السبت، 27 يناير 2024

رسالة من يعقوب بن إسحاق الكندي و رسالة الي إلى علي بن الجهم ، (شاعر خرساني الأصل) .

قلت المدون أوردت هنا بعضا من موضوعات الفلسفة لتوسيع قراءات المسلمين  فما كان منها مخالفا للحق فهو مردود وما وافق الحق فهو مجاز ومعيار الصح والخطأ هو نصوص النقل القراني والحكة النبوية 
 =========من ويكي=====
أولا / رسالة في مائية ما لا يمكن أن يكون لا نهاية , و ما الذي يقال لا نهاية له المؤلف يعقوب بن إسحاق الكندي
تحميل بصيغة
 رسائل الكندي الفلسفية
نص الرسالة
حاطك الله بتوفيقه و بلغك من درك الحق نهاية آمالك ، و زين به كل أعمالك !
فهمت ما سألت من رسم قول يتضح لك به ما الذي لا نهاية له و في أي نوع يقال ذلك ، وما الذي لا يمكن أن يكون لا نهاية له ؛ وقد رسمت من ذلك بحسب ما رأيته لك كافيا بقدر موضعك من النظر، فكن به و بجميع ظاهرات الحق سعيدا – فنقول :
أ) إن كل شيء ينقص منه شيء ، فإن الذي يبقى أقل مما كان قبل أن ينقص منه ؛
ب) و كل شيء نقص منه شيء ، فإنه إذا ما ردَّ إليه ما كان نقص منه ؛ عاد إلى المبلغ الذي كان أولاً ؛
ج) و كل أشياء متناهية ، فإن الذي يكون منها ، إذا جمعت متناهٍ ؛
د) فإذا كان شيئان ، أحدهما أقل من الآخر ، فإن الأقل بعد الأكثر أو بعد بعضه ، وإن عذَّ كله فقد عدَّ بعضه .
فإن فرض جرم لا نهاية له فتوهم شيئا نقص منه شيء ؛ فإن ما بقي منه لا يخلو من أن يكون متناهيا أو لا متناهياً ؛
فإن كان ما بقي منه متناهياً ، فإنه إذا أعيد إليه ما أخذ منه المتناهي كانت جملتها جميعا متناهية ، و جملتها هذه المتناهية هي ما كان أولاًّ مفروضاًّ لا متناهيا ؛ فإذن الذي لا متناهٍ متناهٍ – و هذا خلف لا يمكن .
و إن كان إذا أخذ من الجرم الذي لا متناهٍ ، متناهٍ ما أخذ منه ،[و] كان الذي بقي لا نهاية له ، فهو أقل مما كان قبل أن يؤخذ منه ؛ لأن كل شيء أخذ منه شيء ، فإن الذي يبقى منه أقل مما كان قبل أن يؤخذ منه ؛
فإذن قد صار شيء لا نهاية له أقل من شيء آخر لا نهاية له ، و أقل الشيئين بعد أكثرهما أو بعد بعضه ؛ و إن كان بعده فهو بعد بعضه ، فإذن الذي لا نهاية له [هو] الأكبر ؛
و الأشياء المتساوية هي التي أبعاد [ما بين] نهاياتها المتشابهة متساوية ، فكانت الأبعاد كمية أو رتبة الذي لا نهاية له ؛ فالذي لا نهاية له الأصغر له نهايات ؛ و هذا خلف لا يمكن ؛
فإذن ليس يمكن أن يكون جرم لا نهاية له بتةً ، إذ كان في جميع أقسامه هذه الإحالات و الامتناعات ؛
و ما كان محصورا في المتناهي ، فهو متناه بتناهي حاصره ، فإذن محمولات الجرم التي لا قوام لها إلاَّ به ، المحصورة فيه ، متناهية بتناهي الجرم . و الفعل خارج عن القوة ، إذ هي علته ، و الفعل متناه بتناهي القوة ؛ و الزمان مدة تعدُّها الحركة ، فإن لم يكن حركة لم يكن زمان ؛ و إن لم يكن متحركٌ – الذي هو الجرم – لم يكن حركةٌ ؛ فإن لم يكن جرمٌ ، لم يكن زمانٌ و لا حركة ، وإن كان زمان فحركةٌ ، و إن كان حركة فجرم ؛
فإن لم يكن زمانٌ لم  يكن مدةٌ تعدُّها الحركة ، لأنه إن كانت حركة متتالية ، ((فمن...إلى)) موجودٌ ، أعني إنيَّة [ ] إلى مدة ((من...إلى)) .
فإن لم يكن حركة ، فليس موجودا مدةٌ و لا حركة ، و إن لم يكن حركةٌ و لا زمان ، فلا شيء ((من...إلى)) ؛ و إن لم يكن ((من...إلى)) ، فلا مدَّة ؛ و إن لم يكن مدَّةٌ ، فلا جِرْمَ ، لأن الجرم في مدة من ؛ لأنه ، وإن لم يكن ولا الآن ، واحد ، فلا حال البتة و لا وجود لهوية جرمية ؛ فإن لم يكن حركةٌ و لا زمان فلا جرم ، فإذن الجرم و الحركة و الزمان لا يسبق بعضهما بعضاً .
و ليس يمكن أن يكون زمان لا نهاية له في البدو ؛ لأنه إن كان زمانٌ لا نهاية له في البدو لم يتناه إلى زمن مفروض بتَّةً ، لأنه إن أتى من لا نهاية [له] إلى زمن مفروض ، فمن لا نهاية [له] إلى زمن مفروض معدود أجزاء متساوية من الزمان ، فإن كان من لا نهاية في الزمن إلى زمن مفروض معدود ، فمن الزمن المفروض متصاعداً في الأزمنة التي سلفت مساوٍ من لا نهاية إلى الزمن المفروض ، لأن من لا نهاية إلى الزمن المفروض مقبلاً هو الزمن بعينه الذي هو من المفروض إلى ما لا نهاية راجعاً ؛ فإذن المعدود المساوي لمعدود متناهٍ يتناهى ، لأن الأعداد المتساوية هي التي لا يزيد بعضها على بعض و لا وحدانيةً واحدة ؛
فإذن الزمن الذي لا نهاية له متناهٍ – و هذا خلف لا يمكن ، فإذن إنية الزمن متناهية .
