاهدين في هذا أو عدم إدخالهما وقد تواطئا على قضاء وطر ساعة من زمان. ولو أوجب تبديل الأسماء والصور تبدل الأحكام والحقائق لفسدت الديانات وبدلت الشرائع واضمحل الإسلام وأي شيء نفع المشركين تسميتهم أصنامهم آلهة وليس فيها شيء من صفات الإلهية وحقيقتها وأي شيء نفعهم تسمية الإشراك بالله تقربا إلى الله وأي شيء نفع المعطلين لحقائق أسماء الله وصفاته تسميه ذلك تنزيها وأي شيء نفع الغلاة من البشر واتخاذهم طواغيت يعبدونها من دون الله تسمية ذلك تعظيما واحتراما وأي شيء نفع نفاة القدر المخرجين لأشرف ما في مملكة الرب تعالى من طاعات أنبيائه ورسله وملائكته وعباده عن قدرته تسمية ذلك عدلا وأي شيء نفعهم نفيهم لصفات كما له تسمية ذلك توحيدا وأي شيء نفع أعداء الرسل من الفلاسفة القائلين بأن الله لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام ولا يحيي الموتى ولا يبعث من في القبور ولا يعلم شيئا من الموجودات ولا أرسل إلى الناس رسلا يأمرونهم بطاعته تسمية ذلك حكمة وأي شيء نفع أهل النفاق تسمية نفاقهم عقلا معيشيا وقدحهم في عقل من لم ينافق نفاقهم ويداهن في دين الله واي شيء نفع المكسة تسمية ما يأخذونه ظلما وعدوانا حقوقا سلطانية وتسمية أوضاعهم الجائرة الظالمة المناقضة لشرع الله ودينه شرع الديوان واي شيء نفع أهل البدع والضلال تسمية شبههم الداحضة عند ربهم وعند أهل العلم والدين والايمان عقليات وبراهين وتسمية كثير من المتصوفة الخيالات الفاسدة والشطحات حقائق فهؤلاء كلهم حقيق ان يتلى عليهم: {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}. العبرة في العقود القصد دون اللفظ المجرد ومما يوضح ما ذكرناه من ان القصود في العقود معتبرة دون الألفاظ المجردة التي لم تقصد بها معانيها وحقائقها أو قصد غيرها ان صيغ العقود كبعت واشتريت وتزوجت واجرت إما إخبارات وإما إنشاءات وإما أنها متضمنة للأمرين فهي إخبارات عما في النفس من المعاني التي تدل على العقود وإنشاءات لحصول العقود في الخارج فلفظها موجب لمعناها في الخارج وهي أخبار عما في النفس من تلك المعاني ولا بد في صحتها من مطابقة خبرها لمخبرها فإذا لم تكن تلك المعاني في النفس كانت خبرا كاذبا وكانت بمنزلة قول المنافق أشهد أن محمدا رسول الله وبمنزلة قوله آمنت بالله وباليوم الاخر وكذلك المحلل إذا قال: تزوجت وهو لا يقصد التزوج المعني الذي جعله الله في الشرع كان إخبارا كاذبا وإنشاء باطلا فإنا نعلم ان هذه اللفظة لم توضح في الشرع ولا في العرف ولا في اللغة لمن قصد رد المطلقة إلى زوجها وليس له قصد في النكاح الذي وضعه الله بين عباده وجعله سببا للمودة والرحمة بين الزوجين وليس له قصد في توابعه حقيقة ولا حكما فمن ليس له قصد في الصحبة ولا في العشرة ولا في المصاهرة ولا في الولد ولا المواصلة ولا المعاشرة ولا الإيواء بل قصده ان يفارق لتعود إلى غيره فالله جعل النكاح سببا للمواصلة والمصاحبة والمحلل جعله سببا للمفارقة فإنه تزوج ليطلق فهو مناقض لشرع الله ودينه وحكمته فهو كاذب في قوله تزوجت بإظهاره خلاف ما في قلبه وبمنزلة من قال: لغيره وكلتك أو شاركتك أو ضاربتك أو ساقيتك وهو يقصد رفع هذه العقود وفسخها. وقد تقدم ان صيغ العقود اخبارات عما في نفس من المعاني التي هي أصل العقود ومبدأ الحقيقة التي بها يصير اللفظ كلاما معتبرا فإنها لا تصير كلاما معتبرا إلا إذا قرنت بمعانيها فتصير انشاء للعقود والتصرفات من حيث إنها هي التي أثبتت الحكم وبها وجد وإخبارات من حيث دلالتها على المعاني التي في النفس فهى تشبه في اللفظ أحببت أو ابغضت وكرهت وتشبه في المعنى قم واقعد وهذه الأقوال انما تفيد الأحكام إذا قصد المتكلم بها حقيقة أو حكما ما جعلت له وإذا لم يقصد بها ما يناقض معناها وهذا فيما بينه وبين الله تعالى فأما في الظاهر فالأمر محمول على الصحة وإلا لما تم عقد ولا تصرف فإذا قال: بعت أو تزوجت كان هذا اللفظ دليلا على أنه قصد معناه المقصود به وجعله الشارع بمنزلة القاصد إن كان هازلا وباللفظ والمعنى جميعا يتم الحكم فكل منهما جزء السبب وهما مجموعه وإن كانت العبرة في الحقيقة بالمعنى واللفظ دليل ولهذا يصار إلى غيره عند تعذره وهذا شأن عامة أنواع الكلام فإنه محمول على معناه المفهوم منه عند الإطلاق لا سيما الأحكام الشرعية التي علق الشارع بها احكامها فإن المتكلم عليه ان يقصد بتلك الالفاظ معانيها والمستمع عليه ان يحملها على تلك المعاني فإن لم يقصد المتكلم بها معانيها بل تكلم بها غير قاصد لمعانيها أو قاصدا لغيرها أبطل الشارع عليه قصده فإن كان هازلا أولاعبا لم يقصد المعنى ألزمه الشارع المعنى كمن هزل بالكفر والطلاق والنكاح والرجعة بل لو تكلم الكافر بكلمة الإسلام هازلا ألزم به وجرت عليه أحكامه ظاهرا وإن تكلم بها مخادعا ماكرا محتالا مظهرا خلاف ما أبطن لم يعطه الشارع مقصوده كالمحلل والمرابي بعقد العينة وكل من احتال على إسقاط واجب أو فعل محرم بعقد أو قول أظهره وأبطن الأمر الباطل وبهذا يخرج الجواب عن الإلزام بنكاح الهازل وطلاقه ورجعته وان لم يقصد حقائق هذه الصيغ ومعانيها. تقسيمات لصيغ العقود ونحن نذكر تقسيما جامعا نافعا في هذا الباب نبين به حقيقة الأمر فنقول المتكلم بصيغ العقود إما أن يكون قاصدا للتكلم بها أو لا يكون قاصدا فإن لم يقصد التكلم بها كالمكره والنائم والمجنون والسكران والمغلوب على عقله لم يترتب عليها شيء وإن كان في بعض ذلك نزاع وتفصيل فالصواب أن أقول هؤلاء كلها هدر كما دل عليه الكتاب والسنة والميزان وأقوال الصحابة وإن كان قاصدا للتكلم بها فإما أن يكون عالما بغاياتها متصورا لها أو لا يدري معانيها ألبتة بل هي عنده كأصوات ينعق بها فإن لم يكن عالما بمعناها ولا متصورا له لم يترتب عليه أحكامها أيضا ولا نزاع بين أئمة الإسلام في ذلك وإن كان متصورا لمعانيها عالما بمدلولها فإما أن يكون قاصدا لها أو لا فإن كان قاصدا لها ترتبت أحكامها في حقه ولزمته وإن لم يكن قاصدا لها فإما ان يقصد خلافها أو لا يقصد لا معناها ولا غير معناها فإن لم يقصد غير التكلم بها فهو الهازل ونذكر حكمه وإن قصد غير معناها فإما أن يقصد ما يجوز له قصده أو لا فإن قصد ما يجوز له قصده نحو أن يقصد بقوله أنت طالق من زوج كان قبلي أو يقصد بقوله أمتي أو عبدي حر أنه عفيف عن الفاحشة أو يقصد بقوله امرأتي عندي مثل أمي في الكرامة والمنزلة ونحو ذلك لم تلزمه احكام هذه الصيغ فيما بينه وبين الله تعالى واما في الحكم فإن اقترن بكلامه قرينة تدل على ذلك لم يلزمه أيضا لأن السياق والقرينة بينة تدل على صدقه وإن لم يقترن بكلامه قرينه أصلا وادعى ذلك دعوى مجردة لم تقبل منه وإن قصد بها ما لا يجوز قصده كالتكلم بنكحت وتزوجت بقصد التحليل وبعت واشتريت بقصد الربا وبخالعتها بقصد الحيلة على فعل المحلوف عليه وبملكت بقصد الحيلة على إسقاط الزكاة أو الشفعة وما أشبه ذلك فهذا لا يحصل له مقصوده الذي قصده وجل ظاهر اللفظ والفعل وسيلة إليه فإن في تحصيل مقصوده تنفيذا للمحرم وإسقاطا للواجب وإعانة على معصية الله ومناقضة لدينه وشرعه، فإعانته على ذلك إعانة على الإثم والعدوان ولا فرق بين اعانته على ذلك بالطريق التي وضعت مفضية إليه وبين إعانته على ذلك بالطريق التي وضعت مفضية إلى غيره فالمقصود إذا كان واحدا لم يكن اختلاف الطرق الموصلة إليه بموجب لاختلاف حكمه فيحرم من طريق ويحل بعينه من طريق أخرى والطرق وسائل وهي مقصودة لغيرها فأي فرق بين التوسل إلى الحرام بطريق الاحتيال والمكر والخداع والتوسل إليه بطريق المجاهرة التي يوافق فيها السر الإعلان والظاهر الباطن والقصد اللفظ بل سالك هذه الطريقة قد تكون عاقبته أسلم وخطره أقل من سالك تلك من وجوه كثيرة كما أن سالك طريق الخداع والمكر عند الناس امقت وفي قلوبهم أوضع وهم عنه أشد نفرة ممن أتى الأمر على وجهه ودخله من بابه ولهذا قال: أيوب السختياني وهو من كبار التابعين وساداتهم وأئمتهم في هؤلاء يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل عليهم أنهما لم يقصدا بالسبب حكمه ولا باللفظ معناه وإنما قصدا التوسل بذلك اللفظ وبظاهر ذلك السبب إلى شيء آخر غير حكم السبب لكن أحدهما راهب قصده دفع الضرر عن نفسه ولهذا يحمد أو يعذر على ذلك والآخر راغب قصده إبطال حق وإيثار باطل ولهذا يذم على ذلك فالمكره يبطل حكم السبب فيما عليه وفيما له لأنه لم يقصد واحدا منهما والمحتال يبطل حكم السبب فيما احتال عليه وأما فيما سواه فيجب فيه التفصيل. وههنا أمر لا بد منه وهو ان من ظهر لنا انه محتال فكمن ظهر لنا انه مكره ومن ادعى انه انما قصد الاحتيال فكمن ادعى انه مكره وان كان ظهور أمر المكره أبين من ظهور أمر المحتال. فصل حكم عقود الهازل وأما الهازل فهو الذي يتكلم بالكلام من غير قصد لموجبه وحقيقته بل على وجه اللعب ونقيضه الجاد فاعل من الجد بكسر الجيم وهو نقيض الهزل وهو مأخوذ من جد فلان إذا عظم واستغنى وصار ذا حظ والهزل من هزل إذا ضعف وضؤل نزل الكلام الذي يراد معناه وحقيقته بمنزلة صاحب الحظ والبخت والغنى والذي لم يرد معناه وحقيقته بمنزلة الخالي من ذلك إذ قوام الكلام بمعناه وقوام الرجل بحظه وماله وقد جاء فيه حديث أبي هريرة المشهور عن النبي ﷺ: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة" رواه أهل السنن وحسنه الترمذي وفي مراسيل الحسن عن النبي ﷺ: "من نكح لاعبا أو طلق لاعبا أو اعتق لاعبا فقد جاز" وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أربع جائزات إذا تكلم بهن الطلاق والعتاق والنكاح والنذر" وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: "ثلاثة لا لعب فيهن الطلاق والعتاق والنكاح" وقال أبو الدرداء: "ثلاث اللعب فيهن كالجد الطلاق والعتاق والنكاح" وقال ابن مسعود النكاح جده ولعبه سواء ذكر ذلك أبو حفص العكبري. فصل عقود الهازل واختلاف الفقهاء في نفاذها فأما طلاق الهازل فيقع عند الجمهور وكذلك نكاحه صحيح كما صرح به النص وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين وهو قول الجمهور وحكاه أبو حفص أيضا عن أحمد وهو قول أصحابه وقول طائفة من أصحاب الشافعي وذكر بعضهم ان الشافعي نص على أن نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه ومذهب مالك الذي رواه ابن القاسم عنه وعليه العمل عند أصحابه ان هزل النكاح والطلاق لازم بخلاف البيع وروى عنه علي بن زياد ان نكاح الهازل لا يجوز قال: بعض أصحابه فان قام دليل على الهزل لم يلزمه عتق ولا نكاح ولا طلاق ولا شيء عليه من الصداق واما بيع الهازل وتصرفاته المالية فإنه لا يصح عند القاضي أبي يعلى وأكثر أصحابه وهو قول الحنفية والمالكية وقال أبو الخطاب في انتصاره يصح بيعه كطلاقه وخرجها بعض الشافعية على وجهين ومن قال: بالصحة قاس سائر التصرفات على النكاح والطلاق والرجعة والفقه فيه ان الهازل أتى بالقول غير ملتزم لحكمه وترتيب الاحكام على الأسباب للشارع لا للعاقد فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء أم ابى لأن ذلك لا يقف على اختياره وذلك ان الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه وموجبه وقصد اللفظ المتضمن للمعنى قصد لذلك المعنى لتلازمهما إلا أن يعارضه قصد آخر كالمكره والمخادع المحتال فإنهما قصدا شيئا آخر غير معني القول وموجبه ألا ترى ان المكره قصد دفع العذاب عن نفسه ولم يقصد السبب ابتداء والمحلل قصد إعادتها إلى المطلق وذلك مناف لقصده موجب السبب وأما الهازل فقصد السبب ولم يقصد حكمه ولا ما ينافى حكمه فترتب عليه أثره. فإن قيل: هذا ينتقض عليكم بلغو اليمين فإنه لا يترتب عليه حكمه. قيل: اللاغي لم يقصد السبب وإنما جرى على لسانه من غير قصده فهو بمنزلة كلام النائم والمغلوب على عقله وأيضا فالهزل أمر باطن لا يعرف إلا من جهة الهازل فلا يقبل قوله في إبطال حق العاقد الآخر ومن فرق بين البيع وبابه والنكاح وبابه قال: الحديث والآثار تدل على أن العقود ما يكون جده وهزله سواء ومنها ما لا يكون كذلك وإلا لقال العقود كلها أو الكلام كله جده وهزله سواء واما من جهة المعنى فان النكاح والطلاق والرجعة والعتق فيها حق لله تعالى اما العتق فظاهر واما الطلاق فإنه يوجب تحريم البضع ولهذا تجب إقامة الشهادة فيه وان لم تطلبها الزوجة وكذلك في النكاح فإنه يفيد حل ما كان حراما وحرمة ما كان حلالا وهو التحريم الثابت بالمصاهرة ولهذا لا يستباح إلا بالمهر وإذا كان كذلك لم يكن للعبد مع تعاطي السبب الموجب لهذه الأحكام أن لا يرتب عليها موجباتها كما ليس له ذلك في كلمات الكفر إذا هزل بها كما صرح به القرآن فإن الكلام المتضمن لحق الله لا يمكن قوله مع رفع ذلك الحق إذ ليس للعبد ان يهزل مع ربه ولا يستهزيء بآياته ولا يتلاعب بحدوده وفي حديث أبي موسى ما بال اقوام يلعبون بحدود الله ويستهزوءن بآياته وذلك في الهازلين يعني والله أعلم يقولونها لعبا غير ملتزمين لاحكامها وحكمها لازم لهم وهذا بخلاف البيع وبابه فإنه تصرف في المال الذي هو محض حق الآدمي ولهذا يملك بذله بعوض وغير عوض والإنسان قد يلعب مع الإنسان وينبسط معه فإذا تكلم على هذا الوجه لم يلزمه حكم الجاد لأن المزاح معه جائز. وحاصل الأمر ان اللعب والهزل والمزاح في حقوق الله تعالى غير جائز فيكون جد القول وهزله سواء بخلاف جانب العباد ألا ترى ان النبي ﷺ كان يمزح مع الصحابة ويباسطهم وأما مع ربه تعالى فيجد كل الجد ولهذا قال: للأعرابي يمازحه: "من يشتري مني العبد" فقال: تجدني رخيصا يا رسول الله فقال: "بل أنت عند الله غال" وقصد ﷺ انه عبد الله والصيغة صيغة استفهام وهو ﷺ كان يمزح ولايقول إلا حقا ولو ان رجلا قال: من يتزوج امي أو اختي لكان من أقبح الكلام وقد كان عمر رضي الله عنه يضرب من يدعو امرأته اخته وقد جاء في ذلك حديث مرفوع رواه أبو داود ان رجلا قال: لامرأته يا أخته فقال النبي ﷺ: "أختك هي إنما جعل إبراهيم ذلك حاجة لا مزاحا". ومما يوضحه أن عقد النكاح يشبه العبادات في نفسه بل هو مقدم على نفلها ولهذا يستحب عقده في المساجد وينهى عن البيع فيها ومن يشترط له لفظ بالعربية راعى فيه ذلك الحاقا له بالاذكار المشروعة ومثل هذا لا يجوز الهزل به فإذا تكلم به رتب الشارع عليه حكمه وإن لم يقصده بحكم ولاية الشارع على العبد فالمكلف قصد السبب والشارع قصد الحكم فصار مقصودين كلاهما. شريعة الإسلام خير الشرائع وقد ظهر بهذا ان ما جاء به الرسول هو أكمل ما تأتي به شريعة فإنه ﷺ أمر ان يقاتل الناس حتى يدخلوا في الإسلام ويلتزموا طاعة لله ورسوله ولم يؤمر ان ينقب عن قلوبهم ولا أن يشق بطونهم بل يجرى عليهم احكام الله في الدنيا إذا دخلوا في دينه ويجرى أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونياتهم فأحكام الدنيا على الإسلام وأحكام الآخرة على الإيمان ولهذا قبل إسلام الأعراب ونفى عنهم أن يكونوا مؤمنين وأخبر أنه لا ينقصهم مع ذلك من ثواب طاعتهم لله ورسوله شيئا وقبل إسلام المنافقين ظاهرا وأخبر أنه لا ينفعهم يوم القيامة شيئا وأنهم في الدرك الأسفل من النار. فأحكام الرب تعالى جارية على ما يظهر للعباد ما لم يقم دليل على أن ما أظهروه خلاف ما أبطنوه كما تقدم تفصيله وأما قصة الملاعن فالنبي ﷺ إنما قال بعد أن ولدت الغلام على شبه الذي رميت به: "لولا مامضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن" فهذا والله أعلم إنما أراد به لولا حكم الله بينهما باللعان لكان شبه الولد بمن رميت به يقتضى حكما آخر غيره ولكن حكم الله باللعان ألغي حكم الشبه فإنهما دليلان وأحدهما أقوى من الآخر فكان العمل به واجبا وهذا كما لو تعارض دليل الفراش ودليل الشبه فإنا نعمل دليل الفراش ولا نلتفت إلى الشبه بالنص والإجماع فأين في هذا ما يبطل المقاصد والنيات والقرائن التي لا معارض لها وهل يلزم من بطلان الحكم بقرينة قد عارضها ما هو أقوى منها بطلان الحكم بجميع القرائن وسيأتي دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وجمهور الأئمة على العمل بالقرائن واعتبارها في الأحكام. وأما إنفاذه للحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب فليس في الممكن شرعا غير هذا وهذا شأن عامة المتداعيين لا بد أن يكون أحدهما محقا والآخر مبطلا وينفذ حكم الله عليهما تارة بإثبات حق المحق وإبطال باطل المبطل وتارة بغير ذلك إذا لم يكن مع المحق دليل. وأما حديث ركانة لما طلق امرأته ألبتة وأحلفه النبي ﷺ أنه إنما أراد واحدة فمن أعظم الأدلة على صحة هذه القاعدة وان الاعتبار في العقود بنيات أصحابها ومقاصدهم وإن خالفت ظواهر ألفاظهم فإن لفظ ألبتة يقتضى أنها قد بانت منه وانقطع التواصل الذي كان بينهما بالنكاح وأنه لم يبق له عليها رجعة بل بانت منه ألبتة كما يدل عليه لفظ ألبتة لغة وعرفا ومع هذا فردها عليه وقبل قوله أنها واحدة مع مخالفة الظواهر اعتمادا على قصده ونيته فلولا اعتبار القصود في العقود لما نفعه قصده الذي يخالف ظاهر لفظه مخالفة ظاهرة بينة فهذا الحديث أصل لهذه القاعدة وقد قيل: منه في الحكم ودينه فيما بينه وبين الله فلم يقض عليه بما أظهر من لفظه لما أخبره بأن نيته وقصده كان خلاف ذلك. وأما قوله إن النبي ﷺ أبطل في حكم الدنيا استعمال الدلالة التي لا يوجد أقوى منها يعني دلالة الشبه فإنما أبطلها بدلالة أقوى منها وهي اللعان كما أبطلها مع قيام دلالة الفراش واعتبرها حيث لم يعارضها مثلها ولا أقوى منها في إلحاق الولد بالقافة وهي دلالة الشبه فأين في هذا إلغاء الدلالات والقرائن مطلقا. أحكام الدنيا تجري على الأسباب وأما قوله: إنه لم يحكم في المنافقين بحكم الكفر مع الدلالة التي لا أقوى منها وهي خبر الله تعالى عنهم وشهادته عليهم. فجوابه ان الله تعالى لم يجر أحكام الدنيا على علمه في عباده وإنما أجراها على الأسباب التي نصبها أدلة عليها وإن علم سبحانه ونعالى أنهم مبطلون فيها مظهرون لخلاف ما يبطنون وإذا أطلع الله رسوله على ذلك لم يكن ذلك مناقضا لحكمه الذي شرعه ورتبه على تلك الأسباب كما رتب على المتكلم بالشهادتين حكمه وأطلع رسوله وعباده المؤمنين على أحوال كثير من المنافقين وأنهم لم يطابق قولهم اعتقادهم وهذا كما اجرى حكمه على المتلاعنين ظاهرا ثم أطلع رسوله والمؤمنين على حال المرأة بشبه الولد لمن رميت به وكما قال: إنما أقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار وقد يطلعه الله على حال آخذ ما لا يحل له أخذه ولا يمنعه ذلك من إنفاذ الحكم وأما الذي قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود فليس فيه ما يدل على القذف لا صريحا ولا كناية وإنما أخبره بالواقع مستفتيا عن حكم هذا الولد أيستلحقه مع مخالفة لونه للونه أم ينفيه فأفتاه النبي ﷺ وقرب له الحكم بالشبه الذي ذكره ليكون أذعن لقبوله وانشراح الصدر له ولا يقبله على إغماض فأين في هذا ما يبطل حد القذف بقول من يشاتم غيره أما أنا فلست بزان وليست امي بزانية ونحو هذا من التعريض الذي هو أوجع وانكى من التصريح وأبلغ في الأذى وظهوره عند كل سامع بمنزلة ظهور الصريح فهذا لون وذلك لون وقد حد عمر بالتعريض في القذف ووافقه الصحابة رضي الله