وقد أنبأنا أن الزمان و الحركة و الجرم لا يسبق بعضها بعضا في الإنية ؛ فإذن لا الجرم و لا الحركة و لا الزمان أزلية ، بل ذات أزلية في بدو الإنية ؛ فإذن ليس شيء البتة بالفعل لا نهاية له ، فإذن إنما يوجد ((لا نهاية)) في الإمكان ، فلا أقول إنه يمكن أن يكون لكل كمية ضعفُ إمكان دائماً ، فكلما خرج من ذلك شيءٌ إلى الفعل خرج متناهياً ؛ فإن ضِعْفَ الشيء شيئان ، و ضِعْفَ الشيئين أربعة ؛ غير أن الأعداد تخرج متضاعفة أبداً ، فهي ممكن أن تتزيد أبدا ؛ وكل ما مضى فهو من هذا التزيد في الزمان شيء ، فهو متناهي العدد ؛ فلذلك ما نقول إنه ليس شيء لا نهاية له بالفعل ، فأما بالقوة فليس يوجد ((لا نهاية)) في غيرها – أعني بالقوة الإمكان .
فقد تبين ما الذي لا نهاية له ، و ما الذي لا يمكن أن يكون لا نهاية له ، وهذا فيما سألت كافٍ ، كفاك الله المهمَّ في دنياك و آخرتك ، و أعانك على درك الحق و الانتفاع بثماره ، و حاطك بتسديده من كل زلل ، و سددك بتوفيقه لأزكى عمل !
تمَّت الرسالة ، و الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة على رسوله محمد و آله أجمعين .
=====================
المؤلف يعقوب بن إسحاق الكندي
ويكي بيانات.
تحميل بصيغة
==============

نبذة عن الرسالة
هذه الرسالة بعثت إلى علي بن الجهم ، (شاعر خرساني الأصل) .
نص الرسالة
حاطك الله ، أيها الأخ المحمود ، بصنعه ، و سدّدك بتوفيقه ، و حرسك بعافيته من كل زلل ، و وفَّقك بتطوله لأزكى عمل ، و بلَّغك من معرفته قرار رضوانه ، و مستحقَّ إحسانه .
فهمت ما سألت من وضع ما كنتَ سمعتني أوضحه بالقول – من وحدانية الله عزَّ ذكره ، و من تناهي جرم العالم ، و امتناع شيء بالفعل من أن يكون لا نهاية له ، و إن ما لا نهاية له إنما هو موجود في القوة لا في الفعل – في كتاب يكون حافظاً على فكرك صورة القول إلى استحكام الفهم ، و إن أوجز لك القول في ذلك إيجازاً لا يكون معه تفريق للفهم ، و لا حاجز عن حفظ .
و أنا أسأل واهب الخيرات ، و قابل الحسنات ، أن يوفق ذلك لمطلوبك ، و يُحسن به هدايتك إلى سبيل الرشاد ، البعيدة من أهوال المعاد . ولعمري ما هذا الموضع بمستغنٍ عن الإطالة و الإطناب إلاَّ عند من بلغ درجتك من النظر ، و حسن المعتبر ، و أيِّدَ بمثل فهمك ، و حرس من الميل إلى الهوى بمثل عزمك .
و قد رسمت لك في ذلك على قدر الطاقة ، على شرائطك ، و لم آلك في إيضاح ذلك جهداً . فكن به سعيداً ، و قر به حميداً ، أسعدك الله في دنياك و آخرتك ، و اجمل لك جميع عواقبك .
و هذا مبدأ قولنا من مطلوبك : إن المقدمات الأولى الواضحة ، المعقولة بغير توسط : - أنَّ كلَّ الأجرام ، التي ليس منها شيء أعظم من شيء ، متساوية . - و المتساوية ، أبعادُ مابين نهاياتها واحدة بالفعل و القوة . - و ذو النهاية ليس لا نهاية له . - و كل الأجرام المتساوية ، إذا زيد على واحد منها جرمٌ ، كان أعظمَها ، و كان أعظم مما كان من قبل أن يُزاد عليه ذلك الجرم . - و كل جرمين متناهيَي العظم ، إذا جمعا ، كان الجرم الكائن عنهما متناهي العظم ، وهذا واجب في كل عظمٍ ، وكل ذي عظم . - و إن الأصغر من كل شيئين متجانسين بَعْدَ الأعظم منهما ، أو بَعد بعضه .
فإن كان جرم لا نهاية له ، فإنه إذا فُصل منه جرمٌ متناهي العظم ، فإن الباقي إما أن يكون متناهي العظم ، و إما لا متناهي العظم .
فإن كان الباقي متناهي العظم ، فإنه إذا زيد عليه المفصول منه ، المتناهي العظم ، كان الجرم الكائن عنهما متناهي العظم ، و الذي كان عنهما هو الذي كان قبل أن يفصل منه شيء ، لا متناهي العظم ، فهو إذن متناهٍ لا متناهٍ ، وهذا خُلف لا يمكن .
و إن كان الباقي لا متناهي العظم ، فإنه إذا زيد عليه ما أُخذ منه ، صار أعظم مما كان قبل أن يُزاد عليه ، أو مساوياً له .
فإن كان أعظم مما كان فقد صار ما لا نهاية له أعظم مما لا نهاية له .... و هذا خلف لا يمكن ، فليس أحدُهما أعظم من الآخر .
و إن كان ليس بأعظم مما كان ، قبل أن يُزاد عليه ، فقد زيد على جرم جرمٌ فلم يزد شيئا ، وصار جميع ذلك مساوياً له وحده ، و هو وحده جزء له ، فالجزء مثل الكل . هذا خلف الكل ، فقد تبيَّن أنه لا يمكن أن يكون جرمٌ لا نهاية له .
و الأشياء المحمولة في المتناهي متناهية اضطراراً . و كل محمول في الجرم من كمٍّ أو مكان ، أو حركة ، أو الزمان الذي هو فاصل الحركة ، و جملة كل ما هو محمول في الجرم فمتناهٍ أيضاً ، إذ الجرم متناهٍ . فجرم الكل متناهٍ ، و كل محمول فيه أيضاً .
و إذ جرم الكل ممكنٌ أن أن يُزاد فيه بالوهم زيادةً دائمةً – أن يُتوهَّم أعظمٌ منه ، ثم أعظم من ذلك دائماً ، فإنه لا نهاية في التزيد من جهة الإمكان – فهو بالقوة لا نهاية له ، إذ القوة ليست شيئاً سوى إمكان أن يكون الشيء المقول بالقوة . وكل ما في الذي لا نهاية له بالقوة فهو أيضاً لا نهاية له .
و من ذلك الحركة و الزمان – فإن الذي لا نهاية له إنما هو في القوة ، فأما في الفعل فليس يمكن أن يكون شيءٌ لانهاية له ، كما قدمنا ، و إن ذلك واجب .
فقد اتضح أنه لا يمكن أن يكون زمان بالفعل لا نهاية له . و الزمان زمان جرم الكل ، أعني مدَّته . فإن كان الزمان متناهياً ، فإن آنية الجرم متناهية ، إذ الزمان ليس بموجود .
و لا جرم بلا زمان ، لأن الزمان إنما هو عدد الحركة ، أعني أنه مدَّة تعدها الحركة . فإن كانت حركة كانت كان زمان ، و إن لم تكن حركة لم يكن زمان .
و الحركة إنما هي حركة الجرم ، فإن كان جرم كانت حركة ، و إن لم يكن جرم لم تكن حركة ...
و الجرم جوهر ذو أبعاد ثلاثة ، أعني طولاً و عرضاً و عمقاً ، فهو مركّب من الجوهر الذي هو جنسه ، و من الأبعاد التي هي فصوله . و هو المركب من هيولى و صورة .
و التّركيب تبدّل الأحوال ، التي هي لا تركيب . فالتركيب حركة ، و إن لم يكن حركة لم يكن التركيب .
و الجرم مركب ، كما أوضحنا . فإن لم يكن حركة لم يكن جرم . فالجرم و الحركة لا يسبق بعضها بعضاً .
و بالحركة الزمان ، لأن الحركة تبدّلٌ ما ، و التبدّل عادُّ مدّةِ التبدّل ، فالزمان مدة تعدها الحركة .
و لكل جرم مدة هي الحال هو فيها آنية ، أعني الحال التي هو فيها . و الجرم لا يسبق الحركة ، كما أوضحنا . و الجرم لم يسبق مدة ً تعدّها الحركة . فالجرم و الحركة و الزمان لا يسبق بعضها بعضاً في الآنية ، فهي معاُ .
كل تبدّل بفاصل مدة ، و المدة المفصولة هي الزمان .
و قبل كل فصل من الزمان فصل ، إلى أن يُنتهى إلى فصل ليس قبله فصلٌ ، أي إلى مدة مفصولة ليس قبلها مدة .
و لا يمكن غير ذلك . فإن أمكن ذلك ، فإنَّ خلفَ كلِّ فصلٍ من الزمان فصلاً بلا نهاية . فإذن لا يُتناهى إلى زمان مفروض أبداً ، لأن من لا نهاية في القدم إلى هذا الزمان المفروض مساوٍ مُدَّتُه للمدّة من الزمان المفروض متصاعداً في الأزمنة إلى ما لا نهاية له .
و إن كان من لا نهاية إلى زمن محدودٍ معلومٌ ، فإن من ذلك الزمن المعلوم إلى ما لا نهاية من الزمان معلوماً .
فيكون إذن لا متناهياً متناهياً ، و هذا خلف لا يمكن البتة .
و أيضاً إن كان لا يُنتهى إلى الزمن المحدود حتى يُنتهى إلى الزمن قبله ، و كذلك بلا نهاية – و ما لا نهاية له لا تقطع مسافته ، ولا يُؤتى على آخرها ، فإنه لا يُقطع ما لا نهاية له من الزمن حتى يتناهى إلى زمن محدود بتَّةً ، و الانتهاء موجودٌ – فليس الزمان متصلاً من لا نهاية ، بل من نهاية ، و ليس ممكناً من أن يكون جرم بلا مدّة ، فآنية الجرم ليست لا نهاية لها ، و آنية الجرم متناهية . فيمتنع أن يكون جرمٌ لم يَزَلْ . فالجرم إذاً محدَثٌ اضطراراً ، و المحدَث محدَث المحدثٍ ، إذ المحدِث و المحدَث من المضاف ، فللكل محدٍث اضطراراً عن ليس .
و المحدِث لا يخلو أن يكون واحداً أو كثيراً .
فإن كان كثيراً ، فهم مركَّبون ، لأن لهم اشتراكاً في حال واحدة لجميعهم أي لأنهم أجمعين فاعلون – و الشيء الذي يعمه شيء واحد إنما يتكثر أن ينفصل بعضه من بعض بحالٍ ما ، فإن كانوا كثيراً ففيهم فصول كثيرة ، فهم مركّبون مما عمَّهم و من خواصهم ...
و المركَّبون لهم مركِّب ، لأن مركَّباً و مركِّباً من باب المضاف . فيجب إذن أن يكون للفاعل فاعل . فإن كان الواحد ، فهو الفاعل الأول . و إن كان كثيراً ، و فاعل الكثيرٍ كثيرٌ دائماً ، و هذا يخرج بلا نهاية . و قد اتضح بطلان ذلك ، فليس للفاعل فاعلٌ .