عنهم أجعين وأما قوله رحمه الله إنه استشار الصحابة فخالفه بعضهم فإنه يريد ما رواه عن مالك عن أبي الرجال عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب فقال أحدهما للآخر والله ما أنا بزان ولا أمي بزانية فاستشار في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال قائل: مدح أباه وأمه وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى أن تجلده الحد فجلده عمر الحد ثمانين وهذا لا يدل على أن القائل الأول خالف عمر فإنه لما قيل: له إنه قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا فهم أنه أراد القذف فسكت وهذا إلى الموافقة أقرب منه إلى المخالفة وقد صح عن عمر من وجوه أنه حد في التعريض فروى معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن عمر كان يحد في التعريض بالفاحشة وروى ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن صفوان وأيوب عن عمر أنه حد في التعريض وذكر أبو عمر ان عثمان كان يحد في التعريض وذكره ابن أبي شيبة وكان عمر بن عبد العزيز يرى الحد في التعريض وهو قول أهل المدينة والأوزاعي وهو محض القياس كما يقع الطلاق والعتق والوقف والظهار بالصريح والكتابة واللفظ إنما وضع لدلالته على المعنى فإذا ظهر المعنى غاية الظهور لم يكن في تغيير اللفظ كثير فائدة. وأما قوله: من حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم لم يسلم من خلاف التنزيل والسنة فإنه يشير بذلك إلى قبول توبة الزنديق وحقن دمه بإسلامه وقبول توبة المرتد وإن ولد على الإسلام وهاتان مسألتان فيهما نزاع بين الأمة مشهور وقد ذكر الشافعي الحجة على قبول توبتهما ومن لم يقبل توبتهما يقول إنه لا سبيل إلى العلم بها فإن الزنديق قد علم أنه لم يزل مظهرا للإسلام فلم يتجدد له بإسلامه الثاني حال مخالفة لما كان عليه بخلاف الكافر الأصلي فإنه إذا أسلم تجدد له بالإسلام حال لم يكن عليها والزنديق إنما رجع إلى إظهار الإسلام وأيضا فالكافر كان معلنا لكفره غير مستتر به ولا مخف له فإذا أسلم تيقنا أنه أتى بالإسلام رغبة فيه لا خوفا من القتل والزنديق بالعكس فإنه كان مخفيا لكفره مستترا به فلم تؤاخذه بما في قلبه إذا لم يظهر عليه فإذا ظهر على لسانه وآخذناه به فإذا رجع عنه لم يرجع عن أمر كان مظهرا له غير خائف من إظهاره وإنما رجع خوفا من القتل وأيضا فإن الله تعالى سن في عباده انهم إذا رأوا بأسه لم ينفعهم الإسلام وهذا إنما أسلم عند معاينة البأس ولهذا لو جاء من تلقاء نفسه وأقر بأنه قال: كذا وكذا وهو تائب منه قبلنا توبته ولم نقتله وأيضا فإن الله تعالى سن في المحاربين أنهم إن تابوا من قبل القدرة عليهم قبلت توبتهم ولا تنفعهم التوبة بعد القدرة عليهم ومحاربة الزنديق للإسلام بلسانه أعظم من محاربة قاطع الطريق بيده وسنانه فإن فتنة هذا في الأموال والابدان وفتنة الزنديق في القلوب والايمان فهو أولى ألا تقبل توبته بعد القدرة عليه وهذا بخلاف الكافر الأصلي فإن أمره كان معلوما وكان مظهرا لكفره غير كاتم له والمسلمون قد أخذوا حذرهم منه وجاهروه بالعداوة والمحاربة وأيضا فإن الزنديق هذا دأبه دائما فلو قبلت توبته لكان تسليطا له على بقاء نفسه بالزندقة والالحاد وكلما قدر عليه أظهر الإسلام وعاد إلى ما كان عليه ولا سيما وقد علم انه امن بإظهار الإسلام من القتل فلا يزعه خوفه من المجاهرة بالزندقة والطعن في الدين ومسبة الله ورسوله فلا ينكف عدوانه عن الإسلام إلا بقتله وأيضا فإن من سب الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا فجزاؤه القتل حدا والحدود لا تسقط بالتوبة بعد القدرة اتفاقا ولا ريب أن محاربة هذا الزنديق لله ورسوله وإفساده في الأرض أعظم محاربة وإفسادا فكيف تأتي الشريعة بقتل من صال عل عشرة دراهم لذمي أو على بدنه ولا تقبل توبته ولا تأتى بقتل من دأبه الصول على كتاب الله وسنة رسوله والطعن في دينه وتقبل توبته بعد القدرة عليه وأيضا فالحدود بحسب الجرائم والمفاسد وجريمة هذا أغلظ الجرائم ومفسدة بقائه بين أظهر المسلمين من أعظم المفاسد. السر في قبول توبة الكافر دون الزنديق وههنا قاعدة يجب التنبيه عليها لعموم الحاجة إليها وهي ان الشارع انما قبل توبة الكافر الأصلي من كفره بالإسلام لأنه ظاهر لم يعارضه ما هو أقوى منه فيجب العمل به لأنه مقتض لحقن الدم والمعارض منتف فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه فإظهاره بعد القدرة عليه للتوبة والإسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالة قطعية ولاظنية أما انتفاء القطع فظاهر وأما انتفاء الظن فلأن الظاهر انما يكون دليلا صحيحا إذا لم يثبت ان الباطن بخلافه فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم ان الباطن بخلافه ولهذا اتفق الناس على أنه لا يجوز للحاكم ان يحكم بخلاف علمه وان شهد عنده بذلك العدول وإنما يحكم بشهادتهم إذا لم يعلم خلافها وكذلك لو أقر إقرارا علم أنه كاذب فيه مثل أن يقول لمن هو أسن منه وهذا ابني لم يثبت نسبه ولا ميراثه اتفاقا وكذلك الأدلة الشرعية مثل خبر الواحد العدل والأمر والنهى والعموم والقياس إنما يجب اتباعها إذا لم يقم دليل أقوى منها يخالف ظاهرها. وإذا عرف هذا فهذا الزنديق قد قام الدليل على فساد عقيدته وتكذيبه واستهانته بالدين وقدحه فيه فإظهاره الإقرار والتوبة بعد القدرة عليه ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا وهذا القدر قد بطلت دلالته بما أظهره من الزندقة فلا يجوز الاعتماد عليه لتضمنه إلغاء الدليل القوي وإعمال الدليل الضعيف الذي قد أظهر بطلان دلالته ولا يخفى على المنصف قوة هذا النظر وصحة هذا المأخذ وهذا مذهب أهل المدينة ومالك وأصحابه والليث بن سعد وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة وهو إحدى الروايات عن أحمد نصرها كثير من أصحابه بل هي أنص الروايات عنه وعن أبي حنيفة وأحمد انه يستتاب وهو قول الشافعي وعن أبي يوسف روايتان إحداهما انه يستتاب وهي الرواية الأولى عنه ثم قال: آخرا أقتله من غير استتابه لكن إن تاب قبل ان يقدر عليه قبلت توبته وهذا هو الرواية الثالثة عن أحمد. ويالله العجب كيف يقاوم دليل إظهاره للإسلام بلسانه بعد القدرة عليه أدلة زندقته وتكررها منه مرة بعد مرة وإظهاره كل وقت للاستهانة بالإسلام والقدح في الدين والطعن فيه في كل مجمع مع استهانته بحرمات الله واستخفافه بالفرائض وغير ذلك من الأدلة ولا ينبغي لعالم قط ان يتوقف في قتل مثل هذا ولا تترك الأدلة القطعية لظاهر قد تبين عدم دلالته وبطلانها ولا تسقط الحدود عن أرباب الجرائم بغير موجب. نعم لو أنه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال والاعمال ما يدل على حسن الإسلام وعلى التوبة النصوحة وتكرر ذلك منه لم يقتل كما قاله أبو يوسف وأحمد في إحدى الروايات وهذا التفصيل أحسن الأقوال في المسألة. ومما يدل على أن توبة الزنديق بعد القدرة لا تعصم دمه قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} قال: السلف في هذه الآية أو بأيدينا بالقتل إن أظهرتم ما في قلوبكم وهو كما قالوا: لأن العذاب على ما يبطنونه من الكفر بأيدي المؤمنين لا يكون إلا بالقتل فلو قبلت توبتهم بعد ما ظهرت زنذقتهم لم يمكن المؤمنين ان يتربصوا بالزنادقة ان يصيبهم الله بأيديهم لأنهم كلما أرادوا ان يعذبوهم على ذلك أظهروا الإسلام فلم يصابوا بأيديهم قط والأدلة على ذلك كثيرة جدا. وعند هذا فأصحاب هذا القول يقولون نحن أسعد بالتنزيل والسنة من مخالفينا في هذه المسألة المشنعين علينا بخلافها وبالله التوفيق. وأما قوله ولا يفسد عقد إلا بالعقد نفسه ولا يفسد بشيء تقدمه ولا تأخره ولا بتوهم ولا أمارة عليه يريد أن الشرط المتقدم لا يفسد العقد إذا عرى صلب العقد عن مقارنته وهذا أصل قد خالفه فيه جمهور أهل العلم وقالوا لا فرق بين الشرط المتقدم والمقارن إذ مفسدة الشرط المتقدم لم تزل بتقدمه وإسلافه بل مفسدته مقارنا كمفسدته متقدما وأي مفسدة زالت بتقدم الشرط إذا كانا قد علما وعلم الله تعالى والحاضرون أنهما إنما عقدا على ذلك الشرط الباطل المحرم وأظهرا صورة العقد مطلقا وهو مقيد في الأمر بذلك الشرط المحرم فإذا اشترطا قبل العقد ان النكاح نكاح تحليل أو متعة أو شغار وتعاهدا على ذلك وتواطئا عليه ثم عقدا على ما اتفقا عليه وسكتا عن إعادة الشرط في صلب العقد اعتمادا على تقدم ذكره والتزامه لم يخرج العقد بذلك عن كونه عقد تحليل ومتعة وشغار حقيقة وكيف يعجز المتعاقدان اللذان يريدان عقدا قد حرمه الله ورسوله لوصف أن يشترطا قبل العقد إرادة ذلك الوصف وأنه هو المقصود ثم يسكتا عن ذكره في صلب العقد ليتم غرضهما وهل إتمام غرضهما إلا عين تفويت مقصود الشارع وهل هذه القاعدة وهى أن الشرط المتقدم لا يؤثر إلا فتح لباب الحيل بل هي أصل الحيل وأساسها وكيف تفرق الشريعة بين متماثلين من كل وجه لافتراقهما في تقدم لفظ وتأخره مع استواء العقدين في الحقيقة والمعنى والقصد وهل هذا الا من أقرب الوسائل والذرائع إلى حصول ما قصد الشارع عدمه وإبطاله وأين هذه القاعدة من قاعدة سد الذرائع إلى المحرمات ولهذا صرح أصحابها ببطلان سد الذارئع لما علموا انها مناقضة لتلك فالشارع سد الذرائع إلى المحرمات بكل طريق وهذه القاعدة توسع الطرق اليها وتنهجها وإذا تأمل اللبيب هذه القاعدة وجدها ترفع التحريم أو الوجوب مع قيام المعنى المقتضى لهما حقيقة وفي ذلك تأكيد للتحريم من وجهين من جهة ان فيها فعل المحرم وترك الواجب ومن جهة اشتمالها على التدليس والمكر والخداع والتوسل بشرع الله الذي أحبه ورضيه لعباده إلى نفس ما حرمه ونهى عنه ومعلوم انه لا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق بين في الحقيقة بحيث يظهر للعقول مضادة أحدهما للآخر والفرق في الصورة غير معتبر ولا مؤثر إذ الاعتبار بالمعاني والمقاصد في الأقوال والافعال فان الالفاظ إذا اختلفت عباراتها أو مواضعها بالتقدم والتأخر والمعنى واحد كان حكمها واحدا ولو اتفقت ألفاظها واختلفت معانيها كان حكمها مختلفا وكذلك الاعمال ومن تأمل الشريعة حق التأمل علم صحة هذا بالاضطرار فالأمر المحتال عليه بتقدم الشرط دون مقارنة صورته صورة الحلال المشروع ومقصوده الحرام الباطل فلا تراعى الصورة وتلغى الحقيقة والمقصود بل مشاركة هذا للحرام صورة ومعنى وإلحاقه به لاشتراكهما في القصد والحقيقة أولى من إلحاقه بالحلال المأذون فيه بمشاركته له في مجرد الصورة. فصل فيمن لا يعتبر سد الذرائع والقصد في العقود وقوله ولا تفسد العقود بأن يقال هذه ذريعة وهذه نية سوء إلى آخره فإشارة منه إلى قاعدتين إحداهما ان لا اعتبار بالذرائع ولا يراعى سدها والثانية أن القصود غير معتبرة في العقود والقاعدة المتقدمة ان الشرط المتقدم لا يؤثر وإنما التأثير للشرط الواقع في صلب العقد وهذه القواعد متلازمة فمن سد الذرائع اعتبر المقاصد وقال يؤثر الشرط متقدما ومقارنا ومن لم يسد الذرائع لم يعتبر المقاصد ولا الشروط المتقدمة ولا يمكن إبطال واحدة منها إلا بإبطال جميعها ونحن نذكر قاعدة سد الذرائع ودلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والميزان الصحيح عليها. في سد الذرائع لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضى إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منا بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغايات وهي مقصودة قصد الوسائل فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له ومنعا أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به وحكمته تعالى وعلمه يأبي ذلك كل الإباء بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح له الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضا ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده وكذلك الاطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه والا فسد عليهم ما يرومون أصلاحه فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها والذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء. ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره ليزول الالتباس فيه فنقول. حكم الوسائل المؤدية إلى المقاصد الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان أحدهما أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشرب المسكر المفضى إلى مفسدة السكر وكالقذف المفضى إلى مفسدة الفرية والزنا المفضى إلى اختلاط المياه وفساد الفراش ونحو ذلك فهذه افعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهرا غيرها والثاني ان تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب فيتخذ وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه فالأول كمن يعقد النكاح قاصدا به التحليل أو يعقد البيع قاصدا به الربا أو يخالع قاصدا به الحنث ونحو ذلك والثاني كمن يصلى تطوعا بغير سبب في اوقات النهي أو يسب ارباب المشركين بين أظهرهم أو يصلى بين يدى القبر لله ونحو ذلك ثم هذا القسم من الذرائع نوعان أحدهما ان تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته والثاني ان تكون مفسدته راجحة على مصلحته فههنا أربعة أقسام الأول وسيلة موضوعة للافضاء إلى المفسدة الثاني وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة الثالث وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية اليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها الرابع وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضى إلى المفسدة ومصلحتها ارجح من مفسدتها فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم ومثال الثالث الصلاة في اوقات النهى ومسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم وتزين المتوفي عنها في زمن عدتها وأمثال ذلك ومثال الرابع النظر إلى المخطوبة والمستامة والمشهود عليها ومن يطؤها ويعاملها وفعل ذوات الأسباب في اوقات النهي وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر ونحو ذلك فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجات في المصلحة وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريما بحسب درجاته في المفسدة بقى النظر في القسمين الوسط هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما فنقول الدلالة على المنع من وجوه: منع ما يؤدي إلى الحرام الوجه الأول قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم لكونه ذريعة إلى سبهم لله تعالى وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز. الوجه الثاني قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ} فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن. الوجه الثالث قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} الآية أمر تعالى مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة لئلا يكون دخولهم هجما بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة ولم يأمرهم بالإستئذان في غيرها وإن أمكن في تركه هذه المفسدة لندورها وقلة الإفضاء إليها فجعلت كالمقدمة. الوجه الرابع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي ﷺ ويقصدون بها السب يقصدون فاعلا من الرعونة فنهى المسلمون عن قولها سدا لذريعة المشابهة ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي ﷺ تشبها بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون. الوجه الخامس قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} فأمر تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفرا وأعتاهم عليه لئلا يكون إغلاظ القول له مع أنه حقيقي به ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة فنهاهما عن الجائز لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى. الوجه السادس أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد وأمرهم بالعفو والصفح لئلا يكون انتصارهم ذريعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإغضاء واحتمال الضيم ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة. الوجه السابع أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها. الوجه الثامن ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه متفق عليه ولفظ البخاري إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه قال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه" فجعل رسول الله ﷺ الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده. الوجه التاسع أن النبي ﷺ كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه وقولهم إن محمدا يقتل أصحابه فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه ومن لم يدخل فيه ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم ومصلحة التأليف أعطم من مصلحة القتل. الوجه العاشر أن الله حرم الخمر لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل وهذا ليس مما نحن فيه لكن حرم القطرة الواحدة منها وحرم إمساكها للتخليل ونجسها لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحسوة ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب ثم بالغ في سد الذريعة فنهى عن الخليطين وعن شرب العصير بعد ثلاث وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم به حسما لمادة قربان المسكر وقد صرح ﷺ بالعلة في تحريم القليل فقال: "لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه". الوجه الحادي عشر أنه ﷺ حرم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين سدا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع. الوجه الثاني عشر أن الله تعالى أمر بغض البصر وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في صنع الله سدا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور. الوجه الثالث عشر أن النبي ﷺ نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد وعن الصلاة إليها وعندها وعن إبقاد المصابيح عليها وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها عيدا وعن شد الرحال اليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدا للذريعة الوجه الرابع عشر أنه ﷺ نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود المشركين للشمس وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سدا لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد مع بعد هذه الذريعة فكيف بالذرائع القريبة. الوجه الخامس عشر أنه ﷺ نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة كقوله إن اليهود والنصارى لايصبغون فخالفوهم وقوله إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم وقوله في عاشوراء خالفوا اليهود صوموا يوما قبله ويوما بعده وقوله لا تشبهوا بالأعاجم وروىالترميذي عنه ليس منا من تشبه بغيرنا وروى الإمام أحمد عنه: "من تشبه بقوم فهو منهم" وسر ذلك أن المشابهة في الهدى الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل. الوجه السادس عشر أنه ﷺ حرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وقال إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم حتى لو رضيت المرأة بذلك لم يجز لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة كما علل به النبي ﷺ. الوجه السابع عشر أنه حرم نكاح أكثر من أربع لأن ذلك ذريعة إلى الجور وقيل العلة فيه أنه ذريعة إلى كثرة المؤنة المفضية إلى أكل الحرام وعلى التقديرين فهو من باب سد الذرائع وأباح الأربع وإن كان لا يؤمن الجور في اجتماعهن لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن فكانت مصلحة الإباحة أرجح من مفسدة الجور المتوقعة. الوجه الثامن عشر أن الله تعالى حرم خطبة المعتدة صريحا حتى حرم ذلك في عدة الوفاة وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها. الوجه التاسع عشر: أن الله حرم عقد النكاح في حال العدة وفي الإحرام وإن تأخر الوطء إلى وقت الحل لئلا يتخذ العقد ذريعة إلى الوطء ولا ينتقض هذا بالصيام فإن زمنه قريب جدا فليس عليه كلفة في صبره بعض يوم إلى الليل. الوجه العشرون أن الشارع حرم الطيب على المحرم لكونه من أسباب دواعي الوطء فتحريمه من سد باب الذريعة. الوجه الحادي والعشرون: أن الشارع اشترط للنكاح شروطا زائدة على العقد تقطع عنه شبه السفاح كالاعلام والولي ومنع المرأة أن تليه بنفسها وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح وزوال بعض مقاصد النكاح من جحد الفراش ثم أكد ذلك بأن جعل للنكاح حريما من العدة تزيد على مقدار الاستبراء وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن الموارثة زائدة على مجرد الاستمتاع فعلم أن الشارع جعله سببا ووصله بين الناس بمنزلة الرحم كما جمع بينهما في قوله وجعله نسبا وصهرا وهذه المقاصد تمنع شبهة بالسفاح وتبين أن نكاح المحلل بالسفاح أشبه منه بالنكاح. الوجه الثاني والعشرون: أن النبي ﷺ نهى أن يجمع الرجل بين سلف وبيع ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يقرضه ألفا ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين وهذا هو معنى الربا فانظر إلى حمايته الذريعة إلى ذلك بكل طريق وقد احتج بعض المانعين لمسألة مد عجوة بأن قال: إن من جوزها يجوز أن يبيع الرجل ألف دينار في منديل بألف وخمسمائة مفردة قال: وهذا ذريعة إلى الربا. ثم قال: يجوز أن يقرضه ألفا ويبيعه المنديل بخمسمائة وهذا هو بعينه الذي نهى عنه رسول الله ﷺ وهو من أقرب الذرائع إلى الربا ويلزم من لم يسد الذرائع أن يخالف النصوص ويجيز ذلك فكيف يترك أمرا ويرتكب نظيره من كل وجه. الوجه الثالث والعشرون أن الآثار المتظاهرة في تحريم العينة عن النبي ﷺ وعن الصحابة تدل على المنع من عود السلعة إلى البائع وإن لم يتواطئا على الربا وما ذاك إلا شدا للذريعة. الوجه الرابع والعشرون أن النبي ﷺ منع المقرض من قبول الهدية وكذلك أصحابه حتى يحسبها من دينه وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا فإنه يعود إليه ماله وأخذ الفضل الذي استفاده بسبب القرض. الوجه الخامس والعشرون أن الوالي والقاضي والشافع ممنوع من قبول الهدية وهو أصل فساد العالم وإسناد الأمر إلى غير أهله وتولية الخونة والضعفاء والعاجزين وقد دخل بذلك من الفساد مالا يحصيه إلا الله وما ذاك إلا لأن قبول الهدية ممن لم تجر عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته وحبك الشيء يعمى ويصم فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته مكافأة له مقرونة بشره وإغماض عن كونه لا يصلح. الوجه السادس والعشرون أن السنة مضت بأنه ليس للقاتل من الميراث شيء إما عمدا كما قال: مالك وإما مباشرة كما قال: أبو حنيفة وإما قتلا مضمونا بقصاص أودية أو كفارة وإما قتلا بغير حق وإما قتلا مطلقا كما هي أقوال في مذهب الشافعي وأحمد والمذهب الأول وسواء قصد القاتل أن يتعجل الميراث أو لم يقصده فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقا وما ذاك. لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل فسد الشارع الذريعة بالمنع. الوجه السابع والعشرون أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت حيث يتهم بقصد حرمانها الميراث بلا تردد إن لم يقصد الحرمان لأن الطلاق ذريعة وأما إذا لم يتهم ففيه خلاف معروف مأخذه أن المرض أوجب تعلق حقها بماله فلا يمكن من قطعه أو سدا للذريعة بالكلية وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين. الوجه الثامن والعشرون أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجميع بالواحد وإن كان أصل القصاص يمنع ذلك لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء. الوجه التاسع والعشرون أن النبي ﷺ نهى أن تقطع الأيدي في الغزو لئلا يكون ذريعة إلى إلحاق المحدود بالكفار ولهذا لاتقام الحدود في الغزو كما تقدم. الوجه الثلاثون: أن النبي ﷺ نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن تكون له عادة توافق ذلك اليوم ونهى عن صوم يوم الشك وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه وكذلك حرم صوم يوم العيد تمييزا لوقت العبادة عن غيره لئلا يكون ذريعة إلى الزيادة في الواجب كما فعلت النصارى ثم أكد هذا الغرض باستحباب تعجيل الفطر وتأخير السحور واستحباب تعجيل الفطر في يوم العيد قبل الصلاة وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها فكره للإمام أن يتطوع في مكانه وأن يستديم جلوسه مستقبل القبلة كل هذا سدا للباب المفضى إلى أن يزاد في الفرض ما ليس منه. الوجه الحادي والثلاثون: أنه ﷺ كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله تعالى وأحب لمن صلى إلى عود أو عمود أو شجرة أو نحو ذلك أن يجعله على أحد جانبيه ولا يصمد إليه صمدا قطعا لذريعة التشبه بالسجود إلى غير الله تعالى. الوجه الثاني والثلاثون انه شرع الشفعة وسلط الشريك على انتزاع الشقص من يد المشترى سد لذريعة المفسدة المتعلقة بالشركة والقسمة. الوجه الثالث والثلاثون ان الحاكم منهى عن رفع أحد الخصمين على الآخر وعن الاقبال عليه دونه وعن مشاورته والقيام له دون خصمه لئلا يكون ذريعة إلى انكسار قلب الآخر وضعفه عن القيام بحجته وثقل لسانه بها. الوجه الرابع والثلاثون أنه ممنوع من الحكم بعلمه لئلا يكون ذلك ذريعة إلى حكمه بالباطل ويقول حكمت بعلمي. الوجه الخامس والثلاثون ان الشريعة منعت من قبول شهادة العدو على عدوه لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى بلوغ غرضه من عدوه بالشهادة الباطلة. الوجه السادس والثلاثون ان الله تعالى منع رسوله حيث كان بمكة من الجهر بالقرآن حيث كان المشركون يسمعونه فيسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به ومن أنزل عليه. الوجه السابع والثلاثون ان الله تعالى أوجب الحدود على مرتكبي الجرائم التي تتقضاها الطباع وليس عليها وازع طبعى والحدود عقوبات لارباب الجرائم في الدنيا كما جعلت عقوبتهم في الآخرة بالنار إذا لم يتوبوا ثم إنه تعالى جعل التائب من الذنب كمن لا ذنب له فمن لقيه تائبا توبة نصوحا لم يعذبه مما تاب منه وهكذا في أحكام الدنيا إذا تاب توبة نصوحا قبل رفعه إلى الإمام سقط عنه في أصح قولى العلماء فإذا رفع إلى الامام لم تسقط توبته عنه الحد لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تعطيل حدود الله إذ لا يعجز كل من وجب عليه الحد ان يظهر التوبة ليتخلص من العقوبة وإن تاب توبة نصوحا سدا لذريعة السكوت بالكلية. الوجه الثامن والثلاثون: ان الشارع أمر بالاجتماع على إمام واحد في الامامة الكبرى وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الخوف مع كون صلاة الخوف بإمامين أقرب إلى حصول صلاة الامن وذلك سدا لذريعة التفريق والاختلاف والتنازع وطلبا لاجتماع القلوب وتألف الكلمة وهذا من اعظم مقاصد الشرع وقد سد الذريعة إلى ما يناقضه بكل طريق حتى في تسوية الصف في الصلاة لئلا تختلف القلوب وشواهد ذلك أكثر من أن تذكر. الوجه التاسع والثلاثون: أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم وكراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم وليلتها بالقيام سدا لذريعة اتخاذ شرع لم يأذن به الله من تخصيص زمان أو مكان بما لم يخصه به ففي ذلك وقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب. الوجه الأربعون أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا تفضى مشابهتهم إلى ان يعامل الكافر معاملة المسلم فسدت هذه الذريعة بإلزامهم التميز عن المسلمين. الوجه الحادي والأربعون: أن النبي ﷺ أمر ناجية بن كعب الأسلمى وقد أرسل معه هدية إذا عطب منه شيء دون المحل ان ينحره ويصبغ نعله التي قلده بها في دمه ويخلى بينه وبين الناس ونهاه ان ياكل منه هو أو أحد من أهل رفقته قالوا: وما ذاك إلا لأنه لو جاز ان يأكل منه أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحل فربما دعاه ذلك إلى ان يقصر في علفها وحفظها لحصول غرضه من عطبها دون المحل كحصوله بعد بلوغ المحل من أكله هو ورفقته وإهدائهم إلى أصحابهم فإذا أيس من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى حفظها حتى تبلغ محلها وأحسم لمادة هذا الفساد وهذا من ألطف أنواع سد الذرائع. الوجه الثاني والأربعون: ان النبي ﷺ أمر الملتقط ان يشهد على اللقطة وقد علم انه امين وما ذاك إلا لسد الذريعة الطمع والكتمان فإذا بادر وأشهد كان احسم لمادة الطمع والكتمان وهذا أيضا من ألطف أنواعها. الوجه الثالث والأربعون: انه ﷺ قال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد وذم الخطيب الذي قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن عصاهما فقد غوى سدا لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ وحسما لمادة الشرك حتى في اللفظ ولهذا قال: للذي قال: له ما شاء الله وشئت أجعلتني لله ندا فحسم مادة الشرك وسد الذريعة إليه في اللفظ كما سدها في الفعل والقصد فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله أكمل صلاة وأتمها وأزكاها وأعمها. الوجه الرابع والأربعون: انه ﷺ وآله وسلم أمر المأمومين ان يصلوا قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا وقد تواتر عنه ذلك ولم يجيء عنه ما ينسخه وما ذاك إلا سدا لذريعة مشابهة الكفار حيث يقومون على ملوكهم وهم قعود كما علله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وهذا التعليل منه يبطل قول من قال إنه منسوخ مع ان ذلك دعوى لا دليل عليها. الوجه الخامس والأربعون انه ﷺ أمر المصلي بالليل إذا نعس ان يذهب فليرقد وقال لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه فأمره بالنوم لئلا تكون صلاته في تلك الحال ذريعة إلى سبه لنفسه وهو لا يشعر لغلبه النوم. الوجه السادس والأربعون: ان الشارع صلوات الله عليه نهى ان يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يستام على سوم أخيه أو يبيع أخيه وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى التباغض والتعادي فقياس هذا انه لايستأجر على إجارته ولا يخطب ولاية ولا منصبا على خطبته وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى وقوع العداوة والبغضاء بينه وبين أخيه. الوجه السابع والأربعون انه نهى عن البول في الجحر وما ذاك إلا لأنه قد يكون ذريعة إلى خروج حيوان يؤذيه وقد يكون من مساكن الجن فيؤذيهم بالبول فربما اذوه. الوجه الثامن والأربعون انه نهى عن البراز في قارعة الطريق والظل والموارد لأنه ذريعة لاستجلاب اللعن كما علل به ﷺ بقوله اتقوا الملاعن الثلاث وفي لفظ اتقوا اللاعنين قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله قال: "الذي يتخلى في طريق الناس وفي ظلهم". الوجه التاسع والأربعون انه نهاهم إذا أقيمت الصلاة ان يقوموا حتى يروه قد خرج لئلا يكون ذلك ذريعة إلى قيامهم لغير الله ولو كانوا إنما يقصدون القيام للصلاة لكن قيامهم قبل خروج الإمام ذريعة ولا مصلحة فيها فنهوا عنه. الوجه الخمسون انه نهى ان توصل صلاة بصلاة الجمعة حتى يتكلم أو يخرج لئلا يتخذ ذريعة إلى تغيير الفرض وان يزاد فيه ما ليس منه قال السائب بن يزيد: "صليت الجمعة في المقصورة فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت فلما دخل معاوية ارسل إلي فقال: لا تعد لما فعلت إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج فإن النبي ﷺ أمر بذلك ألا توصل الصلاة حتى يتكلم أو يخرج". الوجه الحادي والخمسون: انه أمر من صلى في رحله ثم جاء إلى المسجد ان يصلي مع الامام وتكون له نافلة لئلا يتخذ قعوده والناس يصلون ذريعة إلى إساءة الظن به وانه من المصلين. الوجه الثاني والخمسون انه نهى ان يسمر بعد العشاء الآخرة إلى المصل أو مسافر وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وما ذاك إلا لأن النوم قبلها ذريعة إلى تفويتها والسمر بعدها ذريعة إلى تفويت قيام الليل فإن عارضه مصلحة راجحة كالسمر في العلم ومصالح المسلمين لم يكره. الوجه الثالث والخمسون انه نهى النساء إذا صلين مع الرجال ان يرفعن رءوسهن قبل الرجال لئلا يكون ذريعة منهن إلى رؤية عورات الرجال من وراء الأزر كما جاء التعليل بذلك في الحديث. الوجه الرابع والخمسون انه نهى الرجل ان يتخطى المسجد الذي يليه إلى غيره كما رواه بقية عن المجاشع بن عمرو عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ: "ليصل أحدكم في المسجد الذي يليه ولا يتخطاه إلى غيره" وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى هجر المسجد الذي يليه وإيحاش صدر الإمام وإن كان الإمام لايتم الصلاة أو يرمي ببدعة أو يعلن بفجور فلا بأس بتخطيه إلى غيره. الوجه الخامس والخمسون انه نهى الرجل بعد الاذان ان يخرج من المسجد حتى يصلي لئلا يكون خروجه ذريعةالى اشتغاله عن الصلاة جماعة كما قال: عمار لرجل رآه قد خرج بعد الاذان اما هذا فقد عصى أبا القاسم. الوجه السادس والخمسون انه نهى عن الاحتباء يوم الجمعة كما رواه أحمد في مسنده من حديث سهل بن معاذ عن أبيه: "نهى رسول الله ﷺ عن الاحتباء يوم الجمعة" وما ذاك إلا انه ذريعة إلى النوم. الوجه السابع والخمسون: انه نهى المرأة إذا خرجت إلى المسجد ان تتطيب أو تصيب بخورا وذلك لأنه ذريعة إلى ميل الرجال وتشوفهم اليها فإن رائحتها وزينتها وصورتها وابداء محاسنها تدعو اليها فأمرها ان تخرج تفلة وان لا تتطيب وان تقف خلف الرجال وان لا تسبح في الصلاة إذا بابها شيء بل تصفق ببطن كفها على ظهر الأخرى كل ذلك سدا للذريعة وحماية عن المفسدة. الوجه الثامن والخمسون: انه نهى ان تنعت المرأء المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها ولا يخفى أن ذلك سد للذريعة وحماية عن مفسدة وقوعها في قلبه وميله إليها بحضور صورتها في نفسه وكم ممن أحب غيره بالوصف قبل الرؤية. الوجه التاسع والخمسون أنه نهى عن الجلوس بالطرقات وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى النظر إلى المحرم فلما أخبروه أنه لا بد لهم من ذلك قال: "أعطوا الطريق حقه" قالوا: وما حقه قال: "غض البصر وكف الأذى ورد السلام". الوجه الستون: أنه نهى أن يبيت الرجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحا أو ذا رحم محرم وما ذاك إلا لأن المبيت عند الأجنبية ذريعة إلى المحرم. الوجه الحادي والستون: أنه نهى أن تباع السلع حيث تباع حتى تنقل عن مكانها وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى جحد البائع البيع وعدم إتمامه إذا رأى المشتري قد ربح فيها فيغره الطمع وتشح نفسه بالتسليم كما هو الواقع وأكد هذا المعنى بالنهي عن الربح مالم يضمن وهذا من محاسن الشريعة وألطف باب لسد الذرائع. الوجه الثاني والستون: أنه نهى عن بيعتين في بيعة وهو الشرطان في البيع في الحديث الآخر وهو الذي لعاقده أوكس البيعتين أو الربا في الحديث الثالث وذلك سد لذريعة الربا فإنه إذا باعه السلعة بمائة مؤجلة ثم اشتراها منه بمائتين حالة فقد باع بيعتين في بيعة فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ بالربا وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما وهذا من اعظم الذرائع إلى الربا وأبعد كل البعد من حمل الحديث على البيع بمائة مؤجلة أو خمسين حالة وليس ههنا ربا ولا جهالة ولا غرر ولا قمار ولا شيء من المفاسد فإنه خيره بين أي الثمنين شاء وليس هذا بأبعد من تخييره بعد البيع بين الأخذ والإمضاء ثلاثة أيام وأيضا فإنه فرق بين عقدين كل منهما ذريعة ظاهرة جدا إلى الربا وهما السلف والبيع والشرطان في البيع وهذان العقدان بينهما من النسب والإخاء والتوسل بهما إلى أكل الربا ما يقتضى الجمع بينهما في التحريم فصلوات الله وسلامه على من كلامه الشفاء والعصمة والهدى والنور. الوجه الثالث والستون: أنه أمر أن يفرق بين الأولاد في المضاجع وأن لا يترك الذكر ينام مع الأنثى في فراش واحد لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى نسج الشيطان بينهما المواصلة المحرمة بواسطة اتحاد الفراش ولا سيما مع الطول والرجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها إلى جانبه وهو لايشعر وهذا أيضا من ألطف سد الذرائع. الوجه الرابع والستون: أنه نهى أن يقول الرجل خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي سدا لذريعة اعتياد اللسان للكلام الفاحش وسدا لذريعة اتصاف النفس بمعنى هذا اللفظ فإن الألفاظ تتقاضى معانيها وتطلبها بالمشاكلة والمناسبة التي بين اللفظ والمعنى ولهذا قل من تجده يعتاد لفظا إلا ومعناه غالب عليه فسد رسول الله ﷺ ذريعة الخبث لفظا ومعنى وهذا أيضا من ألطف الباب. الوجه الخامس والستون: أنه نهى الرجل أن يقول لغلامه وجاريته عبدي وأمتي ولكن يقول فتاي وفتاتي ونهى أن يقول لغلامه وضىء ربك أطعم ربك سدا لذريعة الشرك في اللفظ والمعنى وإن كان الرب ههنا هو المالك كرب الدار ورب الإبل فعدل عن لفظ العبد والأمة إلى لفظ الفتى والفتاة ومنع من إطلاق لفظ الرب على السيد حماية لجانب التوحيد وسدا لذريعة الشرك. الوجه السادس والستون: أنه نهى المرأة أن تسافر بغير محرم وما ذاك إلا أن سفرها بغير محرم قد يكون ذريعة إلى الطمع فيها والفجور بها. الوجه السابع والستون: أنه نهى عن تصديق أهل الكتاب وتكذيبهم فيما يحدثون به لأن تصديقهم قد يكون ذريعة إلى التصديق بالباطل وتكذيبهم قد يكون ذريعة إلى التكذيب بالحق كما علل به في نفس الحديث. الوجه الثامن والستون أنه نهى أن يسمى عبده بأفلح ونافع ورباح ويسار لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى ما يكره من الطيرة بأن يقال ليس ههنا يسار ولا رباح ولا أفلح وإن كان إنما قصد اسم الغلام ولكن سدا لذريعة اللفظ المكروه الذي يستوحش منه السامع. الوجه التاسع والستون: أنه نهى الرجل عن الدخول على النساء لأنه ذريعة ظاهرة. الوجه السبعون: أنه نهى أن يسمى باسم برة لأنه ذريعة إلى تزكية النفس بهذا الاسم وإن كان إنما