فإذن ليس كثيراً ، بل واحد غير متكثّر ، سبحانه و تعالى عن صفات الملحدين علواً كبيراً ، لا يشبه خلقه ، لأن الكثرة في كل الخلق موجودة ، و ليست في بتَّة ، و لأنه مبدِع و هم مبدِعون ، و لأنه دائم و هم غير دائمين ، لأن ما تبدّل تبدّلت أحواه ، و ما تبدّل فهو غير دائم .
فلاحظ هذه المعاني ، أيها الأخ المحمود ، بعين عقلك ، و اقتنِها لحياة نفسك الزكية ، و صابر نفسك على اقتفاء آثارها الخفية ، تفضِ بكَ إلى سعة أوطان المعرفة ، و لين مرتفق الراحة ، و ظل رحمة مبدع الرحمة .
و إياه أسال أن ينير فهمك ، و يوسع علمك ، و يسعد بذلك عواقبَكَ .
==========
رسالة في أنه جواهر لا أجسام
المؤلف يعقوب بن إسحاق الكندي
ويكي بيانات.
تحميل بصيغة
 رسائل الكندي الفلسفية
أعانك الله على درك الحق، ووفقك لسبيله !
فهمتُ ما سألتَ من رسم قول خبري في أن الجواهر أجسام ؛ و هذا إنما يصحُّ بعد علم الطبيعيات ، لتكون الأوائلُ المنطقية المستعملة في الأشياء الطبيعية ظاهرة عند الباحث لذلك ؛ و قد رسمتُ من ذلك حسب ما رأيته لك كافيا، على رسم مسألتك أن نرسم لك من ذلك ؛ إذ كان يحتاجُ إلى قولٍ كثيرِ جُملٍ تقع كالأسس، لحاجتها إلى كثرة القول المبين لها ، لسوْقِكَ إلى منار الطريق إلى ما سألتَ و بالله التوفيق.
الدليل أن جوهراً لا جسمَ له يكون في أجزاء العالم الطبيعي ، بعد أن نثبت مائية الجسم الذي هو أنه العِظَم الآخذ الأقدار الثلاثة ، أعني الطول و العرض و العمق ؛ و بعد أن نعلم لواحقَ الجوهر المميزةَ له من غيره ، التي هي أنه القائمُ بذاته ، الذي لا يحتاج في ثباته إلى غيره ، الحامل للاختلاف ، و هو هو في عينه لم يتبدَّلْ ، المنعوتُ من جميع المقولات ؛ أو أنه إمَّا نعتاً متواطئاً و إمَّا نعتاً مُتشابهاً: أمَّا النعت المتواطئ فنعتُ الناعتِ الذي يُعطي منعوتَه اسمَه وحدَّه معا ؛ و أما النعت المتشابه فنعت الناعت الذي لا يُعطي منعوتَه اسمه و لا حدَّه ؛ و إنْ أعطاه الاسم ، فإنما يعطيه باشتقاق ، لا على صحة الاسم ، و إن أوائله لا تنعت شيئاً منه ؛ فإن هذه إن كانت معلومةً مقراًّ بها وجد جوهر لا جسم.
لأن الجسام الحية لا تخلو من أن تكون حياتها تكون ذاتية فيها أو عرضية من غيرها ، أعني بالذاتي في الشيء ، الذي إن فارق الشيءَ فسد ، و العرضية هي التي يمكن أن تفارق ما هي فيه و لا يفسد ، فإنْ كانت الحياةُ ذاتية في الحي ، فإنها إذا فارقت الحيَّ فسد الحيُّ ، و كذلك نجد الأحياءَ إذا فارقتهم الحياة فسدوا. فأمَّا الجسم الذي نجده حياًّ و لا نجده حياًّ ، وهو هو جسم، فقد فارقتْهُ الحياةُ، و لم تفسد جسميّته ؛ فتبيّن إذن أن الحياةَ في الجسم عرضٌ من غيره ؛ والذي نسمي به مائيةَ الحياة في الجسم نفسٌ ؛ فينبغي أن نبحث عن النفس : أجوهرٌ هو أم عرض ؟
فإن كانت جوهراً : جسمٌ هي أم لا جسم ؟ فنقول : إن الأشياء إنما تختلف إما في أعيانها، وإما في أسمائها؛ فالشيئان اللذان حدُّ أعيانهما واحدٌ ، و يُسمَّيان باسم واحد ، لم يختلفا بالاسم و لا بأعيانهما؛ إذْ لم في حدّ الأعيان ؛ و الأشياء التي لم تختلف في أعيانها طبيعتُها واحدةٌ؛
فالشيء الواصف للشيء بإعطائه اسمَه و حدَّهُ ؛ هو من طبيعة موصوفة ؛ فإن كان موصوفه جوهراً ، فهو جوهر ؛ و إن كان موصوفه عَرضاً ، فهو عرضٌ ؛ و الذي لا يصِفُ موصوفَه باسمه وحدِّه ، ليس طبيعته طبيعةَ موصوفة ؛ و ما طبيعته ليست طبيعة موصوفة هو ، فهو غريبٌ في موصوفه ؛ فالغريب في موصوفه هو الذي نسميه عرضاَ في موصوفه ، لأنه ليس من ذاته ، بل عرض فيه ؛
و الشيء الذي به الشيء هو ما هو ، هو صورة الشيء ، حسِّياً كان أو عقلياً ؛ و الجوهر ماهو بالنفس ؛ فالنفس إذَنْ صورة الحي العقلية ، فهي نوعه ؛ فالحيُّ جوهرٌ ، و نوع الجوهرِ جوهرٌ ؛
فإذاً النفس جوهرُ ، و إذ هي جوهرٌ ، و هي جوهر النوع ، فهي لا جسم ، لأن النوع لا جسم ، بل العامُّ الذي يَعمُّ أشخاصه التي هي أجسام ؛ إذ كانت أشخاص الحي أجساماً .
فإذاً قد تبيَّن أنَّ النفسَ لا جسم ، و هي جوهر ؛ فإذن قد تبين أن من الجوهر أجساماً ، و منها لا أجساماً ،
و أيضاً فإنه إذا كان النوع يعطي أشخاصه اسمَه و حدّه ، فهو في طبيعة شخصه ؛ و شخصه إنْ كان جوهراً، فهو جوهر ؛ وإن كان عرضاً فهو عرض ؛
و الحي المحسوس جوهر ، و أنواعه جواهر ، إذِ النوع يعطي الجوهرَ اسمَه و حدَّه ؛
و النوع إما أنْ يكون جسماً ، و إما أن يكون لا جسماً ؛ فإن كان النوع جسماً ، و الشخص جسم و النوع واحد باضطرار أو كثير ، و الشخص كثير باضطرار ؛ فإنْ كان النوع واحداً يعمّ الكثيرً ، و كان جسماً ؛ فهو في كل واحد من أشخاصه إمَّا بكليَّته و إما بجزئه ؛
و النوع مركبٌ من أشياء مختلفة ، كالإنسان الذي هو مركَّب من حي و ناطق و مائت ؛ و كل واحد من جنسه و فصوله مركَّب أيضاً مما يحدُّه ، أعني مما يجتمع حدُّه منه ؛
فإذنْ هو مختلف الأجزاء التي رُكِّبَ منها ، فإذاً النوع ليس من المشتبهة الأجزاء ، فإن كان النوع في واحد من أشخاصه بكماله ، فكيف يمكن أن يكون في آخر بكماله ؟
و إن كانَ في كل واحد من أشخاصه جزءٌ ، و أشخاصه بلا نهاية بالقوة – فإن أجزاءَه بلا نهاية بالقوة ، فإذاً هو مركَّب مما لا نهاية له بالقوة ؛
و التركيب لا يمكن أن تكون فيه القوة ، لأن التركيب قد خرج إلى الفعل ؛
فإذاً ليس يمكن أن يكون لا نهاية لأجزائه بالقوة ، و أجزاؤه بلا نهاية بالقوة ، و هذا خُلف شنيع ؛ فكل شخص من أشخاصه – إذْ كان فيه جزءٌ غير جزء الآخر – ينفصل من جميع أشخاصه بجزء من أجزاء النوع ، و أشخاصه بلا نهاية بالقوة ،
و قد تقدَّمَ آنفاً أنه محالٌ أن يكون تركيبه من أجزاء بلا نهاية في القوة ؛ فإذاً في كل شخص من أشخاصه جزءٌ غير الجزء الذي في الآخر من نوعه ، و ليس يمكن أن يكون في كل شخص من أشخاصه جزءٌ من أجزاء نوعه
- فهو ممكن لا ممكن – و هذا خلفٌ قبيحٌ جدًّا ؛ فإذن ليس يمكن أن يكون في كل شخص من أشخاصه جزءٌ من نوعه غير الجزء الذي في الآخر ؛
و قد تبيَّن أنه ليس يمكن أن يكون بكلِّه في كل واحد من أشخاصه ، إذْ لا بكلِّه و لا بجزئه يمكن أن يكون في أشخاصه ، و هو جسم ، فإذاً نوع الجوهر لا جسمٌ ، و هو جوهر ، كما قدمنا ؛
فبالاضطرار أن جواهر كثيرةً و لا أجسام ؛ و هذا فيما سألت كافٍ ، كفاك الله جميع المهمات ؛ ووقاك جميع أذى المؤلمات ؛
تمَّت الرسالة ، و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على النبي محمد و آله و أجمعين .
===============
رسالة في القول في النفس، المختصر من كتاب أرسطو وأفلاطون
المؤلف يعقوب بن إسحاق الكندي
ويكي بيانات.
تحميل بصيغة  
 رسائل الكندي الفلسفية
سددك الله بدرك الحق، وأعانك على نيل مستوعراته.
انه سالت، أسعدك الله بطاعته، أن اختصر لك قولا في النفس، وآتي على الغاية التي إليها جرى الفلاسفة في ذلك، مع اختصار لكتاب أرسطو في النفس .
ولست آلو جهداً في استعمال البلوغ إلى محابّك، والمبادرة إلى ما سألت، بتلخيص كافٍ، وفحصٍ شافٍ، إن شاء الله تعالى، وبه القوة، فأقول :
إن النفس بسيطة، ذات شرف وكمال، عظيمة الشأن، جوهرها من جوهر البارئ، عز وجلّ، كقياس ضياء الشمس من الشمس.
وقد بُيِّن أن هذه النفس منفردة عن هذا الجسم ، مباينة له ، وان جوهرها جوهر إلهي روحاني ، بما يُرى من شرف طباعها ، ومضادّاتها لما يعرض للبدن من الشهوات والغضب .
وذلك أن القوة الغضبية قد تتحرك على الإنسان في بعض الأوقات ، فتحمله على ارتكاب الأمر العظيم ، فتضادّها هذه النفس ، وتمنع الغضب من أن يفعل فعله ، أو أن يرتكب الغيظُ وتِرتَه ، وتضبطه كما يضبط الفارسُ الفرس ، إذا همَّ أن يجمح به ، أو يمدُّه . وهذا دليل بيِّن على أن القوة ، التي يغضب بها الإنسان ، غير هذه النفس التي تمنع الغضب أن يجري إلى ما يهواه ، لأن المانعَ ، لا محالة ،غيرُ الممنوع ، لأنه لا يكون شيء واحد يُضادّ نفسه .
فأما القوة الشهوانية فقد تتوق ، في بعض الأوقات ، إلى بعض الشهوات ، فتفكّر النفس العقلية في ذلك أنه خطأ ، وانه يؤدي إلى حال ردّية ، فتمنعها عن ذلك و تضادّها . وهذا أيضاً دليل على أن كل واحدة منهما غير الأخرى .
وهذه النفس التي ، هي من نور الباري ، عزّ وجل ، إذا هي فارقت البدن ، علمت كلَّ ما في العالم ، ولم يخف عنها خافية .