قصد العلمية. الوجه الحادي والسبعون أنه نهى عن التداوي بالخمر وإن كانت مصلحة التداوي راجحة على مفسدة ملابستها سدا لذريعة قربانها واقتنائها ومحبة النفوس لها فحسم عليها المادة حتى في تناولها على وجه التداوي وهذا من أبلغ سد الذرائع. الوجه الثاني والسبعون: أنه نهى أن يتناجى اثنان دون الثالث لأن ذلك ذريعة إلى حزنه وكسر قلبه وظنه السوء. الوجه الثالث والسبعون: ان الله حرم نكاح الأمة على القادر على نكاح الحرة إذا لم يخش العنت لأن ذلك ذريعة إلى إرقاق ولده حتى لو كانت الأمة من الآيسات من الحبل والولادة لم تحل له سد الذريعة ولهذا منع الإمام أحمد الاسير والتاجر ان يتزوج في دار الحرب خشية تعريض ولده للرق وعلله بعلة أخرى وهي انه قد يمكنه منع العدو من مشاركته في زوجته. الوجه الرابع والسبعون انه نهى ان يورد ممرض على مصح لأن ذلك قد يكون ذريعة اما إلى اعدائه واما إلى تأذيه بالتوهم والخوف وذلك سبب إلى إصابة المكروه له. الوجه الخامس والسبعون انه نهى أصحابه عن دخول ديار ثمود إلا أن يكونوا باكين خشية ان يصيبهم مثل ما اصابهم فجعل الدخول من غير بكاء ذريعة إلى اصابة المكروه. الوجه السادس والسبعون انه نهى الرجل ان ينظر إلى من فضل عليه في المال واللباس فإنه ذريعة إلى ازدرائه نعمة الله عليه واحتقاره بها وذلك سبب الهلاك. الوجه السابع والسبعون انه نهى عن إنزاء الحمر على الخيل لأن ذلك ذريعة إلى قطع نسل الخيل أو تقليلها ومن هذا نهيه عن أكل لحومها ان صح الحديث فيه انما كان لأنه ذريعة إلى تقليلها كما نهاهم في بعض الغزوات عن نحر ظهورهم لما كان ذريعة إلى لحوق الضرر بهم بفقد الظهر. الوجه الثامن والسبعون انه نهى من رأى رؤيا يكرهها يتحدث بها فإنه ذريعة إلى انتقالها من مرتبة الوجود اللفظي إلى مرتبة الوجود الخارجي كما انتقلت من الوجود الذهني إلىاللفظي وهكذا عامة الامور تكون في الذهن ثم تنتقل إلى الحس وهذا من ألطف سد الذرائع وانفعها ومن تأمل عامة الشر رآه متنقلا في درجات الظهور طبقا بعد طبق من الذهن إلى اللفظ إلى الخارج. الوجه التاسع والسبعون: انه سئل عن الخمر تتخذ خلا فقال لا مع إذنه في خل الخمر الذي حصل بغير التخليل وما ذلك إلا سدا لذريعة امساكها بكل طريق اذ لو اذن في تخليلها لحبسها أصحابها لذلك وكان ذريعة إلى المحذور. الوجه الثمانون: انه نهى ان يتعاطى السيف مسلولا وما ذاك الا انه ذريعة إلى الاصابة بمكروه ولعل الشيطان يعينه وينزع في يده فيقع المحذور ويقرب منه. الوجه الحادى والثمانون: انه أمر المار في المسجد بنبال ان يمسك عن نصلها بيده لئلا يكون ذريعة إلى تأذى رجل مسلم بالنصال. الوجه الثاني والثمانون: انه حرم الشياع وهو المفاخرة بالجماع لأنه ذريعة إلى تحريك النفوس والتشبه وقد لا يكون عند الرجل من يغنيه من الحلال فيتخطى إلى الحرام ومن هذا كان المجاهرون خارجين من عافية الله وهم المتحدثون بما فعلوه من المعاصي فإن السامع تتحرك نفسه إلى التشبه وفي ذلك من الفساد المنتشر مالا يعلمه إلا الله. الوجه الثالث والثمانون أنه نهى عن البول في الماء الدائم وما ذاك إلا أن تواتر البول فيه ذريعة إلى تنجيسه وعلى هذا فلا فرق بين القليل والكثير وبول الواحد والعدد وهذا أولى من تفسيره بما دون القلتين أو بما يمكن نزحه فإن الشارع الحكيم لا يأذن للناس ان يبولوا في المياه الدأئمة إذا جاوزت القلتين أو لم يمكن نزحها فإن في ذلك من إفساد مياه الناس ومواردهم مالا تأتي به شريعة فحكمة شريعته اقتضت المنع من البول فيه قل أو كثر سدا لذريعة إفساده. الوجه الرابع والثمانون أنه نهى ان يسافر بالقرآن إلى ارض العدو فإنه ذريعة إلى ان تناله ايديهم كما علل به في نفس الحديث. الوجه الخامس والثمانون: انه نهى عن الاحتكار وقال لا يحتكر إلا خاطيء فإنه ذريعة إلى أن يضيق على الناس أقواتهم ولهذا لا يمنع من احتكار ما لا يضر الناس. الوجه السادس والثمانون أنه نهى عن منع فضل الماء لئلا يكون ذريعة إلى منع فضل الكلأ كما علل به في نفس الحديث فجعله بمنعه من الماء مانعا من الكلأ لأن صاحب المواشي إذا لم يمكنه الشرب من ذلك الماء لم يتمكن من المرعى الذي حوله. الوجه السابع والثمانون انه نهى عن اقامة حد الزنا على الحامل حتى تضع لئلا يكون ذلك ذريعة إلى قتل ما في بطنها كما قال في الحديث الآخر لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأمرت فتياني ان يحملوا معهم حزما من حطب فأخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة في الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار فمنعه من تحريق بيوتهم التي عصوا الله فيها بتخلفهم عن الجماعة كون ذلك ذريعة إلى عقوبة من لم يجب عليه حضور الجماعة من النساء والاطفال. الوجه الثامن والثمانون: أنه نهى عن إدامة النظر إلى المجذومين وهذا والله أعلم لأنه ذريعة إلى ان يصابوا بإيذائهم وهي من ألطف الذرائع وأهل الطبيعة يعترفون به وهو جار على قاعدة الأسباب وأخبرني رجل من علمائهم انه جلس قرابة له يكحل الناس فرمد ثم بريء فجلس يكحلهم فرمد مرارا قال: فعلمت ان الطبيعة تنتقل وأنه من كثرة ما يفتح عينيه في اعين الرمد نقلت الطبيعة الرمد إلى عينيه وهذا لا بد معه من نوع استعداد وقد جبلت الطبيعة والنفس على التشبه والمحاكاة. الوجه التاسع والثمانون: ان النبي ﷺ نهى الرجل ان ينحنى للرجل إذا لقيه كما يفعله كثير من المنتسبين إلى العلم ممن لا علم له بالسنة بل يبالغون إلى أقصى حد الانحناء مبالغة في خلاف السنة جهلا حتى يصير أحدهم بصورة الراكع لأخيه ثم يرفع رأسه من الركوع كما يفعل إخوانهم من السجود بين يدى شيوخهم الأحياء والأموات أخذوا من الصلاة سجودها وأولئك ركوعها وطائفة ثالثة قيامها يقوم عليهم الناس وهم قعود كما يقومون في الصلاة فقاسمت الفرق الثلاث أجزاء الصلاة والمقصود أن النبي ﷺ نهى عن انحناء الرجل لأخيه سدا لذريعة الشرك كما نهى عن السجود لغير الله وكما نهاهم أن يقوموا في الصلاة على رأس الامام وهو جالس مع ان قيامهم عبادة لله تعالى فما الظن إذا كان القيام تعظيما للمخلوق وعبودية له فالله المستعان. الوجه التسعون أنه حرم التفريق في الصرف وبيع الربوي بمثله قبل القبض لئلا يتخذ ذريعة إلى التأجيل الذي هو أصل باب الربا فحماهم من قربانه باشتراط التقابض في الحال ثم أوجب عليهم فيه التماثل وأن لايزيد أحد العوضين على الآخر إذا كانا من جنس واحد حتى لايباع مد جيد بمدين رديئين وإن كانا يساويانه سدا لذريعة ربا النساء الذي هو حقيقة الربا وأنه إذا منعهم من الزيادة مع الحلول حيث تكون الزيادة في مقابلة جودة أو صفة أو سكة أو نحوهما فمنعهم منها حيث لا مقابل لها إلا مجرد الأجل أولى فهذه هى حكمة تحريم ربا الفضل التي خفيت على كثير من الناس حتى قال: بعض المتأخرين لا يتبين لي حكمة تحريم ربا الفضل وقد ذكر الشارع هذة الحكمة بعينها فإنه حرمه سدا لذريعة ربا النساء فقال في حديث تحريم ربا الفضل فإنى أخاف عليكم الرما والرما هو الربا فتحريم الربا نوعان نوع حرم لما فيه من المفسدة وهو ربا النسيئة ونوع حرم تحريم الوسائل وسدا للذرائع فظهرت حكمة الشارع الحكيم وكمال شريعته الباهرة في تحريم النوعين ويلزم من لم يعتبر الذرائع ولم يأمر بسدها أن يجعل تحريم ربا الفضل تعبدا محضا لا يعقل معناه كما صرح بذلك صرح كثير منهم. الوجه الحادي والتسعون: انه أبطل أنواعا من النكاح الذي يتراضى به الزوجان سدا لذريعة الزنا فمنها النكاح بلا ولى فإنه أبطله سدا لذريعة الزنا فإن الزاني لا يعجز أن يقول للمرأة أنكحيني نفسك بعشرة دراهم ويشهد عليها رجلين من أصحابه أو غيرهم فمنعها من ذلك سدا لذريعة الزنا ومن هذا تحريم نكاح التحليل الذي لا رغبة للنفس فيه في إمساك المرأة واتخاذها زوجة بل له وطر فيما يقضيه بمنزلة الزاني في الحقيقة وإن اختلفت الصورة ومن ذلك تحريم نكاح المتعة الذي يعقد فيه المتمتع على المرأة مدة يقضي وطره منها فيها فحرم هذة الأنواع كلها سدا لذريعة السفاح ولم يبح إلا عقدا مؤبدا يقصد فيه كل من الزوجين المقام مع صاحبه ويكون بإذن الولى وحضور الشاهدين أو ما يقوم مقامهما من الاعلان فإذا تدبرت حكمة الشريعة وتأملتها حق التأمل رأيت تحريم هذه الأنواع من باب سد الذرائع وهي من محاسن الشريعة وكمالها. الوجه الثاني والتسعون: أنه المتصدق من شراء صدقته ولو وجدها تباع في السوق سدا لذريعة العود فيما خرج عنه ولو بعوضه فإن المتصدق إذا منع من تملك صدقته بعوضها فتملكه إياها بغيرعوض أشد منعا وأفطم للنفوس عن تعلقها بما خرجت عنه لله والصواب ما حكم به النبي ﷺ من المنع من شرائها مطلقا ولا ريب أن في تجويز ذلك ذريعة إلى التحليل علىالفقير بأن يدفع إليه صدقة ماله ثم يشتريها منه بأقل من قيمتها ويرى المسكين أنه قد حصل له شيء مع حاجته فتسمح نفسه بالبيع والله عالم بالأسرار فمن محاسن هذه الشريعة الكاملة سد الذريعة ومنع التصدق من شراء صدقته وبالله التوفيق. الوجه الثالث والتسعون: أنه نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها لئلا يكون ذريعة إلى أكل مال المشتري بغير حق إذا كانت معرضة للتلف وقد يمنعها الله وأكد هذا الغرض بأن حكم للمشتري بالجائحة إذا تلفت بعد الشراء الجائز وكل هذا لئلا يظلم المشتري ويؤكل ماله بغير حق. الوجه الرابع والتسعون أنه نهى الرجل بعد إصابة ما قدر له أن يقول لو أنى فعلت كذا لكان كذا وكذا وأخبر ان ذلك ذريعة إلى عمل الشيطان فإنه لا يجدي عليه إلا الحزن والندم وضيقة الصدر والسخط على المقدور واعتقاد أنه كان يمكنه دفع المقدور لو فعل ذلك وذلك يضعف رضاه وتسليمه وتفويضه وتصديقه بالمقدور وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وإذا أعرض القلب عن هذا انفتح له عمل الشيطان وما ذاك لمجرد لفظ لو بل لما قارنها من الامور القأئمة بقلبه المنافية لكمال الايمان الفاتحة لعمل الشيطان بل أرشد العبد في هذه الحال إلى ما هو أنفع له وهو الايمان بالقدر والتفويض والتسليم للمشيئة الإلهية وأنه ما شاء الله كان ولا بد فمن رضى فله الرضى ومن سخط فله السخط فصلوات الله وسلامه على من كلامه شفاء للصدور ونور للبصائر وحياة للقلوب وغذاء للأرواح وعلى آله فلقد أنعم به على عباده أتم نعمة ومن عليهم به أعظم منه فلله النعمة وله المنة وله الفضل وله الثناء الحسن. الوجه الخامس والتسعون أنه ﷺ نهى عن طعام المتباريين وهما الرجلان يقصد كل منهما مباراة الآخر ومباهاته إما في التبرعات كالرجلين يصنع كل منهما دعوة يفتخر بها على الآخر ويباريه بها وإما في المعاوضات كالبائعين يرخص كل منهما سلعته لمنع الناس من الشراء من صاحبه ونص الإمام أحمد على كراهية الشراء من هؤلاء وهذا النهي يتضمن سد الذريعة من وجهين أحدهما ان تسليط النفوس على الشراء منهما وأكل طعامهما تفريح لهما وتقوية لقلوبهما وإغراء لهما على فعل ما كرهه الله ورسوله والثاني ان ترك الاكل من طعامهما ذريعة إلى امتناعهما وكفهما عن ذلك. الوجه السادس والتسعون: أنه تعالى عاقب الذين حفروا الحفائر يوم الجمعة فوقع فيها السمك يوم السبت فأخذوه يوم الاحد ومسخهم الله قردة وخنازير وقيل إنهم نصبوا الشباك يوم الجمعة وأخذوا الصيد يوم الاحد وصورة الفعل الذي فعلوه مخالف لما نهوا عنه ولكنهم لما جعلوا الشباك والحفائر ذريعة إلى أخذ ما يقع فيها من الصيد يوم السبت نزلوا منزلة من اصطاد فيه إذ صورة الفعل لا اعتبارا بها بل بحقيقته وقصد فاعله ويلزم من يسد الذرائع ان لا يحرم مثل هذا كما صرحوا به في نظيره سواء وهو لو نصب قبل الاحرام شبكة فوقع فيها صيد وهو محرم جاز له أخذه بعد الحل وهذا جار على قواعد من لم يعتبر المقاصد ولم يسد الذرائع. الوجه السابع والتسعون: قال الإمام أحمد: نهى رسول الله ﷺ عن بيع السلاح في الفتنة ولا ريب أن هذا سد لذريعة الإعانة على المعصية ويلزم من لم يسد الذرائع ان يجوز هذا البيع كما صرحوا به ومن المعلوم ان هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان وفي معنى هذا كل بيع أو إجاره أو معاوضة تعين على معصية الله كبيع السلاح للكفار والبغاة وقطاع الطريق وبيع الرقيق لمن يفسق به أو يؤاجره لذلك أو إجارة داره أو حانوته أو خانه لمن يقيم فيها سوق المعصية وبيع الشمع أو إجارته لمن يعصي الله عليه ونحو ذلك مما هو إعانة على ما يبغضه الله ويسخطه ومن هذا عصر العنب لمن يتخذه خمرا وقد لعنه رسول الله ﷺ هو والمعتصر معا ويلزم من لم يسد الذرائع أن لا يلعن العاصر وأن يجوز له ان يعصر العنب لكل أحد ويقول القصد غير معتبر في العقد والذرائع غير معتبرة ونحن مطالبون في الظواهر والله يتولى السرائر وقد صرحوا بهذا ولا ريب في التنافى بين هذا وبين سنة رسول الله ﷺ. الوجه الثامن والتسعون نهيه عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا أو جاروا ما أقاموا الصلاة سدا لذريعة الفساد العظيم والشر الكثير بقتالهم كما هو الواقع فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف اضعاف ما هم عليه والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن وقال إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما سدا لذريعة الفتنة. الوجه التاسع والتسعون جمع عثمان المصحف على حرف واحد من الاحرف السبعة لئلا يكون ذريعة إلى اختلافهم في القرآن ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم. ولنقتصر على هذا العدد من الأمثلة الموافق لأسماء الله الحسنى التي من احصاها دخل الجنة تفاؤلا بأنه من أحصى هذه الوجوه وعلم انها من الدين وعمل بها دخل الجنة إذ قد يكون قد اجتمع له معرفة أسماء الرب تعالى ومعرفة أحكامه ولله وراء ذلك أسماء وأحكام. وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف فإنه أمر ونهي والأمر نوعان أحدهما مقصود لنفسه والثاني وسيلة إلى المقصود والنهي نوعان أحدهما ما يكون المنهى عنه مفسدة في نفسه والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين. فصل في تحريم الحيل وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة فأن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن والمحتال يفتح الطريق اليها بحيلة فأين من يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرم إلى من يعمل الحيلة في التوصل إليه. فهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها تدل على تحريم الحيل والعمل بها والإفتاء بها في دين الله ومن تأمل أحاديث اللعن وجد عامتها لمن استحل محارم الله وأسقط فرائضه بالحيل كقوله: "لعن الله المحلل والمحلل له، لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها، لعن الله الراشي والمرتشي، لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده" ومعلوم ان الكاتب والشاهد انما يكتب ويشهد على الربا المحتال عليه ليتمكن من الكتابة والشهادة بخلاف ربا المجاهرة الظاهر ولعن في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها ومعلوم انه انما عصر عنبا ولعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وقرن بينهما وبين آكل الربا وموكله والمحلل والمحلل له في حديث ابن مسعود وذلك للقدر المشترك بين هؤلاء الاصناف وهو التدليس والتلبيس فإن هذه تظهر من الخلقة ما ليس فيها والمحلل يظهر من الرغبة ما ليس عنده وآكل الربا يستحله بالدليس والمخادعة فيظهر من عقد التبايع ما ليس له حقيقة فهذا يستحل الربا بالبيع وذلك يستحل الزنا باسم النكاح فهذا يفسد الأموال وذاك يفسد الأنساب وابن مسعود هو راوي هذا الحديث وهو راوي حديث ما ظهر الزنا والربا في قوم إلا أحلوا بأنفسهم العقاب والله تعالى مسخ الذين استحلوا محارمه بالحيل قردة وخنازير جزاء من جنس عملهم فإنهم لما مسخوا شرعه وغيروه عن وجهه مسخ وجوههم وغيرها عن خلقتها والله تعالى ذم أهل الخداع والمكر ومن يقول بلسانه ما ليس في قلبه وأخبر ان المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وأخبر عنهم بمخالفة ظواهرهم لبواطنهم وسرائرهم لعلانيتهم وأقوالهم لأفعالهم وهذا شأن أرباب الحيل المحرمة وهذه الأوصاف منطبقة عليهم فإن المخادعة هي الاحتيال والمراوغة بإظهار أمر جائز ليتوصل به إلى أمر محرم يبطنه ولهذا يقال طريق خيدع إذا كان مخالفا للقصد لا يفطن له ويقال للسراب الخيدع لأنه يخدع من يراه ويغره وظاهره خلاف باطنه ويقال للضب خادع وفي المثل أخدع من ضب لمراوغته ويقال سوق خادعة أي متلونة وأصله الاختفاء والستر ومنه المخدع في البيت فوازن بين قول القائل آمنا بالله وباليوم الآخر وأشهد ان محمدا رسول الله إنشاء للإيمان وإخبارا به وهو غير مبطن لحقيقة هذه الكلمة ولا قاصدا له ولا مطمئن به وإنما قاله متوسلا به إلى امنه وحقن دمه أو نيل غرض دنيوي وبين قول المرابي بعتك هذه السلعة بمائة وليس لواحد منهما غرض فيها بوجه من الوجوه وليس مبطنا لحقيقة هذه اللفظة ولا قاصدا له ولا مطمئنا به وإنما تكلم بها متوسلا إلى الربا وكذلك قول المحلل تزوجت هذه المرأة أو قبلت هذا النكاح وهو غير مبطن لحقيقة النكاح ولا قاصد له ولا مريد أن تكون زوجته بوجه ولا هي مريدة لذلك ولا الولى هل تجد بينهما فرقا في الحقيقة أو العرف فكيف يسمى أحدهما مخادعا دون الآخر مع أن قوله بعت واشتريت واقترضت وأنكحت وتزوجت غير قاصد به انتقال الملك الذي وضعت له هذه الصيغة ولا ينوي النكاح الذي جعلت له هذه الكلمة بل قصده ما ينافى مقصود العقد أو أمر آخر خارج عن أحكام العقد وهو عود المرأة إلى زوجها المطلق وعود السلعة إلى البائع بأكثر من ذلك الثمن بمباشرته لهذه الكلمات التي جعلت لها تمائق ومقاصد مظهر لإرداة حقائقها ومقاصدها ومبطنا لخلافه فالأول لفاق في أصل الدين وهذا نفاق في فروعه. يوضح ذلك ما ثبت عن ابن عباس انه جاءه رجل فقال إن عمي طلق امرأته ثلاثا أيحلها له رجل فقال من يخادع الله يخدعه وصح عن أنس وعن ابن عباس أنهما سئلا عن العينة فقالا إن الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله فسميا ذلك خداعا كما سمى عثمان وابن عمر نكاح المحلل نكاح دلسة وقال أيوب السختياني في أهل الحيل يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان فلو أتوا الأمر عيانا كان أهون على وقال شريك بن عبد الله القاضي في كتاب الحيل هوكتاب المخادعة. الأدلة على تحريم الحيل وتلخيص هذا أن الحيل المحرمة مخادعة لله ومخادعة الله حرام أما المقدمة الأولى فإن الصحابة والتابعين وهم أعلم الأمة بكلام الله ورسوله ومعانيه سموا ذلك خداعا وأما الثانية فإن الله ذم أهل الخداع وأخبر ان خداعهم انما هو لانفسهم وان في قلوبهم مرضا وانه تعالى خادعهم فكل هذا عقوبة لهم ومدار الخداع على أصلين أحدهما إظهار فعل لغير مقصوده الذي جعل له الثاني إظهار قول الغير مقصوده الذي وضع له وهذا منطبق على الحيل المحرمة وقد عاقب الله تعالى المتحيلين على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بجد جنتهم عليهم وإهلاك ثمارهم فكيف بالمتحيل على إسقاط فرائض الله وحقوق خلقه ولعن أصحاب السبت ومسخهم قردة وخنازير على احتيالهم على فعل ما حرمه