والدليل على ذلك قول أفلاطون ، حيث يقول ان كثيراً من الفلاسفة الطاهرين القدماء ، لمَّا تجردوا من الدنيا ، وتهاونوا بالأشياء المحسوسة ، وتفرَّدوا بالنظر والبحث عن حقائق الأشياء ، انكشف لهم علم الغيب ، و علموا بما يخفيه الناس في نفوسهم ، واطَّلعوا على سرائر الخلق . فإذا كان هذا هكذا ، والنفس بعد مرتبطة بهذا البدن ، في هذا العالم المظلم الذي لولا نور الشمس لكان في غاية الظلمة ، فكيف إذا تجرَّدت هذه النفس ، وفارقت البدن ، وصارت في عالم الحق ، الذي فيه نور الباري سبحانه ؟
ولقد صدق أفلاطون في هذا القياس ، وأصاب به البرهان الصحيح .
ثم أن أفلاطون أتبع هذا القول بأن قال : فأما من كان غرضه ، في هذا العالم ، التلذذ بالمآكل و المشارب المستحيلة إلى الجِيَف ، وكان أيضا غرضه في لذة الجماع ، فلا سبيل لنفسه العقلية إلى معرفة هذه الأشياء الشريفة ، ولا يمكنها الوصول إلى التشبه بالباري سبحانه .
ثم أن أفلاطون قاس القوة الشهوانية التي للإنسان بالخنزير ، والقوة الغضبية بالكلب ، والقوة العقلية التي ذكرنا بالملك ، وقال: من غلبت عليه الشهوانية ، وكانت هي غرضه وأكثر همته ، فقياسه قياس الخنزير ؛ ومن غلبت عليه الغضبية ، فقياسه قياس الكلب ؛ ومن كان الأغلب عليه قوة النفس العقلية ، وكان أكثر أدبه الفكر والتمييز ومعرفة حقائق الأشياء والبحث عن غوامض العلم ، كان إنسانا فاضلا قريب الشبه من الباري سبحانه ، لأن الأشياء التي نجدها للباري ، عزّ وجلَّ ، هي الحكمة والقدرة والعدل والخير والجميل والحق ، وقد يمكن للإنسان أن يدبّر نفسه بهذه الحيلة ، حسب ما في طاقة الإنسان ، فيكون حكيماً ، عادلاً ، جواداً ، خيِّراً ، يؤثر الحق والجميل ...
فإن النفس ، على رأي أفلاطون وجلَّة الفلاسفة ، باقية بعد الموت ، جوهرها كجوهر الباري ، عزَّ وعلا ، في قوَّتها – إذا تجرَّدت – أن تعلم سائر الأشياء كما يعلم الباري بها ، أو دون ذلك برتبة يسيرة ، لأنها أُودعت من نور الباري ، عزَّ وجلَّ .
وإذا تجرَّدت ، وفارقت هذا البدن ، وصارت في عالم العقل فوق الفلك ، صارت في نور الباري ، ورأت الباري عزَّ وجلَّ ، وطابقت نوره وجلَّت في ملكوته ، فانكشف لها حالاً علم كل شيء ، وصارت الأشياء كلها بارزةً لها كمثل ما هي بارزة للباري عزَّ وجلَّ. لأنَّا إذا كنا ، ونحن في هذا العالم الدنس ، قد نرى فيه أشياء كثيرة بضوء الشمس ، فكيف إذا تجرَّدت نفوسنا ، وصارت مطابقة لعالم الديمومة ، وصارت تنظر بنور الباري ؟ فهي لا محالة تنظر بنور الباري كلَّ ظاهر وخفيّ ، وتقف على كلّ سر وعلانية .
وكان افسقورس يقول : (( إن النفس إذا كانت ، وهي مرتبطة بالبدن ، تاركة للشهوات ، متطهِّرة من الأدناس ، كثيرة البحث والنظر في معرفة حقائق الأشياء ، انصقلت صقالة ظاهرة واتحد بها صورةٌ من نور الباري ، يحدث فيها و يكامل نور الباري ، بسبب ذلك الصقال الذي اكتسبه من التطهر . فحينئذ يظهر فيها صور الأشياء كلها ومعرفتها ، كما يظهر صور خيالات سائر الأشياء المحسوسة في المرآة إذا كانت صقلية . فهذا قياس النفس : لأن المرآة إذا كانت صدئة ، لم يتبين صورة شيء فيها بتةً ، فإذا زال منها الصدأ ظهرت و تبيَّنت فيها جميع الصور ؛ كذلك النفس العقلية ، إذا كانت صدئة دنسة ، كانت على غاية الجهل ، ولم يظهر فيها صور المعلومات ، وإذا تطهَّرت و تهذَّبت – وصفاء النفس هو أن النفس تتطهر من الدنس ، وتكتسب العلم – ظهر فيها حالاً صورة معرفة جميع الأشياء ، وعلى حسب جودة صقالتها تكون معرفتها بالأشياء فالنفس ، كلما ازدادت صقالاً ، ظهر لها و فيها معرفة الأشياء .
وهذه النفس لا تنام بتة ، لأنها في وقت النوم تترك استعمال الحواس ، وتبقى محصورة ، ليست بمجردة على حدتها ، وتعلم كل ما في العوالم ، وكل ظاهر وخفي . ولو كانت هذه النفس تنام ، لما كان الإنسان – إذا رأى في النوم شيئا – يعلم أنه في النوم ، بل لا يفرِّق بينه و بين ما كان في اليقظة .
وإذا بلغت هذه النفس مبلغها في الطهارة ، رأت في النوم عجائب من الأحلام ، وخاطبتها الأنفس التي فارقت الأبدان ، وأفاض عليها الباري من نوره ورحمته ، فتلتذُّ حينئذ لذة دائمة ، فوق كل لذة تكون بالمطعم و المشرب والنكاح والسماع والنظر والشم واللمس ، لأن هذه لذَّات حسية دنسة تعقب الأذى ، وتلك لذة إلهية روحانية تعقب الشرف الأعظم . والشقي المغرور الجاهل من رضي لنفسه بلذات الحس ، وكانت هي أكثر أغراضه ، ومنتهى غايته .
وإنما نجيء في هذا العالم في شبه المعبر والجسر ، الذي يجوز عليه السيارة ، ليس لنا مقام يطول . وأما مقامنا ومستقرُّنا الذي نتوقع فهو العالم الأعلى الشريف ، الذي تنتقل إليه نفوسنا بعد الموت ، حيث تقرب من باريها ، وتقرب من نوره ورحمته ، وتراه رؤية عقلية لا حسية ، ويفيض عليها من نوره ورحمته . )) ، فهذا قول افسقورس .
فأما أفلاطون فقال ، في هذا المعنى : (( إن مسكن الأنفس العقلية ، إذا تجرَّدت ، هو كما قال الفلاسفة القدماء ، خلف الفلك ، في عالم الربوبية ، حيث نور الباري .))
(( وليس كل نفس تفارق البدن تصير من ساعتها إلى ذلك المحل ، لأن من الأنفس من يفارق البدن ، وفيها دنس وأشياء خبيثة ، فمنها ما يصير إلى فلك القمر فيقيم هناك مدة من الزمان ، فإذا تهذَّبت ونقيت ارتفعت إلى فلك العطارد فتقيم هناك مدة من الزمان ، فإذا تهذبت ونقيت ارتفعت إلى فلك كوكب فتقيم في كل فلك مدة من الزمان . فإذا صارت إلى الفلك الأعلى ، ونقيت غاية النقاء ، وزالت أدناس الحس و خيالاته وخبثه منها . ارتفعت حالاً إلى عالم العقل ، وجازت الفلك ، وصارت في أجلِّ محلّ و أشرفه ، وصارت حالاً بحيث لا تخفى عليها خافية ، وطابقت نور الباري ، وصارت تعلم كل الأشياء ، قليلها وكثيرها ، كعلم الإنسان باصبعه الواحدة ، أو بظفره ، أو بشعرة من شعره ، وصارت الأشياء كلها مكشوفة بارزة لها ، وفوّض إليها الباري أشياء من سياسة العالم تلتذُّ بفعلها ، والتدبير لها . ))
ولعمري لقد وصف أفلاطون ، وأوجز ، وجمع ، في هذا الاختصار ، معاني كثيرة .
ولا وصلة إلى بلوغ النفس إلى هذا المقام و الرتبة الشريفة ، في هذا العالم ، وفي ذلك العالم ، إلاَّ بالتطهير من الأدناس . فإن الإنسان ، إذا تطهَّر من الأدناس ، صارت نفسه حالاً صقيلة تصلح ، وتقدر أن تعلم الخفيَّات من الغيوب . وقوة هذه النفس قريبة الشبه بقوة الاله ، تعالى شأنه ، إذا هي تجرَّدت عن البدن ، وفارقته ، وصارت في عالمها الذي هو عالم الربوبية .
و العجب من الإنسان كيف يهمل نفسه ، ويبعدها من باريها ، وحالها هذه الحالة الشريفة !
وقد وصف أرسطاطاليس أمر الملك اليوناني الذي تحرَّج بنفسه ، فمكث لا يعيش و لا يموت أياما كثيرة ، كلما أفاق أعلم الناس بفنون من علم الغيب ، وحدَّثهم بما رأى من الأنفس والصور والملائكة ، وأعطاهم في ذلك البراهين . و أخبر جماعة من أهل بيته بعمر واحد واحد منهم ، فلما امتحن كلُّ ما قال ، لم يتجاوز أحد منهم المقدار الذي حدَّه له من العمر . و أخبر أن خسفاً يكون في بلاد الأوس ، بعد سنة ، وسيل يكون في موضع آخر بعد سنتين ، فكان الأمر كما قال .
وذكر أرسطاطاليس أن السبيل في ذلك أن نفسه إنما علمت ذلك العلم لأنها كادت أن تفارق البدن ، وانفصلت عنه بعض الانفصال ، فرأت ذلك . فكيف لو فارقت البدن على الحقيقة ؟ لكانت قد رأت عجائب من أمر الملكوت الأعلى !
فقل للباكين ، ممن طبعه أن يبكي من الأشياء المحزنة ، ينبغي أن يُبكى و يكثر البكاء على من يهمل نفسَه ، و ينهك من ارتكاب الشهوات الحقيرة الخسيسة الدنيَّة المموهة التي تكسبه الشره ، و تميل بطبعه إلى طبع البهائم ، ويدع أن يتشاغل بالنظر في هذا الأمر الشريف ، و التخلّص إليه ، ويطهِّر نفسه حسب طاقته . فإن الطهر الحق هو طهر النفس ، لا طهر البدن ...
ومن فضيلة المتعبد لله ، الذي قد هجر الدنيا ولذاتها الدنِّية ، ان الجهال كلهم – إلاَّ من سخر منهم بنفسه – يعترف بفضله ، ويجلّه ، ويفرح أن يطلع منه على الخطأ .
فيا أيها الإنسان الجاهل ، ألا تعلم أن مقامك في هذا العالم إنما هو كلمحة ، ثم تصير إلى العالم الحقيقي ، فتبقى فيه أبد الابدين ؟! وإنما أنت عابر سبيل في هذا الأمر ، إرادة باريك عزَّ وجلَّ. فقد علّمته جلّة الفلاسفة ، واختصرناه من قولهم ان النفس جوهر بسيط .
فتفهّم ما كتبت به إليك تكن سعيداً ، أسعدك الله تعالى في دنياك وآخرتك .
====================
رسالة في العقل
المؤلف يعقوب بن إسحاق الكندي
ويكي بيانات.
تحميل بصيغة
رسائل الكندي الفلسفية
فهّمك الله النافعات ، وأسعدك في دار الحياة ودار الممات.
فهمتُ الذي سألتَ من رسم قول في العقل ، موجز خبري ، على رأي المحمودين من قدماء اليونان ، ومن أحمدهم ارسطوطاليس ومعلمه أفلاطون الحكيم، إذ كان حاصلُ قول أفلاطون في ذلك قول تلميذه أرسطاطاليس (أرسطوطاليس أو أرسطو ) .