عليهم. قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} قال: رموا الحيتان في السبت ثم أرجؤها في الماء فاستخرجوها بعد ذلك فطبخوها فأكلوها والله أوخم أكلة أكلة أسرعت في الدنيا عقوبة وأسرعت عذابا في الآخرة والله ما كانت لحوم الحيتان تلك بأعظم عند الله من دماء قوم مسلمين إلا أنه عجل لهؤلاء وأخر لهؤلاء. وقوله: رموها في السبت يعني احتالوا على وقوعها في الماء يوم السبت كما بين غيره أنهم حفروا لها حياضا ثم فتحوها عشية الجمعة ولم يرد انهم باشروا رميها يوم السبت إذ لو اجترءوا على ذلك لاستخرجوها قال: شيخنا وهؤلاء لم يكفروا بالتوراة وبموسى وإنما فعلوا ذلك تأويلا واحتيالا ظاهره ظاهر الاتقاء وحقيقته حقيقة الاعتداء ولهذا والله أعلم مسخوا قردة لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان وفي بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه وهو مخالف له في الحد والحقيقة فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته مسخهم الله قردة تشبه الإنسان في بعض ظاهره دون الحقيقة جزاء وفاقا. ويقوي ذلك ان بني اسرائيل أكلوا الربا وأموال الناس بالباطل وهو أعظم من أكل الصيد في يوم بعينه ولم يعاقب أولئك بالمسخ كما عوقب به من استحل الحرام بالحيلة لأن هؤلاء لما كانوا اعظم جرما كانت عقوبتهم أعظم فإنهم بمنزلة المنافقين يفعلون ما يفعلون ولا يعترفون بالذنب بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم بخلاف من أكل الربا وأموال الناس بالباطل والصيد المحرم عالما بتحريمه فإنه يقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم وخشيته لله واستغفاره وتوبته يوما ما واعترافه بأنه مذنب عاص وانكسار قلبه من ذل المعصية وازدراؤه على نفسه ورجاؤه لمغفرة ربه له وعد نفسه من المذنبين الخاطئين وهذا كله إيمان يفضى بصاحبه إلى خير بخلاف الماكر المخادع المحتال على قلب دين الله ولهذا حذر النبي ﷺ امته من ارتكاب الحيل فقال لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل وقد أخبر الله تعالى انه جعل هذه القرية أو هذه الفعلة التي فعلها بأهلها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين. فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكاله ان يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال وان يعلم انه لا يخلصه من الله ما أظهره مكرا وخديعة من الأقوال والافعال وان يعلم ان لله يوما تكع فيه الرجال وتنسف فيه الجبال وتترادف فيه الاهوال وتشهد فيه الجوارح والاوصال وتبلى فيه السرائر وتظهر فيه الضمائر ويصير الباطل فيه ظاهرا والسر علانية والمستور مكشوفا والمجهول معروفا ويحصل ويبدو ما في الصدور كما يبعثر ويخرج ما في القبور وتجري أحكام الرب تعالى هنالك على القصود والنيات كما جرت أحكامه في هذه الدار على ظواهر الأقوال والحركات يوم تبيض وجوه بما في قلوب أصحابها من النصيحة لله ورسوله وكتابه وما فيها من البر والصدق والاخلاص للكبير المتعال وتسود وجوه بما في قلوب أصحابها من الخديعة والغش والكذب والمكر والاحتيال هنالك يعلم المخادعون أنهم لانفسهم كانوا يخدعون وبدينهم كانوا يلعبون وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون. ليس للعبد إلا ما نواه وقد فصل قوله ﷺ: "إنما الاعمال بالنيات وإنما لامريء ما نوى" الأمر في هذه الحيل وأنواعها فأخبر ان الاعمال تابعة لمقاصدها ونياتها وأنه ليس للعبد من ظاهر قوله وعمله إلا ما نواه وأبطنه لا ما أعلنه وأظهره وهذا نص في أن من نوى التحليل كان محللا ومن نوى الربا بعقد التبايع كان مرابيا ومن نوى المكر والخداع كان ماكرا مخادعا ويكفى هذا الحديث وحده في إبطال الحيل ولهذا صدر به حافظ الأمة محمد بن إسماعيل البخاري إبطال الحيل والنبي ﷺ أبطل ظاهر هجرة مهاجر أم قيس بما أبطنه ونواه من إرادة أم قيس وقد قال: النبي ﷺ البيعان بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله فاستدل به الإمام أحمد وقال فيه إبطال الحيل وقد اشكل هذا على كثير من الفقهاء بفعل ابن عمر فإنه كان إذا أراد أن يلزم البيع مشى خطوات ولا إشكال بحمد الله في الحديث وهو من أظهر الأدلة على بطلان التحيل لإسقاط حق من له حق فإن الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أثبت خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين وليحصل تمام الرضي الذي شرطه تعالى فيه فإن العقد قد يقع بغته من غير ترو ولا نظر في القيمة فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حريما يتروى فيه المتبايعان ويعيدان النظر ويستدرك كل واحد منهما عيبا كان خفيا فلا أحسن من هذا الحكم ولا أرفق لمصلحة الخلق فلو مكن أحد المتعاقدين الغابن للآخر من النهوض في الحال والمبادرة إلى التفرق لفاتت مصلحة الآخر ومقصود الخيار بالنسبة إليه وهب انك أنت اخترت إمضاء البيع فصاحبك لم يتسع له وقت ينظر فيه ويتروى فنهوضك حيلة على إسقاط حقه من الخيار فلا يجوز حتى يخيره فلو فارق المجلس لغير هذه الحاجة أو صلاة أو غير ذلك ولم يقصد إبطال حق الآخر من الخيار لم يدخل في هذا التحريم ولا يقال هو ذريعة إلى إسقاط حق الآخر من الخيار لأن باب سد الذرائع متى فاتت به مصلحة راجحة أو تضمن مفسدة راجحة لم يلتفت إليه فلو منع العاقد من التفرق حتى يقوم الآخر لكان في ذلك إضرار به ومفسدة راجحة فالذي جاءت به الشريعة في ذلك أكمل شيء واوفقه للمصلحة والحكمة ولله الحمد. وتأمل قوله: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" أي أسهلها وأقربها وإنما ذكر أدنى الحيل لأن المطلق ثلاثا مثلا من أسهل الحيل عليه ان يعطي بعض التيوس المستعارة عشرة دراهم ويستعيره لينزو على امرأته نزوة وقد طيبها له بخلاف الطريق الشرعي التي هي نكاح الرغبة فإنها يصعب معها عودها إلى الأول جدا وكذلك من أراد أن يقرض الفا بالف وخمسمائة فمن ادنى الحيل ان يعطيه الفا إلا درهما باسم القرض ويبيعه خرقة تساوي درهما بخمسمائة ولو أراد ذلك بالطريق الشرعي لتعذر عليه وكذلك حيلة اليهود بنصب الشباك يوم الجمعة واخذ ما وقع فيها يوم السبت من أسهل الحيل وكذلك إذابتهم الشحم وبيعه وأكل ثمنه. وقال الإمام أحمد في مسنده ثنا أسود بن عامر ثنا أبو بكر بن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "اذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا اذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله عليهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم" ورواه أبو داود بإسناد صحيح إلى حيوة بن شريح المصري عن إسحاق بن عبد الرحمن الخراساني ان عطاء الخراساني حدثه ان نافعا حدثه عن ابن عمر قال: شيخنا رضي الله عنه وهذان إسنادان حسنان أحدهما يشد الآخر ويقويه فأما رجال الأول فأئمة مشاهير ولكن يخاف أن لا يكون الاعمش سمعه من عطاء أو ان عطاء لم يسمعه من ابن عمر فالإسناد الثاني يبين ان للحديث أصلا محفوظا عن ابن عمر فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور وحيوة بن شريح كذلك وأفضل واما إسحاق بن عبد الرحمن فشيخ روى عنه أئمة المصريين مثل حيوة بن شريح والليث بن سعد ويحيى بن أيوب وغيرهم قال: فقد روينا من طريق ثالث من حديث السري بن سهل الجنديسابوري بإسناد مشهور إليه ثنا عبد الله بن رشيد ثنا عبد الرحمن عن ليث عن عطاء عن ابن عمر قال: لقد أتى علينا زمان ومامنا رجل يرى انه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ولقد سمعت رسول الله ﷺ يقول إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتركوا الجهاد واتبعوا أذناب البقر أدخل الله عليهم ذلا لا ينزعه عنهم حتى يتوبوا ويراجعوا دينهم وهذا يبين أن للحديث أصلا عن عطاء وروى محمد ابن عبد الله الحافظ المعروف بمطين في كتاب البيوع له عن انس انه سئل عن العينة فقال ان الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله وروى أيضا في كتابه عن ابن عباس قال: اتقوا هذه العينة لا تبع دراهم بدراهم وبينهما حريرة وفي رواية ان رجلا باع من رجل حريرة بمائة ثم اشتراها بخمسين فسأل ابن عباس عن ذلك فقال دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة وسئل ابن عباس عن العينة يعني بيع الحريرة فقال ان الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله وروى ابن بطة بإسناده إلى الأوزاعي قال: قال رسول الله ﷺ: "يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع" يعنى العينة وهذا المرسل صالح للاعتضاد به والاستشهاد وان لم يكن عليه وحده الاعتماد. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته انها دخلت على عائشة هي وام ولد زيد بن ارقم وامرأة أخرى فقالت: لها أم ولد زيد إني بعت من زيد غلاما بثمان مائة نسيئة واشتريته بست مائة نقدا فقالت: "أبلغي زيدا أن قد أبطل جهاده مع رسول الله ﷺ إلا أن يتوب بئسما شريت وبئسما اشتريت" رواه الإمام أحمد وعمل به وهذا حديث فيه شعبة وإذا كان شعبة في حديث فاشدد يديك به فمن جعل شعبة بينه وبين الله فقد استوثق لدينه. وأيضا فهذه امرأة أبي إسحاق وهو أحد أئمة الإسلام الكبار وهو أعلم بامرأته وبعدالتها فلم يكن ليروي عنها سنة يحرم بها على الأمه وهي عنده غير ثقة ولا يتكلم فيها بكلمة بل يحابيها في دين الله هذا لا يظن بمن هو دون أبي إسحاق. وأيضا فإن هذه امرأة من التابعين قد دخلت على عائشة وسمعت منها وروت عنها ولا يعرف أحد قدح فيها بكلمة وأيضا فإن الكذب والفسق لم يكن ظاهرا في التابعين بحيث ترد به روايتهم. وأيضا فأن هذه المرأة معروفة واسمها العالية وهي جدة إسرائيل كما رواه حرب من حديث إسرئيل حدثني أبو إسحاق عن جدته العالية يعني جدة إسرائيل فإنه إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق والعالية امرأة أبي إسحاق وجدة يونس وقد حملا عنها هذه السنة وإسرائيل أعلم بجدته وأبو إسحاق اعلم بامرأته. وأيضا فلم يعرف أحد قط من التابعين أنكر على العالية هذا الحديث ولا قدح فيها من أجله ويستحيل في العادة ان تروى حديثا باطلا ويشتهر في الأمة ولا ينكره عليها منكر. وأيضا فلو لم يأت في هذه المسألة أثر لكان محض القياس ومصالح العباد وحكمة الشريعة تحريمها أعظم من تحريم الربا فإنها ربا مستحل بأدنى الحيل. وأيضا فإن في الحديث قصة وعند الحفاظ إذا كان فيه قصة دلهم على أنه محفوظ قال: أبو إسحاق حدثتني امرأتي العالية قالت دخلت على عائشة في نسوة فقالت ما حاجتكن فكان أول من سألها أم محبة فقالت يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم قالت نعم قالت فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء وإنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقدا فأقبلت عليها وهي غضبي فقالت بئسما شريت وبئسما اشتريت أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب وأفحمت صاحبتنا فلم تكلم طويلا ثم إنها سهل عليها فقالت يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالى فتلت عليها: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَف}. وأيضا فهذا الحديث إذا انضم إلى تلك الأحاديث والآثار افادت بمجموعها الظن الغالب إن لم تفد اليقين. وأيضا فإن آثار الصحابة كما تقدم موافقة لهذا الحديث مشتقة منه مفسرة له. وأيضا فكيف يليق بالشريعة الكاملة التي لعنت آكل الربا وموكله وبالغت في تحريمه وآذنت صاحبه بحرب من الله ورسوله أن تبيحه بأدنى الحيل مع استواء المفسدة ولولا أن عند أم المؤمنين رضي الله عنها علما من رسول الله ﷺ لا تستريب فيه ولا تشك بتحريم مسألة العينة لما أقدمت على الحكم بإبطال جهاد رجل من الصحابة باجتهادها لا سيما إن كانت قصدت أن العمل يبطل بالردة واستحلال الربا ردة ولكن عذر زيد أنه لم يعلم ان هذا محرم كما عذر ابن عباس بإباحته بيع الدرهم بالدرهمين وإن لم يكن قصدها هذا بل قصدت ان هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد ويصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئا ولو كان هذا اجتهادا منها لم تمنع زيدا منه ولم تحكم ببطلان جهاده ولم تدعه إلى التوبة فإن الاجتهاد لا يحرم الاجتهاد ولا يحكم ببطلان عمل المسلم المجتهد بمخالفته لاجتهاد نظيره والصحابة ولا سيما أم المؤمنين أعلم بالله ورسوله وافقه في دينه من ذلك. وأيضا فإن الصحابة كعائشة وابن عباس وانس أفتوا بتحريم مسألة العينة وغلظوا فيها هذا التغليظ في اوقات ووقائع مختلفة فلم يجيء عن واحد من الصحابة ولا التابعين الرخصة في ذلك فيكون إجماعا. فإن قيل: فزيد بن أرقم قد خالف عائشة ومن ذكرتم فغاية الأمر انها مسألة ذات قولين للصحابة وهي مما يسوغ فيها الاجتهاد. قيل لم يقل زيد قط ان هذا حلال ولا أفتى بها يوما ما ومذهب الرجل لا يؤخذ من فعله إذ لعله فعله ناسيا أو ذاهلا أو غير متأمل ولا ناظر أو متأولا أو ذنبا يستغفر الله منه ويتوب أو يصر عليه وله حسنات تقاومه فلا يؤثر شيئا قال: بعض السلف العلم علم الرواية يعنى ان يقول رأيت فلانا يفعل كذا وكذا إذ لعله قد فعله ساهيا وقال إياس بن معاوية: "لا تنظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك" ولم يذكر عن زيد انه أقام على هذه المسألة بعد إنكار عائشة وكثيرا ما يفعل الرجل الكبير الشيء مع ذهوله عما في ضمنه من مفسدة فإذا نبه انتبه وإذا كان الفعل محتملا لهذه الوجوه وغيرها لم يجز أن يقدم على الحكم ولم يجز أن يقال مذهب زيد بن أرقم جواز العينة لا سيما وام ولده قد دخلت على عائشة تستفتيها فأفتتها بأخذ رأس مالها وهذا كله يدل على أنهما لم يكونا جازمين بصحة العقد وجوازه وأنه مما أباحه الله ورسوله. وأيضا فبيع العينة إنما يقع غالبا من مضطر إليها وإلا فالمستغنى عنها لا يشغل ذمته بألف وخمسمائة في مقابلة ألف بلا ضرورة وحاجة تدعو إلى ذلك. وقد روى أبو داود من حديث علي: "نهى رسول الله ﷺ عن بيع المصطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل ان تدرك". وفي مسند الإمام أحمد عنه قال: سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤثر بذلك قال: الله تعالى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} وينهر الاشرار ويستذل الاخيار ويبايع المضطرون وقد نهى رسول الله ﷺ عن بيع المضطر وعن بيع الغرر وبيع الثمر قبل ان يطعم وله شاهد من حديث حذيفة عن النبي ﷺ رواه سعيد عن هشيم عن كوثر بن حكيم عن مكحول بلغني عن حذيفة انه حدث عن رسول الله ﷺ إن بعد زمانكم هذا زمانا عضوضا يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤثر بذلك قال: الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وينهر شرار خلق الله يبايعون كل مضطر ألا ان بيع المضطر حرام المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه إن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكا إلى هلاكه وهذا من دلائل النبوة فإن عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن بها عليه الموسر بالقرض حتى يربح عليه في المائة ما أحب وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهى العينة وإن باعها لغيره فهو التورق وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل الربا والاقسام الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق وقد كرهه عمر بن عبد العزيز وقال هو أخيه الربا وعن أحمد فيه روايتان وأشار في رواية الكراهة إلى انه مضطر وهذا من فقهه رضي الله عنه قال: فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر وكان شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مرارا وأنا حاضر فلم يرخص فيها وقال المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها فالشريعة لا تحرم الضرر الادنى وتبيح ما هو أعلى منه. وقد تقدم الاستدلال على تحريم العينة بقوله ﷺ: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع" وبقوله: "من باع بيعتين في بيعة فله أو كسهما أو الربا" وان ذلك لا يمكن وقوعه الا على العينة. ومما يدل على تحريم الحيل قوله ﷺ: "صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم" رواه أهل السنن ومما يدل على تحريمها ما رواه ابن ماجه في سننه عن يحيى بن أبي إسحاق قال: سألت أنس بن مالك الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدى إليه فقال قال: رسول الله ﷺ: "إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك" رواه من حديث إسماعيل بن عياش عن عتبة ابن حميد الضبي عن يحيى. قال شيخنا رضي الله عنه وهذا يحيى بن يزيد الهنائى من رجال مسلم وعتبة ابن حميد معروف بالرواية عن الهنائي قال: أبو حاتم مع تشدده هو صالح الحديث وقال أحمد ليس بالقوى وإسماعيل بن عياش ثقة في حديثه عن الشاميين ورواه سعيد في سننه عن إسماعيل بن عياش لكن قال: عن يزيد ابن أبي إسحاق الهنائي عن انس عن النبي ﷺ وكذلك رواه البخاري في تاريخه عن يزيد بن أبي يحيى الهنائي عن أنس يرفعه إذا أقرض أحدكم فلا يأخذ هدية قال شيخنا: وأظنه هو ذاك انقلب اسمه. وفي صحيح البخاري عن أبي بردة بن أبي موسى قال: "قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي إنك بارض الربا فيها فاش فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا وفي سنن سعيد هذا المعنى عن أبي بن كعب وجاء عن ابن مسعود أيضا وأتى رجل عبد الله بن عمر فقال إنى أقرضت رجلا بغير معرفة فأهدى إلي هدية جزلة فقال رد إليه هديته أو احسبها له وقال سالم بن أبي الجعد جاء رجل إلى ابن عباس فقال إنى أقرضت رجلا يبيع السمك عشرين درهما فأهدى إلى سمكة قومتها بثلاثة عشر درهما فقال خذ منه سبعة دراهم ذكرهما سعيد وذكر حرب عن ابن عباس إذا اسلفت رجلا سلفا فلا تأخذ منه هدية ولا عارية ركوب دابة فنهى النبي ﷺ هو وأصحابه المقرض عن قبول هدية المقترض قبل الوفاء فإن المقصود بالهدية ان يؤخر الاقتضاء وإن كان لم يشترط ذلك سدا لذريعة الربا فكيف تجوز الحيلة على الربا ومن لم يسد الذرائع ولم يراع المقاصد ولم يحرم الحيل يبيح ذلك كله وسنة رسول الله ﷺ وهدى أصحابه أحق ان يتبع وقد تقدم تحريم السلف والبيع لأنه يتخذ حيلة إلى الربا. ويدل على تحريم الحيل الحديث الصحيح وهو قوله ﷺ لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وهذا نص في تحريم الحيلة المفضية إلى إسقاط الزكاة أو تنقيصها بسبب الجمع والتفريق فإذا باع بعض النصاب قبل تمام الحول تحيلا على إسقاط الزكاة فقد فرق بين المجتمع فلا تسقط الزكاة عنه بالفرار منها ومما يدل على تحريمها قوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قال: المفسرون من السلف ومن بعدهم لا تعط عطاء تطلب أكثر منه وهو ان تهدى ليهدى إليك أكثر من هديتك. وهذا كله يدل على أن صور العقود غير كافة في حلها وحصول أحكامها إلا إذا لم يقصد بها قصدا فاسدا وكل ما لو شرطه في العقد كان حراما فاسدا فقصده حرام فاسد واشتراطه إعلان وإظهار للفساد وقصده ونيته غش وخداع ومكر فقد يكون أشد فسادا من الاشتراط ظاهرا. من هذه الجهة والاشتراط الظاهر أشد فسادا منه من جهة إعلان المحرم واظهاره. ومما يدل على التحريم ان أصحاب رسول الله ﷺ اجمعوا على تحريم هذه الحيل وإبطالها وإجماعهم حجة قاطعة بل هي من أقوى الحجج وآكدها ومن جعلهم بينه وبين الله فقد استوثق لدينه. بيان المقدمة الأولى أن عمر بن الخطاب خطب الناس على منبر رسول الله ﷺ وقال لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما واقره سائر الصحابة على ذلك وأفتى عثمان وعلي وابن عباس وابن عمر ان المرأة لا تحل بنكاح التحليل وقد تقدم عن غير واحد من أعيانهم كأبي وابن مسعود وعبد الله ابن سلام وابن عمر وابن عباس انهم نهوا المقرض عن قبول هدية المقترض وجعلوا قبولها ربا وقد تقدم عن عائشة وابن عباس وانس تحريم مسألة العينة والتغليظ فيها وأفتى عمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وغيرهم من الصحابة ان المبتوتة في مرض الموت ترث ووافقهم سائر المهاجرين والانصار من أهل بدر وبيعة الرضوان ومن عداهم. وهذه وقائع متعددة لاشخاص متعددة في أزمان متعددة والعادة توجب اشتهارها وظهورها بينهم لا سيما وهؤلاء اعيان المفتين من الصحابة الذين كانت تضبط أقوالهم وتنهي إليهم فتاويهم والناس عنق واحد إليهم متلقون لفتاويهم ومع هذا فلم يحفظ عن أحد منهم الإنكار ولا إباحة الحيل مع تباعد الاوقات وزوال أسباب السكوت وإذا كان هذا قولهم في التحليل والعينة وهدية المقترض إلى المقرض فماذا يقولون في التحيل لإسقاط حقوق المسلمين بل لإسقاط حقوق رب العالمين وإخراج الابضاع والأموال عن ملك اربابها وتصحيح العقود الفاسدة والتلاعب بالدين وقد صانهم الله تعالى ان يروا في وقتهم من يفعل ذلك أو يفتى به كما صانهم عن رؤية الجهمية والمعتزلة والحلولية والاتحادية وأضرابهم وإذا ثبت هذا عنهم فيما ذكرنا من الحيل فهو دليل على قولهم فيما هو أعظم منها. وأما المقدمة الثانية فكل من له معرفة بالآثار وأصول الفقه ومسائله ثم انصف لم يشك ان تقرير هذا الإجماع منهم على تحريم الحيل وإبطالها ومنافاتها للدين أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغير ذلك مما يدعى فيه إجماعهم كدعوى إجماعهم على عدم وجوب غسل الجمعة وعلى المنع من بيع أمهات الأولاد وعلى الإلزام بالطلاق الثلاث بكلمة واحدة وأمثال ذلك. فإذا وازنت بين هذا الإجماع وتلك الإجماعات ظهر لك التفاوت وانضم إلى هذا ان التابعين موافقون لهم على ذلك فإن الفقهاء السبعة وغيرهم من فقهاء المدينة الذين أخذوا عن زيد بن ثابت وغيره متفقون على إبطال الحيل وكذلك أصحاب عبد الله بن مسعود من أهل الكوفة وكذلك أصحاب فقهاء البصرة كأيوب وأبي الشعثاء والحسن وابن سيرين وكذلك أصحاب ابن عباس. وهذا في غاية القوة من الاستدلال فإنه انضم إلى كثرة فتاويهم بالتحريم في أفراد هذا الأصل وانتشارها ان عصرهم انصرم وبقع الإسلام متسعة وقد دخل الناس في دين الله افواجا وقد اتسعت الدنيا على المسلمين أعظم اتساع وكثر من كان يتعدى الحدود وكان المقتضى لوجود هذه الحيل موجودا فلم يحفظ عن رجل واحد منهم أنه أفتى بحيلة واحدة منها أو أمر بها أو دل عليها بل المحفوظ عنهم النهى والزجر عنها فلو كانت هذه الحيل مما يسوغ فيها الاجتهاد لأفتى بجوازها رجل منهم ولكانت مسألة نزاع كغيرها بل أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم متفقة على تحريمها والمنع منها ومضى على اثرهم أئمة الحديث والسنة في الإنكار قال: الإمام أحمد في رواية موسى بن سعيد الديداني لا يجوز شيء من الحيل وقال في رواية الميموني وقد سأله عمن حلف على يمين ثم احتال لإبطالها فقال نحن لا نرى الحيلة وقال في رواية بكر بن محمد إذا حلف على شيء ثم احتال بحيلة فصار اليها فقد صار إلى ذلك الذي حلف عليه بعينه وقال من احتال بحيلة فهو حانث وقال في رواية صالح وأبي الحارث وقد ذكر له قول أصحاب الحيل فأنكره وقال في رواية إسماعيل بن سعيد وقد سئل عمن احتال في إبطال الشفعة فقال لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق امريء مسلم وقال في رواية أبي طالب وغيره في الرجل يحلف وينوي غير ذلك فاليمين على نية ما يحلفه عليه صاحبه إذا لم يكن مظلوما فإذا كان مظلوما حلف على نيته ولم يكن عليه من نية الذي حلفه شئ وقال في رواية عبد الخالق بن منصور من كان عنده كتاب الحيل في بيته يفتي به فهو كافر بما أنزل الله على محمد ﷺ. الذين يذكرون الحيل لم يعترفوا بجوازها كلها قلت والذين ذكروا الحيل لم يقولوا إنها كلها جائزة وإنما أخبروا ان كذا حيلة وطريق إلى كذا ثم قد تكون الطريق محرمة وقد تكون مكروهة وقد يختلف فيها فإذا قالوا: الحيلة في فسخ المرأة النكاح أن ترتد ثم تسلم والحيلة في سقوط القصاص عمن قتل أم امرأته ان يقتل امرأته إذا كان لها ولد منه والحيلة في سقوط الكفارة عمن أراد الوطء في رمضان ان يتغدى ثم يطأ بعد الغداء والحيلة لمن أرادت ان تفسخ نكاح زوجها ان تمكن ابنه من الوقوع عليها والحيلة لمن أراد أن يفسخ نكاح امرأته ويحرمها عليه على التأبيد ان يطأ حماته أو يقبلها والحيلة لمن أراد سقوط حد الزنا عنه ان يسكر ثم يزنى والحيلة لمن أراد سقوط الحج عنه مع قدرته عليه أن يملك ماله لابنه أو زوجته عند خروج الركب فإذا بعد استرد ماله والحيلة لمن أراد حرمان وارثه ميراثه أن يقر بماله كله لغيره عند الموت والحيلة لمن أراد إبطال الزكاة وإسقاط فرضها عنه بالكلية ان يملك ماله عند الحول لابنه أو امرأته أو أجنبي ساعة من زمان ثم يسترده منه ويفعل هكذا كل عام فيبطل فرض الزكاة عنه أبدا والحيلة لمن أراد أن يملك مال غيره بغير رضاه أن يفسده عليه أو يغير صورته فيملكه فيذبح شاته ويشق قميصه ويطحن حبه ويخبزه ونحو ذلك والحيلة لمن أراد قتل غيره ولا يقتل به ان يضربه بدبوس أو مرزبة حديد ينثر دغامه فلا يجب عليه قصاص والحيلة لمن أراد أن يزنى بامرأة ولا يجب عليه الحد ان يستأجرها لكنس بينه أو لطى ثيابه أو لغسلها أو لنقل متاع من مكان إلى مكان ثم يزنى بها ما شاء مجانا بلا حد ولا غرامة أو يستأجرها لنفس الزنا والحيلة لمن أراد أن يسقط عنه حد السرقة ان يدعى ان المال له وان له فيه شركة فيسقط عنه القطع بمجرد دعواه أو ينقب الدار ثم يدع غلامه أو ابنه أو شريكه يدخل ويخرج متاعه أو يدعه على ظهر دابة تخرج به ونحو ذلك والحيلة لمن أراد سقوط حد الزنا عنه بعد أن يشهد به عليه أربعة عدول غير متهمين ان يصدقهم فيسقط عنه الحد بمجرد تصديقهم والحيلة لمن أراد قطع يد غيره ولا يقطع بها ان يمسك هو وآخرالسكين أو السيف ويقطعانها معا والحيلة لمن أرادت التخلف عن زوجها في السفر ان تقر لغيره بدين والحيلة لمن أراد الصيد في الاحرام ان ينصب الشباك قبل ان يحرم ثم يأخذ ما وقع فيها حال إحرامه بعد أن يحل، فهذه الحيل وأمثالها لا يحل لمسلم ان يفتى بها في دين الله تعالى ومن استحل الفتوى بهذه فهو الذي كفره الإمام أحمد وغيره من الأئمة حتى قالوا: إن من أفتى بهذه الحيل فقد قلب الإسلام ظهرا لبطن ونقض عرى الإسلام عروة عروة وقال بعض أهل الحيل ما نقموا علينا من أنا عمدنا إلى اشياء كانت حراما عليهم فاحتلنا فيها حتى صارت حلالا وقال آخر منهم إنا نحتال للناس منذ كذا وكذا سنة في تحليل ما حرم الله عليهم قال: أحمد بن زهير بن مروان كانت امراة ههنا بمرو أرادت ان تختلع من زوجها فأبى زوجها عليها فقيل لها لو ارتددت عن الإسلام لبنت منه ففعلت فذكرت ذلك لعبد الله بن المبارك فقال: "من وضع هذا الكتاب فهو كافر ومن سمع به ورضي به فهو كافر ومن حمله من كورة إلى كورة فهو كافر ومن كان عنده فرضي به فهو كافر" وقال إسحاق بن راهويه عن شقيق بن عبد الملك إن ابن المبارك قال في قصة بنت أبي روح حيث أمرت بالارتداد وذلك في أيام أبي غسان فذكر شيئا ثم قال: ابن المبارك وهو مغضب: "احدثوا في الإسلام ومن كان أمر بهذا فهو كافر ومن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر به أو هويه ولم يأمر به فهو كافر" ثم قال ابن المبارك: "ما أرى الشيطان كان يحسن مثل هذا حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم فأشاعها حينئذ أو كان يحسنها ولم يجد من يمضيها فيهم حتى جاء هؤلاء" وقال إسحاق الطالقاني قيل: يا أبا عبد الرحمن إن هذا الكتاب وضعه إبليس قال: "إبليس من الابالسة" وقال النضر بن شميل في كتاب الحيل ثلاثمائة وعشرون أو ثلاثون مسألة كلها كفر وقال أبو حاتم الرازي قال: شريك يعنى ابن عبد الله قاضي الكوفة وذكر له كتاب الحيل فقال: "من يخادع الله يخدعه" وقال حفص بن غياث: "ينبغى أن يكتب عليه كتاب الفجور" وقال إسماعيل بن حماد قال: القاسم بن معن يعنى ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قاضي الكوفة: "كتابكم هذا الذي كتبتموه في الحيل كتاب الفجور" وقال حماد بن زيد سمعت أيوب يقول: "ويلهم من يخدعون يعنى أصحاب الحيل" وقال عبد الرحمن الدارمي سمعت يزيد بن هارون يقول: "لقد أفتى أصحاب الحيل شيء لو أفتى به اليهودي والنصراني كان قبيحا" فقال: إنى حلفت انى لا أطلق أمرأتي بوجه من الوجوه وإنهم قد بذلوا لي مالا كثيرا فقال له: قبل أمها فقال يزيد بن هارون: ويله يأمره ان يقبل امرأة أجنبية" وقال حبيش بن مبشر: "سئل أبو عبد الله يعنى الإمام أحمد عن الرجل يشتري جارية ثم يعتقها من يومه ويتزوجها أيطؤها من يومه فقال: كيف يطؤها من يومه وقد وطئها ذلك بالامس هذا من طريق الحيلة وغضب وقال هذا اخبث قول" وقال رجل للفضيل بن عياض: "يا أبا علي استفتيت رجلا في يمين حلفت بها فقال لي إن فعلت كذا حنثت وأنا احتال لك حتى تفعل ولا تحنث فقال له الفضيل تعرف الرجل قال: نعم قال: ارجع إليه فاستثبته فإنى احسبه شيطانا شبه لك في صورة إنسان". وإنما قال: هؤلاء الأئمة وأمثالهم هذا الكلام في هذه الحيل لأن فيها الاحتيال على تأخير صوم رمضان وإسقاط فرائض الله تعالى من الحج والزكاة وإسقاط حقوق المسلمين واستحلال ما حرم الله من الربا والزنا واخذ أموال الناس وسفك دمائهم وفسخ العقود اللازمة والكذب وشهادة الزور واباحة الكفر وهذه الحيل دائرة بين الكفر والفسوق ولا يجوز ان تنسب هذه الحيل إلى أحد من الأئمة ومن نسبها إلى أحد منهم فهو جاهل بأصولهم ومقاديرهم ومنزلتهم من الإسلام وإن كان بعض هذه الحيل قد تنفذ على أصول إمام بحيث إذا فعلها المتحيل نفذ حكمها عنده ولكن هذا أمر غير الاذن فيها واباحتها وتعليمها فإن إباحتها شيء ونفوذها إذا فعلت شيء ولا يلزم من كون الفقيه والمفتي لا يبطلها ان يبيحها وبأذن فيها وكثير من العقود يحرمها الفقيه ثم ينفذها ولا يبطلها ولكن الذي ندين الله به تحريمها وإبطالها وعدم تنفيذها ومقابلة اربابها بنقيض مقصودهم موافقة لشرع الله تعالى وحكمته وقدرته. والمقصود أن هذه الحيل لا تجوز ان تسب إلى امام فإن ذلك قدح في إمامته وذلك يتضمن القدح في الأمة حيث ائتمنت بمن لا يصلح للإمامة وهذا غير جائز ولو فرض انه حكى عن واحد من الأئمة بعض هذه الحيل المجمع على تحريمها فإما ان تكون الحكاية باطلة أو يكون الحاكي لم يضبط لفظه فاشتبه عليه فتواه بنفوذها بفتواه بإباحتها مع بعد ما بينهما ولو فرض وقوعها منه في وقت ما فلا بد أن يكون قد رجع عن ذلك وان لم يحمل الأمر على ذلك لزم القدح في الامام وفي جماعة المسلمين المؤتمين به وكلاهما غير جائز ولا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الاذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الأغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالايمان. ثم إن هذا على مذهب أبي حنيفة وأصحابه أشد فإنهم لا يأذنون في كلمات وأفعال دون ذلك بكثير ويقولون إنها كفر حتى قالوا: لو قال: الكافر لرجل إنى أريد أن أسلم فقال له اصبر ساعة فقد كفر فكيف بالأمر بإنشاء الكفر وقالوا لو قال: مسيجد أو صغر لفظ المصحف كفر. فعلمت ان هؤلاء المحتالين الذين يفتون بالحيل التي هي كفر أو حرام ليسوا مقتدين بمذهب أحد من الأئمة وان الأئمة أعلم بالله ورسوله ودينه واتقى له من ان يفتوا بهذه الحيل وقد قال: أبو داود في مسائله سمعت أحمد وذكر أصحاب الحيل يحتالون لنقض سنن رسول الله ﷺ وقال في رواية أبي الحارث الصانع هذه الحيل التي وضعوها عمدوا إلى السنن واحتالوا لنقضها والشيء الذي قيل: لهم إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلوه قالوا: الرهن لا يحل ان يستعمل ثم قالوا: يحتال له حتى يستعمل فكيف يحل بحيلة ما حرم الله ورسوله وقال ﷺ: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فأذابوها فباعوها وأكلوا أثمانها" أذابوها حتى ازالوا عنها اسم الشحم وقد لعن رسول الله ﷺ المحلل والمحلل له وقال في رواية ابنه صالح عجبت مما يقول ارباب الحيل في الايمان يبطلون الايمان بالحيل وقد قال: الله تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} وقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} وكان ابن عيينة يشتد عليه أمر هذه الحيل وقال في رواية الميموني وقد سأله إنهم يقولون في رجل حلف على امرأته وهي على درجة إن صعدت أو نزلت فأنت طالق فقالوا تحمل حملا فقال هذا هو الحنث بعينه ليست هذه حيلة هذا هو الحنث وقالوا إذا حلف لا يطأ بساطا يطأ بساطين وإذا حلف لا يدخل دارا يحمل فأقبل أبو عبد الله يعجب سبحان الله ما أعجب هذا أبطلوا كتاب الله والسنة جعل الله على الحرائر العدة من أجل الحمل فليس من امرأة تطلق أو يموت زوجها إلا تعتد من أجل الحمل ففرج يوطأ يشتريه ثم يعتقه على المكان فيتزوجها فيطؤها فإن كانت حاملا كيف يصنع يطؤها رجل اليوم ويطؤها الآخر غدا هذا نقض للكتاب والسنة قال: النبي ﷺ لا توطأ الحامل حتى تضع ولا غير الحامل حتى تحيض ولا يدري هل هي حامل أم لا سبحان الله ما أسمج هذا. وقال محمد بن الهيثم سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يحكي عن مقاتل بن محمد قال: شهدت هشاما وهو يقرىء كتابا فانتهى بيده إلى مسألة فجازها فقيل له: في ذلك فقال دعوه وكره مكاني فتطلعت في الكتاب فإذا فيه لو أن رجلا لف على ذكره حريرة في شهر رمضان ثم جامع امرأته نهارا فلا قضاء عليه ولا كفارة. فصل الأدلة على بطلان الحيل ومما يدل على بطلان الحيل وتحريمها أن الله تعالى إنما أوجب الواجبات وحرم المحرمات لما تتضمن من مصالح عباده في معاشهم ومعادهم فالشريعة لقلوبهم بمنزلة الغذاء الذي لا بد لهم منه والدواء الذي لا يندفع الداء إلا به فإذا احتال العبد على تحليل ما حرم الله وإسقاط ما فرض الله وتعطيل ما شرع الله كان ساعيا في دين الله بالفساد من وجوه. أحدها إبطالها ما في الأمر المحتال عليه من حكمة ونقض حكمته فيه ومناقضته له. والثاني ان الأمر المحتال به ليس له عنده حقيقة ولا هو مقصود بل هو ظاهر المشروع فالمشروع ليس مقصودا له والمقصود له هو المحرم نفسه وهذا ظاهر كل الظهور فيما يقصد الشارع فإن المرابي مثلا مقصوده الربا المحرم وصورة البيع الجائز غير مقصودة له وكذلك المتحيل على إسقاط الفرائض بتمليك ماله لمن لا يهبه درهما واحدا حقيقة مقصودة إسقاط الفرض وظاهر الهبة المشروعة غير مقصودة له. الثالث نسبته ذلك إلى الشارع الحكيم والى شريعته التي هي غذاء القلوب ودواؤها وشفاؤها ولو ان رجلا تحيل حتى قلب الغذاء والدواء إلى ضده فجعل الغذاء دواء والدواء غذاء إما بتغير اسمه أو صورته مع بقاء حقيقته لاهلك الناس فمن عمد إلى الأدوية المسهلة فغير صورتها أو أسماءها وجعلها غذاء للناس أو عمد إلى السموم القاتلة فغير أسماءها وصورتها وجعلها أدوية أو إلى الاغذية الصالحة فغير أسماءها وصورها كان ساعيا بالفساد في الطبيعة كما أن هذا ساع بالفساد في الشريعة فإن الشريعة للقلوب بمنزلة الغذاء والدواء للأبدان وإنما ذلك بحقائقها لا بأسمائها وصورها. وبيان ذلك على وجه الإشارة ان الله سبحانه وتعالى حرم الربا والزنا وتوابعهما ووسائلهما لما في ذلك من الفساد واباح البيع والنكاح وتوابعهما لأن ذلك مصلحة محضة ولا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق في الحقيقة وإلا لكان البيع مثل الربا والنكاح مثل الزنا ومعلوم ان الفرق في الصورة دون الحقيقة ملغى عند الله ورسوله وفي فطر عباده فإن الاعتبار بالمقاصد والمعاني في الأقوال والافعال فإن الالفاظ إذا اختلفت ومعناها واحد كان حكمها واحدا فإذا اتفقت الالفاظ واختلفت المعاني كان حكمها مختلفا وكذلك الاعمال إذا اختلفت صورها واتفقت مقاصدها وعلى هذه القاعدة يبنى الأمر والنهي والثواب والعقاب ومن تأمل الشريعة علم بالاضطرار صحة هذا فالأمر المحتال به على المحرم صورته صورة الحلال وحقيقته ومقصوده حقيقة الحرام فلا يكون حلالا فلا يترتب عليه أحكام الحلال فيقع باطلا والأمر المحتال عليه حقيقته حقيقة الأمر الحرام وإن لم تكن صورته صورته فيجب أن يكون حراما لمشاركته للحرام في الحقيقة. ويالله العجب أين القياس والنظر في المعاني المؤثرة وغير المؤثرة فرقا وجمعا والكلام في المناسبات ورعاية المصالح وتحقيق المناط وتنقيحه وتخريجه وإبطال قول من علق الاحكام بالأوصاف الطردية التي لا مناسبة بينها وبين الحكم فكيف يعلقه بالأوصاف المناسبة لضد الحكم وكيف يعلق الاحكام على مجرد الالفاظ والصور الظاهرة التي لا مناسبة بينها وبينها ويدع المعاني المناسبة المفضية لها التي ارتباطها بها كارتباط العلل العقلية بمعلولاتها والعجب منه كيف ينكر مع ذلك على أهل الظاهر المتمسكين بظواهر كتاب ربهم وسنة نبيهم حيث لا يقوم دليل يخالف الظاهر ثم يتمسك بظواهر أفعال المكلفين وأقوالهم حيث يعلم ان الباطن والقصد بخلاف ذلك ويعلم لو تأمل حق التأمل ان مقصود الشارع غير ذلك كما يقطع بأن مقصوده من إيجاب الزكاة سد خلة المساكين وذوي الحاجات وحصول المصالح التي أرادها بتخصيص هذه الأوصاف من حماية المسلمين والذب عن حوزة الإسلام فإذا أسقطها بالتحيل فقد خالف مقصود الشارع وحصل مقصود المتحيل والواجب الذي لا يجوز غيره ان يحصل مقصود الله ورسوله ويبطل مقاصد المتحيلين المخادعين وكذلك يعلم قطعا انه إنما حرم الربا لما فيه من الضرر بالمحاويج وان مقصوده إزالة هذه المفسدة فإذا ابيح التحيل على ذلك كان سعيا في إبطال مقصود الشارع وتحصيلا المقصود المرابى وهذه سبيل جميع الحيل المتوسل بها إلى تحليل الحرام وإسقاط الواجب وبهذه الطريق تبطل جميعا الا ترى ان المتحيل لإسقاط الاستبراء مبطل لمقصود الشارع من حكمة الاستيراء ومصلحته فالمعين له على ذلك مفوت لمقصود الشارع محصل لمقصود المتحيل وكذلك التحيل على إبطال حقوق المسلمين التي ملكهم إياها الشارع وجعلهم أحق بها من غيرهم إزالة لضررهم وتحصيلا لمصالحهم فلوا أباح التحيل لإسقاطها لكان عدم إثباتها للمستحقين أولى وأقل ضررا من ان يثبتها ويوصى بها ويبالغ في تحصيلها ثم يشرع التحيل لإبطالها وإسقاطها وهل ذلك إلا بمنزلة من بنى بناء مشيدا وبالغ في إحكامه واتقانه ثم عاد فنقضه وبمنزلة من أمر بإكرام رجل والمبالغة في بره والاحسان إليه واداء حقوقه ثم اباح لمن امره ان يتحيل بأنواع الحيل لإهانته وترك حقوقه ولهذا يسيء الكفار والمنافقون ومن في قلوبهم المرض الظن بالإسلام والشرع الذي بعث الله به رسوله حيث ظنوا ان هذه الحيل مما جاء به الرسول وعلموا مناقضتها للمصالح