فلنقل في ذلك ، على سبيل الخبري، فنقول :
إن رأي أرسطاطاليس في العقل أن العقل على أربعة أنواع : الأول منها العقل الذي بالفعل أبداً . والثاني العقل الذي بالقوة ، وهو النفس. والثالث العقل الذي خرج في النفس من القول إلى الفعل . و الرابع العقل الذي نسميه الثاني .
وهو يمثّل العقل بالحس لقرب الحس من الحيّ ، وعمومه له أجمع ، فانه يقول : أن الصورة صورتان : أما إحدى الصورتين فالهيولانية ، وهي الواقعة تحت الحس . وأما الأخرى فالتي ليست بذات هيولى ، وهي الواقعة تحت العقل ، وهي نوعية الأشياء وما فوقها .
فالصورة التي في الهيولى ، هي التي بالفعل محسوسة ، لأنها لو لم تكن بالفعل محسوسة ، لم تقع تحت الحس . فإذا أفادتها النفس فهي في النفس. وانما تفيدها النفس لأنها في النفس بالقوة ، فإذا باشرتها النفس صارت في النفس بالفعل . وليس تصير في النفس كالشيء في الوعاء ، ولا كالمثال في الجرم ، لأن النفس ليست بجسم ، ولا متجزئة ، فهي في النفس والنفسُ شيء واحد لا غير ... وكذلك أيضاً القوة الحاسَّة ليست هي شيئا غير النفس ، ولا هي في النفس كالعضو في الجسم ، بل هي النفس ،وهي الحاسُّ .
وكذلك الصورة المحسوسة ليست في النفس كغير ... فإذن المحسوس في النفس هو الحاس . فأما الهيولى فإن محسوسها غير النفس الحاسَّة ، فإذن من جهة الهيولى المحسوس ليس هو الحاس . وكذلك يمثل العقل : فإن النفس ، إذا باشرت العقل ، أعني الصور التي لا هيولى لها ولا فنطاسيا اتحدت بالنفس ، أعني أنها كانت موجودة في النفس بالفعل ، وقد كانت قبل ذلك لا موجودة فيها بالفعل ، بل بالقوة . فهذه الصورة التي لا هيولى لها ولا فنطاسيا هي العقل المستفاد للنفس من العقل الأول ، الذي هو نوعية الأشياء التي هي بالفعل أبداً . وإنما صار مفيداً ، والنفسُ مستفيدةً ، لأن النفس بالقوة عاقلة ، و العقل الأول بالفعل . وكلَّ شيء أفاد شيئا ذاته ، فإن المستفيد كان له ذلك الشيء بالقوة ، ولم يكن له بالفعل . وكل ما كان لشيء بالقوة فليس يخرج إلى الفعل بذاته ، لأنه لو كان بذاته كان أبداً بالفعل ، لأن ذاته له أبداً ما كان موجوداً . فإذن كل ما كان بالقوة فإنما يخرج إلى الفعل بآخر ، هو ذلك الشيء بالفعل . فإذن النفس عاقلة بالقوة ، وخارجة بالعقل الأول – إذا باشرته – إلى أن تكون عاقلة بالفعل . فإنها إذا اتحدت الصورة العقلية بها ، لم تكن هي والصورة العقلية متغايرة ، لأنها ليست بمنقسمة فتتغاير . فإذا اتحدت بها الصورة العقلية فهي والعقل شيء واحد ، فهي عاقلة ومعقولة . فإذن العقل والمعقول شيء أحدٌ من جهة النفس .
فأما العقل ، الذي بالفعل أبداً ، المخرجُ النفس إلى أن تصير بالفعل عاقلةً ، بعد أن كانت عاقلةً بالقوة ، فليس هو و معقوله شيئاً أحداً . فإذن المعقول في النفس والعقل الأول ، من جهة العقل الأول ، ليس بشيء واحد . فأما من جهة النفس فالعقل و المعقول شيء أحد . وهذا في العقل هو بالبسيط أشبه بالنفس ، وأقوى منه في المحسوس كثيراً .
فإذن العقل أما علة وأوَّل لجميع المعقولات والعقول الثواني ، وأما ثانٍ وهو بالقوة للنفس ما لم تكن النفس عاقلة بالفعل . والثالث هو الذي بالفعل للنفس ، وقد اقتنته وصار لها موجوداً ، متى شاءت استعملته وأظهرته لوجود غيرها منها ، كالكتابة في الكاتب فهي معدَّة ممكنة قد اقتناها وثبتت في نفسه ، فهو يخرجها ويستعملها متى شاء . وأما الرابع فهو العقل الظاهر من النفس ، متى أخرجته ، فكان موجوداً لغيرها منها بالفعل .
فإذن الفصل بين الثالث والرابع أن الثالث قنيةٌ للنفس ، قد مضى وقت مبتدأ قنيتها ، ولها أن تخرجه متى شاءت ، والرابع أنه اما وقت قنيته أولاً ، وأما وقت ظهوره ثانيا ، متى استعملته النفس . فإذن الثالث هو الذي الذي للنفس قنية قد تقدمت ، ومتى شاءت كان موجوداً فيها ، وأما الرابع فهو الظاهر في النفس متى ظهر بالفعل .
و الحمد لله كثيراً بحسب استحقاقه .
فهذه آراء الحكماء الأولين في العقل . وهذا – كان الله لك مسدِّداً – قدرُ هذا القول فيه ، إذ كان ما طلبتَ القول المرسل الخبري الكافي ، فكن به سعيداً !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فهرس كتاب اعلام الموقعين لابن القيم

إعلام الموقعين/فهرس الجزء الأول [[إعلام الموقعين/الجزء الأول#نوعا التلقي عنه ﷺ|نوعا التلقي عنه ﷺ]] إخراج المتعصب عن زمرة العلماء فصل حفاظ ال...