مناقضة ظاهرة ومنافاتها لحكمة الرب وعدله ورحمته وحمايته وصيانته لعباده فإنه نهاهم عما نهاهم عنه حمية وصيانة فكيف يبيح له الحيل على ما حماهم عنه وكيف يبيح لهم التحيل على إسقاط ما فرضه عليهم وعلى إضاعة الحقوق التي احقها عليهم لبعضهم بعضا لقيام مصالح النوع الإنساني التي لا تتم إلا بما شرعه. فهذه الشريعة شرعها الذي علم ما في ضمنها من المصالح والحكم والغايات المحمودة وما في خلافها من ضد ذلك وهذا أمر ثابت لها لذاتها وبائن من أمر الرب تبارك وتعالى بها ونهيه عنها فالمأمور به مصلحة وحسن في نفسه واكتسى بأمر الرب تعالى مصلحة وحسنا اخر فازداد حسنا بالأمر ومحبة الرب وطلبه له إلى حسنه في نفسه وكذلك المنهى عنه مفسدة وقبيح في نفسه وازداد بنهى الرب تعالى عنه وبغضه له وكراهيته له قبحا إلى قبحه وما كان هكذا لم يجز أن ينقلب حسنه قبحا بتغير الاسم والصورة مع بقاء الماهية والحقيقة. ألا ترى ان الشارع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله حرم بيع الثمار قبل بدو صلاحها لما فيه من مفسدة التشاحن والتشاجر ولما يؤدي إليه ان منع الله الثمرة من أكل مال أخيه بغير حق ظلما وعدوانا ومعلوم قطعا ان هذه المفسدة لا تزول بالتحيل على البيع قبل بدو الصلاح فإن الحيلة لا تؤثر في زوال هذه المفسدة ولا في تخفيفها ولا في زوال ذرة منها فمفسدة هذا العقد أمر ثابت له لنفسه فالحيلة إن لم تزده فسادا لم تزل فسادا وكذلك شرع الله تعالى الاستبراء لإزالة مفسدة اختلاط المياه وفساد الانساب وسقى الإنسان بمائه زرع غيره وفي ذلك من المفاسد ما توجب العقول تحريمه لو لم تأت به شريعة ولهذا فطر الله الناس على استهجانه واستقباحه ويرون من أعظم الهجن ان يقوم هذا عن المرأة ويخلفه الآخر عليها ولهذا حرم نكاح الزانية واوجب العدد والاستبراء ومن المعلوم قطعا ان هذه المفسدة لا تزول بالحيلة على إسقاط الاستبراء ولا تخف وكذلك شرع الحج إلى بيته لأنه قوام للناس في معاشهم ومعادهم ولو عطل البيت الحرام عاما واحدا عن الحج لما أمهل الناس ولعوجلوا بالعقوبة وتوعد من ملك الزاد والراحلة ولم يحج بالموت على غير الإسلام ومعلوم ان التحيل لإسقاطه لا يزيل مفسدة الترك ولو ان الناس كلهم تحيلوا لترك الحج والزكاة لبطلت فائدة هذين الفرضين العظيمين وارتفع من الأرض حكمهما بالكلية وقيل للناس إن شئتم كلكم ان تتحلوا لإسقاطهما فافعلوا فليتصور العبد ما في إسقاطهما من الفساد المضاد لشرع الله واحسانه وحكمته وكذلك الحدود جعلها الله تعالى زواجر للنفوس وعقوبة ونكالا وتطهيرا فشرعها من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد بل لا تتم سياسة ملك من ملوك الأرض إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم ومعلوم ما في التحيل لإسقاطها من منافاة هذا الغرض وإبطاله وتسليط النفوس الشريرة على تلك الجنايات إذا علمت ان لها طريقا إلى إبطال عقوباتها فيها وانها تسقط تلك العقوبات بأدنى الحيل فإنه لا فرق عندها ألبتة بين ان تعلم انه لا عقوبة عليها فيها وبين ان تعلم ان لها عقوبة وان لها إسقاطها بأدنى الحيل ولهذا احتاج البلد الذي تظهر فيه هذه الحيل إلى سياسة وال أو أمير يأخذ على يد الجناة ويكف شرهم عن الناس إذا لم يمكن ارباب الحيل ان يقوموا بذلك وهذا بخلاف الازمنة والأمكنة التي قام الناس فيها بحقائق ما بعث الله به رسول الله ﷺ فإنهم لم يحتاجوا معها إلى سياسة أمير ولا وال كما كان أهل المدينة في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم فإنهم كانوا يحدون بالرائحة وبالقيء وبالحبل وبظهور المسروق عند السارق ويقتلون في القسامة ويعاقبون أهل التهم ولا يقبلون الدعوى التي تكذبها العادة والعرف ولا يرون الحيل في شيء من الدين ويعاقبون أربابها ويحبسون في التهم حتى يتبين حال المتهم فإن ظهرت براءته خلوا سبيله وإن ظهر فجوره قرروه بالعقوبة اقتداء بسنة رسول الله ﷺ في عقوبة المتهمين وحبسهم فإن رسول الله ﷺ حبس في تهمة وعاقب في تهمه كما سيأتي إن شاء الله من ذكر ذلك عنه وعن أصحابه ما فيه شفاء وكفاية وبيان لإغناء ما جاء به عن كل وال وسائس وأن شريعته التي هي شريعته لا يحتاج معها إلى غيرها وإنما يحتاج إلى غيرها من لم يحط بها علما أو لم يقم بها عملا. والمقصود أن ما في ضمن المحرمات من المفاسد والمأمورات من المصالح يمنع ان يشرع اليها التحيل بما يبيحها ويسقطها وأن ذلك مناقضة ظاهرة ألا ترى انه بالغ في لعن المحلل للمفاسد الظاهرة والباطنة التي في التحليل التي يعجز البشر عن الاحاطة بتفاصيلها فالتحليل على صحة هذه النكاح بتقديم اشتراط التحليل عليه وإخلاء صلبه عنه إن لم يزد مفسدته فإنه لا يزيلها ولا يخففها وليس تحريمه والمبالغة في لعن فاعله تعبدا لا يعقل معناه بل هو معقول المعنى من محاسن الشريعة بل لا يمكن شريعة الإسلام ولا غيرها من شرائع الانبياء ان تأتي بحيلة فالتحيل على وقوعه وصحته إبطاله لغرض الشارع وتصحيح لغرض المتحيل المخادع. وكذلك الشارع حرم الصيد في الاحرام وتوعد بالانتقام على من عاد إليه بعد التحريم لما فيه من المفسدة الموجبة لتحريمه وانتقام الرب من فاعله ومعلوم قطعا ان هذه المفسدة لا تزول بنصب الشباك له قبل الاحرام بلحظة فإذا وقع فيها حال الاحرام أخذه بعد الحل بلحظة فإباحته لمن فعل هذا إبطال لغرض الشارع الحكيم وتصحيح لغرض المخادع. وكذلك إيجاب الشارع الكفارة على من وطيء في نهار رمضان فيه من المصلحة جبر وهن الصوم وزجر الواطيء وتكفير جرمه واستدراك فرطه وغير ذلك من المصالح التي علمها من شرع الكفارة واحبها ورضيها فإباحة التحليل لإسقاطها بأن يتغذى قبل الجماع ثم يجامع نقض لغرض الشارع وإبطال له واعمال لغرض الجاني المتحيل وتصحيح له ثم ان ذلك جنابة على حق الله وحق العبيد فهو اضاعة للحقين وتفويت لهما. وكذلك الشارع شرع حدود الجرائم التي تتقاضاها الطباع أشد تقاض في اهمال عقوباتها من مفاسد الدنيا والآخرة بحيث لا يمكن سياسة ملك ما من الملوك ان يخلو عن عقوباتها ألبتة ولا يقوم ملكه بذلك فالاذن في التحيل لإسقاطها بصورة العقد وغيره مع وجود تلك المفاسد بعينها أو اعظم منها نقض وإبطال لمقصود الشارع وتصحيح لمقصود الجاني واغراء بالمفاسد وتسليط للنفوس على الشر. ويالله العجب كيف يجتمع في الشريعة تحريم الزنا والمبالغة في المنع منه وقتل فاعله شر القتلات وأقبحها وأشنعها وأشهرها ثم يسقط بالتحيل عليه بأن يستأجرها لذلك أو لغيره ثم يقضي غرضه منها وهل يعجز عن ذلك زان أبدا وهل في طباع ولاة الأمر ان يقبلوا قول الزاني أنا استأجرتها للزنا أو استأجرتها لتطوي ثيابي ثم قضيت غرضي منها فلا يحل لك ان تقيم علي الحد وهل ركب الله في فطر الناس سقوط الحد عن هذه الجريمة التي هي من أعظم الجرائم إفسادا للفراش والأنساب بمثل هذا وهل يسقط الشارع الحكيم الحد عمن أراد أن ينكح أمه أو بنته أو أخته بأن يعقد عليها العقد ثم يطأها بعد ذلك وهل زاده صورة العقد المحرم إلا فجورا واثما واستهزاء بدين الله وشرعه ولعبا بآياته فهل يليق به مع ذلك رفع هذه العقوبة عنه وإسقاطها بالحيلة التي فعلها مضمومة إلى فعل الفاحشة بأمه وابنته فأين القياس وذكر المناسبات والعلل المؤثرة والإنكار على الظاهرية فهل بلغوا بالتمسك بالظاهر عشر معشار هذا والذي يقضى منه العجب أن يقال لا يعتد بخلاف المتمسكين بظاهر القرآن والسنة ويعتد بخلاف هؤلاء والله ورسوله منزه عن هذا الحكم. ويالله العجب كيف يسقط القطع عمن اعتاد سرقة أموال الناس وكلما امسك معه المال المسروق قال: هذا ملكي والدار التي دخلتها داري والرجل الذي دخلت داره عبدي قال: أرباب الحيل فيسقط عنه الحد بدعوى ذلك فهل تأتي بهذا سياسة قط جائرة أو عأدلة فضلا عن شريعة نبي من الانبياء فضلا عن الشريعة التي هي اكمل شريعة طرقت العالم. وكذلك الشارع أوجب الإنفاق على الأقارب لما في ذلك من قيام مصالحهم ومصالح المنفق ولما في تركهم من إضاعتهم فالتحيل لإسقاط الواجب بالتمليك في الصورة مناقضة لغرض الشارع وتتميم لغرض الماكر المحتال وعود إلى نفس الفساد الذي قصد الشارع اعدامه بأقرب الطرق ولو تحيل هذا المخادع على إسقاط نفقة دوابه لهلكوا وكذلك ما فرضه الله تعالى للوارث من الميراث هو حق له جعله أولى من سائر الناس به فإباحة التحيل لإسقاطه بالإقرار بماله كله للأجنبي وإخراج الوارث مضادة لشرع الله ودينه ونقض لغرضه واتمام لغرض المحتال وكذلك تعليم المرأة ان تقر بدين لأجنبي إذا أراد زوجها السفر بها. فصل مناقضة الحيل لأصول الأئمة وأكثر هذه الحيل لا تمشى على أصول الأئمة بل تناقضها اعظم مناقضة وبيانه ان الشافعي رضي الله عنه يحرم مسألة مد عجوة ودرهم بمد ودرهم ويبالغ في تحريمها بكل طريق خوفا ان يتخذ حيلة على نوع ما من ربا الفضل فتحريمه للحيل الصريحة التي يتوصل بها إلى ربا النساء أولى من تحريم مد عجوة بكثير فإن التحيل بمد ودرهم من الطرفين على ربا الفضل اخف من التحيل بالعينة على ربا النساء وأين مفسدة هذه من مفسدة تلك وأين حقيقة الربا في هذه من حقيقته في تلك وأبو حنيفة يحرم مسألة العينه وتحريمه لها يوجب تحريمه للحيلة في مسألة مد عجوه بأن يبيعه خمسة عشر درهما بعشرة في خرقة فالشافعي يبالغ في تحريم مسألة مد عجوة ويبيح العينة وأبو حنيفة يبالغ في تحريم العينة ويبيح مسائل مد عجوة ويتوسع فيها واصل كل من الامامين رضي الله عنهما في أحد البابين يستلزم إبطال الحيلة في الباب الآخر وهذا من أقوى التخريج على أصولهم ونصوصهم وكثير من الأقوال المخرجة دون هذا فقد ظهر أن الحيل المحرمة في الدين تقتضي رفع التحريم مع قيام موجبه ومقتضيه وإسقاط الوجوب مع قيام سببه وذلك حرام من وجوه أحدها استلزامها فعل المحرم وترك الواجب والثاني ما يتضمن من المكر والخداع والتلبيس والثالث الاغراء بها والدلالة عليها وتعليمها من لا يحسنها والرابع إضافتها إلى الشارع وان أصول شرعه ودينه تقتضيها والخامس ان صاحبها لا يتوب منها ولا يعدها ذنبا والسادس انه يخادع الله كما يخادع المخلوق والسابع انه يسلط اعداء الدين على القدح فيه وسوء الظن به وبمن شرعه والثامن انه يعمل فكره واجتهاده في نقض ما ابرمه الرسول وإبطال ما أوجبه وتحليل ما حرمه والتاسع أنه إعانة ظاهرة على الإثم والعدوان وإنما اختلفت الطريق فهذا يعين عليه بحيلة ظاهرها صحيح مشروع يتوصل بها إليه وذاك يعين عليه بطريقه المفضية إليه بنفسها فكيف كان هذا معينا على الإثم والعدوان والمتحيل المخادع يعين على البر والتقوى العاشر ان هذا ظلم في حق الله وحق رسوله وحق دينه وحق نفسه وحق العبد المعين وحقوق عموم المؤمنين فإنه يغرى به ويعلمه ويدل عليه والمتوصل إليه بطريق المعصية لا يظلم إلا نفسه ومن تعلق به ظلمه من المعينين فإنه لا يزعم ان ذلك دين وشرع ولا يقتدى به الناس فأين فساد أحدهما من الآخر وضرره من ضرره وبالله التوفيق. فصل حجج من جوزوا الحيل قال أرباب الحيل قد أكثرتم من ذمم الحيل وأجلبتم بخيل الأدلة ورجلها وسمينها ومهزولها فاستمعوا الآن تقريرها واشتقاقها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأئمة الإسلام وأنه لا يمكن أحدا إنكارها. قال الله تعالى لنبيه أيوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} فأذن لنبيه أيوب ان يتحلل من يمينه بالضرب بالضغث وقد كان نذر أن يضربها ضربات معدودة وهي في التعارف الظاهر إنما تكون متفرقة فأرشده تعالى إلى الحيلة في خروجه من اليمين فنقيس عليه سائر الباب ونسميه وجوه المخارج من المضائق ولا نسميه بالحيل التي ينفر الناس من اسمها. وأخبر تعالى عن نبيه يوسف عليه السلام أنه جعل صواعه في رحل أخيه ليتوصل بذلك إلى أخذه من إخوته ومدحه بذلك وأخبر أنه برضاه وإذنه كما قال: كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم فأخبر ان هذا كيده لنبيه وأنه بمشيئته وأنه يرفع درجة عبده بلطيف العلم ودقيقه الذي لا يهتدي إليه سواه وأن ذلك من علمه وحكمته. وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فأخبر تعالى أنه مكر بمن مكر بأنبيائه ورسله وكثير من الحيل هذا شأنها يمكر بها على الظالم والفاجر ومن يعسر تخليص الحق منه فتكون وسيلة إلى نصر مظلوم وقهر ظالم ونصر حق وإبطال باطل. والله تعالى قادر على أخذهم بغير وجه المكر الحسن ولكن جازاهم بجنس عملهم وليعلم عباده أن المكر الذي يتوصل به إلى إظهار الحق ويكون عقوبة للماكر ليس قبيحا. وكذلك قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وخداعه لهم أن يظهر لهم أمرا ويبطن لهم خلافه فما تنكرون على أرباب الحيل الذين يظهرون أمرا يتوصلون به إلى باطن غيره اقتداء بفعل الله تعالى. وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أن رسول الله ﷺ استعمل رجلا على خيبر فجاءهم بتمر جنيب فقال أكل تمر خيبر هكذا قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاث فقال لا تفعل بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا وقال في الميزان مثل ذلك فأرشده إلى الحيلة على التخلص من الربا بتوسط العقد الآخر وهذا أصل في جواز العينة. وهل الحيل إلا معاريض في الفعل على وزان المعاريض في القول وإذا كان في المعاريض مندوحة عن الكذب ففي معاريض الفعل مندوحة عن المحرمات وتخلص من المضايق. وقد لقي النبي ﷺ طائفة من المشركين وهو في نفر من أصحابه فقال المشركون ممن أنتم فقال رسول الله ﷺ نحن من ماء فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا أحياء اليمن كثير فلعلهم منهم وانصرفوا. وقد جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: احملني فقال: "ما عندي إلا ولد ناقة" فقال: ما أصنع بولد الناقة فقال النبي ﷺ: "وهل يلد الإبل إلا النوق". وقد رأت امرأة عبد الله بن رواحة عبد الله على جارية له فذهبت وجاءت بسكين فصادفته وقد قضى حاجته فقالت لو وجدتك على الحال التي كنت عليها لوجأتك فأنكر فقالت: فاقرأ إن كنت صادقا فقال: شهدت بأن وعد الله حق ** وأن النار مثوى الكافرينا. وان العرش فوق الماء طاف ** وفوق العرش رب العالمينا. وتحمله ملائكة كرام ** ملائكة الإله مسومينا. فقالت آمنت بكتاب الله وكذبت بصرى فبلغ النبي ﷺ فضحك ولم ينكر عليه وهذا تحيل منه بإظهار القراءة لما أوهم أنه قرآن ليتخلص به من مكروه الغيرة. وكان بعض السلف إذا أراد أن لا يطعم طعاما لرجل قال: أصبحت صائما يريد أنه اصبح فيما سلف صائما قبل ذلك اليوم وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه بعض غرمائه وليس عنده ما يعطيه قال: أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله يريد بذلك يومي الدنيا والآخرة وسأل رجل عن المروزي وهو في دار أحمد بن حنبل فكره الخروج إليه فوضع أحمد أصبعه في كفه فقال ليس المروزي ههنا وما يصنع المروزي ههنا وحضر سفيان الثوري مجلسا فلما أراد النهوض منعوه فحلف أنه يعود ثم خرج وترك نعله كالناسي لها فلما خرج عاد وأخذها وانصرف وقد كان لشريح في هذا الباب فقه دقيق كما أعجب رجل فرسه وأراد أخذها منه فقال له شريح إنها إذا أربضت لم تقم حتى تقام فقال الرجل أف أف وإنما أراد شريح أن الله هو الذي يقيمها وباع من رجل ناقة فقال له المشتري كم تحمل فقال احمل على الحائط ما شئت فقال كم تحلب قال: احلب في أي إناء شئت فقال كيف سيرها قال: الريح لا تلحق فلما قبضها المشتري لم يجد شيئا من ذلك فجاء إليه وقال ما وجدت شيئا من ذلك فقال ما كذبتك. قالوا ومن المعلوم أن الشارع جعل العقود وسائل وطرقا إلى إسقاط الحدود والمأثم ولهذا لو وطيء الإنسان امرأة أجنبية من غير عقد ولا شبهة لزمه الحد فإذا عقد عليها عقد النكاح ثم وطئها لم يلزمه الحد وكان العقد حيلة على إسقاط الحد بل قد جعل الله تعالى الأكل والشرب واللباس حيلة على دفع أذى الجوع والعطش والبرد والاكتفاء حيلة إلى دفع الصائل من الحيوان وغيره وعقد التبايع حيلة على حصول الانتفاع بملك الغير وسائر العقود حيلة على التوصل إلى مالا يباح إلا بها وشرع الرهن حيلة على رجوع صاحب الدين في ماله من عين الرهن إذا أفلس الراهن أو تعذر الاستيفاء منه. وقد روى سلمة بن صالح عن يزيد الواسطي عن عبد الكريم عن عبد الله ابن بريدة قال: سئل رسول الله ﷺ عن أعظم آية في كتاب الله فقال لا أخرج من المسجد حتى أخبرك فقام رسول الله ﷺ من مجلسه فلما أخرج إحدى رجليه أخبره بالآية قبل أن يخرج رجله الأخرى. وقد بنى الخصاف كتابه في الحيل على هذا الحديث ووجه الاستدلال به أن من حلف أن لا يفعل شيئا فأراد التخلص من الحنث بفعل بعضه لم يكن حانثا فإذا حلف لا يأكل هذا الرغيف ولا يأخذ هذا المتاع فليدع بعضه ويأخذ الباقي ولا يحنث وهذا أصل في بابه في التخلص من الأيمان. وهذا السلف الطيب قد فتحوا لنا هذا الباب ونهجوا لنا هذا الطريق فروى قيس بن الربيع عن الأعمش عن إبراهيم في رجل أخذه رجل فقال إن لي معك حقا فقال لا فقال احلف لي بالمشي إلى بيت الله فقال يحلف له بالمشي إلى بيت الله ويعني به مسجد حيه وبهذا الإسناد أنه قال: له رجل إن فلانا امرني أن آتي مكان كذا وكذا وأنا لا أقدر على ذلك المكان فكيف الحيلة قال: يقول والله ما أبصر إلا ما سددني غيري. وذكر عبد الملك بن ميسرة عن النزالي بن سبرة قال: جعل حذيفة لعثمان ابن عفان على أشياء بالله ما قالها وقد سمعناه يقولها فقلنا يا أبا عبد الله سمعناك تحلف لعثمان على أشياء ما قلتها وقد سمعناك قلتها فقال: "إني أشترى ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله" وذكر قيس بن الربيع عن الأعمش عن إبراهيم أن رجلا قال: له إني أنال من رجل شيئا فيبلغه عني فكيف أعتذر إليه فقال له إبراهيم: "قل والله إن الله ليعلم ما قلت من ذلك من شيء" وكان إبراهيم يقول لأصحابه إذا خرجوا من عنده وهو مستخف من الحجاج: "إن سئلتم عني فاحلفوا بالله لا تدرون أين أنا ولا في أي موضع أنا وأعنوا لا تدرون أين انا من البيت وفى أي موضع منه وأنتم صادقون" وقال مجاهد عن ابن عباس: "ما يسرني بمعارض الكلام حمر النعم". وقد ثبت في الصحيح من حديث حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت من المهاجرات الأول: "أن رسول الله ﷺ رخص في الكذب في ثلاث في الرجل يصلح بين الناس والرجل يكذب لامرأته والكذب في الحرب". وقال معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه حدثني نعيم بن أبي هند عن سويد ابن غفلة أن عليا كرم الله وجهه في الجنة لما قتل الزنادقة نظر في الأرض ثم رفع رأسه إلى السماء ثم قال: صدق الله ورسوله ثم قام فدخل بيته فأكثر الناس في ذلك فدخلت عليه فقلت يا أمير المؤمنين أشيء عهد إليك رسول الله ﷺ أم شيء رأيته فقال هل على من بأس أن أنظر إلى السماء قلت لا قال: فهل على من بأس أن أنظر إلى الأرض قلت لا قال: فهل على من بأس أن أقول صدق الله ورسوله قلت لا قال: فإني رجل مكائد. وقال حجاج بن منهال ثنا أبو عوانة عن أبي مسكين قال: كنت عند إبراهيم وامرأته تعاتبه في جاريته وبيدها مروحة فقال أشهدكم بأنها لها فلما خرجنا قال: علام شهدتم قلنا أشهدتنا أنك جعلت الجارية لها قال: أما رأيتموني أشير إلى المروحة. وقال محمد بن الحسن عن عمرو بن دينار عن الشعبي لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام ويخرج به إلى الحلال فما كان من هذا ونحوه فلا بأس به وإنما يكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق الرجل حتى يبطله أو يحتال في باطل حتى يوهم انه حق أو يحتال في شئ حتى يدخل فيه شبهة وأما ما كان على السبيل الذي قلنا فلا بأس بذلك. قالوا وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} قال: غير واحد من المفسرين: مخرجا مما ضاق على الناس ولا ريب أن هذه الحيل مخارج مما ضاق على الناس ألا ترى أن الحالف يضيق عليه إلزام ما حلف عليه فيكون له بالحيلة مخرج منه وكذلك الرجل تشتد به الضرورة إلى نفقة ولا يجد من يقرضه فيكون له من هذا الضيق مخرج بالعينة والتورق ونحوهما فلو لم يفعل ذلك لهلك ولهلكت عياله والله تعالى لا يشرع ذلك ولا يضيق عليه شرعه الذي وسع جميع خلقه فقد دار أمره بين ثلاثة لا بد له من واحد منها إما إضاعة نفسه وعياله وإما الربا صريحا وإما المخرج من هذا الضيق بهذه الحيلة فأوجدونا أمرا رابعا نصير إليه وكذلك الرجل ينزعه الشيطان فيقع به الطلاق فيضيق عليه جدا مفارقة امرأته وأولاده وخراب بيته فكيف ينكر في حكمة الله ورحمته أن نتحيل له بحيلة تخرجه من هذا الاصر والغل وهل الساعي في ذلك إلا مأجور غير مأزور كما قاله إمام الظاهرية في وقته أبو محمد بن حزم وأبو ثور وبعض أصحاب أبي حنيفة وحملوا أحاديث التحريم على ما إذا شرط في صلب العقد انه نكاح تحليل؟ قالوا وقد روى عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال: أرسلت امرأة إلى رجل فزوجته نفسها ليحلها لزوجها فأمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان يقيم معها ولا يطلقها وأوعده ان يعاقبه ان طلقها فهذا أمير المؤمنين قد صحح نكاحه ولم يأمره باستئنافه وهو حجة في صحة نكاح المحلل والنكاح بلا ولي. وذكر عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان لا يرى بأسا بالتحليل إذا لم يعلم أحد الزوجين قال ابن حزم وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وصح عن عطاء فيمن نكح امرأة محللا ثم رغب فيها فأمكسها فقال لا بأس بذلك. وقال الشعبي لا بأس بالتحليل إذا لم يأمر به الزوج. وقال الليث بن سعد إن تزوجها ثم فارقها لترجع إلى زوجها ولم يعلم المطلق ولا هي بذلك وإنما كان ذلك إحسانا منه فلا بأس ان ترجع إلى الأول فإن بين الثاني ذلك للأول بعد دخوله بها لم يضره. وقال الشافعي وأبو ثور المحلل الذي يفسد نكاحه هو الذي يعقد عليه في نفس عقد النكاح انه إنما يتزوجها ليحلها ثم يطلقها فأما من لم يشترط ذلك في عقد النكاح فعقده صحيح لا داخلة فيه سواء شرط ذلك عليه قبل العقد أو لم يشرط نوى ذلك أو لم ينوه قال أبو ثور: وهو مأجور. وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف وعن أبي حنيفة مثل هذا سواء وروى أيضا محمد وأبو يوسف عن أبي حنيفة إذا نوى الثاني وهي تحليلها للأول لم تحل له بذلك. وروى الحسن بن زياد عن زفر وأبي حنيفة أنه إن اشترط عليه في نفس العقد أنه إنما تزوجها ليحلها للأول فإنه نكاح صحيح ويبطل الشرط وله ان يقيم معها فهذه ثلاث روايات عن أبي حنيفة. قالوا وقد قال الله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وهذا زوج وقد عقد بمهر وولى ورضاها وخلوها من الموانع الشرعية وهو راغب في ردها إلى الأول فيدخل في حديث ابن عباس ابن رسول الله ﷺ قال: "لا نكاح إلا نكاح رغبة وهذا نكاح رغبة في تحليلها للمسلم" كما أمر الله تعالى بقوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} والنبي ﷺ إنما شرط في عودها إلى الأول مجرد ذوق العسيلة بينهما وغيا الحل بذلك فقال لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها فإذا تذاوقا العسيلة حلت له بالنص. قالوا وأما نكاح الدلسة فنعم هو باطل ولكن ما هو نكاح الدلسة فلعله أراد به أن تدلس له المرأة بغيرها أو تدلس له انها انقضت عدتها ولم تنقض لتستعجل عودها إلى الأول. وأما لعنه للمحلل فلا ريب انه ﷺ لم يرد كل محلل ومحلل له فإن الولي محلل لما كان حراما قبل العقد والحاكم المزوج محلل بهذا الاعتبار والبائع لأمته محلل للمشتري وطأها فإن قلنا العام إذ خص صار مجملا بطل الاحتجاج بالحديث وإن قلنا هو حجة فيما عدا محل التخصيص فذلك مشروط ببيان المراد منه ولسنا ندري المحلل المراد من هذا النص أهو الذي نوى التحليل أو شرطه قبل العقد أو شرطه في صلب العقد أو الذي أحل ما حرمه الله ورسوله ووجدنا كل من تزوج مطلقة ثلاثا فإنه محلل ولو لم يشترط التحليل ولم ينوه فإن الحل حصل بوطئه وعقده ومعلوم قطعا أنه لم يدخل في النص فعلم ان النص إنما أراد به من أحل الحرام بفعله أو عقده ونحن وكل مسلم لا نشك في أنه أهل للعنه الله وأما من قصد الاحسان إلى أخيه المسلم ورغب في جمع شمله بزوجته ولم شعثه وشعث أولاده وعياله فهو محسن وما على المحسنين من سبيل فضلا عن ان تلحقهم لعنة رسول الله ﷺ. ثم قواعد الفقه وأدلته لا تحرم مثل ذلك فإن هذه العقود التي لم يشترط المحرم في صلبها عقود صدرت من أهلها في محلها مقرونة بشروطها فيجب الحكم بصحتها لأن السبب هو الإيجاب والقبول وهما تامان وأهلية العاقد لا نزاع فيها ومحلية العقد قابلة فلم يبق إلا القصد المقرون بالعقد ولا تأثير له في بطلان الأسباب الظاهرة لوجوه أحدها أن المحتال مثلا إنما قصد الربح الذي وضعت له التجارة وإنما لكل امرئ ما نوى فإذا حصل له الربح حصل له مقصوده وقد سلك للطريق المفضية إليه في ظاهر الشرع والمحلل غايته انه قصد الطلاق ونواه إذا وطيء المرأة وهو مما ملكه الشارع إياه فهو كما لو نوى المشتري إخراج المبيع عن ملكه إذا اشتراه وسر ذلك أن السبب مقتض لتأبد الملك والنية لا تغير موجب السبب حتى يقال إن النية توجب تأقيت العقد وليست هي منافية لموجب العقد فإن له أن يطلق ولو نوى بعقد الشراء إتلاف المبيع وإحراقه أو إغراقه لم يقدح في صحة البيع فنية الطلاق أولى. وأيضا فالقصد لا يقدح في اقتضاء السبب لحكمه لأنه خارج عما يتم به العقد ولهذا لو اشترى عصيرا ومن نيته ان يتخذه خمرا أو جارية ومن نيته ان يكرهها على البغاء أو يجعلها مغنية أو سلاحا ومن نيته ان يقتل به معصوما فكل ذلك لا أثر له في صحة البيع من جهة انه منقطع عن السبب فلا يخرج السبب عن اقتضاء حكمه. وقد ظهر بهذا الفرق بين هذا العقد وبين الإكراه فإن الرضا شرط في صحة العقد والإكراه ينافى الرضا وظهر أيضا الفرق بينه وبين الشرط المقارن فإن الشرط المقارن يقدح في مقصود العقد فغاية الأمر ان العاقد قصد محرما لكن ذلك لا يمنع ثبوت الملك كما لو تزوجها ليضار بها امرأة له أخرى ومما يؤيد ما ذكرناه ان النية إنما تعمل في اللفظ المحتمل للمنوى وغيره مثل الكنايات ومثل أن يقول اشتريت كذا فإنه يحتمل ان يشتريه لنفسه ولموكله فإذا نوى أحدهما صح فإذا كان السبب ظاهرا متعينا لمسببه لم يكن للنية الباطنة أثر في تغيير حكمه. يوضحه أن النية لا تؤثر في اقتضاء الأسباب الحسية والعقلية المستلزمة لمسبباتها ولا تؤثر النية في تغييرها. يوضحه أن النية إما ان تكون بمنزلة الشرط أو لا تكون فإن كانت بمنزلة الشرط لزم انه إذا نوى ان لا يبيع ما اشتراه ولا يهبه ولا يتصرف فيه أو نوى ان يخرجه عن ملكه أو نوى ان لا يطلق الزوجة أو يبيت عندها كل ليلة أو لا يسافر عنها بمنزلة ان يشترط ذلك في العقد وهو خلاف الإجماع وان لم تكن بمنزلة الشرط فلا تأثير له حينئذ. وأيضا فنحن لنا ظواهر الامور والى الله سرائرها وبواطنها ولهذا يقول الرسل لربهم تعالى يوم القيامة إذ سألهم: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} فيقولون: {لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوب} كان لنا ظواهرهم وأما ما انطوت عليه ضمائرهم وقلوبهم فأنت العالم به. قالوا فقد ظهر عذرنا وقامت حجتنا فتبين أنا لم نخرج فيما أصلناه من اعتبار الظاهر وعدم الالتفات إلى القصود في العقود وإلغاء الشروط المتقدمة الخالي عنها العقد والتحيل على التخلص من مضايق الايمان وما حرمه الله ورسوله من الربا وغيره عن كتاب ربنا وسنة نبينا وأقوال السلف الطيب. ادعاء أن في مذاهب الأئمة تجويزا للحيل ولنا بهذه الأصول رهن عند كل طائفة من الطوائف المنكرة علينا. فلنا عند الشافعية رهون كثيرة في عدة مواضيع وقد سلموا لنا ان الشرط المتقدم على العقد ملغى وسلموا لنا ان القصود غير معبرة في العقود وسلموا لنا جواز التحيل على إسقاط الشفعة وقالوا يجوز التحيل على بيع المعدوم من الثمار فضلا عما لم يبد صلاحه بأن يؤجره الأرض ويساقيه على الثمر من كل ألف جزء على جزء وهذا نفس الحيلة على بيع الثمار قبل وجودها فكيف تنكرون علينا التحيل على بيعها قبل بدو صلاحها وهل مسألة العينة إلا ملك باب الحيل وهم يبطلون الشركة بالعروض ثم يقولون الحيلة في جوازها ان يبيع كل منهما نصف عرضه لصاحبه فيصيران شريكين حينئذ بالفعل ويقولون لا يصح تعليق الوكالة بالشرط والحيلة على جوازها ان يوكله الآن ويعلق تصرفه بالشرط. وقولهم في الحيل على عدم الحنث بالمسألة السريجية معروف وكل حيلة سواه محلل بالنسبة إليه فإن هذه المسألة حيلة على أن يحلف دائما بالطلاق ويحنث ولا يقع عليه الطلاق ابدا. وأما المالكية فهم من أشد الناس إنكارا علينا للحيل وأصولهم تخالف أصولنا في ذلك إذ عندهم أن الشرط المتقدم كالمقارن والشرط العرفي كاللفظي والقصود في العقود معتبرة والذرائع يجب سدها والتغرير الفعلي كالتغرير القولى وهذه الأصول تسد باب الحيل سدا محكما ولكن قد علقنا لهم برهون نطالبهم بفكاكها أو بموافقتهم لنا على ما أنكروه علينا فجوزوا التحيل على إسقاط الشفعة وقالوا لو تزوجها ومن نيته ان يقيم معها سنة صح النكاح ولم تعمل هذه النية في فساده. وأما الحنابلة فبيننا وبينهم معترك النزال في هذه المسائل فإنهم هم الذين شنوا علينا الغارات ورمونا بكل سلاح من الاثر والنظر ولم يراعوا لنا حرمة ولم يرقبوا فينا إلا ذمة وقالوا لو نصب شباكا للصيد قبل الاحرام ثم أخذ ما وقع فيها حال الاحرام بعد الحل جاز ويالله العجب أي فرق بين هذه الحيلة وحيلة أصحاب السبت على الحيتان وقالوا لو نوى الزوج الثاني ان يحلها للأول ولم يشترط ذلك جاز وحلت له لأنه لم يشترط ذلك في العقد وهذا تصريح بأن النية لا تؤثر في العقد وقالوا لو تزوجها ومن نيته ان يقيم معها شهرا ثم يطلقها صح العقد ولم تكن نية التوقيت مؤثرة فيه وكلامهم في باب المخارج من الايمان بأنواع الحيل معروف وعنا تلقوه ومنا أخذوه وقالوا لو حلف ان لا يشتري منه ثوبا فاتهبه منه وشرط له العوض لا يحنث وقالوا بجواز مسألة التورق وهي شقيقة مسألة العينة فأي فرق بين مصير السلعة إلى البائع وبين مصيرها إلى غيره بل قد يكون عودها إلى البائع أرفق بالمشتري وأقل كلفة عليه وأرفع لخسارته وتعنيه فكيف تحرمون الضرر اليسير وتبيحون ما هو أعظم منه والحقيقة في الموضوعين واحدة وهي عشر وبينهما حريرة رجعت في إحدى الصورتين إلى مالكها وفي الثانية إلى غيره؟ وقالوا لو حلف بالطلاق لا يتزوج عبده بأمته أبدا ثم أراد تزويجه بها ولا يحنث فإنه يبيع العبد والجارية من رجل ثم يزوجهما المشتري ثم يستردهما منه قال القاضي: "وهذا غير ممتنع على أصلنا لأن عقد النكاح قد وجد في حال زوال ملكه عنهما ولا يتعلق الحنث باستدامة العقد بعد أن ملكهما لأن التزويج عبارة عن العقد وقد انقضى وإنما بقى حكمه فلم يحنث باستدامة حكمه". وقالوا لو كان له عليه مال وهو محتاج فأحب أن يدعه له من زكاته فالحيلة ان يتصدق عليه بذلك القدر ثم يقبضه منه ثم قالوا: فإن كان له شريك فيه فخاف ان يخاصمه فيه فالحيلة ان يهب المطلوب للطالب مالا بقدر حصة الطالب مما له عليه ويقبضه منه للطالب ثم يتصدق الطالب على المطلوب بما وهبه له ويحتسب بذلك من زكاته ثم يهب المطلوب ماله عليه من الدين ولا يضمن الطالب لشريكه شيئا لأن هبة الدين لمن في ذمته براءة وإذا أبرأ أحد الشريكين الغريم من نصيبه لم يضمن لشريكه شيئا وإنما يضمن إذا حصل الدين في ضمانه. وقالوا لو أجره الأرض بأجرة معلومة وشرط عليه ان يؤدي خراجها لم يجز لأن الخراج على المالك لا على المستأجر والحيلة في جوازه ان يؤجره إياها بمبلغ يكون زيادته بقدر الخراج ثم يأذن له أن يدفع في خراجها ذلك القدر الزائد على اجرتها قالوا: لأنه متى زاد مقدار الخراج على الأجرة حصل ذلك دينا على المستأجر وقد أمره ان يدفعه إلى مستحق الخراج وهو جائز. وقالوا ونظير هذا أن يؤجره دابة ويشترط علفها على المستأجر لم يجز والحيلة في جوازه هكذا سواء يزيد الأجرة ويوكله ان يعلف الدابة بذلك القدر الزائد. وقالوا لا يصح استئجار الشجرة للثمرة والحيلة في ذلك ان يؤجره الأرض ويساقيه على الثمرة من كل ألف جزء جزء مثلا. وقالوا لو وكله ان يشتري له جارية معينة بثمن معين دفعه إليه فلما رآها أراد شراءها لنفسه وخاف ان يحلفه انه انما اشتراها بمال الموكل له وهو وكيله فالوجه ان يعزل نفسه عن الوكالة ثم يشتريها بثمن في ذمته ثم ينقد ما معه من الثمن ويصير لموكله في ذمته نظيره. قالوا واما نحن فلا تأتي هذه الحيلة على أصولنا لأن الوكيل لا يملك عزل نفسه إلا بحضرة موكله. قالوا وقد قالت الحنابلة أيضا لو أراد إجارة أرض له فيها زرع لم يجز والحيلة في جوازه ان يبيعه الزرع ثم يؤجره الأرض فإن أراد بعد ذلك ان يشتري منه الزرع جاز. وقالوا لو شرط رب المال على المضارب ضمان مال المضاربة لم يصح والحيلة في صحته ان يقرضه المال في ذمته ثم يقبضه المضارب منه فإذا قبضه دفعه إلى مالكه الأول مضاربة ثم يدفعه رب المال إلى المضارب بضاعة فإن نوى فهو من ضمان المضارب لأنه قد صار مضمونا عليه بالقرض فتسليمه إلى رب المال مضاربة كتسليم مال له آخر وحيلة أخرى وهي ان يقرض رب المال المضارب ما يريد دفعه إليه ثم يخرج من عنده درهما واحدا فيشاركه على أن يعملا بالمالين جميعا على أن ما رزقه الله فهو بينهما نصفين فإن عمل أحدهما بالمال بإذن صاحبه فربح كان الربح بينهما على ما شرطاه وان خسر كان الخسران على قدر المالين وعلى رب المال بقدر الدرهم وعلى المضارب بقدر رأس المال وإنما جاز ذلك لأن المضارب هو الملزم نفسه الضمان بدخوله في القرض. وقالوا لا تجوز المضاربة على العرض فإن كان عنده عرض فأراد أن يضارب عليه فالحيلة في جوازه ان يبيعه العرض ويقبض ثمنه فيدفعه إليه مضاربة ثم يشتري المضارب ذلك المتاع بالمال. وقالوا: لو حلفته امرأته ان كل جارية يشتريها فهى حرة فالحيلة في جواز الشراء ولا تعتق ان يعنى بالجارية السفينة ولا تعتق وان لم تحضره هذه النية وقت اليمين فالحيلة ان يشتريها صاحبه ويهبه اياها ثم يهبه نظير الثمن وقالوا لو حلفته ان كل امرأة يتزوجها عليها فهى طالق وخاف من هذه اليمين عند من يصحح هذا التعليق فالحيلة ان ينوي كل امرأة أتزوجها على طلاقك أي يكون طلاقك صداقها أو كل امرأة أتزوجها على رقبتك أي تكون رقبتك صداقها فهى طالق فلا يحنث بالتزويج على غير هذه الصفة. وقالوا لو أراد أن يصرف دنانير بدارهم ولم يكن عند الصيرفي مبلغ الدراهم وأراد أن يصبر عليها بالباقي لم يجز والحيلة فيه ان يأخذ ما عنده من الدراهم بقدر صرفه ثم يقرضه إياها فيصرف بها الباقي فإن لم يوف فعل ذلك مرارا حتى يستوفى صرفه ويصير ما أقرضه دينا عليه لا انه عوض الصرف. وقالوا لو أراد أن يبيعه دراهم بدنانير إلى اجل لم يجز والحيلة في ذلك ان يشتري منه متاعا وينقده ثمنه ويقبض المتاع ثم يشتري البائع منه ذلك المتاع بدنانيرالى أجل والتأجيل جائز في ثمن المتاع. وقالوا لو مات رب المال بعد أن قبض المضارب المال انتقل إلى ورثته فلو اشترى المضارب به بعد ذلك متاعا ضمن لأنه تصرف بعد بطلان الشركة والحيلة في تخلص المضارب من ذلك أن يشهد رب المال ان حصته من المال الذي دفعه إليه مضاربة لولده وانه مقارض إلى هذا الشريك بجميع ما تركه وأمره ان يشتري لولده ما أحب في حياته وبعد وفاته فيجوز ذلك لأن المانع منه كونه متصرفا في ملك الغير بغير وكالة ولا ولاية فإذا أذن له في التصرف برئ من الضمان وان كانت هذه الحيلة انما تتم إذا كان الورثة أولادا صغارا. وقالوا لو صالح عن المؤجل ببعضه حالا لم يصح والحيلة في تصحيحه ان يفسخا العقد الذي وقع على المؤجل ويجعلاه بذلك القدر الحال. وقالوا لو لبس المتوضيء أحد الخفين قبل غسل الرجل الأخرى ثم غسل الأخرى ولبس عليها لم يجز المسح لأنه لم يلبس على كمال الطهارة والحيلة في جواز المسح ان يخلع هذه الفردة الثانية ثم يلبسها. قالوا: ولو أوصى لرجل بخدمة عبده أو بما في بطن أمته جاز فلو أراد الورثة شراء خدمة العبد أو ما في بطن الأمة من الموصى له لم يجز والحيلة في جوازه ان يصالحوه عن الموصى به على ما يبذلونه له فيجوز وإن لم يجز البيع فإن الصلح يجوز فيه ما لا يجوز في البيع. قالوا ولا يجوز الشركة بالعروض فإن كان لأحدهما عرض يساوي خمسة آلاف درهم وللآخر عرض يساوي الفا فأحبا ان يشتركا في العرضين فالحيلة ان يشتري صاحب العرض الذي قيمته خمسة آلاف من الآخر خمسة أسداس عرضه بسدس عرضه هو فيصير للذي يساوي عرضه ألفا سدس جميع المال وللآخر خمسة أسداسه لأن جميع ماليهما ستة آلاف وقد حصل كل واحد من العرضين بهذه الشركة بينهما أسداسا خمسة أسداسه لأحدهما وسدسه للآخر فإذا هلك أحدهما هلك على الشركة قالوا: ولا تقبل شهادة الموكل لموكله فيما هو وكيله فيه فلو لم يكن له شاهد غيره وخاف ضياع حقه فالحيلة ان يعزله حتى يشهد له ثم يوكله بعد ذلك إن أراد. قالوا ولو أعتق عبده في مرضه وثلثه يحتمله وخاف عليه من الورثة ان يجحدوا المال ويرثوا ثلثيه فالحيلة ان يدفع إليه مالا يشتري نفسه منه بحضرة شهود ويشهدون انه قد اقبضه المال وصار العبد حرا. قالوا وكذلك الحيلة لو كان لأحد الورثة دين على الموروث وليست له به بينة فأراد بيعه العبد بدينه الذي له عليه فعل مثل ذلك سواء. قالوا ولو قال: أوصيت إلى فلان وان لم يقبل فإلى فلان وخاف ان تبطل الوصية على مذهب من لا يرى جواز تعليق الولاية بالشرط فالحيلة أن يقول فلان وفلان وصيان فإن لم يقبل أحدهما وقبل الآخر فالذي قبل هو الوصي فيجوز على قول الجميع لأنه لم يعلق الولاية بالشرط. قالوا ولو أراد ذمى ان يسلم وعنده حمر كثير فخاف ان يذهب عليه بالإسلام فالحيلة ان يبادر ببيعها من ذمى آخر ثم يسلم فإنه يملك تقاضيه بعد الإسلام فإن بادر الآخر وأسلم لم يسقط عنه ذلك وقد نص عليه الإمام أحمد في مجوسي باع مجوسيا خمرا ثم أسلما يأخذ الثمن قد وجب له يوم باعه. قال أرباب الحيل: فهذا رهن الفرق عندنا بأنهم قالوا بالحيل وأوصوا بها فماذا تنكرون علينا بعد ذلك وتشنعون ومثالنا ومثالهم في ذلك كقوم وجدوا كنزا فأصاب كل منهم طائفة منه في يديه فمستقل ومستكثر ثم أقبل بعض الآخذين ينقم على بقيتهم وما أخذه من الكنز في يديه فليرم بما أخذ منه ثم لينكر على الباقين. ====

فهرس كتاب اعلام الموقعين لابن القيم

إعلام الموقعين/فهرس الجزء الأول [[إعلام الموقعين/الجزء الأول#نوعا التلقي عنه ﷺ|نوعا التلقي عنه ﷺ]] إخراج المتعصب عن زمرة العلماء فصل حفاظ ال...